الأنوار الساطعة في الوصية الواجبة / للقاضي ثائر جمال الونداوي
الأنوار الساطعة في الوصية الواجبة

القاضي / ثائر جمال الونداوي

حين سطع فجر الإسلام على رمال صحراء العرب كان سكان الأرض من بني آدم في مرحلة فكرية متقدّمة، كانت في حوزته تشريعات وحضارات وعلوم متعدّدة، مما جعله مؤهلاً لإستيعاب مبادئ جديدة وخاصة تلك المتعلقة بقضايا الأموال وكسبها وإنتقالها وإنفاقها … إلخ.

ومن أنوار الإسلام كانت قواعد الوصايا والميراث وغيرها والقيود والموانع التي وضعت على التصرف بالأموال.

ومن النتائج الحتمية للتطور العلمي الهائل والتقدم التكنولوجي الكبير، إن وجد الإنسان نفسه اليوم وغداً على فوهة بركان التكاثر السكاني المُخيف والذي يُنذر ويُهدّد أمن الشعوب ورخائها؛ بسبب الحاجة المتزايدة الى الأراضي والمياه والخدمات … إلخ.

وأفرز هذا التطور مشكلة المشاكل في العصر الحديث والتي تتمثل في التفاوت الكبير في توزيع الثروات وتقسيم الناس الى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: هم الأساطين لغناهم الفاحش.

الفئة الثانية: هم أهل الإكتفاء والرضا بالقليل.

الفئة الثالثة: وهم يمثلون السواء الأعظم في أي مجتمع من سكان الأرض والذين يعيشون في فقر وعوز وحرمان.

وطرح الفكر الإنساني على طاولة الأرض لتجاوز هذه الآلام والأسى وردم الهوة بين هذه الفئات نظريات وأفكار منها ترجع الى أصول رأسمالية أو أصول إشتراكية أو أصول إسلامية. بغية إيجاد حلول إقتصادية وإجتماعية.

وبرزت النظرية الإقتصادية الإسلامية بين هذه النظريات لما لها من سلامة في منطلقاتها التي جمعت بين النظرة المادية والروحية للحياة وإحاطتها بإطار إنساني وأخلاقي وإبتنائها على أسس الأخوة والإنسانية بعيدة عن الصراع والأنانية والفردية المُفرطة.

لذا كان الإسلام حقاً ديناً ودنيا لا يمكن أن يتجزأ، وهذا من أهم مظاهر عدالته الإلهية وسمو غاياته ومقاصده العليا.

ومن هذه العدالة ترغيب الإسلام في الوصية للأقربين، وإلا وجبت فرضاً وأن يوصي بالتصدق على الفقراء والمساكين، والإنفاق والتوسعة في الخيرات.

فعندما يتخلف المسلمون عنها فإن خللاً سيقع في الأسرة والمجتمع والدولة يتنافى مع مقاصد الدين الحنيف، ويلزم إعادة التوازن قسراً بما يضمن تحقيق العدل والإنصاف والمساواة وهذا عمل الدولة في كتاب الله وسنة رسوله ( ص ) والوصية بهذا المعنى ( وجوبها ونفادها قسراً ) لم تطبق على إمتداد القرون السابقة لربما بسبب تبني الخلفاء والأمراء والسلاطين النظرة الضيقة للشريعة الإسلامية في إتخاذهم لمذهب واحد معين – دستوراً وقانوناً – في البقاع الخاضعة لسلطانهم.

والمذاهب الرئيسة – الحنفية – والمالكية – والجعفرية – والشافعية – والحنبلية – والزيدية – جميعها تبنت فكرة ورأي الوصية الإختيارية أما لقولهم بنسخ آية الوصية بآيات المواريث، أو بإنتفاء وإرتفاع الوجوب الصريح في آية الوصية بنزول آيات الميراث.

وتبنت الظاهرية على يد إمامها داود البغدادي ومن بعده إبن حزم الأندلسي فكرة الوصية الواجبة للوالدين والأقربين غير الوارثين ؛ أما لإختلاف الدين أو لوجود سبب حاجب. وإختيارهم هذا لما روي في هذا الأمر عن الصحابي إبن عباس (رض) وعن بعض التابعين وتابعيهم كطاووس بن كيسان، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وأياس بن معاوية وإبن مجلز.

وإختيار القول بوجوب الوصية وفرضها من الظاهرية زاد من هوة الخلاف بينهم وبين أنصار المذاهب الرئيسية، حتى وصلت الى تبادل التهم فيما بينهم، فهذا إبن عبد البر ينكر على الظاهرية علميتهم ويعدهم شاذين لقولهم بالوصية الواجبة، حيث نقل إبن قدامة الحنبلي في المُغني وإبن قدامة المقدسي في الشرح الكبير قوله (( … إجمعوا على أن الوصية غير واجبة إلا على من عليه حقوق بغير بينة … إلا طائفة شذت فأوجبتها … )) . ولم يدخر إبن حزم الأندلسي في كتابة ” المُحلى ” جهداً في الرد على أنصار الوصية الإختيارية ونعتهم بفساد الرأي وقلة العلم، والطعن برواة الأحاديث والسنن التي لا توافق مذهبه.

وبعدما إنفرط عقد الدولة الإسلامية في بداية القرن العشرين، وعلى أنقاضها بزغت شموس كاذبة على دول أسوارها رمال هشة، فإنقرضت معها فكرة الإلتزام بالمذهب الواحد في التشريع والقضاء، وأصبح من حق كل دولة أن تختار ما يناسبها في سبيل تشريع نماذج قانونية من النظريات والأفكار من مختلف المصادر والمنابع دون تعصب لمذهب أو رأي ومن دون الخروج عن السمات العليا للشريعة الإسلامية الغرّاء وأضحت دولة مصر سبّاقة في تقنين إتجاه القائلين بالوصية الواجبة في إطار الإصلاح التشريعي بموجب قانون الوصية رقم 71 لسنة 1946 فأصبح للحفيد الذي يموت أبويه أو أحدهما في حياة جدّه أو جدّته حقٌ وحصة في تركة الجد أو الجدة ، بعدما كان قلما يرث جدّه أو جدّته لوجود من يحجبه من الميراث.

وإعتنقت نظرية الوصية الواجبة مجلة الأحوال الشخصية التونسية سنة 1956، ومدونة الأحوال الشخصية المغربية سنة 1957 وقانون الأحوال الشخصية السوري رقم 34 لسنة 1975، والأردني رقم 61 لسنة 1976، وفي العراق صدر قانون الوصية الواجبة برقم 72 لسنة 1979 وهو التعديل الثالث لقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959. وفي إطار جامعة الدول العربية جُعِلت الوصية الواجبة في المادة 204 من مشروع القانون العربي الموحّد للأحوال الشخصية وهكذا وبفعل أنوار الشريعة الإسلامية التي سطعت على العقل الإنساني عادت الوصية الواجبة بعد قرون طويلة من نظريات وأفكار وإجتهادات بين طيات بعض الكُتب الفقهية الى قانون عام ملزم وواجب التطبيق وفجرت مرة أخرى الخلافات بين علماء القانون والقضاء المؤيدين لها والمدافعين عنها وبين علماء الشريعة وفقهائها المناهضين لهذه النظرية متهمين القانون بإعتناقه راياً لا أساس له في الشريعة ويعدونها حكماً مبتدعاً في المواريث، وإن أحكام المواريث متكاملة وليس فيها خلل أو نقص.

ومهما كانت الخلافات والإتهامات فإن للوصية الواجبة أساساً في القرآن والسنة وفي إجتهاد الفقهاء والعلماء قديماً وحديثاً، ولما كان أساس الحكم في أية دولة قائمة على العدل، وفي القول والفعل على الإحسان، فإن العدل والإحسان يدعونا الى المُطالبة بتوسيع نطاق الوصية الواجبة لتشمل الزوجات الكتابيات للمسلمين وخاصة إذا لم يوصِ الزوج لها بشيء ولم يكن لها عمل أو مصدر معيشة معتبر، وأن يكون تقديرها أقل من ثمن التركة على إعتبار الثمن هي حصة أقل من الزوجة المُسلمة، ونكون في هذا المقام المتواضع قد حقّقنا المساواة بين المرأة نفسها بغض النظر عن دينها، ونبرهن بصفاء النية بأن سماحة الإسلام عندما قبلها زوجة للمُسلم لا يمكن أن يتركها لعاديات الزمان من أجل حفنة من المال الزائل.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت