إثارة الدعوى العمومية من المتضرر

تشكل الجريمة إخلال بنظام العام حيث يتكفل المجتمع ممثلا في هيئة قضائية مختصة وهي النيابة العمومية بإثارة و ممارسة الدعوى العمومية و ذلك لتحقيق الغاية من الدعوى العمومية و هي اقتصاص حق المجتمع الذي أهدرته الجريمة، على أن هذه الجريمة قد تلحق ضرر ببعض الأشخاص الذين يقع عليهم الفعل المادي للجريمة و هنا تنشأ الدعوى المدنية و التي الهدف منها جبر هذا الضرر([175]) ، و القانون منح المتضرر بصفة استثنائية إمكانية إثارة الدعوى العمومية بمناسبة هذا الضرر الذي لحقه من هذه جريمة التي قررت النيابة العمومية حفظ القضية في شأنها.

فأغلب التشريعات الوضعية احتفظت برواسب من النظام الإتهامي لكن مع إدخال بعض التحسينات.

و هذه الرواسب تكرّس حق المتضرر في إثارة الدعوى العمومية إمّا بتعليق هذه الإثارة على صدور شكوى منه أو من خلال إعطائه دور ايجابي و فعّال و ذلك بتمكينه من حق إثارة الدعوى العمومية(الفصل الأول) التي يكون الغاية منها ضمان الحقوق المدنية للمتضرر وحصوله على تعويض الضرر الحاصل له من جراء الجريمة.

وقد نصّ المشرع صلب الفصل 2 م.إ.ج أنه “يمكن إثارة الدعوى المذكورة(الدعوى العمومية) من طرف المتضرر حسب القواعد المبينة بهذا القانون.”

و الحق المخول للمتضرر في إثارة الدعوى العمومية هو امتياز استثنائي خصّ به المتضرر إلا أنه امتياز خطير([176])، يجعل من المتضرر في مكانة مساوية لنيابة العمومية.

وهذا الحق في صورة ممارسته من طرف المتضرر يرتب جملة من الآثار(الفصل الثاني).

أولا: صورة إثارة الدعوى العمومية من النيابة حيث يكون للمتضرر في هذه الحالة التدخل بدعواه المدنية بالتبعية لدعوى العمومية أمام القاضي الجزائي لطلب التعويض عن الضرر الذي لحقه من الجريمة.

ثانيا: صورة إثارة الدعوى العمومية وصدور قرار بالحفظ وفي هذه الحالة يمكن للمتضرر إثارة الدعوى العمومية على مسؤوليته الخاصة أي القيام على المسؤولية الشخصية.

فالمتضرر القائم بالحق الشخصي هو المتضرر الذي له صفة المدّعي المدني و هو الطرف المتدخل بدعواه المدنية في النزاع الجزائي انضماما إلى الدعوى العمومية المرفوعة من قبل النيابة العمومية أو أي قائم آخر على المسؤولية الشخصية (و هذا ليس موضوع بحثتا).

أما المتضرر القائم على المسؤولية الشخصية فهو المتضرر الذي أقدم على إثارة الدعوى العمومية بعد حفظ القضية من طرف وكيل الجمهورية.

فالمتضرر الأول لحقه ضرر من الجريمة أما الثاني فقد لحقه ضرر من قرار الحفظ و بالتالي المتضرر الذي له علاقة بموضوع البحث و الدراسة هو المتضرر الذي لحقه ضرر من قرار الحفظ أي القائم على المسؤولية الخاصة.

الفصل الأول: حق إثارة الدعوى العمومية
حق إثارة الدعوى العمومية من المتضرر هو امتياز منحه القانون لهذا الأخير بصفة استثنائية فهو يمارس هذا الحق و لو بدون مساندة النيابة العمومية و في بعض الحالات ضدّ رغبتها فهو من هذه الجهة يستوي معها في ممارسة هذا الحق و إن كان أقل منها رتبة إذ هو لا يتصرف مثلها في الدعوى العمومية بعد إثارتها([177]).

و إثارة الدعوى العمومية من المتضرر يطرح العديد من الإشكالات لعلل أهمها هو البحث عن صاحب هذا الحق( المبحث الأول) هل هو المتضررla partie lésée أم المجني عليهla victime؟

كما أن هذا الحق لا يمكن ممارسته إلا بتوفر جملة من الشروط(المبحث الثاني) التي تمثل الإطار القانوني للقيام على المسؤولية الشخصية.

(7) المبحث الأول: من له حق إثارة الدعوى
حق إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية هو حق ذو طبيعة قانونية مزدوجة فالغاية منه حصول المتضرر على تعويض الضرر الذي لحقه من جهة وتوقيع العقاب على مرتكب الجرم من جهة ثانية.

وقد يكون هذا المتضرر شخص طبيعي (الفقرة الأولى) أو شخص معنوي(الفقرة الثانية)، فعبارة الفصلان 2 و 36 م.إ.ج وردت عامة دون بيان ما إذا كان “المتضرر” شخص طبيعي أو معنوي.

9) الفقرة الأولى : الشخص الطبيعي

لإثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية يجب أن تتوفر في المتضرر الأهلية (أ) و الصفة (ب) و أخيرا المصلحة (ج) استنادا لأحكام الفصل 19م.م.م.ت. وأساس الرجوع إلى هذا الفصل يبرر بأن إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية هو حسب الفقهاء إدعاء مدني أمام القاضي الجزائي([178]) ثم أن الفصل 8 م.إ.ج ينصّ أنه فيما عدا آجل سقوط الدعوى فإن الدعوى المدنية تخضع لقواعد القانون المدني.

كما أن محكمة التعقيب في قرار لها صادر بتاريخ 19 فيفري 1987 أقرّت أنه في غياب نص قانوني بمجلة الإجراءات الجزائية ينظم الأهلية و الصفة و المصلحة فإنه يقع الإستئناس بالفصل 19 م.م.م.ت باعتباره يهم النظام العام و بالتالي يمكن سحبه على القائم على المسؤولية الشخصية([179]).

أ- الأهلية

الأهلية هي قدرة الشخص على تحمل الالتزامات واكتساب الحقوق وممارستها([180]).

ومن أهم الشروط الواجب توفرها في المتضرر الشخص الطبيعي هي الأهلية وبالتحديد أهلية التقاضي، فإذا كان المتضرر فاقد الأهلية لصغر السن([181]) أو الجنون أو غيرها من أسباب فقدان أو نقص الأهلية، لا يمكنه إثارة الدعوى العمومية عن طريق القيام على المسؤولية الخاصة إلاّ بواسطة ممثله القانوني .

وتجدر الإشارة أن القاصر الذي تمّ ترشيده([182]) لا يمكنه إثارة الدعوى العمومية إلا عن طريق وليّه.

ب- الصفة

تكتسي الصفة أهمية كبرى كشرط يجب توفره في المتضرر حيث أقرت محكمة التعقيب في قرار صادر لها في 26 جانفي1988([183]) أنه إذا لم يكن القائم بالحق الشخصي طرفا في الحكم المعقب فإنه لا حق له في تعقيبه لانتفاء الصفة الواجب توفرها في القيام اعتمادا على الفصل 19م.م.م.ت.

و قد اختلفت الآراء حول تحديد صفة المتمتع بحق إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية هل هو المجني عليه فقط الذي وقع عليه الفعل([184]) ، أم المتضرر الذي لحقه ضرر مادّي أو معنوي من الجريمة.

– الاتجاه الأول: المجني عليه:

المجني عليه هو الوحيد الذي أعطه القانون حق إثارة الدعوى العمومية باعتباره هو الذي يقع عليه الفعل و هو الذي يكون موضوع الحماية القانونية([185]). و يبرّر هذا الاتجاه موقفه بأن إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية هو رقابة على أعمال النيابة العمومية من جهة و هو من حق من يعنيه توقيع العقاب على الجاني من جهة أخرى و في هذه الحالة لا يكون إلا المجني عليه و هو ما أقرّته محكمة التعقيب في قرار لها صادر في 14 أكتوبر1996 بأن إثارة الدعوى العمومية في جريمة الزنا لا تكون إلاّ بتقديم شكوى من طرف أحد الزوجين دون سواهما وبالتالي لا يمكن إثارة الدعوى تأسيسا على شكوى صادرة عن شقيق الزوج إذ لا صفة له([186]).

– الإتجاه الثاني: المتضرر

المتضرر من الجريمة هو من أصابه ضرر مادي أو معنوي([187])، ويستند أصحاب هذا الرأي إلى أن الحق في التعويض هو حق خاص أراد المشرع حمايته عن طريق إثارة الدعوى العمومية و به تتكون صفة “المتضرر من الجريمة” وهو الشرط الذي يمكنه من التمتع بهذا الحق الاستثنائي.

وبالرجوع إلى أحكام الفصلان 2 و 36 م.إ.ج نلاحظ أن المشرع اعتمد عبارة “المتضرر” في صيغتها العامة و هو ما يؤكد بأن المتضرر هو كل من لحقه ضرر من الجريمة سواء كان مجنيا عليه أو طرف أجنبي المهم اتصاله بضرر من الجريمة.

على أنه بقراءة كل من النصّين العربي و الفرنسي نلاحظ وجود تناقض إذا أن المشرع اعتمد في الصيغة الفرنسية للفصل 36 م.إ.ج عبارة « La partie lésée » وهي تفيد المدّعي المدني، في حين أن الصيغة العربية جاء فيها عبارة “المتضرر” « La victime » على أنه بالرغم من هذا التعارض فإن العبرة بالنص العربي.

و أمام الانتقادات التي وجّهت للاتجاهين ظهر اتجاه ثالث توفيقي.

الاتجاه ثالث: ضرورة توفر صفة المجني عليه و المتضرر:

أساس هذا الاتجاه هو الطبيعة المختلطة للدعوى العمومية فهي ذات طبيعة مدنية لأن الهدف منها التعويض عن الضرر المترتب عن الجريمة. و هي أيضا ذات طبيعة جزائية لأن القائم بها يهدف إلى معاقبة الجاني وهكذا تتحقق كل من صفة المجني عليه الذي يهدف إلى الاقتصاص لحقه ومعاقبة المعتدي وصفة المتضرر الذي يبحث عن تعويض الضرر الذي لحقه.

