إذا كان الاتهام قد قام من جانبه بإثبات العناصر اللازمة لقيام الجريمة – سواء ما تعلق منها بالركن المادي أو المعنوي – فما هو الموقف الذي تمليه قرينة البراءة، فيما يتعلق بإثبات العناصر التي في صالح الدفاع؟ أو بعبارة أخرى، في الحالات التي يدفع فيها المتهم بتوافر أسباب تنفي عنه المسؤولية الجنائية أو تمنع تطبيقها أو تخفف من ذلك، أو تمنع العقاب أو تمنع الاستمرار بالدعوى الجنائية؛ هل يلتزم المتهم، في هذه الحالات بإقامة الدليل على صحة هذه الدفوع بعده المدعي بها؟(1). وقبل ذلك ما المقصود بالدفوع وما أنواعها. لم يجب القانون صراحة عن هذه التساؤلات، فقد تناول المشرع العراقي موضوع الدفوع في قانون المرافعات المدنية(2)، الا انه لم يبين المعنى المقصود بالدفع، وذلك أمر وارد، إنما ما يثير الملاحظة أن المشرع العراقي لم يورد في قانون أصول المحاكمات الجزائية أي ذكر لدفوع المتهم، اللهم إلا ما نص عليه من دفع – غير جوهري – يتعلق باعتراض المتهم على الامر الجزائي(3). وإن كان قد اورد – المشرع – بعض طلبات المتهم في نصوص نادرة(4)، إلا أن الطلبات غير الدفوع، فالطلب هو ما يثيره المتهم بقصد إثبات واقعة معينة، يكون من شأنها لو صحت التشكيك في صحة الدليل الذي يستند اليه خصمه، فلا تأخذ المحكمة به، مما يؤدي إلى توجيه قناعة القاضي إلى الحكم ببراءته. مثال ذلك: طلب إجراء معاينة أو طلب ندب خبير أو طلب الاستماع إلى شهود معينين، لتحقيق دفاع المتهم، فإنه يستخدم هذه الوسيلة بقصد الحصول على أمر يؤدي بعد ذلك إلى التشكيك في الدليل المقدم ضده في الدعوى الجنائية(5)، أما الدفع فهو ما يوجهه المتهم إلى الدليل الذي يستند اليه الخصم مباشرة، بحيث يترتب عليه – لو اقتنعت به المحكمة – تفنيد هذا الدليل، وعدم القضاء لخصمه بما يطلبه، مثال ذلك: الدفع الذي يثيره المتهم ببطلان التفتيش، يترتب عليه – لو صح – إهدار الدليل المستخلص من هذا التفتيش الباطل، وعدم اعمال آثاره ضد المتهم، فيؤدي ذلك إلى الحكم ببراءته من التهمة(6). وقد يكون المشرع قد اكتفى – فيما يتعلق بالطلبات والدفوع التي يبديها المتهم – بنص المادة (181/د ) التي تقرر بأنه ( إذا أنكر المتهم التهمة أو لم يبد دفاعاً أو انه طلب محاكمته…. تجري محاكمته عنها، وتسمع شهود دفاعه، وباقي الأدلة التي طلب استماعها لنفي التهمة عنه، الا إذا وجد ان طلبه يتعذر تنفيذه…… وعند فراغها من كل ذلك تستمع إلى تعقيب الخصوم والادعاء العام ودفاع المتهم. ثم تعلن ختام المحاكمة وتصدر حكمها). فإذا كان قصد المشرع ان هذا النص يدل – ولو بصورة ضمنية – على حرية المتهم في ابداء مختلف دفوعه التي تنفي عنه التهمة أو تخففها فقد جانبه التوفيق في ذلك. فالدعوى الجنائية تشكل رابطة ذات حقوق والتزامات اجرائية متبادلة بين طرفيها الاصليين وهما الاتهام والمتهم، فإذا كان قانون أصول المحاكمات الجزائية قد اهتم بحقوق الاتهام – فابرزها وفصلها في ذلك القانون من خلال نصوص عديدة وغالبة – فيجب عليه ألا يهمل حقوق المتهم – بعده الطرف الاصيل الآخر في ميزان العدالة، بل والطرف الضعيف فيه – وسبيله في ذلك ابراز الضمانات العديدة التي يجب ان يتمتع بها المتهم. لعل ابرزها، ضرورة الاستماع إلى ما يبديه من اوجه الدفاع وتحقيقها، بعدها من النتائج التي تفرضها تطبيق قرينة البراءة، وفي ذلك قيل ان المتهم يخسر كثيراً من الناحية العملية، بسبب عدم وجود نصوص تفصيلية لعبء الاثبات(7). هذه الدفوع التي قد يثيرها المتهم متنوعة ويصعب حصرها، غير انه يمكن ردها إلى مجموعتين(8):

الأولى/ دفوع واقعية، أي متعلقة بالوقائع، وهي التي تتعلق بعدم ثبوت الواقعة، أو عدم صحتها، أو عدم صحة إسنادها إلى الفاعل.

