استقلال القضاء في الولايات المتحدة

تطور الاستقلال القضائي في الولايات المتحدة، ليصبح مجموعة من المؤسسات تضمن أن أحكام وقرارات القضاة تكون في إطار القانون، وليست وفق أهوائهم الخاصة، أو تبعاً لإرادات غيرهم، بما في ذلك إرادات فروع الحكم الأخرى. إن العناصر الخمسة المُشكِّلة لاستقلالية القضاء تتكون من: الحماية الدستورية الممنوحة للقضاة في الولايات المتحدة؛ وجود الإدارة المستقلة للقضاء في يد القضاة أنفسهم؛ وجود سلطة انضباط قضائية للتعامل مع حالات سوء الإدارة أو سوء السلوك التي يرتكبها القضاة؛ الطريقة التي يتم بها التعامل في حالة وجود تضارب للمصالح؛ وضمان فعالية القرارات والأحكام القضائية.

تتوحد هذه العناصر سوية لتضمن قيام قضاء مستقل يُكوّن الأساس لمجتمع يحكمه القانون. في ما يلي نص مختصر لكلمة القاضي براير، التي ألقيت أصلاً في مؤتمر المحاكم العليا للأمريكيتين، الذي عقد في العاصمة واشنطن خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر 1995.

الأساس الأولّي لاستقلال القضاء في الولايات المتحدة يقوم على الحماية المؤمنة للقضاة التي نصت عليها المادة الثالثة من الدستور، والتي تُنشئ القضاء الفدرالي. تنص المادة الثالثة على أن القضاة الفدراليين سوف “يبقون في مناصبهم طالما ظل سلوكهم حسنا”، وعلى أنهم سوف “يتقاضون مقابل خدماتهم، مرتباً، لا يتناقص طالما بقوا في مناصبهم”. هذه الأحكام تضمن ألا يكون للكونغرس ولا للرئيس تأثير مباشر على ما تسفر عنه الإجراءات القضائية عن طريق التهديد بعزل القضاة أو خفض رواتبهم.

إن الحماية ضد العزل تقيّدها عبارة “طالما ظلوا ملتزمين بحسن السلوك”، وهذه الآلية تنطبق أيضاً على غير القضاة من شاغلي المناصب الكبرى بالحكومة الفدرالية. فالمادة الثانية من الدستور تنص على أن “المسؤولين المدنيين في الولايات المتحدة” – ومن بينهم القضاة – يمكن “عزلهم من مناصبهم بعد اتهامهم وإدانتهم بالخيانة، أو الرشوة، أو ارتكاب الجرائم الكبرى أو الجنح”. وتوجيه الاتهام إلى المسؤولين هي عملية رسمية نظامية يصدر بها الكونغرس أحكامه، وتستوجب الاتفاق بين المجلسين. فيكون على مجلس النواب توجيه الاتهام وتقديمه إلى مجلس الشيوخ. عندئذ يُجري الأخير المحاكمة المتعلقة بالاتهام، ولا يمكنه إدانة المسؤول المتهم، بمن في ذلك القضاة، إلاّ بإصدار قرار تتم الموافقة عليه بأغلبية الثلثين.

ولم تُستخدم سلطة توجيه الاتهام إلاّ نادراً منذ إنشاء السلطة القضائية، ولم تستعمل إلاّ لعزل القضاة بسبب أشكال متعددة من سوء السلوك الشخصي. وفي قضية شكلت معلماً في مجال توجيه الاتهام للمسؤولين في عام 1805، وجه الكونغرس الاتهام إلى صموئيل تشيس، قاضي المحكمة العليا الذي كان معروفا بصراحته الشديدة في الموضوعات السياسية، على أساس مزاعم تقول إن قراراته القضائية المهمة كانت متحيّزة سياسياً. لكن الكونغرس فشل في توجيه الاتهام، فأُنشئ نتيجة لذلك التقليد الذي يقول إن الكونغرس لا يمكنه استخدام سلطاته الخاصة بتوجيه الاتهام لتقييد الممارسات الأساسية للسلطة القضائية. وفي فترة أحدث، نبع الدافع في الحالات القليلة التي تم فيها توجيه الاتهام للقضاة نتيجة أو في أعقاب إجراء تحقيق جنائي مع القضاة. وهناك حالات أقل شأناً من سوء السلوك تم التعامل معها في إطار النظام التأديبي القضائي الذي يتولاه النظام القضائي نفسه.

السيطرة على الإجراءات والاستقلال الإداري

تُشكّل المؤسسات التي تسمح للقضاء بالسيطرة على المناخ السائد في البيئة التي يمارس فيها القضاة مهمتهم، عاملاً ثانياً لدعم الاستقلال القضائي. لا تكون هذه النقطة محورية دائماً عند تقييم مدى استقلال القضاء، ولكن إذا جرى التفكير في كيفية تأثير مناخ العمل على أداء المرء لعمله، لأصبح من الممكن إدراك أن مسألة من يسيطر على السياق أو المفهوم الذي يُصدر في إطاره القضاة أحكامهم في ما يعرض عليهم من قضايا، تعتبر عاملا مؤثرا بدرجة كبيرة على فكرة استقلال القضاء.

هناك ثلاث دعائم مؤسساتية أولية ترتكز عليها الإدارة القضائية الأميركية. الدعامة الأولى هي المؤتمر القضائي للولايات المتحدة الذي تأسس في العام 1922 وحمل آنذاك اسم مؤتمر كبار قضاة الدوائر القضائية. يتألف هذا المؤتمر من رئيس المحكمة العليا، ورؤساء الدوائر القضائية وعددها 13 دائرة، وقضاة محاكم المناطق أو الأحياء وعددها 12 محكمة، وكبير قضاة محكمة التجارة الدولية. والمؤتمر القضائي هو الهيئة القومية لوضع السياسات المتعلقة بالقضاء، كما أنه يشرف على أعمال المكتب الإداري للمحاكم الأميركية. أما الدور الأكثر أهمية للمؤتمر القضائي فهو دوره في عملية وضع القواعد القضائية.

والسلطة الأولى والأكثر مركزية التي تركها الدستور للكونغرس، والتي قام الكونغرس بتحويل قدر مهم من ممارستها إلى المحاكم، هي سلطة وضع قواعد إجراءات النظر في القضايا المرفوعة أمام المحاكم. بموجب “قانون التمكين من وضع القواعد” قام الكونغرس بتمكين السلطة القضائية من وضع قواعدها الخاصة بالإجراءات في القضايا الجنائية والمدنية، ومنذ صدور القانون الفدرالي حول “قواعد إجراءات القضايا المدنية” عام 1938، هيمنت المحكمة العليا (والمحاكم الأدنى بالنسبة للقواعد المحلية) على غالبية قواعد الإجراءات في المحاكم الفدرالية.

رغم أن عملية وضع القواعد عملية مستقلة عن الكونغرس، فإنها ليست عملية منعزلة ولا محمية من مسؤولية المحاسبة العامة. وتضع هذه القواعد لجان استشارية متخصصة بالقانون المدني، والجنائي، وقانون الإفلاس، وإجراءات الاستئناف والأدلة. تتشكل هذه اللجان من قطاع منوع واسع من المشاركين في العملية القانونية، وتشمل القضاة، والعاملين بوزارة العدل، وأساتذة القانون، وأعضاء نقابة المحامين المتخصصين بالقضايا الجنائية والمدنية الذين يمثلون المدعين والمدّعى عليهم. وتقترح تلك اللجان القوانين، ثم يعرضونها للتعليق العام عليها، ثم يقدمونها إلى اللجنة الدائمة لقواعد الممارسات والإجراءات القانونية، والتي تحيلها بدورها إلى المؤتمر القضائي الذي يوصي المحكمة العليا بالموافقة عليها. بعد أن تعلن المحكمة العليا عن موافقتها على قاعدة قانونية، تُرسل إلى الكونغرس وتصبح نافذة المفعول، ما لم يرفض الكونغرس التصديق عليها خلال الفترة الزمنية المنصوص عنها في القانون (إلاّ أن قواعد الإثبات، والتي تعتبر أكثر أهمية من القواعد الإجرائية، فتقترحها السلطة القضائية، ولكن يتوجب الموافقة عليها كما لو كانت قوانين صادرة عن الكونغرس). وربما تكون السلطة على مناخ الإجراءات التي يتم وفقا لها النظر في القضايا وإصدار الأحكام، تمثل السلطة الأقرب إلى جوهر مفهوم استقلال المؤسسات القضائية.

بالإضافة إلى المؤتمر القضائي، هناك مكونان أساسيان إضافيان للاستقلال القضائي أوجدهما الكونغرس في العام 1939، وهما: المكتب الإداري للمحاكم الأميركية ومجالس الدوائر القضائية. وينصب المكوّن الأول على ضرورة المركزية بالنسبة لإدارة القضاء، بينما يتركز المكوّن الثاني على ضرورة السيطرة المحلية للقضاة على البيئة أو المناخ الذي يعملون فيه. والمكتب الإداري للمحاكم الأميركية هو هيئة مكوّنة من إداريين متخصصين يخضعون لتوجيهات المؤتمر القضائي الذي يشرف على إدارة ميزانية المحاكم الفدرالية، وشؤون الموظفين، والمشتريات وغيره من المهام المتعلقة بترتيب النظام القضائي من الداخل وتأمين الدعم له. وتتكون مجالس الدوائر القضائية الثلاث عشرة من رؤساء المحاكم وعدد مماثل من قضاة الدوائر وقضاة المناطق أو الأحياء. تؤدي المجالس مهمتين رئيستين. المهمة الأولى هي العمل كهيئة إشراف إداري على الدوائر القضائية من خلال الإشراف على إصدار وضمان فعالية القوانين المحلية، ومراجعة ودعم الطلبات المقدمة من المقاطعات لتعيين قضاة جدد والموافقة على الخطط التي تضعها محاكم المناطق بالنسبة لتنظيم هيئات المحلفين والمحاكمات. والمهمة الثانية هي أن المجالس القضائية تتحمل المسؤولية الأولي فيما يتعلق بقواعد الانضباط في النظام القضائي.

يمثل “مركز القضاء الفدرالي” مؤسسة قضائية أخرى مستقلة لكنها مركزية التكوين أنشأها الكونغرس عام 1967. يرأس مركز القضاء الفدرالي رئيس المحكمة العليا ويضم ستة قضاة يختارهم المؤتمر القضائي ومدير المكتب الإداري. يتولى مركز القضاء الفدرالي مسؤولية إجراء أبحاث في الإدارة القضائية وفي المسائل المتعلقة بتحقيق العدل، كما يقوم باقتراح وإعداد برامج تثقيفية وتعليمية للقضاة الفدراليين.

السيطرة على انضباط النظام القضائي

نظراً لكون القضاة يتمتعون بحصانة تمكنهم من الاستمرار في شغل مناصبهم مدى الحياة، ولأن الفرصة الوحيدة المتاحة أمام الكونغرس لإمكانية عزلهم تتمثل في عملية توجيه الاتهام والإدانة، فإن سلطة تأديب القضاة للانتهاكات التي لم تنشأ عن سوء السلوك الشخصي، بحيث تبرر توجيه الاتهام والإدانة، ظلت غير واضحة لفترة طويلة جداً. ولسنوات عديدة، نتج عن استعمال الكونغرس المحدود لسلطة توجيه الاتهام فراغ في تركيبة المؤسسات التي تتولى الإشراف على ما قد يحدث من سوء إدارة في النظام القضائي. وخلال تلك السنوات كانت ضغوط الزملاء فيما بين القضاة هي المصدر الأول للسيطرة على سوء الإدارة، وبوجه عام كان الحجم الصغير والتلاحم النسبي للقضاء الفدرالي كافياً. لكن عندما أنشأ الكونغرس المجالس القضائية للدوائر عام 1939، لم يكن واضحاً على الإطلاق أنها تملك سلطة تأديب أو انضباط فعلية. وفي عام 1973 أصدرت السلطة القضائية القانون الخاص بالقواعد التي تحكم سلوك القضاة الأميركيين لكنه لم يضع ولم يسّن بصورة رسمية نظاما تأديبيا إلا في وقت لاحق استناداً إلى قانون إصلاح المجالس القضائية والسلوك القضائي والعجز للعام 1980، الذي منح الكونغرس بموجبه للقضاء الفدرالي حقوق ابتكار إطار العمل المتعلق بقواعد الانضباط والتأديب داخل النظام.

استناداً إلى أحكام هذا القانون، يحق لكل شخص أن يرفع شكوى ضد قاضٍ فدرالي “بسبب انخراطه في سلوك يضر بالإدارة الفعالة والسريعة لعمل المحاكم أو … لكونه عاجزاً عن القيام بكافة واجبات منصبه بسبب عجز عقلي أو بدني”. ومنذ عام 1990، أصبح يحق أيضاً لرئيس المحكمة أن يتخذ إجراء بدون تقديم شكوى رسمية عندما تتوفر لديه معلومات تستجوب اتخاذ إجراء. بعد دراسة الشكوى، قد يقرر رئيس المحكمة رفضها بإصدار أمر خطي بذلك يذكر فيه أسباب الرفض، أي في حال لم تكن الشكوى قد التزمت بالمتطلبات القانونية، أو في حال كانت الأسباب تتعلق مباشرة بوجاهتها أو إن كانت تتعلق بقرار مهم أو حكم اتُّخذ في قضية أخرى، أو إذا كانت الشكوى تافهة. قد يقرر رئيس المحكمة أيضاً رفض القضية في حال كانت الوقائع الحاصلة خلال النظر فيها، أي إما بالنسبة لواقع سوء السلوك أو فيما يخص باتخاذ العمل التصحيحي المناسب، قد حلت المسألة موضوع الشكوى.

في حال عدم رفض رئيس المحكمة للشكوى، يتوجب عليه تعيين لجنة خاصة للتحقيق بالشكوى وتقديم تقرير خطي إلى مجلس الدوائر القضائية ويجوز للمجلس بحد ذاته إجراء تحقيقات إضافية. فعلى سبيل المثال، قد يطلب المجلس القضائي أن يتقاعد القاضي المعني، أو أن يفرض تجميد النظر بالقضايا المحالة إلى القاضي، أو أن يصدر تأنيبياً للقاضي إما بصورة خاصة أو علنية. لكن القانون لا يسمح بصورة صريحة للمجلس القضائي بعزل قاضٍ من منصبه. ويبقى احتمال العزل ممكناً فقط عند توجيه الاتهام إليه وإدانته.

تضارب المصالح

الوجه الرابع للاستقلال القضائي يكمن في أهمية السيطرة على الذات وتجنب التحيز. فكل قاض بمفرده، أكثر من أي مجلس أو لجنة، يجب أن يضع نفسه في أفضل وضع يضمن أنه لن يصدر حكما في أي قضية يكون خاضعا فيها لتأثير أي اعتبارات غير الاعتبارات القانونية.

فرض الكونغرس على القضاة واجباً قانونياً بأن يعلنوا عدم أهليتهم للنظر في قضية ما يكون فيها عدم تحيزهم عُرضة للتساؤل أو الشكوك. فعلى القضاة واجب ملزم بأن يتحققوا من معرفة ما إذا كانوا هم أو أحد أفراد عائلتهم له مصلحة مالية في القضية المعروضة أمامهم. ويجب أن يتنحى القاضي إذا كان متورطاً في قضية، إما من خلال معرفته الخاصة بالوقائع، أو من خلال العمل كمحامٍ خاص، أو في أي موقع حكومي متعلق في القضية، أو لكونه عمل مع شاهد مهم في القضية.

للمساعدة في عملية اختبار الذات واتخاذ قرار بالتنحي، ووضع بعض الأسس لمتابعة ومراقبة القرارات التي يتخذها القضاة، فرض الكونغرس ضرورة اتباع بعض القواعد المنظمة التي تستدعي تقديم بيان بالأموال التي يتقاضاها القاضي عن أية وظيفة خارجية، أو أي دخل يكتسبه، أو نشاطات يمارسها، أو هدايا يتلقاها، أو أتعاب قد يحصل عليها. وهذه المتطلبات تيسر عمليتي الوعي والمحاسبة.

إن القواعد الخاصة بالتنحي، ودرجة اتباع القضاة لها بوحي من ضمائرهم، تداركاً لتجنب تضارب المصالح والتحيز، تعتبر أموراً جوهرية لضمان استقلال الأحكام ولضمان أن يظل النظام القضائي سليماً في أعين عامة الناس.

تأمين فعالية الأحكام القضائية

إن أكثر القضاة استقلالية، والذي يمكنه التوصل إلى أقل الاستنتاجات تحيزاً، لن يكون له أثر فعال في وجود حكومة يحكمها القانون، أو في حال كانت الإدارات الحكومية التي تأمرها المحاكم باتخاذ إجراءات معينة ترفض القيام بذلك، أو إذا لم يدفع الناس تعويضات عن الأضرار التي تأمرهم المحاكم بدفعها. فالمجتمع المنظم، وآليات فرض التنفيذ، وعادة الانصياع إلى أوامر المحاكم، عناصر أساسية في نظام يكون فيه الاستقلال القضائي فعالاً.

وأكثر المشاكل المحيرة بالنسبة للاذعان لا تنشأ عادة حين يكون الفرقاء الماثلون أمام قاضٍ من الأشخاص العاديين. فعندما يصدر القاضي حكماً على فرد، تكون سلطة الولاية ملازمة للحكم الذي أصدره القاضي، ومن المحتمل جداً أن يواجه الشخص الذي يرفض تنفيذ الحكم ضباط شرطة يقومون بتنفيذه قسرياً.

لكن المشكلة الأكثر تعقيداً تنشأ عندما يكون الطرف الذي أصدرت المحكمة حكمها ضده هو الحكومة، وترفض الحكومة الإذعان لهذا الأمر. ورفض الامتثال قد يصبح أكثر احتمالاً إذا كانت أوامر المحكمة عمومية وكانت موجهة إلى مؤسسات وليس إلى أفراد. لكن التقليد السائد في الولايات المتحدة هو أن الأوامر تصدر إلى أفراد. فعلى سبيل المثال، إذا وجدت محكمة أن شخصاً لم يحصل على محاكمة منصفة، ويتوجب إطلاقه من السجن لا يصدر عادةً أمر من المحكمة حول طلب إحضار المتهم، ضد الولاية أو ضد نظام السجون في الولاية. إنما يصدر الأمر ضد فرد، يكون عادةً آمر السجن، أو مدير النظام الإصلاحي في الولاية. يضع هذا الفرد الذي لديه سلطة العمل باسم الولاية في وضع غير مريح لكون أمر المحكمة وجه اليه، ويخلق هذا الاحتمال بأنه في حال تخلف هذا المسؤول عن الامتثال سوف تصدر المحكمة حكما عليه باحتقار المحكمة بحيث تُفرض عليه غرامة شخصية أو حتى عقوبة سجن لحين الامتثال. فمخاطرة فرد بمقاومة أمر محكمة أصعب من مخاطرة الولاية بمقاومة ذلك الأمر.

حدثت أقصى القضايا تطرفاً في المعارضة المنظمة من جهة مسؤولين في الولاية لأوامر أصدرها قضاة فدراليون، في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي عندما رفضت بعض الولايات الامتثال لأوامر أصدرها قضاة فدراليون بإلغاء التمييز العنصري في المؤسسات التعليمية، والباصات، والمطاعم. فعلى سبيل المثال، عندما رفضت ولاية أركنساو إلغاء التمييز العنصري في مدارسها الابتدائية أعاد قرار المحكمة العليا، في القضية المعروفة باسم كوبر ضد آرون، التأكيد على وجوب احترام أوامر المحاكم، وأن أمر إلغاء التمييز العنصري يجب أن ينفذ. إثر صدور القرار، أرسل الرئيس ايزنهاور قوات الحرس القومي إلى مدينة ليتل روك في ولاية أركنساو لتنفيذ قرار المحكمة. فالتهديد، بغض النظر عن مدى بعده وندرة حصوله، بأن المسؤول التنفيذي الفدرالي سوف يستخدم القوة لدعم النظام القضائي الفدرالي يظل بمثابة الخلفية القوية عندما يأمر القضاة الفدراليون الولايات بالعمل بطريقة معينة. ولن يكون الأمر القضائي جاداً إلى تلك الدرجة، بالطبع، عندما يتم توجيه الأوامر إلى مسؤولين فدراليين، رغم أن التهديد بإرسال قادة الشرطة الفدراليين لطَرْق باب أي موظف رسمي يُذكر اسمه بوجه خاص في أمر المحكمة، يبقى شأناً حقيقياً بالفعل.

والسبب الذي يدعو إلى الامتثال ويكون أشد قوة من الضمانات التي توفرها مؤسسات الدولة، هو أهم الأسباب التي تدعو للاعتقاد في أن قرار القاضي سوف يكون فاعلاً. وهو الثقافة السائدة في المجتمع. فالمجتمع المنظم الذي يمتثل فيه الناس لقرارات المحاكم، لكونها مسألة واجبة التنفيذ، والذي يعتبر فيه مقاومة أمر المحكمة الصالحة سلوكاً غير مقبول، يشكل الضمان الأساسي لانه في حال تم النظر في القضايا من جانب قضاة غير متحيزين، ومتحررين من التأثيرات السياسية، ويتخذون قراراتهم بصورة مستقلة استناداً إلى القانون، فإن الناس الخاضعين للسلطة القضائية لتلك المحكمة سوف يتصرفون طِبقاً للقانون أيضاً.

لقد أكّد جورج واشنطن على أن “تحقيق العدالة يُشكّل أمتن دعامة للحكم الصالح”. في حين أكد الكسندر هاملتون في العدد رقم 17 من “الصحيفة الفدرالية”، بأن “تحقيق العدالة بشكل مألوف في القضايا الجنائية والمدنية يساهم أكثر من أي شأن آخر في طبع عقول الناس على المودة، والتقدير، والاحترام تجاه الحكومة..”

إن الخير الذي يستطيع القضاء النزيه أن يجلبه في مجال تحقيق العدالة والاستقرار في دولة ما، لا يمكن أن يتحقق إلاّ إذا كان القضاة يصدرون أحكامهم وفقاً للقانون بالفعل، وإلا إذا كان كل المحيطين بهم مقتنعون فعلا بأنهم يصدرون الأحكام استناداً إلى القانون وليس استناداً إلى أهوائهم الشخصية أو امتثالاً لإرادة شخصيات سياسية قوية. إن استقلال القضاء يوفّر لنا المفهوم التنظيمي الذي نفكر في إطاره ونضع ونطور الضمانات المؤسساتية التي تسمح للقضاة بأداء هذا الدور الاجتماعي الأساسي المهم.