جريمة توزيع أرباح صوريّة

الأستاذة أسماء خليفي

تستقطب الشركات رؤوس أموال ضخمة قد تعجز إمكانية الفرد الواحد عن توفيرها[1] ممّا جعلها تمثّل نواة يتأسّس عليها ما يعرف “بنظام اقتصاد السوق”[2] الأمر الذي حوّلها من مجرّد هيكل اقتصادي يهمّ المساهمين فقط إلى عنصر من عناصر قوّة الاقتصاد التي يجب المحافظة عليها ودعمها وهو ما جعل السياسة التشريعيّة لأيّ دولة تطمح للنموّ تولي أهميّة قصوى لهذا الهيكل وتسعى لتنظيمه وحمايته بواسطة النّصوص القانونية المجرّمة لأيّ فعل من شأنه أن يهدّد أو يضع في خطر استمرارية الشركة ووجودها.

ولهذا الغرض ضمن المشرّع التونسي للشركة استقلالية عن المساهمين فيها بإكسابها للشخصية القانونية إذ أصبح لها ذمّة مالية منفصلة عن ذمم المساهمين فيها تتمثل فيما للشركة من حقوق وما عليها من التزامات[3]. لكنّ هذه الشخصية تظل اعتبارية نظرا لعدم قدرتها على التسيير والدفاع عن مصالحها لذلك كان من الضروري أن تلجأ إلى أشخاص طبيعيين يتولون التصرّف باسمها وتسييرها مع الحفاظ على مصلحتين : من جهة، مصلحة الشركة والمتمثلة في ضرورة المحافظة على إمكانياتها المالية ووجودها[4].

ومن جهة أخرى، مصلحة الشركاء والمتمثلة في تحقيق الأرباح المأمولة من وراء تأسيسها إذ أنّ هدف كلّ مساهم شريك هو الحصول على الرّبح سواء بصفة دوريّة أي في نهاية كلّ سنة مالية أو في فترات متباعدة[5].

وهنا يستغل البعض من مسيري الشركات ما يتمتعون به من قدرات وآليات في مغالطة المساهمين والدائنين والغير الأمر الذي يجعل الشركة “أداة طيّعة لممارسة النشاطات الاحتيالية”[6] وهو ما يضر بها بصورة عامّة وبذمّتها المالية بصفة خاصّة.

وانطلاقا ممّا تكتسيه الذمّة المالية للشركة من أهمية باعتبارها الأداة التي تموّل بها نشاطها والضمان العامّ لدائنيها[7] سعى المشرّع إلى حمايتها جزائيا من خلال زجر كلّ فعل يؤدّي إلى المساس بها.

ولمّا كان رأس المال يمثّل جزءا من الذمّة المالية للشركة[8] خصّه المشرّع بحماية خاصّة من خلال تجريمه كلّ توزيع لأرباح صورية.

وقد تولى المشرّع التونسي تجريم عملية توزيع أرباح صورية بصورة صريحة بالفصل 223 من مجلة الشركات التجارية وذلك بالنسبة للشركات خفية الاسم.

ولعلّ ما يمكن الإشارة إليه في هذا الإطار هو أنّ المشرّع التونسي كان يعتمد طريقة التجريم بالإحالة بالنّسبة لبقية الشركات التجارية وذلك صلب الفصول المنظمة للشركات التجارية بالمجلة التجارية قبل سنة 2000 تاريخ إلغاء هذه الفصول بمقتضى صدور مجلّة الشركات التجاريّة وهذا يبرز خاصّة من خلال الفصل 145 منها حيث نصّ على أنّه تنطبق على الشركات المقارضة بالأسهم قواعد الإشهار والتأسيس وسير الأعمال المختصّة بالشركات خفية الاسم وكذلك الفصل 146 والذي نصّ على أنّ جميع الالتزامات التي يفرضها القانون على أعضاء مجلس إدارة الشركة خفية الاسم تنطبق على وكلاء التصرّف في شركات المقارضة بالأسهم وهو ما حافظ عليه المشرّع صلب مجلة الشركات التجاريّة.

وقد تولّى المشرّع التونسي تعريف الرّبح الصوري صلب الفصل 289 من م.ش. والذي جاء به “يعتبر صوريا كلّ توزيع للمرابيح يتم خلافا للأحكام المذكورة أعلاه”.

وحيث وبالرّجوع إلى النصوص القانونية السابقة للفصل المذكور وخاصّة منها الفصل 287 و288 من ش.ت. نجد أنّ المشرّع يتعرّض للرّبح الصّافي دون تعريفه بل اكتفى بتوضيح كيفية احتسابه وذلك خلافا لما كان موجودا قبل صدور مجلّة الشركات التجاريّة إذ أنّ الفصل 19 فقرة ثانية من المجلة التجارية قد عرّف الرّبح على أنه “القدر الزائد ممّا للشركة على ما بذمّتها بإدخال رأس مال الشركة في ضمن الديون المترتبة عليها عند نهاية السنة “كما عرّفه الفصل 76 فقرة 5 من م.ت. والمتعلّق بالشركات خفية الاسم بأنّه “عبارة عن المبالغ الصّافية التي استقرت عليها الميزانية السنوية بعد طرح النفقات على اختلاف أنواعها وغيرها من الحقوق المطلوبة من الشركة والمقادير المخصّصة لاستيعاب رأس المال وما يقتطع لمجابهة الخسائر التجاريّة أو الصناعيّة”.

ومن جهة أخرى عرّف المشرّع الرّبح صلب نظام المحاسبة للمؤسسات حيث اعتبر أنّه “كلّ ترفيع في الأموال الذاتيّة ناتج عن معلومات أو أحداث غير جارية أو ملحقة أو عن عمليات أخرى وأحداث وظروف لها تأثير على وضعيّة المؤسسة وذلك ما عدى الزّيادات الناتجة عن المداخيل أو عن إسهامات أصحاب رأس المال[9].

كما عرّف المشرّع الرّبح صلب مجلّة الضريبة على الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات في الفصل 8 بأنّه “يتكوّن … من الفارق الايجابي بين المحصول الخام بما في ذلك قيمة المكاسب والامتيازات العينية وبين الأعباء والمصاريف المتحمّلة في سبيل الحصول على الدّخل والاحتفاظ به”. وهنا يستشف من مجمل هذه التعاريف أنّها أجمعت على أنّ الرّبح يتمثّل في فائض قيمة الأصول على قيمة الخصوم الحقيقية.

ولعلّ عدم وضع المشرّع لنص شبيه بالفصل 19 من م.ت. يعود أساسا إلى تعقّد العمليات التجارية وتعدّد العناصر المتداخلة والمرتبطة بالذمّة الماليّة للشركة وهو ما حدى به إلى وضع أسس عامّة لتحديد مفهوم للرّبح (الفصل 287 و288 م.ش.ت) دون أن يتولى حصره.

وهنا يمكن القول أنّ خصوصيّات الحياة الاقتصادية للشركة قد غلبت على متطلبّات وخصوصيات القانون الجزائي ذلك أنّ تحديد مفهوم الرّبح في جريمة توزيع أرباح صوريّة، موكول لاجتهاد المحاكم وفق خصوصيّة العناصر المرتبطة بهذه الجريمة قصد تحقيق الغاية من وراء التجريم وهي زجر كلّ الأفعال المؤدية إلى قيام الجريمة المذكورة وعلى هذا الأساس فرض المشرّع على الشركات التجاريّة مسك محاسبة يتم على أساسها تحديد ما للشركة وما عليها بصورة صحيحة[10].

غير أنّ هذه الأهميّة التي تكتسبها المحاسبة في توضيح الوضعيّة الماليّة للشركة وظّفها البعض من المسيرين لخدمة أغراضهم الإجراميّة[11] إذ يعمد البعض من أعضاء مجلس الإدارة أو وكلاء التصرّف إلى عدم إعداد وثائق محاسبية أو إلى إعدادها بصورة مدلسة مما يفضي إلى إعطاء صورة مغلوطة عن الوضعية المالية للشركة وإلى توزيع أرباح صوريّة.

وبذلك يمكن مبدئيا تعريف جريمة توزيع أرباح صوريّة بأنّها توزيع لمبالغ ماليّة تؤدّي بدرجة أولى إلى المساس بثبات رأس مال الشركة وبدرجة ثانية إلى الإضرار بذمّتها المالية وذلك باعتماد وسائل تدليسيّة تتمثّل في تضخيم قيمة الأصول أو التنقيص من قيمة الخصوم[12].

هذا التخصيص الذي ميّز فعل توزيع أرباح صوريّة، فرضته خطورة الجريمة على الشركة باعتبارها وحدة اقتصاديّة لذلك تزايد اهتمام التشاريع بها بتزايد أهميّتها في الدورة الاقتصاديّة حيث جرّم المشرّع الفرنسي توزيع الأرباح الصوريّة منذ سنة 1867 صلب الفصل 15 الفقرة 4 ثمّ طوّر نظام تجريم هذا الفعل صلب قانون 24 جويلية 1966 وذلك في إطار الفصل 437/1 و425/2. كما جرّم المشرّع المصري فعل توزيع أرباح صوريّة صلب الفصل 162 البند الخامس من قانون الشركات[13] وكذا فعل المشرّع اللّبناني صلب المادة 107 الفقرة 2 من قانون التجارة والمشرّع السوري في المادّة 278 من قانون التجارة[14].

أمّا المشرّع التونسي فإنّه بعد أن كان يعاقب فعل توزيع أرباح صوريّة معتبرا إيّاه صورة من صور خيانة الأمانة سعى إلى إفراد هذا الفعل الذي يضر بمصالح الشركة والمحيطين بها بتشريع خاصّ يجرّمه.

حيث صدر أمر علي في 28 فيفري 1930 نصّ فصله الرّابع على أنّه “تنطبق بصورة خاصّة في تونس الأحكام الجزائيّة للفصول 13 و14 و15 و16 و45 و64 الفقرة 3 من قانون 24 جويلية 1867”. (من القانون الفرنسي) وبالعودة إلى قانون 24 جويلية 1867 وبالتحديد إلى الفصل 15 في فقرته الرّابعة يلاحظ أنّه جرّم فعل توزيع الأرباح الصوريّة وأحال بالنّسبة للعقوبة إلى أحكام الفصل 405 من المجلّة الجنائيّة الفرنسية القديمة المتعلّق بجريمة التحيّل.

وقد ظلّ هذا الوضع على حاله إلى حين صدور المجلة التجاريّة سنة 1959 التي جمعت بين نصّ التجريم ونصّ العقاب مع نقلها حرفيا لأحكام النصّ الفرنسي والتي تولت تجريم أفعال توزيع أرباح صوريّة صلب الفصل 86 و145 و146 و169 ثمّ تمّ إلغاء هذه الفصول بمقتضى القانون المصدر لمجلّة الشركات التجاريّة والمؤرّخ في 03/11/2000 ليتولّى تنظيمها من جديد صلب هذه المجلّة.

وقد تحدث بعض الفقهاء عن خطورة هذه الجريمة بالقول بأنّها تجمع بين تصرفين غير قانونيين الأوّل يتمثّل في خيانة الأمانة تجاه الشركاء أو المساهمين والثاني يتمثّل في التحيّل على الغير الذين يتعاملون معها[15].

ونظرا لعدم توافق القانون الجنائي التقليدي مع النشاط التجاري لخصوصية هذا الأخير أفرده المشرّع بنظام زجري خاصّ يتمثّل في القانون الجنائي للشركات، ممّا ولّد تعدّدا في النصوص المجرمة وتزاحما بينها[16]. حيث يجرّم فعل توزيع أرباح صوريّة في إطار المجلّة الجنائيّة باعتباره صورة من صور خيانة الأمانة، كما يجرّم في إطار مجلّة الشركات التجاريّة.

ولعلّ ما يميّز التجريم في هذه المجلّة هو تحديده بصورة مفصّلة للرّكن المادّي للجريمة وذلك على خلاف جريمة خيانة الأمانة التي وردت في صياغة عامّة تشكل عدّة أفعال إجراميّة من بينها فعل توزيع أرباح صوريّة.

وقد ثار في هذا الإطار مشكل تحديد أيّ من النّصوص أولى بالاعتماد، سيما وأنّ العقوبة تختلف من نصّ إلى آخر. حيث ذهب جانب من الفقه والقضاء إلى اعتماد النصّ الوارد في المجلّة الجنائية باعتباره النصّ الأشدّ. في حين يرى اتجاه آخر ضرورة تطبيق النصّ الذي يجرّم بصفة خاصّة ومباشرة لأنّ المشرّع بسنه لنص ثان خاصّ أراد أن يفرد التجار بنصّ يوضح بصورة دقيقة الأفعال المجرّمة ويخصّهم بنظام عقابي متميّز.

لكن رغم هذا الاختلاف يبقى هدف المشرّع من تجريمه لفعل توزيع أرباح صوريّة حماية الذمّة الماليّة للشركة وحماية المساهمين فيها فقد يبدو في الظاهر أنّ المستفيد من توزيع أرباح صوريّة هم المساهمون في حين أنّه في الواقع يعتبرون الأكثر تضرّرا باعتبار أنّه في حال حصولهم على هذه الأرباح تصبح إمكانيّة فقدانهم لكلّ مساهماتهم واردة جدّا[17]. وبذلك يصبح المستفيدون الوحيدون من هذا التوزيع هم أعضاء مجلس الإدارة ووكلاء التصرّف وكذلك المساهمون الذين فوّتوا في أسهمهم وحصصهم بعد ارتفاع أسعارها نتيجة الإعلان عن توزيع أرباح.

وقد تزايدت أهميّة تجريم توزيع الأرباح الصوريّة مع تطوّر النظام الاقتصادي حيث أضحت المعلومة تمثّل أساس المعاملات الاقتصادية والمعيار المحدّد لاستقطاب أو نفور المدّخرين، لذلك يسعى مسيّروا الشركات إلى اعتماد المعلومة كأداة لجلب رؤوس الأموال نظرا لوعيهم بما لإشهار تحقيق الأرباح من تأثير على جمهور المدّخرين[18]، وبالتالي ونظرا لأهميّة هذا المعطى الإعلامي لم يتوان مسيّروا الشركات عن توظيفه لغايات إجرامية، لذلك تدخّل المشرّع بتجريم توزيع الأرباح الصوريّة لدرء وقوع أيّ شكل من أشكال التحيّل وبهذه الصّورة جرّم المشرّع التحيّل قبل توفّره وإنتاجه لآثاره[19].

فالمشرّع ولئن وفّر حماية للإعلام الصّحيح من خلال تجريمه لعرض أو إشهار موازنة غير صحيحة[20] فإنّه دعّم هذه الحماية بتجريم توزيع الأرباح الصوريّة خاصّة وأنّ صغار المدّخرين عادة ما يهتمون بنسبة الأرباح التي تمّ الإعلان عن توزيعها أكثر من اهتمامهم بالوثائق المحاسبيّة وما تضمنته من معلومات حول الوضعية الماليّة للشركة وذلك تكريسا لمبدأ شفافيّة المعاملات التجاريّة ونزاهتها.

كلّ هذا يؤدّي إلى طرح الإشكاليّة التالية : متى تقوم جريمة توزيع أرباح صوريّة ؟ وما هي خصوصيّات هذه الجريمة ؟

في هذا الإطار يتّجه التذكير بأنّ التجريم خارج إطار المجلّة الجزائيّة يتمتّع عادة بخصوصيّة تجعل عمليّة التجريم في حدّ ذاتها متشعبة وتكون بذلك في غالب الأحيان خارج إطار الشروط التقليديّة لقيام الجريمة مثلما تمّ تنظيمها صلب المجلة الجنائية وهذه الخصوصيّة تظهر جليّا في جريمة توزيع أرباح صوريّة من خلال ضرورة توفّر شروط ممهّدة لقيام الجريمة (الجزء الأوّل) تقترن بالعناصر المستوعبة لها (الجزء الثاني).

الجزء الأوّل : الشـروط الممـهّـدة لـقـيـام جـريـمـة تـوزيـع أربـاح صـوريّـة

حدّد المشرّع الأفعال التي يؤدّي ارتكابها إلى قيام جريمة توزيع أرباح صوريّة التي لا تقوم إلاّ إذا باشر أعضاء مجلس الإدارة توزيعها في غياب جدول إحصاء أو اعتمادا على جدول إحصاء مدلّس. وبالتالي يؤدّي انتفاء أحد هذه الأركان الأوليّة إلى عدم قيام الجريمة، باعتبار أنّ اعتماد جدول إحصاء مدلّس، أو عدم وضع الجدول ما هو إلاّ وسيلة أو أداة للوصول إلى إظهار أرباح صوريّة وتوزيعها، وعلى هذا الأساس فإنّ الاعتماد على جدول إحصاء صحيح لا يؤدّي إلى ظهور أرباح صوريّة[21].

في المقابل تنتفي الجريمة إذا ما أعدّ أعضاء مجلس الإدارة أو وكلاء التصرّف جدول إحصاء مدلّس أو تغاضوا عن إعداد جدول إحصاء، ثمّ لم يقوموا بتوزيع أرباح على المساهمين[22].

هكذا يكون من الضروري تكوين أرباح صوريّة (المبحث الثاني) في غياب أو تدليس جدول إحصاء (المبحث الأوّل) حتى تتوفّر الشروط الممهّدة أو الأسس الأوليّة لجريمة توزيع أرباح صوريّة.

المبحث الأوّل :غيـاب أو تدلـيس جـدول إحصـاء

ترتبط صحّة الأرباح الموزّعة بصحّة جدول الإحصاء الذي يتمثّل في كشف لجميع عناصر الأصول والخصوم التي على أساسها تضبط كميّة كلّ منها وقيمتها عند تاريخ الجرد[23].

وقد ذهب الفقه والقضاء إلى توسيع مفهوم جدول الإحصاء ليشمل كلّ عرض كامل للوضعيّة المالية للشركة يكون مقبولا من طرف الجلسة العامّة للمساهمين[24]. فكلّ عرض يمكن أن يحدّد عناصر الذمّة المالية للشركة ويقيّمها بصورة كاملة وواضحة، يجوز أن يقوم مقام جدول الإحصاء ولعلّ هذا التصور هو الذي حدا بالفقه والقضاء إلى المماثلة بين جدول الإحصاء والموازنة عند تحديد قيام جريمة توزيع أرباح صوريّة.

ونتيجة لاتّساع مفهوم جدول الإحصاء وتماثله مع الموازنة، أصبح من النّادر عمليّا أن يتمّ توزيع أرباح صورية في غياب جدول إحصاء، ذلك أنّ غياب جدول الإحصاء ووجود موازنة صحيحة ينفي قيام الجريمة[25].

وقد جرّم المشرّع التونسي هذا الفعل في إطار تجريمه لعملية توزيع الأرباح الصوريّة وذلك بمقتضى أحكام الفصل 223 من م.ش.ت. وقد تعرّض المشرّع صلب هذا الفصل لتجريم قائمات إحصاء في إطار الشركات خفية الاسم بعد أن تعرّض في مرحلة أولى وفي إطار الواجبات المحمولة على مجلس الإدارة صلب الفصل 201 م.ش.ت. إلى كون مجلس الإدارة مطالب عند ختم كلّ سنة بإعداد القوائم الماليّة للشركة تحت مسؤوليّته وكذلك الشأن بالنّسبة للشركات ذات المسؤوليّة المحدودة وذلك صلب الفصل 147 م.ش.ت.

وبذلك يكون تدليس جدول الإحصاء أو الموازنة الأكثر شيوعا على المستوى العملي والأكثر أهميّة على المستوى النّظري.

إلاّ أنّه كيف يمكن لنا أن نميّز بين جدول الإحصاء الصّحيح وجدول الإحصاء المدلّس ؟

أجمع الفقهاء على أنّ جدول الإحصاء المدلّس هو الذي يحتوي تضخيما للأصول وتنقيصا للخصوم[26] نتيجة تدليس شاب تسجيل عناصر الموازنة (الفقرة الأولى) أو تحيينها (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : التدليس عند تسجيل عناصر الموازنة :

يتّخذ تدليس جدول الإحصاء أو الموازنة صورتين : فإمّا أن يتم على مستوى تعديد عناصر الموازنة أو جدول الإحصاء (أ) وإمّا أن يقع على مستوى تقييمها (ب).

أ- التدليس على مستوى التعديد :

إنّ صحّة الأرباح الموزّعة ترتبط ارتباطا وثيقا بصحّة تعديد عناصر الموازنة والذي يتجلّى على مستويين :

فمن جهة يجب أن يتم تعديد كلّ عناصر الذمّة المالية للشركة. ومن جهة أخرى يجب أن يحترم التعديد طبيعة كلّ عنصر وموقعه صلب الموازنة. وعلى هذا الأساس تكون الشركة مجبرة على تسجيل كلّ مالها وما عليها صلب الموازنة ذلك أنّ خرق هذه القاعدة يؤدّي إلى عدم صحّة الموازنة.

ومن ناحية أخرى، ولضمان صحّة الموازنة يجب على مسيري الشركة احترام مبدأ استقلاليّة السنوات الماليّة الذي أكّد عليه الفقه[27] والقضاء[28] ودعمه صراحة نظام المحاسبة صلب الفقرة 438 من الأمر عدد 2459 المؤرخ في 30 ديسمبر 1996 والمتعلّق بالمصادقة على الإطار المرجعي للمحاسبة، ذلك أنّ تحميل أعباء السنة الماليّة الجارية على السنة الماليّة التالية يؤدّي إلى جعل الموازنة غير صحيحة ممّا يمكّن من ظهور أرباح صوريّة[29].

ويعتبر هذا النوع من التدليس الذي يرد عند تعديد عناصر الموازنة الشكل البسيط للتدليس، حيث لا يثير مشاكل وصعوبات في معاينته[30].

لكن يجب أن لا يقتصر الأمر على مجرّد تعديد عناصر الأصول والخصوم بل يجب احترام طريقة معيّنة في التعديد، حيث لا يمكن تسجيل عناصر الخصوم ضمن عناصر الأصول لأنّ ذلك سيؤدّي إلى تضخيم هذه الأخيرة، وبالتالي جعل الموازنة غير صحيحة[31].

ولكن كيف يمكن تصنيف عناصر الموازنة إلى أصول وخصوم ؟

تتكوّن الأصول من مجموع العناصر الاقتصادية التي تمتلكها الشركة بينما تتألّف الخصوم من مجموع الالتزامات التي على الشركة. فالأصول تمثّل عناصر إيجابيّة للشركة بينما تمثل الخصوم عناصر سلبيّة.

ب- التدليس على مستوى التقييم :

يعتبر تقييم عناصر الموازنة من أهمّ وأصعب المشاكل التي يتعرّض لها أعضاء مجلس الإدارة ووكلاء التصرّف[32]. نظرا لما لطرق التقييم من أهميّة في تحديد الوضعيّة المالية للشركة.

فمفهوم الرّبح الحقيقي مرتبط بصحّة تقييم عناصر الموازنة[33] إضافة إلى أنّ المشاكل التي يطرحها التقييم تترك هامشا واسعا لإمكانيّة تدليس جدول الإحصاء. فكيف سيتم تقييم عناصر الذمّة الماليّة للشركة حتّى يمكن الحصول على النتيجة الحقيقية للسنة المالية ؟

ومن الضروري على هذا الأساس العودة إلى نظام المحاسبة الذي تبنّى نظام التكلفة التاريخيّة، حيث جاء بالأمر عدد 2459 المؤرخ في 30/12/1996 والمتعلق بالمصادقة على الإطار المرجعي للمحاسبة صلب الفقرة 41 أنّه “تعتمد التكلفة التاريخيّة أو القيمة الأصليّة حسب هذا الاتّفاق قاعدة مناسبة لتقييد بنود أصول المؤسسة وخصومها”.

فالتكلفة التاريخية أو القيمة الأصليّة تمثل حقيقة ماديّة وموضوعيّة عندما يتعلّق الأمر بتسجيل أحد عناصر الأصول أو الخصوم عند دخولها للذمّة المالية للشركة. ولكن باعتبار أنّ الشركة ستواصل نشاطها.

فإنّ هذه القيم سوف تتغيّر نحو الزيادة أو النقصان باعتبار أنّ الوضع الاقتصادي في حركة دائمة وتغيّر مستمر ممّا يوجب مراجعة هذه القيم خلال كلّ سنة[34].

وهنا سعى الفقه إلى وضع جملة من المبادئ المحاسبيّة، من أهمّها مبدأ مصداقية تقييم عناصر الذمّة الماليّة للشركة الذي يتمثّل في البحث عن القيمة التي تكون أقرب للصحّة والموضوعيّة، استنادا إلى قاعدتي الحذر والوفاء في التقييم[35].

هذا المبدأ تبنّاه فقه القضاء، حيث لم يركّز على مدى صحّة الموازنة بقدر ما بحث عن مدى مصداقيتها[36].

وقد دعّم نظام المحاسبة هذا التوجّه من خلال تكريسه لقاعدة التمثيل الوفيّ[37] وقاعدة الحذر[38] التي تجد جذورها في المبدأ القانوني الذي يوجب توفّر عناية الرّجل اليقظ في كلّ شخص.

ومن باب أولى وأحرى ذوي الاختصاص الذين يجب عليهم السعي إلى تقدير عناصر الذمّة الماليّة للشركة دون تضخيم في الأصول أو تنقيص من الخصوم.

على أنّ واجب عضو مجلس الإدارة أو وكيل التصرّف لا ينحصر في تسجيل أو تقييم عناصر الأصول والخصوم التي تدخل للذمّة الماليّة للشركة، بل يجب عليه كذلك أن يقوم بتحيينها وتصحيحها وإلاّ شابها التدليس وعدم الصحة.

الفقرة الثانية : التدليس عند تحيين عناصر الموازنة :

تتأثّر عناصر الذمّة الماليّة للشركة بالتغييرات الاقتصادية والتطوّرات التقنية والعلميّة، حيث تنقص قيمتها لذلك وجب على المسيرين مواكبة هذه التغييرات عن طريق طرح الاستهلاكات (أ) أو تكوين المدّخرات (ب).

أ- الاستهلاكات : Les amortissements

عرّف نظام المحاسبة الاستهلاكات بأنّها “التقسيم الآلي للمبلغ القابل للاستهلاك لأصل من الأصول على المدّة المقدرة لاستعماله، وهو يترجم عن الانخفاض الذي لا يمكن التراجع فيه لقيمة أصل من الأصول الناتج عن الاستعمال وعامل الزّمن وتغيرات التقنيات أو أيّ سبب آخر”[39].

فتقنية تحديد الاستهلاكات هي وسيلة تصحيحية هدفها تحيين القيم المسجّلة بالموازنة وإعطائها قيمتها الحقيقية[40] كما تهدف أساسا إلى المحافظة على رأس المال وثباته[41] ذلك أنّه نتيجة التطوّر التقني أو عامل الزّمن أو أيّ سبب آخر ستتضاءل قيمة الأصول وتصبح القيمة المنصوص عليها في الموازنة صوريّة، ولا تمثّل القيمة الحقيقية. وهو ما قد يؤدّي إلى توزيع أرباح يتم اقتطاعها من رأس مال الشركة[42].

وعلى هذا الأساس برزت الحاجة إلى تحديد هذه “الخسارة” المحاسبية بواسطة الاستهلاكات التي لا تشمل كلّ عناصر الموازنة نظرا لطبيعتها، حيث أنّ الاستهلاكات لا تعبّر إلاّ عن نقص نهائي في قيمة أحد عناصر الموازنة، ممّا يقصي كلّ نقص ذو طابع احتمالي. وبذلك لا تشمل الاستهلاكات إلاّ العناصر المملوكة للشركة والموجّهة للاستغلال.

وقد أكّد الفقه والقضاء على ضرورة طرح الاستهلاكات حتى في غياب أرباح محققة[43] لأنّه يجب تحيين القيمة المسجلة في الموازنة وجعلها تتوافق والقيمة الحقيقية لأصول الشركة.

وهنا وجب على المسيرين تحديد نسبة الاستهلاكات، حاديهم في ذلك الحذر وضمان مصداقية عناصر الموازنة، فإذا ما حدث طارئ في أدى إلى فقدان أحد الأصول لأكثر من ناقص القيمة العادي، فإنّه من المفروض عليهم تحديد ناقص القيمة الاستثنائي وطرحه من نتائج السنة المالية مع الاستهلاكات العادية حتى لا يؤدّي التغاضي عنه إلى توزيع أرباح صوريّة. وبالتالي يجب عليهم استدعاء الجلسة العامّة واقتراح تغيير مبلغ الاستهلاكات أو تأجيل توزيع الأرباح المصوّت عليها من الجلسة العامّة[44].

من جهة أخرى، قد تصبح القيمة المسجلة لأصل من الأصول صلب الموازنة أقل من قيمته الحقيقية نتيجة التضخّم المالي، ممّا يجعل الاستهلاكات العادية المقتطعة سنويا غير كافية للتغطية ناقص القيمة الذي سجّله هذا الأصل في هذه الحالة، يجب اللّجوء إلى إعادة تقييم عناصر الموازنة وتحديد نسبة الاستهلاكات استنادا إلى القيمة الجديدة وإلاّ صارت الموازنة غير صحيحة ممّا يؤدّي إلى توزيع أرباح صوريّة[45].

نستنتج إذن أنّ الاستهلاكات هي وسيلة لتصحيح التقييمات الواردة في الموازنة. لكن نظرا لنسبيتها كان من الضروري الإلتجاء إلى تقنية أخرى لتصحيح بقيّة عناصر الموازنة.

ب- المدّخرات : Les provisions

تعتبر المدّخرات وسيلة لتصحيح الموازنة أو جدول الإحصاء حيث يتم تكوينها لمجابهة الأعباء أو المخاطر أو النقص في قيمة الأصول الذي يكون محدّد المقدار لكن محتمل الوقوع. فالمدّخرات إذن وسيلة لمجابهة المخاطر والخسائر الاحتمالية لأحد عناصر الذمّة المالية[46] من أجل ضمان مبدأ مصداقية الموازنة[47].

لكن رغم الطبيعة الاحتمالية للنقص في قيمة أحد عناصر الأصول، فإنّ عدم تكوين مدّخرات المجابهة، قد يؤدّي إلى جعل جدول الإحصاء مدلّس ومن ثمّة إمكانية توزيع أرباح صوريّة[48].

حيث أنّ تسجيل دين على حريف بقيمته الاسمية، رغم أنّه معسر، سوف يؤدّي إلى تضخيم الأصول باعتبار أنّ هذا الدين قد لا يتم استخلاصه. وبالتالي فإنّه لن يساهم في ارتفاع أصول الشركة.

لهذا السبب يوجب الفقه والقضاء تكوين مدّخرات عندما يكون ناقص القيمة احتماليا[49].

فتكوين المدّخرات يجب أن يخضع لشرطين : أوّلهما أن يوجد ناقص قيمة أو خطر، ثانيهما أن يكون تحقق نقص القيمة احتماليا عند ختم السنة المالية[50].

يبقى أهمّ إشكال تطرحه المدّخرات، ويمثل مجالا خصبا لتدليس جدول الإحصاء أو الموازنة، هو تحديد مدى الطابع الاحتمالي الذي يبقى عنصرا غامضا إضافة إلى أنّ تقدير نسبة عدم التحقّق تبقى من الأمور النسبية[51] خاصّة وأنّ هذه الصّبغة تطغى على المحاسبة ممّا يوفّر مجالا واسعا لأعضاء مجلس الإدارة ووكلاء التصرّف لتدليس جدول الإحصاء أو الموازنة لغاية إظهار أرباح صوريّة.

المــبحــث الثــانـي :تكـويـن أربـاح صوريّـة

تكون الأرباح صوريّة نتيجة غياب جدول إحصاء أو تدليس، ذلك أنّ هذا الأخير وإن كان شرطا ضروريّا لقيام جريمة توزيع أرباح صوريّة، إلاّ أنّه شرط غير كاف[52]، حيث يجب أن يؤدّي إلى ظهور أرباح لها صبغة صوريّة. وقد اعتبر الفقه والقضاء المقارن الرّبح صوريّا إذا ما تمّ اقتطاعه من رأس المال (الفقرة الأولى) أو من الذّخر الظّاهر في الموازنة (الفقرة الثانية) أو من الذّخر الخفيّ (الفقرة الثالثة).

الفقرة الأولى : الأرباح المقتطعة من رأس المال :

اعتمد الفقه والقضاء على مبدأ ثبات رأس المال لتحديد صوريّة الأرباح، حيث اعتبر كلّ توزيع لربح مقتطع من رأس المال هو ربح صوريّ[53]. فرأس المال يجب أن يبقى ثابتا لأنّه يمثّل حسب تعريف “THALLER” “خطّ وقوف بالغ المثالية مرسوما صلب أصول الشركة وحول دائرة القيمة الأوليّة للمساهمات دون تخصيص لقيم معيّنة تتعهّد الشركة بألاّ تسحب هذه الأصول من داخل هذه الدائرة وبألاّتتصرّف فيها.

أمّا ما تجاوز هذه الدائرة فإنه يظلّ قابلا للتصرّف من حيث يمكن للشركاء توزيعه فيما بينهم[54]“، أي أنّه يجب على الشركة، قبل أيّ توزيع للأرباح، أن تطرح من مجموع أصولها كلّ ما عليها من ديون وكذلك رأس مالها.

فمبدأ ثبات رأس المال يعتبر وسيلة للمحافظة على جملة الوظائف التي يقوم بها رأس المال – حيث يمثّل هذا الأخير أداة تمويل لأنشطة الشركة، كما أنّه يجسّد ضمانا لدائنيها.

إلاّ أنّه وبالرجوع إلى أسس مبدأ ثبات رأس المال نلاحظ قصور هذا المعيار لتحديد صوريّة الأرباح. وحيث أن رأس المال ولئن مثّل ضمانا للدائنين إلاّ أنّه يبقى ضمانا نسبيّا ومتغيّرا خاضعا لتقلبات الوضعية الاقتصادية للشركة. فالضمان الوحيد لدائني الشركة ليست الأرقام المضمّنة في القانون الأساسي، بل مجموع القيم التي تمتلكها الشركة أي أموالها الذاتيّة[55].

من جهة أخرى، فإنّ تأسيس مبدأ ثبات رأس المال على منع استرجاع المساهمين لمساهماتهم يبقى محدودا باعتبار أنّ المساهمات لا تقتصر على رأس المال فقط، بل تشمل عديد القيم الأخرى.

وهنا نستنتج أنّ مبدأ ثبات رأس المال ولئن اعتبر معيارا كافيا لتحديد صورية الأرباح فإنّه يظلّ معيارا قاصرا ذلك أنّه يمكن أن تتوفّر جريمة توزيع أرباح صورية دون المساس برأس المال وثباته[56].

من ذلك علاوة الإصدار[57] والمتمثّلة في المبالغ التي يتمّ دفعها من قبل المساهمين كتكملة لرأس المال وذلك لتغطية مصاريف إصدار لأسهم أو كذلك لضمان المساواة بين المساهمين القدامى والمساهمين الجدد عند الترفيع في رأس المال.

وقد أثارت علاوة الإصدار جدلا فقهيا، فقد ذهب جانب من الفقه إلى اعتبار علاوة الإصدار ذخرا، وبالتالي يمكن أن توزّع مع احترام شروط توزيع الذّخر، في حين ذهبت مجموعة أخرى من الفقهاء إلى أنّ علاوة الإصدار تمثّل صنفا خاصّا وليست بذخر، لأنّ الذّخر يجب أن يتأتّى من الأرباح[58] لذلك يجب التنصيص عند توزيعها على أنّ حصص الأرباح الموزّعة تمّ اقتطاعها من علاوة الإصدار وإلاّ اعتبرت صوريّة.

كما أنّ قصور مبدأ ثبات رأس المال عند تحديد صوريّة الأرباح لا ينحصر في علاوة الإصدار بل يتجاوز ذلك ليشمل الذّخر الظاهر في الموازنة.

الفقرة الثانية : الأرباح المقتطعة من الذّخر الاحتياطي في الموازنة:

عادة ما يتمّ تسجيل الذخر الاحتياطي في الموازنة سواء في شكل ذخر احتياطي قانوني، أو ذخر احتياطي اتّفاقي أو ذخر احتياطي خاصّ لإعادة التقييم.

فبالنّسبة للذّخر الاحتياطي القانوني فلا يمكن أن تقتطع الأرباح من هذا الصنف من ذخر الشركة الذي يلزم المشرّع عمليّة تكوينها من ذلك الفصل 140 م.ش.ت.

فيما يتعلق بالشركة ذات المسؤولية المحدودة يقتطع سنويّا 5 بالمائة من الأرباح تخصّص لتكوين مدّخرات احتياطية ويصبح اقتطاع الجزء المذكور غير واجب إذا بلغ المدخر الاحتياطي 10/1 رأس المال.

فلئن أوجب المشرّع تكوينه وحدّد نسبته فإنّه لم يحدّد كيفية استغلاله[59] ولا جزاء عدم تكوينه.

في ظلّ السكوت التشريعي، ذهب الفقه والقضاء إلى اعتبار الذخر الاحتياطي القانوني امتداد لرأس المال وهو مكمّل له، وبالتالي لا يمكن المساس به أو استغلاله إلاّ لتغطية رأس المال أو الترفيع فيه عن طريق إدماجه في رأس المال. فهو إذن تدعيم لضمان دائني الشركة وعلى هذا الأساس فإنّ توزيعه يعتبر توزيعا لأرباح صوريّة[60]. باعتبار أنّ الرّبح يفقد صبغته كربح بمجرّد أن يتم تسجيله في حساب الذّخر القانوني.

وإضافة إلى الذّخر القانوني الواجب التكوين دون أن يمكن توزيعه في شكل حصص أرباح – يمكن للشركة تكوين ذخر احتياطي اتّفاقي[61] تطبيقا لتنصيص في القانون الأساسي للشركة ويسمّى ذخرا احتياطيا نظاميا أو تطبيقا لقرار صادر عن الجلسة العامّة، ويسمّى ذخرا احتياطيا حرّا.

وعلى هذا الأساس يجوز التسائل حول إمكانية توزيع الذّخر الاتّفاقي ؟

لقد تباينت الآراء الفقهية والقضائية حول هذه النقطة، حيث ذهب في أوّل الأمر إلى حصر صورية الأرباح في الأرباح المقتطعة من رأس المال، وبالتالي أمكن لأعضاء مجلس الإدارة ووكلاء التصرّف التفصي من الجريمة بمجرّد وجود ذخر اتّفاقي كاف يمكن من تغطية حصص الأرباح الموزّعة[62].

هذا التضييق في مفهوم الأرباح الصوريّة لم يعمر طويلا وصدر عن محكمة التعقيب الفرنسية قرار في 22/01/1937 [63]اعتبرت في الأرباح المقتطعة من الذخر صورية طالما تأسست على قرار من الجلسة العامة بتوزيع أرباح السنة المالية المنقضية، والذي استند إلى جدول الإحصاء المدلّس المعروض عليها فتوزيع حصص الأرباح على أنها من الأرباح المحققة في حين أنها من الذخر يصبغها بالصوريّة.

وقد نقد جانب من الفقه هذا التوجه معتبرا أنّ توزيع أرباح مقتطعة من الذخر الاتّفاقي لا يصبغها بالصوريّة باعتبار أنه لا يمثّل جزءا من رأس المال وتسجيلها في حساب الذخر الاحتياطي الاتفاقي لا يفقدها صبغتها كأرباح.

وهنا فإنّ ما تجدر الإشارة إليه هو أنّ توسيع مفهوم الأرباح الصورية ليس غايته تجريم قرار الجلسة العامة في حدّ ذاته، بل هدفه زجر المغالطة التي يقع فيها الغير[64]. وبالتالي فالذخر الظاهر في الموازنة لا يمكن توزيعه إلاّ باحترام جملة من الشروط حماية للشركة وللغير. فماذا عن الذخر غير الظاهر خاصّة وأنه لا يمكن مبدئيا أن يعلم به الغير.

الفقرة الثالثة : الأرباح المقتطعة من الذخر غير الظاهر في الموازنة:

تجدر الإشارة إلى أنّ مسألة الذخر الاحتياطي غير الظاهر والخفي تطرح نفس الإشكاليات باعتباره يتمثّل في عدم إظهار هذا الذخر صلب الموازنة بطريقة واضحة وذلك بتقييم عناصر الأصول بصورة تقل عن قيمتها أو تقييم الخصوم بصورة تفوق قيمتها كالمبالغة في الاستهلاكات المقتطعة أو تسجيل مدخرات تفوق قيمة المخاطر المتوقعة.

ففي هذه الصّورة هناك توزيع للأرباح لا يمكن اعتباره صوريا بمجرّد أنه لم يظهر في الموازنة فهو لا يمسّ من ناحية بمصالح الغير ولا بمصالح المساهمين في الشركة وقد أقرت محكمة التعقيب الفرنسية في قرار Moreau أنّه يمكن توزيع هذه الأرباح شريطة أن تكون ناتجة عن السنة المالية التي تمّ فيها التوزيع أو أن يكون هذا الرّبح موجودا فعليا[65] إلاّ أنّ المشرّع الفرنسي اثر تدخله سنة 1966 أصبح يمنع بصفة غير مباشرة توزيع هذا الذخر كأرباح.

ومن المؤكّد أنّ توزيع الأرباح المستقبلية هو توزيع لأرباح صورية وهي تتعلق خاصّة بتوزيع تسبقات على الأرباح قبل القيام بحسابات الشـركة.

وأخيرا تخرج عن صورة توزيع الأرباح الصوريّة مكافآة أعضاء مجلس الإدارة التي تقتطع من النفقات العامّة للشركة كذلك الشأن بالنّسبة للمنح اتي تقدّم لفائدة أعضاء مجلس الإدارة باعتبارهم الهيكل التسييري للشركة وبالتالي لا تشملهم جريمة توزيع الأرباح الصوريّة باعتبار هذه الجريمة تقوم على مبدأ أنّ عمليّة التوزيع تتم لفائدة المساهمين لا غير.

ولئن كانت هذه الجريمة تستلزم توفّر هذه الشروط الأوليّة الممهّدة إلاّ أنّها تقتضي كذلك ضرورة توفّر أركان مستوعبة لها.

الجزء الثاني :العناصر المستوعبة لعمليّة التجريم

لا تقـوم جريمة توزيع أرباح صوريّة مثلم بقيّة الجرائم إلاّ متى توفّر ركنها المادّي (المبحث الأوّل) وركنها المعنوي (المبحث الثاني) ممّا يؤدّي إلى قيام الجريمة ويؤدّي إلى تحديد العقاب الجزائي المستوجب (المبحث الثالث).

المبحث الأوّل :الرّكن المادّي لجريمة توزيع أرباح صوريّة

يتمثّل الرّكن المادي لهذه الجريمة أساسا في ضرورة توفّر الصّفة القانونيّة في القائم بفعل التوزيع (فقرة أولى) وأيضا من خلال قيام فعل التوزيع المذكور (فقرة ثانية) الذي يلحق ضررا بالشركة والمساهمين فيها والغير (فقرة ثالثة).

الفقرة الأولى : توفّر الصّفة القانونية في القائم بفعل توزيع الأرباح الصوريّة :

إنّ فعل التوزيع كفعل مادّي يجب أن يتم مباشرته من طرف الأشخاص الذين حدّدهم المشرّع حصرا.

وحيث وعملا بالفصل 223 م.ش.ت. يتعلّق الأمر بأعضاء مجلس الإدارة وأما إذا كانت الشركة وعملا بالفصل 257 م.ش.ت. لها هيئة إدارة جماعيّة وهيئة مراقبة فإنّهما يكونان مسؤولان وفق المسؤولية القانونية للشركة للرئيس المدير العام والمدير العام وأعضاء مجلس الإدارة وقد جاء بالفصل 257 م.ش.ت. أنه “تنطبق العقوبات المنصوص عليها بهذه المجلّة بالنسبة إلى الرئيس المدير العام والمدير العام وأعضاء مجلس الإدارة، كلّ حسب صلاحياته الخاصّة على أعضاء هيئة الإدارة الجماعية وأعضاء مجلس المراقبة للشركات خفية الاسم الخاضعة لأحكام الفصول 224 و256 من هذه المجلة”.

وهو ما يعد توسّعا من المشرّع التونسي في تحديد الأشخاص المسؤولين عن هذه الجريمة وذلك حتى يحقّق الزّجر الجزائي الذي هو غاية كلّ تجريم وحتّى لا يتمكن أيّ شخص ساهم في عمليّة توزيع الأرباح الصوريّة من التنصّل من فعله بمجرّد انتفاء الصّفة الحصريّة التي اشترطها القانون.

كما أنّ ما يثير التساؤل هنا هو الصورة التي تكون فيها هيئة الإدارة مشتملة على شخص معنوي. هنا يمكن القول أنّه وباعتبار أنّ المشرّع التونسي قد أكّد صلب مجلّة الشركات التجارية على ضرورة أن تكون ممثلة عند توليها للإدارة بشخص مادي يقوم مقامها فإنّه يمكن القول أنّ هذا الشخص باعتباره وكيلا عنها هو الذي يجب مسائلته.

وهنا وحتى على فرض توفّر هذا الشرط فإنّه من الضروري أن يكون هناك توزيع مادّي للأرباح المعتبرة صوريّة.

الفقرة الثانية : ضرورة توزيع أرباح صوريّة :

يتّضح بالرّجوع إلى مجلّة الشركات التجارية أنّ عملية توزيع الأرباح الصوريّة تمر عادة بعدّة مراحل قبل أن يتسلم المستحق لمقدار الرّبح المستحق بصفة فعليّة إذ أنّه يتولى أعضاء مجلس الإدارة بالنّسبة للشركات خفية الاسم حسب الفصل 201 م.ش.ت.

أو وكلاء التصرّف بالنّسبة للشركات ذات المسؤولية المحدودة حسب الفصل 112 من نفس المجلة اقتراح توزيع الأرباح ثمّ تقوم الجمعية العامّة بالنسبة للشركات ذات المسؤولية المحدودة والشركة خفية الاسم حسب الفصلين 128 و257 م.ش.ت. بالمصادقة على عملية التوزيع وفي الأخير يتولى أعضاء مجلس الإدارة أو وكلاء التصرّف تحديد التاريخ الذي سيتم في مباشرة عمليّة التوزيع.

إنّ هذه المرحليّة في التوزيع تطرح إشكالا في التطبيق حول معرفة التاريخ الذي يتمّ فيه اعتبار الفعل المادّي للتوزيع قائما. وفي هذا الإطار ذهب جانب من الفقه الفرنسي[66] إلى اعتبار أنّ عمليّة التوزيع تعتبر قائمة بمجرّد أن ينشأ للمساهمين دين على الشركة أي الحقّ في الحصول على الرّبح وذلك منذ أن يتولى مجلس الإدارة أو وكلاء التصرّف وضع الموازنة.

غير أنّ هذا الرّأي تعرض للنقد باعتبار أنّه لا يمكن معاقبة شخص من أجل فعل احتمالي باعتبار أنّ هذه الأرباح لا يمكن أخذها بعين الاعتبار إلاّ من تاريخ مصادقة الجمعية العامة عليها إذ أنّه بدون هذه المصادقة لا يمكن الحديث أصلا عن وجود هذه الأرباح.

إلاّ أنّ هذا الرّأي لم يسلم بدوره من النقد ذلك أنّه وحتّى بعد مصادقة الجمعية العامة على توزيع الأرباح فإنّه لا يمكن الحديث عن قيام فعل التوزيع باعتبار أنّ وكلاء التصرّف أو مجلس الإدارة يمكنهم العدول عن التوزيع إذ ما اكتشفوا صورية الأرباح[67]. وبالتالي فلا يمكن الحديث قانونا عن جريمة في ظلّ عدول القائم بها هذا فضلا على أنّ تنفيذ فعل التوزيع يدخل في إطار الاختصاص المطلق لوكلاء التصرّف وأعضاء مجلس الإدارة[68].

وعلى هذا الأساس فإنّ الرّأي الغالب اعتبر أنّ هذه الجريمة لا تقوم إلاّ عند تحديد تاريخ توزيع الأرباح[69].

غير أنّ هذا الرأي يمكن اعتماده في القانون التونسي لو اعتمدنا الصّيغة الفرنسية للفصل 223 من مجلة الشركات التجارية التي استعمل فيه كلمة Répartition أي تقسيم غير أنّ النصّ القانوني ينطبق في معناه الوارد باللّغة العربية حيث نجده يستعمل كلمة “توزيع” التي تعني الحصول الفعلي على الرّبح من قبل المستحقين خاصّة وأنّ المشرّع استعمل عبارة مباشرة التوزيع مع ما يعنيه من ضرورة توفّر الفعل الإيجابي.

لم يسلم هذا الاتّجاه الأخير بدوره من النقد باعتبار أنّه لا يمكن أن يقع ربط تجريم فعل ارتكبه شخص بإرادة طرف آخر أي أنّه لا يمكن أن يظلّ وكلاء التصرّف وأعضاء مجلس الإدارة خارج إطار المسائلة الجزائيّة بناءا على إرادة المساهمين أو الشركاء في استخلاص حصص أرباحهم. لذلك فمن الأجدر استبعاد هذا التوجّه واعتبار أنّ توزيع الأرباح يعتبر متحقّقا عندما يتم تحديد الأرباح وتخصيصها للمساهمين أو الشركاء الذين يكتسبون حقّا نهائيا عليها[70].

ولكن لا يمكن تحديد تاريخ توزيع حصص الأرباح دون ضبط صور التوزيع وطرقه. وما تجدر ملاحظته هو أنّ طرق توزيع الأرباح أثارت العديد من الإشكاليات التطبيقيّة عندما يقوم أعضاء مجلس الإدارة أو وكلاء التصرّف بتوزيع حصص الأرباح في شكل تسبقات على الأرباح أو في شكل منح ومكافآت.

فبالنسبة لتوزيع تسبقات على الأرباح كما سبق ولاحظنا فمن المفترض لقيام جريمة توزيع أرباح صوريّة أن يتم توزيع أرباح في غياب جدول الإحصاء أو اعتماد جدول إحصاء مدلس وكذا الأمر بالنسبة إلى توزيع تسبقات على الأرباح إذ من الضروري وضع موازنة قبل توزيعها حتى يمكن تحديد الوضعيّة الاقتصاديّة للشركة وبالتالي الأرباح المحقّقة وبالتالي فإنّ توزيع التسبقات أو الأرباح المستقبليّة دون وجود موازنة يؤدّي إلى قيام جريمة توزيع أرباح صوريّة.

ولكن يخرج من صورة توزيع أرباح صوريّة، مكافآت الحضور لفائدة أعضاء مجلس الإدارة التي تقتطع من النفقات العامّة للشركة كذلك الشأن بالنّسبة للمنح التي تقدّم لفائدة أعضاء مجلس الإدارة باعتبارهم الهيكل التسييري للشركة ولا تشملهم هذه الجريمة باعتبار أنّ هذه الجريمة تهمّ المساهمين لا غير.

كما يطرحه التساؤل حول مسألة توزيع أرباح موسميّة تحقّقت فعلا ثمّ بعد ذلك منيت الشركة بخسارة استوعبت الرّبح الموزّع، فهل نكون هنا أمام جريمة توزيع أرباح صوريّة ؟

رغم أنّ المنطلق كان سليما فقد ذهب الرّأي الغالب من الفقه إلى اعتبار قيام الجريمة نظرا أنّ المسؤول عن التوزيع عليه أن يأخذ جميع الاحتياطات اللاّزمة لتفادي ذلك.

إلاّ أنّ الرّكن المادّي للجريمة المذكورة لا يمكن أن يقوم فعلا إلاّ بوجود ضرر لحق الشركة أو المساهمين أو الغير.

الفقرة الثالثة : وجـود الضـرر

يبقى وجود الضرر في هذه الجريمة مفترضا خاصّة بالرّجوع إلى الغاية التي قام المشرّع على أساسها بتجريم هذا الفعل بالنظر إلى أنّه يهدف إلى حماية الشركة وعدم استنزاف أموالها.

وهنا نجد أنّ المشرّع التونسي قد نصّ صلب الفصل 198 على أنّه يمارس أعضاء مجلس الإدارة وظائفهم ويعتنون بها عناية صاحب المؤسسة المتبصّر والوكيل النزيه. أمّا بالنسبة للشركات ذات المسؤولية المحدودة فقد نصّ الفصل 113 منها أنّه “…. وفي غياب شرط منصوص عليه بالعقد التأسيسي يخوّل للوكيل القيام بكلّ أعمال التصرّف طبق موضوعها وخدمة لمصلحة الشركة”.

وحيث بالتمعّن في الفصلين المذكورين يتّضح أنّ المشرّع قد أوجب على المسيرين سواء بالنّسبة للشركة خفية الاسم أو الشركة ذات المسؤولية المحدودة التصرّف فيهما تصرّف الشخص الذي يسعى إلى الحفاظ على أمواله الخاصّة.

وفي هذا الإطار فإنّه لا يمكن لأيّ شخص يسعى إلى الحفاظ على أمواله الخاصّة أن يتولّى استنزاف رأس مال الشركة عبر تمديده بتوزيعه على المساهمين. كما يستنتج من استعمال المشرّع لمصطلح “التصرّف فيها طبق موضوعها” و”الوكيل النزيه” ضرورة عدم مخالفة المسيرين لموضوع الشركة ولواجب النزاهة اللّذان يفترضان عدم توزيع الأرباح إلاّ متى كانت قد تحققت فعلا حتّى لا يقع الإضرار بالمساهمين وكذلك الغير والمساس برأس المال الذي يمثّل ضمانا لديونها والمحرّك لعملية الإنتاج بها.

ولئن لم يشترط المشرّع عنصر الضرر صلب الفصل 223 م.ش.ت إلاّ أنّه لم يشترط كذلك القصد الجنائي أو الرّكن المعنوي.

المبحث الثاني :الرّكن المعنوي لجريمة توزيع أرباح صوريّة

إنّ عدم اشتراط المشرّع للقصد الجنائي صلب الفصل 223 من م.ش.ت يؤدّي إلى التساؤل حول ما إذا كانت هذه الجريمة ماديّة تقوم بمجرّد توفّر ركنها المادّي أي فعل توزيع أرباح صوريّة على المساهمين في غياب جدول إحصاء أو اعتمادا على جدول إحصاء مدلس وذلك دون البحث عن توفّر القصد الجنائي من عدمه[71]. بيد أنّ هذا الرّأي يتعارض مع القواعد العامّة للقانون الجنائي[72].

فبالعودة إلى النظريّة العامّة للقانون الجنائي نلاحظ أنّ القصد الجنائي يمثّل الأساس الأوّل للمسؤوليّة الجزائيّة[73]. فالأصل في الجريمة أن تكون عمدية وقد جاء بالفصل 37 م.ج. أنّه “لا يعاقب أحد إلاّ بفعل ارتكب قصدا عدا الصّور المقرّرة بوجه خاصّ بالقانون”. وهو ما يعني أنّ الجريمة لا تكون ماديّة إلاّ إذا نصّ المشرّع صراحة على ذلك وفي غياب هذا التنصيص تبقى الجريمة قصديّة.

وهنا يمكن أن نستشف الطابع القصدي لجريمة توزيع أرباح صوريّة ذلك أنّ المشرّع التونسي نصّ على ضرورة غياب قائمة الإحصاء ممّا يستنتج منه ضمنا أنّ المسيرين الذين يتولون توزيع الأرباح في غياب قائمة الإحصاء رغم وجوبيّة إعدادها تكون نيّتهم متّجهة إلى تغييبها قصد التمكّن من توزيع أرباح صوريّة دون أن يقع التفطّن لفعلهم الإجرامي.

أمّا في صورة ما إذا تمّ توزيع الأرباح الصوريّة اعتمادا على قائمة إحصاء مدلّسة فإنّ القصد الجنائي أيضا يكون مفترضا باعتبار أنّه لا يمكن للوكلاء وأعضاء مجلس الإدارة إلاّ أن يتّجه قصدهم إلى القيام بالفعل الإجرامي المتمثّل في توزيع أرباح صوريّة إذا ما تولوا تدليس قائمة الإحصاء باعتبار أنّ عملية التدليس تستوجب بطبعها ضرورة وجود فعل إيجابي يتمثّل في التدليس الذي هو جريمة قصديّة في حدّ ذاته.

ومن جهة أخرى، فإنّ استعمال المشرّع لعبارة “أرباح صوريّة” لا يترك مجالا للشك حول ضرورة توفّر القصد الجنائي باعتبار أنّ الصوريّة تفترض في حدّ ذاتها إخفاء للوضعيّة الحقيقيّة للشركة واتجاه قصد الجناة إلى توزيع أرباح على أنّها حقيقيّة في حين أنّها غير متوفّرة وغير كافية لتغطية حصص الأرباح الموزّعة[74].

وهنا ما تجدر ملاحظته هو أنّ المشرّع التونسي لم يعرف القصد الجنائي الذي هو عنصر أساسي لقيام الجريمة وترك ذلك للفقه وخاصّة فقه القضاء الذي فرّق بين القصد الجنائي العامّ الذي هو اتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب الفعل الإجرامي رغم علمه بأنّ ذلك الفعل هو فعل خطير يحرّمه القانون ويعاقب مرتكبه وهو ما نجده صلب عديد القرارات التعقيبيّة منها القرار التعقيبي الجزائي عدد 18412 بتاريخ 30/04/1986[75] والذي جاء به أنّ القصد الجنائي هو انصراف إرادة الجاني إلى ارتكاب الفعل مع علمه بأنّه يرتكب فعلا غير جائز”.

وفي هذا الإطار يثور تسائل حول معرفة هل أنّ القصد الجنائي العام يكفي لوحده لقيام الجريمة أم يجب أن يتوفّر أيضا قصد جنائي خاصّ والمتمثل أساسا في اتّجاه نيّة الجاني إلى الاستيلاء على أموال الشركة بغاية امتلاكها والإضرار بأربابها والمتعاملين معها ؟ في هذا الإطار وانطلاقا من تعلّق الجريمة برأس المال وانطلاقا من صفة القائمين بالجريمة باعتبارهم تجارا محترفين مهمتهم الحفاظ على رأس المال هذا فإنّه من المحتّم ضرورة وجود القصد الجنائي الخاصّ الذي يتمثّل أساسا في اتّجاه إرادة الجاني إلى الإضرار بالشركة والمساهمين فيها والغير عبر الإضرار بمدّخراتهم وضمانات ديونهم وبرغبة منه في تحقيق مصلحة خاصّة له تتمثّل في الانتفاع الشخصي بهذا التوزيع الصّوري للأرباح بعيدا عن أيّ تصرّف مشروع.

وهذا القصد الجنائي يتحقّق بمجرّد وقوع ضرر للأقطاب الثلاث المعنيّة بعمليّة التوزيع الصوري للأرباح الذين هم الشركة والمساهمين فيها والغير حسن النيّة دون اشتراط وجود ضرر جامع لهم باعتبار أنّه بمجرّد اتّجاه نيّة الجاني إلى الإضرار بأحدهم حتّى ولو كان لفائدة البقيّة تقوم الجريمة وحتّى لو كان الضّرر يسيرا[76].

غير أنّ تحديد ضرورة وجود القصد الجنائي العام والخاصّ لا يكفي لقيام الجريمة باعتبار أنّه يجب أيضا توضيح زمن توفّر هذا القصد فهل هذا القصد يقوم بتوفّر الركن المادي المتمثل في عمليّة التوزيع أم بمجرّد وجود موازنة مدلسة أو عدم إعدادها ؟ هنا يمكن القول أنه إذا ما اعتبرنا أنّ القصد الجنائي يأخذ مكانه انطلاقا من استعمال المشرّع لمصطلح “مدلسة” بالنسبة لقائمة الإحصاء باعتبار هذا المصطلح هو المثبت لسوء النيّة فإنه يمكن القول بأنّ الركن القصدي يقوم بمجرّد وقوع عملية التدليس أما إذا لم يقع إعداد قائمة إحصاء فإنّ القصد الجنائي هنا يصبح مرادفا لعمليّة التوزيع في حدّ ذاتها التي تفترض بطبعها العلم والإصرار الإجرامي على القيام بالفعل المجرم رغم ذلك.

لكن الإشكال الذي يطرح في هذا الإطار هو هل أنّ القاضي الجزائي في هذه الصورة يكتفي بعمليّة التوزيع الصوريّة للأرباح لإثبات القصد الجنائي أم عليه أن يستشفها عبر الفترة الفاصلة بين عدم إعداد موازنة وفق المقتضيات القانونية وضمن المدّة الزمنية الواجب إعدادها فيها وبين مباشرة عملية توزيع الأرباح الصوريّة أم عليه أن يعتبر أنّ القيام بفعل التوزيع دون وجود هذه القائمة كاف لوحده لقيام القصد الجنائي الخاصّ.

في هذا الإطار فإنّ ما يمكن ملاحظته هو أنّ القصد الجنائي يبني عادة على التبلور ووضوح العزم الإجرامي لدى الجاني والتمسّك بالإقدام على الفعل المجرم بإرادة واعية ومسؤولة قد عقدت عزمها على التصرّف بما لا يمليه القانون لتحقيق منفعة خاصّة والإضرار بالمصالح الأخرى المتعارضة معها مع وجود حالة نفسية داخلية انعقدت على عدم المبالاة بالعواقب الوخيمة إذا ما اكتشفت أفعاله الإجرامية.

وهكذا فإنّ القاضي الجزائي ليبنى وجدانه الخالص باعتبار أنّ القضاء في المادة الجزائية هو قضاء وجدان فإنّ عليه أن يستخلص وجود القصد الجنائي من عدمه من خلال دراسة مختلف المراحل التي مرّت بها عمليّة توزيع الأرباح الصوريّة.

المبحث الثالث :العقاب الجزائي كنتيجة للجريمة

يعتبر العقاب الجزائي من أهمّ الخصائص التي تميّز المادة الجزائيّة باعتبار أنّه بدونه لا يمكن الحديث عن وجود جريمة غير أنّ هذا الجزاء صلب جريمة توزيع أرباح صوريّة يثير العديد من الإشكاليات وذلك خاصّة في خصوص النص الجزائي المنطبق.

إنّ ما يمكن التأكيد عليه أنّ هذا الإشكال قد طرح من منطلق أنّ نفس الأفعال التي يمكن اعتبارها من قبيل جريمة توزيع أرباح صوريّة يمكن أن ينطبق عليهما النصّ الجزائي العام الذي هو الفصل 297 من المجلة الجنائية المتعلّق بجريمة خيانة مؤتمن.

لحل هذا المشكل فقد تولى جانب من الفقه الاعتماد على نظرية الخاص يقدم على العام وذلك بأعمال الفصل 534 م.ا.ع. الذي نصّ على أنه “إذا خصّ القانون صورة معينة بقي إطلاقه في جميع الصور الأخرى”.

وبالتالي ما دام المشرّع التونسي قد خص جريمة توزيع أرباح صورية بنص خاص صلب مجلة الشركات التجارية فإنّه تبعا لذلك يعتبر الفصل 297 من القانون الجنائي نصا عاما يجب أن يستبعد عند التجريم خاصّة أنّ التجريم الوارد صلب مجلّة الشركات التجارية جاء من حيث الزمن بعد التجريم الوارد صلب المجلّة الجنائية بما يمكن معه القول أنّ النصّ اللاّحق في الزمن هو الذي يأخذ مكانه في التطبيق مكان النصّ السابق له في الزمن.

غير أنّ هذا الرّأي على رجاحته وإن وجد له مبرّرا صلب قواعد القانون العام إلاّ أنّنا لا نجد له مرتكزا قانونيا صلب المجلّة الجنائيّة باعتبار أنّ المشرّع التونسي اقتصر على تطبيق قاعدة التوارد في صورة تعدّد النصوص القانونية وذلك صلب الفصل 54 من المجلة الجنائية الذي نصّ على أنه “إذا تكون من الفعل الواحد عدّة جرائم فالعقاب المقرّر للجريمة التي تستوجب أكبر عقاب هو الذي يقع الحكم به وحده”.

وإذا ما تولينا تطبيق هذه القاعدة فإنّنا نقوم تبعا لذلك بالإفراغ الكلي لمحتوى قواعد التجريم صلب مجلّة الشركات التجارية باعتبار أنّ الفصل 297 قانون جنائي هو وحده الذي سوف يقع تطبيقه وبالتالي فإنّ الخصوصية التي سعى المشرّع التونسي إلى إنشائها في الأعمال التجارية عبر وضع آليات القانون الجنائي الاقتصادي سوف تفقد أسباب وجودها خاصة أنّ هذا القانون قد راعى خصوصية المجال الاقتصادي المبني أساسا على المال وبالتالي فإنّ طبيعته هذه تقتضي أن يكون العقاب المالي أهم من العقاب السالب للحريّة.

لكلّ هذه الأسباب فقد كان الاتّجاه الغالب من الفقه يرى أنّ النصوص العقابية المنصوص عليها بمجلّة الشركات التجارية هي التي يقع تطبيقها[77].

وعموما فإنّه وباعتبار أنّ النيابة العموميّة هي التي تثير الدعوى العمومية وهي التي تتولى القيام بالتتبع فهل أنّ توليها تعهيد المحكمة الجنائية المختصّة بناء على أنّ الأفعال تمثّل جناية حسب منطوق الفصل 297 قانون جنائي فهل أنّ ذلك يقيّد المحكمة المتعهدة بالنظر
أم لا ؟

هنا يمكن القول أنّه بالرّجوع إلى النّصوص القانونية المنظمة للإجراءات الجزائية وخاصّة الفصول 169 و171 و172 من مجلّة الإجراءات الجزائيّة فإنّه يمكن القول أنّ المحكمة تتعهد بالوقائع وبالتالي فإنّه يمكن للقاضي الجزائي أن يعيد التجريم المنصوص عليه بمجلّة الشركات التجاريّة باعتبار أنّ العقاب المستوجب صلبها إذا ما كانت الإحالة مبنية على الفصل 297 قانون جنائي مع الملاحظة أنّه إذا كانت الإحالة مبنية على أحكام المجلة التجارية ورأت المحكمة تطبيق الفصل 297 المذكور فإنّه عليها التخليّ عن القضية لفائدة المحكمة المختصة.

الخــاتـمة

وإجمالا تعد جريمة توزيع الأرباح الصوريّة مظهرا من مظاهر اعتناء المشرّع التونسي بالشركات التجاريّة باعتبارها نواة رئيسيّة في الاقتصاد الوطني المنفتح والتي يرمي من خلالها المشرّع إلى المحافظة على وجود هذه الشركات وتدعيمها قصد مواجهة التحديات المتّصلة بالمنافسة ويهدف من وراءها كذلك إلى حماية مساهمات أفرادها وبالتالي التشجيع على الاستثمار.