والثانية/ دفوع قانونية، وهي التي تستند إلى نصوص قانونية خاصة وهذه تنقسم بدورها إلى دفوع قانونية موضوعية مستمدة من قانون العقوبات كالدفع بقيام سبب من أسباب الإباحة ( كالدفاع الشرعي أو اداء الواجب ) أو الدفع بوجود مانع من موانع المسؤولية ( كالجنون، أو صغر السن )، أو الدفع بتوافر مانع من موانع العقاب ( كصفة الزوج، أو الأصل أو الفرع في جريمة ايواء أو اخفاء الهاربين من يد العدالة ) (9).( أو في جريمة الاشتراك وتقديم الاعانة والمأوى لمرتكب إحدى الجرائم الماسة بأمن الدولة الخارجي أو الداخلي )(10). وقد تكون دفوعاً قانونية إجرائية كالدفع ببطلان القبض أو التفتيش أو الاستجواب أو الاعتراف(11). هذه الدفوع وغيرها، لم يبين المشرع العراقي من يتعين عليه اثباتها، فهل يقع عبء اثباتها على المتهم بعده مدعى بها استناداً إلى القاعدة المدنية العامة البينة على من ادعى، أم ان اثباتها يقع على عاتق الاتهام، استناداً إلى قرينة البراءة، والتي تفرض على الادعاء العام عبء اثبات التهمة في مختلف مراحل الدعوى الجنائية؟. نتناول الاجابة من خلال البحث في الاتجاهات الفقهية في اثبات طرائق الدفاع.

_____________________

1- في هذا الصدد يقول الفقيه الفرنسي (ليفاسير- Levasseur ): “ان العالم كله يدرك ان إثبات الجريمة يقع على عاتق سلطة الاتهام، لكن هذه القاعدة، لم تفصل من الذي يقع عليه عبء إثبات أسباب الإباحة أو موانع المسؤولية أو الاعذار”. مشار اليه لدى:

– هلالي عبداللاه احمد، “النظرية العامة للاثبات الجنائي”، م1، المرجع السابق، ص731.

2- انظر المواد (73-80) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969.

3- إذ تنص م (211) انه ( إذا دفع المتهم عند تنفيذ الامر عليه، بأن حقه في الاعتراض لا يزال قائماً لعدم تبلغه به على وفق الأصول، فيقدم هذا الدفع بعريضة إلى المحكمة…. ).

4- اورد المشرع العراقي في قانون أصول المحاكمات الجزائية، بعض طلبات المتهم في سبعة مواد، ثلاثة منها تتعلق بالشهادة ( 63/ب، 124، 128/جـ) ومادتان تتعلق بأوراق الدعوى ( 57/ب، 82)، ومادة تتعلق بطلب مهلة للدفاع (190/ب ). ولعل ابرزها هي المادة (181/د).

5- انظر في ذلك: رؤوف عبيد، “ضوابط تسبيب الاحكام الجنائية واوامر التصرف في التحقيق”، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986، ص163.

6- انظر في هذا المعنى: سعد حماد صالح القبائلي، “ضمانات حق المتهم في الدفاع امام القضاء الجنائي”، المرجع السابق، ص356.

7- انظر:

Essaid (Mohammed. Jala):”La Presomption d’innocence”، These Citee، No.161-2، P.100.

مشار اليه لدى: هلالي عبداللاه احمد، المرجع السابق، ص781.

في هذا الصدد نقترح وضع قانون للاثبات الجنائي – تكون ركيزته قرينة البراءة، واجراءاته مستوحاة من نتائجها، رغبة في تحقيق التوازن العادل بين طرفي الدعوى الجنائية الاتهام والمتهم بنصوص صريحة، اسوة بالقانون المدني، عندما أفرد المشرع قانون خاص للاثبات المدني، رقم 107 لسنة 1979، بعد أن فصل الإثبات عن قانون المرافعات المدنية. فمن باب أولى ان يكون للقانون الجنائي مثل ذلك التشريع للاثبات، إذا اخذنا بالحسبان مدى أهمية وخطورة الجزاء الجنائي نحو المتهم- التي تمس حياته وحريته وكرامته وهي أغلى ما يملك من قيم، بل قد تنهي تلك الحياة – نسبة إلى الجزاء المدني.

8- رؤوف عبيد، “ضوابط تسبيب الاحكام الجنائية”، المرجع السابق، ص164.

9- انظر المادة (273/3) من قانون العقوبات العراقي رقم 101 لسنة 1969.

10- انظر المادتان ( 183/ب، 199 ) من قانون العقوبات العراقي.

وبقية موانع العقاب المنصوص عليها في القانون انظر المواد ( 59، 187، 217، 218، 258، 303، 311، 426/2، 436/2، 462/1 ).

11- جدير بالذكر ان أنواع الدفوع تتعدد بحسب زاوية النظر اليها، فتقسم الدفوع من حيث القانون الذي يحكمها إلى (دفوع متعلقة بقانون العقوبات، ودفوع متعلقة بقانون الإجراءات)، وتقسم من حيث طبيعتها إلى (دفوع موضوعية، دفوع شكلية)، ومن حيث الاهمية تقسم الدفوع إلى ( جوهرية، وغير جوهرية) ومن حيث الهدف منها تقسم إلى ( دفوع متعلقة بالنظام العام، دفوع متعلقة بمصلحة الخصوم). انظر في تفصيل ذلك: سعد حماد القبائلي، “ضمانات حق المتهم في الدفاع امام القضاء الجنائي”، المرجع السابق، ص357 وما بعدها.

المؤلف : رائد احمد محمد
الكتاب أو المصدر : البراءة في القانون الجنائي

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .