تفسير قانوني حول إدارة المسرح الجرمي في القانون اللبناني

مداخلة حول إدارة المسرح الجرمي من وجهة النظر القانونية في لبنان

القاضي سامي صادر

1.توطئة:

إن الجرائم التي تصيب المجتمعات عادة تشكّل أحداثاً ثقيلة الوقع على نظام الأمان العام فيها، إلاّ أنّ حوادث الهجوم بالمواد المتفجرة سواء نفّذت بدوافع شخصية أو عنصرية أو سياسية أو دينية مختلفة أو لصالح جهات محلية أو خارجية، هي من أكثر طرائق الإخلال بالأمن الوطني والأمان الإجتماعي عنفاً وهمجية وإجراماً، كما تعتبر من أكثر الكوارث والأزمات مفاجأة بالنظر لما تنتجه من جسامة في الخسائر البشرية والإصابات والأضرار المادية والإقتصادية، ومن آثار سلبية تتركها في نفوس المواطنين المرتعدين من مشاهد القتل والدمار، وهي في الغالب تصنّف في خانة الإرهاب بمعناه الضيّق أو بمعناه الواسع القائم على مفهوم الجريمة المنظّمة، والعابر للحدود في بعض حالاته.

إزاء ذلك كان لا بدّ من ابتكار الآليات اللازمة لمواجهة آثار وذيول ومفاعيل حوادث التفجير عند عدم التمكّن من تلافي وقوعها وقائياً، وذلك عبر التدخّل الفوري والسريع والفعّال في محل وقوعها والمنطقة الشعاعية المحيطة بها والمتعارف على تسميتها بكليتها “مسرح الجريمة” الذي لا بدّ من السيطرة الكاملة عليه تمهيداً لعزله بُعيد وقوع الإنفجار، وذلك عبر الأجهزة الأمنية المولجة بذلك، والتي تشكّل أولى أولوياتها في هذه الحالة تيسير عمل الوحدات الإنسانية من أجهزة إسعاف وإخلاء وإطفاء تمكيناً لها من إنجاز عمليات الإنقاذ المختلفة، مع ضرورة الحفاظ ما أمكن على الوقائع والآثار الجرمية وأدلّتها لتسهيل أعمال الكشف اللاحق عليها وضبطها والإستعانة بها في التحقيق من قبل القضاء المختصّ وأمام المحاكم لاحقاً.

لذلك سوف يتمّ خلال هذه الندوة بيان الدور القضائي المرسوم قانوناً بالنسبة إلى الجرائم المحكي عنها انطلاقاً من النصوص القانونية واعتماداً على التجارب العملية الحاصلة في العديد من حوادث التفجير التي تعرّضت لها بعض المناطق اللبنانية.

2.الدور القضائي:

إن تنظيم وإدارة مسرح الجريمة بما في ذلك مسرح جريمة التفجير، والكشف على الوقائع الجرمية والأدلّة والآثار الناجمة عنها وضبطها ومباشرة التحقيق فيها خاصة في أحوال الجرائم المشهودة يعود لقضاء الملاحقة المختصّ من نيابات عامة أو قضاة تحقيق بحسب مقتضيات الحال، فتقوم عناصر الضابطة العدلية بوظائفها الجنائية تحت إشراف القضاء المباشر، وعلى هذه العناصر إبلاغ النائب العام المختص فور وقوعها أو فور أخذ العلم بها على أبعد تقدير من قبل أي من وحدات الضابطة العدلية المنتشرة في البلاد، ويجب عليها العمل الفوري على المحافظة على الآثار والمعالم والدلائل القابلة للزوال والتبديد المقصود أو غير المقصود، وعلى كل ما من شأنه المساعدة في جلاء الحقيقة انطلاقاً من مشتملات المسرح الجرمي والمنطقة المحيطة به، إضافة إلى ضبط الأسلحة والمواد الجرمية المستعملة في الجرائم أو الناتجة عنها، والإستماع إلى أقوال وملاحظات شهود العيان من دون تحليفهم اليمين القانونية، ومباشرة القيام بأعمال الإستعلام والتحريات داخل وفي محيط المسرح الجرمي مع التحفّظ مؤقتاً على من تحوم شبهات حول أسباب وأهداف تواجده على مقربة من موضع حصول التفجير، هذا كله مع ضرورة الإطلاع المتواصل للقضاء المعني على كل دقائق مجريات التحقيق وبتفصيل متناهي والتقيّد بتعليماته وإشاراته وبمنطوق كل تكليف يصدر عنه شفهياً كان أم خطياً، مع الإلتزام الكلّي والمطلق والتام بسرية الإجراءات والخطوات المتّخذة أو المعطيات المتوافرة والمكتشفة باعتبار أن السريّة المطلقة تشكّل أهم خاصيات التحقيقات الأولية الحافظة لسلامة النتائج.

إنطلاقاً مما تقدّم سوف يصار أدناه إلى عرض دور القضاء اللبناني انطلاقاً من النصوص القانونية التي تنظّمه، ثم إلى عرض عام للأدوار العملية الواقعية التي يتولاها القضاء في الأحوال المماثلة.

3.الدور القضائي – القانوني:

تحسن الإشارة بداية إلى أنّ النظام القانوني – القضائي المعمول به في لبنان، هو نظام متطابق مع النظام القانوني – القضائي الفرنكوفوني، إذ أنّ غالبية القوانين اللبنانية مستوحاة من القوانين الفرنسية إبان حقبة الإنتداب الفرنسي على لبنان.

أما بالنسبة إلى أشخاص القانون الجزائي، فإنّ قضاء الملاحقة يقسم إلى قسمين متناغمين من حيث آلية وظروف ومدى عمل كل منهما، والذي يبدو في بعض الحالات كما في الحال المبحوث فيها اليوم متشابهاً في أوجه معينة منه، فالنيابة العامة بكل اختصاصاتها هي المسؤولة عن سائر التحقيقات الأولية وعن إطلاق الملاحقات العدلية الجزائية الجنحية والجنائية على ضوء معطيات ونتائج تلك التحقيقات، في حين يعتبر قضاء التحقيق مسؤولاً عن التحقيقات الإستنطاقية ومتابعة مرحلة ما بعد إطلاق الملاحقة الجزائية إتماماً لمجرياتها العملية والقانونية.

وتنقسم بحسب القوانين اللبنانية إختصاصات النيابة العامة المختلفة بحسب المواضيع المناط بها أمر ملاحقتها، وتنشأ تبعاً لذلك دائرة تحقيق إستنطاقي تتألف من قضاة تحقيق يرأسهم قاضي تحقيق أول ترتبط بكل نيابة عامة معينة.

وفي لبنان هناك النيابة العامة التمييزية صاحبة الولاية الشاملة التي تشكّل رأس النيابات العامة الأخرى المتفرعة إلى نيابات عامة إستئنافية لكل من المحافظات يعني كل منها بشؤون الملاحقات العدلية للجرائم الحاصلة بين المواطنين على نحو عام، ونيابة عامة مالية تنظر في ملاحقة مخالفي القوانين المالية والضرائبية والمصرفية وما يماثلها من الجرائم، في حين تتولى النيابة العامة العسكرية المعروفة بمفوضية الحكومة لدى المحكمة العسكرية والمؤلفة من قضاة عدليين مدنيين، النظر في الجرائم الواقعة من العسكريين أو عليهم وعلى مؤسساتهم العسكرية والأمنية، علاوة على جرائم الإرهاب والتجسّس والإعتداء على أمن الدولة وسلامة نظامها، وذلك بالنظر لعدم إعتماد التخصصية بالنسبة للجرائم الإرهابية على غرار ما هو معتمد في بعض الدول الأوروبية بحيث تناط جميع المسائل الإرهابية بجهة واحدة متخصصة متفرغة تستطيع تأمين الربط بين مختلف النشاطات الإرهابية في طول البلاد وعرضها، وهو الأمر الذي تتصدى له في لبنان النيابة العامة العسكرية مع قضاة التحقيق العدليين لدى المحكمة العسكرية، والتي هي عبارة عن وحدة قائمة بصورة مركزية تشمل صلاحيتها سائر الأراضي اللبنانية بمحافظاتها وأقضيتها كافة.

أما من ناحية قواعد الإجراءات، فلقد نصّ قانون أصول المحاكمات الجزائية على آليتين لتنفيذها، أولاهما عادية والثانية خاصة تتعلّق بحالات الجرم المشهود الذي يشكّل موضوع بحثنا راهناً على اعتبار أن مسرح الجريمة يقوم لدى وقوع جريمة مشهودة وعلى وجه الخصوص جرائم الإعتداءات بواسطة المتفجرات كوجه من أوجه الإرهاب المتنامي في العالم عموماً وفي لبنان بشكل خاص في السنوات الأخيرة، لذلك سوف نقتصر على بحث قواعد الإجراءات الخاصة في العرض الحاضر على اعتبار أنّ مبحثنا يتناول أحوال الجرائم المشهودة:

فالمادة (29) من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني تحدّد مفهوم الجريمة المشهودة على أنها تلك التي تشاهد عند وقوعها أو يقبض على فاعلها أثناء أو فور ارتكابه لها، أو يلاحق فيها بناءً على صراخ الناس، أو الجريمة التي تكتشف فور الإنتهاء من ارتكابها في وقت تدلّ آثارها عليها بشكل واضح، أو يضبط فيها مع شخص أو أكثر أشياء أو أسلحة أو أوراق تدل على أنه مرتكبها، وذلك خلال الأربع والعشرين ساعة من وقوعها، في حين أنزلت المادة من القانون المذكور منزلة الجريمة المشهودة الجريمة الواقعة داخل منزل يطلب صاحبه مباشرة التحقيق فيها خلال مهلة الأربع والعشرين ساعة عينها.

ومن ميّزات الإجراءات الخاصة ما جاء في متن المادة من قانون أصول المحاكمات الجزائية، لجهة انتقال النائب العام إلى مكان وقوع جريمة مشهودة فور إبلاغه عنها، على أن يعلم قاضي التحقيق بانتقاله من دون أن يلزم بانتظار قدومه ليباشر بالقيام بما يأتي:

أ. تنظيم محضر يثبت فيه ما شاهده من آثارها ويصف مكان وقوعها وما ظهر له من دلائل على الظروف التي حصلت فيها.

ب. ضبط الأسلحة وسائر المواد الجرمية المستعملة في ارتكابها وجميع الأشياء التي تساعد على كشف الحقيقة، واستجواب المشتبه فيه عن الأشياء المضبوطة بعد عرضها عليه.

ج. الإستماع إلى الأشخاص الذين شاهدوا الجريمة أو توافرت لديهم معلومات عنها بعد تحليفهم يمين الشاهد القانونية.

كما منحت المادة (32) من هذا القانون النائب العام منع من يشاء من مغادرة موقع الجريمة، والقبض على من تتوافر فيه شبهات قوية واستجوابه واحتجازه على ذمّة التحقيق لمدة (48) ساعة قابلة للمضاعفة، كما خوّلته حقّ إصدار مذكرة إحضار بحقّ مشتبه فيه تمكن من التواري عن الأنظار أو لم يكن متواجداً في مسرح الجريمة، هذا وقد حُدّدت مهلة الإجراءات المختصة بالجناية المشهودة بثمانية أيام على البدء بها.

أما المادة (33) من القانون عينه فأتاحت للنائب العام دخول منزل المشتبه فيهم وتفتيشه وضبط ما يجده من المواد التي تساعد في إنارة التحقيق، وذلك بين الساعة الخامسة صباحاً والثامنة مساءً، ما لم يوافق صاحب المنزل المقصود بالتفتيش على ذلك خارج تلك المهلة.

هذا وأعطت المادة (34) من القانون ذاته النائب العام حقّ الإستعانة بالخبرات الفنية والطبية لجلاء بعض المسائل التقنية أو الفنية أو الطبية إذا استلزمت طبيعة الجريمة أو آثارها ذلك.

إلاّ أن المدى الأوسع جرى على إطلاقه بموجب نصّ المادة (35) من القانون المشار إليه الذي خوّل النائب العام القيام بأي إجراءات تحقيقية يراها ضرورية لجمع المعلومات المفيدة وتوفير الأدلة وكشف الفاعلين والمتدخلين فيها.

أما في ما خصّ التداخل مع دور قاضي التحقيق فقد نصّت المادة (55) من قانون أصول المحاكمات الجزائية على وجوب انتقال قاضي التحقيق إلى مسرح الجريمة ومباشرة التحقيقات دون انتظار وصول النائب العام الذي يقف دوره في هذه الحالة ليقتصر على التقدّم بما يرغب من الطلبات إلى قاضي التحقيق، الذي يمارس فور وصوله سائر صلاحيات النائب العام المسرودة آنفاً في المواد (31) و(32) و(33) و(34) و(35) من قانون أصول المحاكمات الجزائية بحسب نصّ المادة (65) منه، على أن يودع النائب العام تحقيقاته بالنتيجة للإدّعاء على المشتبه فيهم وإبداء طلباته، وعلى أن يبقى له حقّ الإطلاع على ملف التحقيق في أي وقت ويطلب من قاضي التحقيق ما يرتئيه ضرورياً من الإجراءات.

4.الدور القضائي – العملي:

بحكم تولي النيابة العامة التحقيق على مسرح الجريمة وإشرافها على الضابطة العدلية المساعدة لها بمختلف أجهزتها المشاركة في إدارة مسرح الجريمة عملانياً، فهي تُخضِع لموافقتها المسبقة مجموعة من المسائل والإجراءات من أبرزها:

أ. عملية تحديد الخطوات الواجب القيام بها لأجل تحديد هويات الضحايا والأشلاء الإنسانية المرفوعة من مسرح الجريمة، لإجراء فحوص الحمض النووي (DNN) لتحديد الهويات، والإستعانة بالأطباء الشرعيين للكشف على جثث الضحايا والمصابين، والتواصل مع الهيئات الصحية والإنسانية، وإعطاء الإذن بتسليم الجثث إلى ذوي أصحابها.

ب. كيفية التصرّف بكل ما يمكن أن يشكّل دليلاً جرمياً.

ج. مدى وآلية تدخل وسائل الإعلام في المسرح الجرمي.

د. إخضاع بعض الخطوط الهاتفية للمراقبة.

هـ. إعطاء الإذن بالإطلاع على حركة الإتصالات الهاتفية لا سيما الخليوية منها والعمل على تحليلها وبيان حركتها في نطاق مسرح الجريمة.

و. إستنابة من يلزم من رجال الضابطة العدلية للإستماع إلى شهود يملكون معلومات عن الحادث، أو مشتبه بهم مع ما يستلزمه ذلك لناحية منعهم من مغادرة المكان أو احتجازهم على ذمّة التحقيق.

ز. إستدعاء بعض فرق الإصلاح الفنية لتلافي أي ضرر قد يقع أو يتفاقم داخل مسرح الجريمة بفعل العمل الجرمي، كتضرّر الإمدادات المائية والصحية والشبكة الكهربائية.

ح. إصدار تكاليف خطية بالسماح لأجهزة وجهات تحقيقية معنية بالدخول إلى مسرح الجريمة.

ط. تسطير إستنابات قضائية للضابطة العدلية تكلفهم باستكمال بعض نواحي وإجراءات التحقيق، والقيام بما يلزم من أعمال التحري والإستعلام والإستقصاء السرّي والعلني.

ي. تنظيم الكشف على الوقائع والأدلّة الجرمية وضبطها.

ك. البقاء على إطلاع دائم على كل تفاصيل مجريات التحقيق.