الأحزاب السياسية..اختلاف في الفكرة والدور والنتيجة

ترجع تجربة الأحزاب السياسية في بعض الدول العربية إلى الحقبة الاستعمارية؛ حيث سعت قوى الاحتلال والتي كانت تبسط سيطرتها على معظم بقاع العالم العربي إلى إيجاد طابور خامس لها في المنطقة، بشكل يكرس الانقسام والفرقة بين نخبها وشعوبها على حد سواء، ولم تجد هذه القوي أفضل من الأحزاب التي يغلب على أنشطتها الصراعات والفتن والمصالح الشخصية، ورغم ذلك فقد حاول البعض التهليل لهذه التجربة، رغم أن الهدف منها لم يكن أبدًا التأسيس لمرحلة تستطيع من خلالها الشعوب قيادة أوطانها، والعمل على تحريرها من قبضة الاحتلال الغربي.

ولم يكن لهذه التجربة ذات الطابع الاستعماري الخبيث أثرها في تنمية الوعي لدى الطبقة المثقفة، بقدر ما كرست مصالح الاستعمار والنخبة التي تدور في فلكه، وأسهمت عبر عقود طويلة في حالة الانهيار التي مرت بها الأمة العربية والإسلامية، انطلاقًا من أن هذه التجربة لم تكن تستند إلى أي رافد ديني، من قرآن كريم أو سنة مطهرة.

ورغم مساوئ هذه التجربة، ووقوفها وراء إطالة أمد الاستعمار في أغلب الدول العربية، وتحميلها مسئولية ما ساد هذه الدول من فساد، ومحسوبية، وسيطرة رأس المال على الحكم، وقيام بعض الدول بحظر الأحزاب لمدة طويلة، إلا أن هذه التجربة عادت تطل برأسها مرة أخرى، وإن كان بشكل متحفظ؛ حيث تبنت مصر ومعها دول عربية عديدة، منها الجزائر وتونس وليبيا وسوريا واليمن وغيرها، نظام الحزب الواحد لعقود طويلة، لكن التطورات السياسية التي شهدها العالم لاحقًا ألزمت العديد من الأنظمة العربية بمواكبة التطور، والسعي لتخفيف قبضتها على السلطة ولو ظاهريًّا، وتبني تعديلات وإصلاحات سياسية، سمحت بنوع من التعددية السياسية، وإطلاق تجربة المنابر السياسية “يمين ـ وسط ـ يسار”، وما تلاه من إعلان تشكيل الأحزاب السياسية، والتي جرت أغلبها الويلات على الأمة العربية، وانتهت باستمرار “إسرائيل” في ابتلاع فلسطين، والاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، وانهيار أغلب القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.

ففي مصر مثلًا، وفي السنوات القليلة التي تلت حرب أكتوبر 1973م، شهدت التجربة السياسية تطورًا سياسيًّا ملموسًا، انتهى بصدور قانون رقم 40 لسنة 1977م، والذي عُرف بقانون الأحزاب، والذي مثل إشارة على تحول النظام السياسي بها رسميًّا إلى التعددية الحزبية.
مبادئ ونصوص تضمن القوانين الوضعية في ديباجتها، ومنها قانون الأحزاب المصرية، عدة مبادئ تكون ملزمة لأي جهة تسعى لتأسيس أي حزب، في مقدمتها ألا تتعارض مبادئه مع الشريعة الإسلامية، أو الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، وألا يقوم الحزب على أساس طبقي، أو طائفي، أو فئوي، أو جغرافي.

وقد أُضيف إلى هذه الديباجة شرط آخر، تمثل في القرار بقانون رقم 36 لسنة 1979م، وبالتحديد عقب توقيع مصر لاتفاقية السلام مع “إسرائيل”، ألا يكون من بين مؤسسي الحزب أو قياداته أو مبادئه، ما يعارض هذه الاتفاقية.

وأعطت المادة الثانية الحق لجميع المصريين في تكوين الأحزاب السياسية، أو الانتماء لأي حزب سياسي، وذلك طبقًا للقانون المنظم لهذا الأمر، ووضعت المادة الثالثة شروط تأسيس واستمرار أي حزب، يأتي في مقدمتها:

1ـ ألا يكون للحزب اسم مماثل أو مشابه لاسم حزب قائم.
2ـ عدم تعارض مبادئ الحزب وأهدافه، وبرامجه وسياساته أو أساليبه، في ممارسة نشاطه مع الدستور، أو مقتضيات الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلام، والنظام الاجتماعي والديموقراطي.
3ـ أن يكون للحزب برامج تمثل إضافة للحياة السياسية.

إجراءات التقدم

ـ يجب تقديم طلب لتأسيس الحزب، إلى رئيس لجنة شئون الأحزاب، وفقًا لنص المادة 8 من قانون الأحزاب، موقعًا من ألف عضو على الأقل من أعضائه المؤسسين، مصدقًا رسميًّا على توقيعاتهم، على أن يكونوا من عشر محافظات على الأقل، وبما لا يقل عن خمسين عضوًا من كل محافظة.

ـ ترفق بهذا الإخطار جميع المستندات المتعلقة بالحزب، وكيفية تدبير أمواله، ومصادر واسم من ينوب عن الأعضاء في إجراءات التأسيس “وكيل المؤسسين”.

ـ ويعرض الإخطار عن تأسيس الحزب والمستندات المرفقة على لجنة شئون الأحزاب، خلال خمسة عشر يومًا من إعلان تاريخ تقديم الإخطار.

وتحدد المادة الثامنة من قانون الأحزاب تشكيل لجنة شئون الأحزاب، التي يسيطر عليها الرسميون والموالون للحكومة، ويصدر باختيار الأعضاء المنصوص عليهم في المادتين الرابعة والخامسة قرار من رئيس الجمهورية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد.
قرار حاسم

ـ على اللجنة أن تصدر قرارها بشأن تأسيس الأحزاب خلال 90 يومًا التالية لتاريخ تقديم إخطار التأسيس، ويجب أن يصدر قرار اللجنة بالاعتراض على تأسيس الحزب بعد سماع الإيضاحات اللازمة من ذوي الشأن، ويعتبر انقضاء المدة المشار إليها دون صدور قرار من اللجنة بشأن تأسيس الحزب بمثابة قرار بعدم الاعتراض على تأسيسه.

ـ يجوز لطالبي التأسيس الاعتراض على قرار اللجنة خلال ثلاثين يومًا، لنشر قرار الاعتراض في الصحف الرسمية، ولطالبي تأسيس الحزب الطعن في القرار بالإلغاء أمام الدائرة الأولى للمحكمة الإدارية العليا التي يرأسها رئيس مجلس الدولة، على أن ينضم لتشكيلها عدد مماثل من الشخصيات العامة يتم اختيارهم بقرار من وزير العدل، على أن تفصل المحكمة في الطعن خلال أربعة أشهر على الأكثر من تاريخ إيداع عريضة الدعوى.

ـ تلتزم الدولة بتقديم دعم مادي للحزب يحدده القانون.

تعديلات

فيما يخص لجنة شئون الأحزاب، تم تعديل القانون الخاص بها بإصدار قانون 177 لسنة 2005م؛ حيث قضى التعديل بزيادة عضوية لجنة شئون الأحزاب من 7 إلى 19 عضوًا، وتقليل أعداد موظفي الحكومة باللجنة من 57% إلى 33%، مع التأكيد على استقلاليتها، وكذلك على زيادة الدعم المالي للأحزاب السياسية، وحقها في استخدام متساوٍ لوسائل الإعلام التي تملكها الدولة.
وتضمنت التعديلات تعديلًا مثيرًا للجدل للمادة 5 من الدستور، ليحظر قيام أو تأسيس أحزاب على أساس أو مرجعية دينية، أو على أساس التفرقة بسبب الجنس والأصل.

الأحزاب والشريعة الإسلامية

هناك اتجاهان في الفكر الإسلامي الحديث تجاه الأحزاب، اتجاه يرى عدم تعارض الأحزاب مع الإسلام، وهذا الاتجاه له أنصاره، وعلى رأسهم الاتجاه الغالب في الأزهر الشريف، وجماعة الإخوان المسلمين، ونفر من الفقهاء والمفكرين، من أمثال الدكتور “يوسف القرضاوي”، والدكتور “محمد سليم العوا”، والدكتور “محمد عمارة”، والمستشار “طارق البشري”، وغيرهم الكثير.

ويرى هذا الاتجاه أن التعددية الحزبية والسياسية وتداول السلطة، أصبحت تشكل ضمانة ضد القهر والظلم، واحتكار السلطة واحتقار القانون والمجتمع في العالم العربي والإسلامي، وليست هناك وسيلة لتداول السلطة أكثر نفعًا وجدوى من وجود الأحزاب، وتنافسها في الانتخابات العامة الحرة النزيهة، وهذان الأمران يقطعان بأن التعددية السياسية في الفطرة الإسلامية ليست ترفًا، بل إن منعها والحيلولة بين الناس وبينها جريمة في حق المجتمع والمواطنين معًا.

أما الاتجاه الثاني، فهو تيار عريض، وهو التيار الأكبر في الفكر والفقه الإسلامي، ويقوده الفكر السلفي، ويقف موقف الرافض لهذه التجربة، باعتبارها أداة شيطانية جاء بها الغرب لشق الصف الإسلامي، وتقسيمه إلى أحزاب وشيع، وإنهاء الأصل في الإسلام وهو الوحدة والاجتماع على قلب رجل واحد، باعتبار أن المسلمين أمة واحدة، ويجب أن يظلوا كذلك، وأن فكرة الأحزاب كانت من عوامل الفتنة والتقسيم، وأداة لإيجاد ما يطلق عليه الفرق الضالة، التي لا هم لها إلا الكيد للإسلام.

ويعتبر هذا الاتجاه أن الأحزاب السياسية إرث استعماري بغيض، لا هم له إلا تكريس الانقسام؛ فقد حاول البعض الدفاع عن هذه الظاهرة، واستغلال وجود بعض الآيات لتبريرها، والادعاء بدعم الإسلام، وإباحته للتعددية السياسية، رغم أن مجمل الآيات التي تحدثت في هذا الصدد ركزت عن قبول الإسلام للرأي والرأي الآخر، مادام لم يخالف ثوابت الأمة وإجماعها، بعيدًا عن الاختلاف والصراع، الذي يعد ركنًا ركينًا من معالم التجربة الحزبية.

ويستند التيار الرافض للأحزاب، على العديد من الآيات القرآنية التي تمقت الحزبية والتحزب: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} [المجادلة:19].

وفي نفس السورة يقدم دليلًا آخر على رفض الإسلام لهذه التجربة: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ويُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].

ويضع الإسلام لهذا الحزب ـ حزب الله ـ شروطًا؛ من أهمها أنه واحد لا ينقسم، مصداقًا لقوله تعالى: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].

والقارئ للقرآن الكريم يجد أن كلمة الأحزاب لم تُذكر في القرآن الكريم، وإلا كانت مرادفًا للفرق الضالة، والخارجة عن كتاب الله، وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم؛ ففي الآية رقم (22) من سورة الأحزاب، أخرج الله الأحزاب من الفرق الناجية بقوله: {ولَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ وصَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ومَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَانًا وتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، وكذلك في سورة الروم: {كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32].

ويحتج الرافضون لفكرة الأحزاب أيضًا بأن الإسلام يحبذ العمل الجماعي ولا يقر الشخصنة، فضلًا عن أن النظام الحزبي يولد المشاكل والصراع بسبب التنافس على الرئاسة وكرسي الحكم، بشكل يلهي الأمة عن مواجهة التحديات الجسام التي تقابلها، بل وتفاقم من مشاكلها.