إلا أن بعض الفقهاء انتقدوا هذا الاتجاه لإغفاله الصبغة الخاصة للقيام باعتباره وسيلة لتحريك الدعوى العمومية([188])، إضافة إلى أن هذا الاتجاه يضيق من نطاق النصوص القانونية التي تخوّل للمدّعي بالحقوق المدنية حق إثارة الدعوى العمومية ممّا يؤدي إلى حرمان بعض الأشخاص من ممارسة هذا الحق كحرمان الوارث الذي أضرّت الجريمة الواقعة على مورثه من حق إثارة الدعوى العمومية.

وبالرجوع إلى القانون التونسي نلاحظ أن عبارة كل من الفصلين 2 و 36 م.إ.ج وردت عامة وبالتالي وجب الأخذ بعموميتها.

ج – المصلحة

إذا كان المتضرر من الجريمة له الحق في إثارة الدعوى العمومية فهل يمتد هذا الحق إلى غيره من الأشخاص إذا ما توفرت لديهم المصلحة؟

بالرجوع إلى مختلف النصوص القانونية نلاحظ أن القانون منح الشخص الذي قد يلحقه ضرر من الجريمة الحق في طلب التعويض ولكن ذلك لا يكون إلا أمام القضاء المدني دون الجزائي.

فالدائن ليس له إثارة الدعوى العمومية ضدّ المتسبب في تقاعس مدينه عن الوفاء خاصة إذا تخلف هذا الأخير عن القيام بالحق الشخصي .

لكن الوضع يختلف نسبيا في صورة الإحالة، فطبقا لمقتضيات الفصل 199م.ا.ع([189]) فإنه يمكن للمجني عليه المتضرر من الجريمة إحالة حقه في التعويض إلى الغير ويمكن للمحال أن يرفع دعواه في التعويض لكن أمام القضاء المدني([190]) دون القضاء الجزائي.

على أن الأمر يختلف بالنسبة للورثة ففي هذا الإطار هل يمكن للورثة إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية من أجل جريمة أودّت بحياة المورث؟

في هذه الصورة يجب التمييز بين صورتين: صورة ارتكاب الجريمة قبل الوفاة ففي هذه الحالة إذا ما قام المتضرر و هو المورث بإثارة الدعوى العمومية قبل وفاته فإن ورثته يمكنهم مواصلة الدعوى، فحق الدعوى انتقل إلى الورثة و دخل في الذّمة المالية للتركة.

لكن الأمر يختلف في صورة عدم قيام المتضرر –المورث- بإثارة الدعوى العمومية قبل وفاته ففي هذه الحالة للورثة إثارة الدعوى العمومية من أجل التعويض عن الضرر المادي الذي لحقهم دون الضرر المعنوي حيث أن فقه القضاء يرفض إثارة الدعوى العمومية من أجل تعويض الضرر المعنوي معتبرا أن المورث المتضرر بعدم قيامه برفع الدعوى في قائم حياته يكون قد صفح عن المتهم([191]) .

أما إذا نتجت عن الجريمة الوفاة الحينية للمتضرر فلورثته إثارة الدعوى العمومية على مسؤوليتهم الشخصية طالما توفر في جانبهم ضرر شخصي ناشئ مباشرة عن الجريمة، فهذه الدعوى ليست حكرا عليهم بقدر ماهي حق لكل من لحقه شخصيا ضرر نتج عن حادث الوفاة([192]) .

10) الفقرة الثانية: الشخص المعنوي

إذا كان حق إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية من حق كل من لحقه ضرر مباشر وشخصي من الجريمة فإن المتضرر يمكن أن يكون شخص طبيعي أو شخص معنوي.

ولا يمكن للشخص المعنوي إثارة الدعوى العمومية إلا إذا كان متمتعا بالشخصية القانونية لكن هذا الحق يختلف بحسب نوع الشخص المعنوي سواء كان خاصا (أ) أو عاما (ب).

أ- الشخص المعنوي الخاص

إثارة الدعوى العمومية من الشخص المعنوي لا يثير أي إشكال إذ يكفي إقامة الحجة على أن الضرر قد لحقه شخصيا وترتب بصفة مباشرة عن الجريمة([193])، غير أن المسألة تتعقد إذا رتبت الجريمة أضرار بالمصالح الجماعية للشخص المعنوي خاصة عند تعلق الأمر بالنقابات المهنية والجمعيات التي يكون الهدف من إحداثها حماية المصلحة الجماعية لأعضائها.

* النقابات المهنية : مكّنها الفصل244 م.ش من حق إثارة الدعوى العمومية إذا حصل لها ضرر لحق بالمصلحة الجماعية للمهنة و لها أن تقوم”لدى سائر المحاكم بجميع الحقوق المخصصّة للطرف المدني فيما يتعلق بالوقائع التي تلحق ضررا مباشرا بالمصلحة المشتركة للمهنة التي تمثلها.”

وما نلاحظه هو أن المشرع التونسي أقرّ بصفة صريحة إمكانية قيام النقابات المهنية على مسؤوليتها الخاصة و الحال أن الاعتداء الحاصل على المصلحة الجماعية للنقابة لا يمثل ضررا شخصيا استنادا لأحكام الفصل 7 م.إ.ج.

و يمكن تبرير هذا التوجه من خلال الرجوع إلى الفقه الذي اعتبر أن هذه الدعوى ذات طابع خاص فهي دعوى شبه عمومية لأنها لا تأخذ من الدعوى المدنية إلاّ شكلها لكنها في الأصل هي دعوى عمومية([194]) .

و لفقه القضاء الفرنسي دور هام في إقرار هذا الحق تشريعيا و قد أكدّت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة سنة1913([195]) توسعا في مفهوم المصلحة الجماعية و أقرّت أن النقابة تمثل المهنة أو جميع أفرادها و بالتالي هي تصاب بدورها بضرر من جراء ما أحدثته الجريمة من اعتداء على المهنة([196]) .

*الجمعيات: جاء بقانون الجمعيات المؤرخ في 7 نوفمبر1959 في فصله 8 أن للجمعيات المكوّنة بصفة قانونية وبدون رخصة إمكانية التقاضي واكتساب الحقوق والملكية والتصرف، فهل يعني ذلك أن لها إثارة الدعوى العمومية من أجل الدفاع عن مصلحة جماعية؟

لا تثار أي صعوبة إذا ما قامت الجمعية بإثارة الدعوى العمومية من أجل المطالبة بتعويض الضرر الذي لحقها بصفة مباشرة و شخصية من الجريمة التي وقعت عليها بصفتها شخص معنوي. لكن الصعوبة تثار إذا كان الهدف من إثارة الدعوى العمومية هو الدفاع عن مصلحة جماعية.

بالرجوع إلى القانون التونسي نلاحظ أن إرادة المشرع اتجهت إلى إنكار هذا الحق على الجمعيات لغياب التأطير التشريعي لهذه المسألة، كما أن محاولة تطبيق الفصل 244م.ش المتعلق بالنقابات على الجمعيات يبدو غير منسجم مع إرادة المشرع و بالتحديد منطوق الفصل 7 م.إ.ج الذي يشترط شخصية الضرر و علاقته المباشرة بالجريمة([197]) .

وعلى خلاف القانون التونسي أقرّ القانون الفرنسي هذا الحق للجمعيات لكنه حصر نطاقه في الجمعيات التي لا تهدف إلى تحقيق الربح المادي.

ب- الشخص المعنوي العام

حق الشخص المعنوي العام في القيام بالحق الشخصي مؤكد إذا كان الضرر شخصيا و مباشرا، فالمبدأ يفترض أن كل من تضرر بصفة شخصية ومباشرة من الجريمة يمكنه القيام بالحق الشخصي و من ثمة إثارة الدعوى العمومية فلا جدال في حق الذوات المعنوية العامة كالدولة أو البلدية أو أي إدارة عمومية في إثارة الدعوى العمومية من أجل تعويض الضرر المادي الذي لحقها من الجريمة([198]).

و قيام الشخص المعنوي العام أمام القضاء الجزائي يطرح تساؤل هام يتعلق بنطاق التعويض المطالب به؟ هل أن هذا التعويض يشمل التعويض عن الضرر المادي و المعنوي أم أنه يقتصر عن المادي دون المعنوي؟

بالنسبة للفقه و فقه القضاء الفرنسي فإنه يرفض فكرة تعويض الذات المعنوية العامة من أجل الضرر المعنوي إذا يعتبر أن مثل هذا القيام لا يمكن قبوله لأن الضرر المعنوي ينصهر بالضرر الاجتماعي العام الذي تختص به اختصاص النيابة العمومية حيث يتحتم عليها في هذه الصورة إثارة الدعوى العمومية([199]).

و يؤكد الفقيهانMerle et Vitu هذا التوجه معتبرين أن الضرر المعنوي الذي قد يلحق الشخص المعنوي العام يختلف عن الضرر الذي قد يلحق بالهيئة الاجتماعية.

هذا الموقف المتشدد خالفته محكمة التعقيب التونسية حيث قامت بقبول دعوى صادرة عن وزارة الداخلية التي طلبت التعويض عن الضرر الأدبي الذي لحقها من جريمة تحيل قام بها أحد أعوانها([200])، و في قرار آخر قضت المحكمة لفائدة البلدية باعتبارها إدارة عمومية لها حق إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية لتعويض الضرر الأدبي الناشئ عن جريمة الثلب([201]).

ولقد أقرّ المشرع التونسي على غرار نظيره الفرنسي لبعض الإدارات حق إثارة الدعوى العمومية و مزاحمة النيابة العمومية في ممارسة هذا الحق كإدارة الجباية و إدارة الديوانة([202]).

على أن حق إثارة الدعوى العمومية من قبل المتضرر لا يستقيم إلاّ إذا توفرت فيه جملة من الشروط.

(8) المبحث الثاني: شروط إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة
لتمتع بحق إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية يجب توفر جملة من الشروط الموضوعية (الفقرة الأولى) و الإجرائية (الفقرة الثانية) التي تفرض نفسها على القاضي الجزائي المتعهد بمطلب القيام بالحق الشخصي و تصنف هذه الشروط في إطار شروط قبول القيام والتي ينتج عن توفرها إعطاء المتضرر صفة القائم بالحق الشخصي أو المدّعي المدني أي اكتسابه صفة الطرف المنظم إلى النزاع الجزائي استنادا إلى دعواه المدنية المبنية على الضرر الذي لحقه من الجريمة الواقع تتبعها([203]).

11) الفقرة الأولى: الشروط الموضوعية

إثارة الدعوى العمومية من قبل المتضرر يفترض وجود ضرر(ب) ترتب عن فعل يجرمه القانون الجنائي(أ).

أ- وجود جريمة

الجريمة هي السلوك الذي يهدر مصلحة المجتمع و الفرد على حدّ السواء و إذا كانت النيابة العمومية تقوم في حق المجتمع بإثارة الدعوى العمومية فإن المتضرر بدوره يتمتع بهذا الحق لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل أن كل جريمة يمكن أن تكون موضوعا للقيام على المسؤولية الخاصة وهو ما يقتضي التعرض إلى طبيعة الجريمة موضوع الإدعاء و اختصاص القاضي بها.

* طبيعة الجريمة المدعى بها:

قبل التعرض إلى طبيعة الجريمة يجب التأكيد أولا أن المتضرر من جريمة ما ليس مطالبا بإثبات هذا الجرم بل يكفي التصريح بوقائع من شأنها أن تشكل خرق لقواعد القانون الجنائي أم إثبات الجريمة يبقى من خصائص قاضي التحقيق([204]) أو المحكمة([205]) بحسب ما إذا كان الإدعاء أمام التحقيق أو مباشرة أمام القضاء.

يقتضي تحديد طبيعة الجريمة التمييز بين “الطبيعة الإجرائية للجريمة” و “الطبيعة المادية للجريمة”.

والمقصود بالطبيعة الإجرائية هو التصنيف الإجرائي الجرائم. و بالرجوع إلى مجلة الإجراءات الجزائية تصنف الجرائم إلى جنايات جنح و مخالفات([206]) والهدف من هذا التصنيف هو ضبط اختصاص النظر الحكمي.

و انطلاقا من هذه الطبيعة الإجرائية للجريمة فإنه يمكن إثارة الدعوى العمومية من المتضرر مهما كانت طبيعة الجريمة سواء كانت مخالفة أو جنحة أو جناية فعبارة الفصل 36 م.إ.ج جاءت مطلقة و المشرع لم يحدد نوع معين من الجرائم التي يمكن فيها إثارة الدعوى العمومية من القائم على المسؤولية الخاصة([207]).

على أنه يكون على المتضرر في صورة الجناية والجنحة مجبر على طلب إحالة القضية على التحقيق لأن القانون اقتضى وجوبية التحقيق في الجنايات أما الجنح فهو اختياري ما لم ينصّ القانون على خلاف ذلك([208]).

و تبعا لذلك فإنه في صورة المخالفة أو الجنحة التي لم ينصّ القانون على وجوبية التحقيق في شأنها فإنه للمتضرر الخيار إما طلب الاحالة على التحقيق أو عرضها مباشرة على المحكمة، على أن المتضرر في صورة طلب الإحالة على التحقيق فهو لا يعهد قاضي التحقيق مباشرة([209]) بل هو يتقدم بمطلب في الغرض لوكيل الجمهورية و هو من شأنه أن يمثل نوع من الرقابة على أعمال النيابة العمومية التي تراءى لها حفظ القضية عملا بمبدأ ملائمة التتبع.

فيما يخص الطبيعة المادية للجريمة فهي تقتضي دراسة الجريمة من خلال ركنها المادي أو المعنوي كما يمكن التطرق إليها من حيث أشخاصها وأهدافها وفي هذا الإطار يقع الحديث عن الجرائم العسكرية وجرائم الأطفال والجرائم السياسية والجرائم الاقتصادية التي لا يمكن مبدئيا إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية وذلك لخروج الدعوى المدنية التابعة لدعوى العمومية عن اختصاص هذه المحاكم([210]).

*اختصاص القاضي بالنظر فيها

لا يكفي وجود جريمة لإثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة بل يتحتم إثارتها أمام القاضي الجزائي المختص فقرار الحفظ الصادر عن وكيل الجمهورية لا يحتوي بضرورة على التكييف القانوني للأفعال أساس القيام بالمسؤولية الشخصية([211])، وبالتالي يكون التكييف من مهمة المتضرر الذي قد يختار مثلا القيام لدى المحكمة مباشرة مكيّفا بذلك الوقائع على أنها جنحة أو مخالفة و الحال أنها جناية تستوجب إجراء تحقيق و في هذه الحالة ما هو موقف المحكمة ؟ هل ستقضي بعدم الاختصاص أم عدم القبول؟

كما أن إثارة الدعوى العمومية من قبل المتضرر تقتضي أن لا تكون الإثارة حكرا على النيابة العمومية أو الإدارة بمقتضى نص خاص([212])، و أن لا تكون الدعوى العمومية قد انقضت لأي سبب من الأسباب المذكورة صلب الفصل 4 م.إ.ج .

وهنا يقع التساؤل عن موقف النيابة العمومية في صورة انقراض الدعوى أو أنه لا يمكن إثارتها باعتبار أن قرار رفض التحقيق سيكون محتم إذا ما تمت إحالة القضية على التحقيق فهل يمكن لممثل النيابة العمومية في هذه الحالة رفض إثارة الدعوى العمومية ؟

تبني مثل هذا الإقرار يعني حرمان المتضرر من حق منحه له القانون وهو تكليف هيئة قضائية أخرى غير النيابة العمومية بالبت في القضية و بالتالي لا يمكن اعتماد مثل هذا التمشي لمخالفته القانون.

على أنه لا يكفى وجود جريمة بل يجب أن ينتج عن هذه الجريمة ضرر.

ب- وجود ضرر

إن الهدف من القيام على المسؤولية الخاصة هو جبر الضرر([213]) الذي قد أصاب الشخص في حق من حقوقه أو في مصلحة مشروعة و قد يكون هذا الضرر ماديّا أو معنويّا.

و يمثل الضرر المادّي إخلالا بحقّ من حقوق الشخص أو مصلحة ذات قيمة ماليّة. أمّا الضرر المعنوي، فهو الذي يصيب شعوره أو شرفه أو اعتباره أو الناتج عن تشوهات أو إصابات([214]).

فإثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة يتطلب وجود ضرر ترتب عن هذه الجريمة، فقد جاء بالفصل 7 م.إ.ج أن ” الدعوى المدنية من حق كل من لحقه ضرر نشأ عن الجريمة” وانطلاقا من هذا الفصل يمكن القول أن الضرر أساس إثارة الدعوى العمومية هو الضرر الشخصي والذي نشأ مباشرة عن الجريمة.

* ضرر شخصي:

هو الضرر الواقع على شخص القائم سواء كان ماديا أو معنويا بمعنى أن ينال من سلامة جسمه أو مشاعره.

وهذا الشرط هو ضمان لتحقق الصفة لدى الشخص القائم بالحق الشخصي وتطبيقا لهذا الشرط لا يكون شخصيا الضرر الذي يصيب الغير و لكن الفقه اعتبر في حالات استثنائية أن الضرر يمكن أن ينتقل إلى الغير المتضرر كالذي يصيب الأبناء والزوجة نتيجة إصابة العائل الشرعي لهذه العائلة([215])، و تجدر الإشارة أن الضرر المادي يخضع في تقديره إلى إجراء اختبارات و أبحاث و تحقيقات في حين أن الضرر المعنوي يكون خاضع لاجتهاد القاضي.

* الضرر مباشر:

للنظر في الدعوى العمومية القائم بها المتضرر على مسؤوليته الخاصة يجب أن يكون الضرر مترتب بصفة مباشرة عن الجريمة وذلك على عكس الضرر الغير مباشر الذي يحدث في سياق الفعل الضار الأصلي من غير أن يتصل به مباشرة فيكون اتصاله به عن طريق سبب آخر([216]). وهو ما أكدّته محكمة التعقيب في قرارها الصادر بتاريخ 10فيفري 1986 على أن ” القيام بالدعوى المدنية من حق كل من لحقه شخصيا ضرر بشرط أن يكون الضرر ناشئا مباشرة عن الجريمة…”([217]).

* الضرر المحقق:

هو الضرر الذي وقع بالفعل و يسمى أيضا بالضرر الحال actuel و هو يكون موجودا وقت تحريك الدعوى أو أنه سيقع حتما.

و بالتالي الضرر المحقق يأخذ إحدى الصورتين إما أن يكون قد وقع فعلا وتحدد مداه بصورة نهائية أو أنه يكون محقق الوقوع و لكن مداه يتوقف في المستقل أي أن آثاره لم تحصل كلها أو أنها ستحصل في المستقبل على خلاف الضرر المحقق الذي ينتج آثاره في الحال([218]).

فهل أن الادعاء بوجود الضرر كاف لإثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة أم يجب على المتضرر إثباته؟

يمكن القول أن المتضرر غير مطالب بإثبات الضرر بجميع خصائصه بل يكفي إثبات وجود علاقة السببية مباشرة بين الضرر والجريمة، هذا إلى جانب التعبير الصريح عن رغبته في المطالبة بتعويض هذا الضرر وهو ما أكدته محكمة التعقيب معتبرة أن “القيام بالحق الشخصي يوجب ملحوظات صريحة بطلب غرم الضرر وتأمين المصاريف”([219]).

12) الفقرة الثانية: الشروط الإجرائية

بالرجوع إلى أحكام الفصول 36 و 39 و 40 م إ ج نتبين أن إثارة الدعوى العمومية غير ممكنة إلاّ في صورة صدور قرار بحفظ القضية (أ) و تقديم مطلب في الغرض(ب) هذا إلى جانب تأمين المصاريف اللازمة (ج).

أ – قرار الحفظ

عملا بمبدأ ملائمة التتبع الوارد صلب الفصل 30 م.إ.ج فإنه لنيابة العمومية تقرير مآل الشكايات و الإعلامات التي تصل إليها و تبعا لذلك فقد يتراءى لنيابة العمومية إصدار قرار بحفظ القضية لانعدام مصلحة المجتمع في التتبع و قد يكون ذلك لأسباب واقعية أو قانونية.

على أن مثل هذا القرار قد يضر بمصلحة المتضرر الذي لحقه ضرر شخصي ومباشر من الجريمة لذلك مكّنه المشرع من إثارة الدعوى العمومية في صورة حفظ القضية.

بعبارة أخرى إذا لم يقع صدور قرار بالحفظ عن النيابة العمومية فإن المتضرر ليس له إمكانية إثارة الدعوى العمومية ففي هذه الحالة ليس له إلاّ تقديم شكوى وانتظار موقف النيابة العمومية التي لها إما إثارة الدعوى العمومية أو حفظها وفي هذه الصورة فقط يمكن للمتضرر التدخل للإثارة الدعوى العمومية.

فصدور قرار بالحفظ هو شرط أولي و جوهري لإثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة.

و هو ما أكدّه فقه القضاء حيت جاء بالعديد من القرارات أن إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة يستلزم صدور قرار بالحفظ([220]).

وبرغم أهمية الآثار التي تترتب عن هذا القرار نلاحظ سكوت تشريعي حول تحديد آجال اتخاذ هذا القرار فالنيابة العمومية غير ملزمة بآجل معين لإصدار هذا القرار بحيث يمكنها تقبل الشكايات و الإعلامات دون أن تتخذ بشأنها أي قرار هذا من جهة، من جهة أخرى فهي غير ملزمة بإعلام المتضرر أو صاحب الشكاية بهذا القرار وهو ما يهدد وضعية المتضرر خاصة إذا تفطن بهذا القرار بعد أن تكون الدعوى قد سقطت بمرور الزمن([221]) و ذلك على خلاف التشريع الفرنسي الذي يلزم وكيل الجمهورية بإعلام الشاكي والمتضرر إذا كان معروفا بقرار الحفظ([222]).

وحول الطبيعة القانونية لقرار الحفظ نلاحظ وجود اختلاف فقهي في هذا الإطار حيث يعتبره البعض بأنه قرار إداري لا يكتسب أية حجية بدليل أن النيابة العمومية تملك حق العدول عنه في أي وقت لإثارة الدعوى العمومية من جديد طالما لم تنقرض بمرور الزمن أو لأي سبب أخر و هو كذلك قرار غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن فالمتضرر لا يملك في مواجهته سوى إتخاذ أحد طريقين إمّا التظلم إلى السلطة الرئاسية لوكيل الجمهورية أي وكيل الدولة العام لدى محكمة الاستئناف مستغلا بذلك مبدأ التبعية و التسلسل الوظيفي أو القيام بإثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية.

على أن الأستاذ ساسي بن حليمة يرى أن قرار الحفظ هو قرار نهائي لا يخوّل النيابة العمومية إعادة فتح البحث من جديد و إثارة الدعوى العمومية مستندا في ذلك إلى التأويل الضيق للفصل 121 م.إ.ج([223]) .

و قرار الحفظ الصادر عن النيابة العمومية قد يكون لأسباب واقعية أو قانونية، ففي الحالة الأولى قد تخير النيابة العمومية عدم الإثارة لانعدام مصلحة المجتمع في التتبع. أما الحالة الثانية أي الحفظ لأسباب قانونية فقد يكون ذلك لوجود مانع قانوني يحول دون إثارة الدعوى العمومية كأن يسحب المتضرر شكواه في الدّعاوي المعلقة على شكوى أو عدم رفع الحصانة البرلمانية أو القضائية أو الدبلوماسية. و في هذه الحالة يعتبر إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة مستحيل إذ لا يمكن تخويل المتضرر سلطات تفوق سلطات النيابة العمومية .

ب- مطلب القيام

جاء بالفصل 39 فقرة أولى من م.إ.ج على أنه يقع “القيام بالحق الشخصي بمقتضى مطلب كتابي ممضى من الشاكي و يقدم بحسب الأحوال إلى وكيل الجمهورية أو قاضي التحقيق أو المحكمة المتعهدة بالقضية…”

وانطلاقا من هذا الفصل نستنتج أنه لا ينطبق فقط في صورة إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة بل يشمل كذلك صورة الانضمام إلى الدعوى المنشورة.

ومطلب القيام على المسؤولية الخاصة يختلف بحسب طبيعة الجريمة فإذا كانت الجريمة مخالفة أو جنحة لا يوجب القانون فتح تحقيق في شأنها، فإن المتضرر سيختار الادعاء المباشر أمام المحكمة وفي هذه الصورة فإن الإجراءات تسير وفقا لقواعد الادعاء المدني حيث يكون على القائم على المسؤولية الخاصة استدعاء خصمه عن طريق عدل منفذ عملا بمقتضيات الفصول 134 و 135 م.إ.ج ما لم ينصّ القانون على خلاف ذلك.

ويجب أن يتضمن الاستدعاء جملة من البيانات كذكر الوقائع أساس التتبع والنص القانوني المنطبق وبيان المحكمة المتعهدة ومكان وساعة وتاريخ الجلسة وصفة المستدعى.

وربما كان من الأفضل ذكر مبلغ التعويض أساس القيام على المسؤولية الخاصة أو على الأقل ذكر مبدأ التعويض إذ يبقى أمر تقديره من مهام المحكمة التي تأذن بإجراء الاختبارات اللازمة لتحديده.

وفي صورة الإخلال بأحد هذه التنصيصات فإنه يجب التمييز بين التنصيصات التي من شأنها أن تمس بحقوق الدفاع كإغفال التنصيص على الوقائع أو بإجراءات التبليغ أو آجاله ففي هذه الصورة يقع إبطال الاستدعاء بناء على أحكام الفصل199م.إ.ج وبالتالي يقع رفض قبول المطلب ولا يكون أمام القائم بالحق الشخصي سوى إعادة القيام من جديد ما لم تنقضي الدعوى العمومية بمرور الزمن، والتنصيصات التي ليس لها أي تأثير على حقوق الدفاع باعتبارها مكرسة لحماية حقوق القائم بالحق الشخصي كاختياره لمقر بالدائرة الترابية للمحكمة فإن ذلك لا يرتب بطلان الاستدعاء أو عدم قبول المطلب.

و إذا كانت الجريمة من صنف الجنايات أو الجنح التي تستوجب التحقيق فإن القائم في هذه الحالة يطلب إحالة القضية على التحقيق و في هذا الإطار يجب التمييز بين الشكوى العادية البسيطة المحمولة على الجميع و التي أساسها الإعلام بجميع الجرائم التي من شأنها أن تدخل تحت المؤاخذة الجزائية و الشكوى المصحوبة بالادعاء المدني التي يجب أن تتضمن ضرورة المطالبة بالتعويض عن الضرر الناشئ عن الجريمة و التمسك بحقه في إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة.

و نتيجة للفراغ التشريعي المتعلق بمحتوى مطلب القيام بالحق الشخصي حيث لم يتضمن الفصل39 م.إ.ج صراحة التنصيصات الضرورية في المطلب فقد عمد البعض([224]) إلى اعتماد طريقة القياس على قرار افتتاح البحث الصادر عن وكيل الجمهورية.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو هل بإمكان المتضرر طلب إثارة الدعوى العمومية و من ثمة تعهيد قاضي التحقيق في جريمة يكون فيها الفاعل مجهول قياسا على الفصل 31 م.إ.ج الذي يخوّل هذه الإمكانية لنيابة العمومية.

هذا الإشكال تعرض له فقه القضاء الفرنسي في القرار الشهيرLaurent Athalin ([225]) الذي جاء فيه أن قاضي التحقيق عند تعهده بالدعوى فهو يتعهد لا فقط بالأفعال([226]) و إنما كذلك بالأشخاص على أن هذا الرأي وقع انتقاده استنادا إلى قاعدة التعهد الموضوعي لقاضي التحقيق التي تفيد بأن قاضي التحقيق يتعهد بالأفعال لا بالأشخاص بالتالي هو غير مقيد بالأشخاص الوارد ذكرهم بمطلب القيام خاصة و مثل هذا الشرط فيه تعجيز للمتضرر([227]) على أنه يجب الإشارة إلى أن المشرع أقرّ جنحة الادعاء بالباطل كجزاء يسلط على القائم المتعسف يفترض تعيين المتهم حتى يستطيع الرجوع ضدّ القائم بهذه الجنحة([228]).

على أنه يبقى الإشكال قائما في تحديد الجهة المختصة بتلقي مطلب القيام فالفصل 36 م.إ.ج يمكّن المتضرر من إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة و ذلك إما بطلب إحالة القضية على التحقيق أو القيام مباشرة أمام القضاء.

و إن كانت الصورة الأخيرة لا تطرح إشكال فإن الصورة الأولى تفترض ضرورة وجود وسيط بين المتضرر و قاضي التحقيق و هذا ما يفهم مبدئيا من الصياغة العربية للفصل 36 م.إ.ج و هذا الوسيط سيكون بضرورة من النيابة العمومية و تبعا لذلك فإن المتضرر يكون ملزم بإحالة المطلب مصحوبا بادعائه المدني إلى وكيل الجمهورية يطالبه فيها بإحالة القضية على التحقيق.

وبالرجوع إلى الصياغة الفرنسية نلاحظ عدم تطابقها مع هذا التوجه فهي تتحدث عن “طلب فتح تحقيق”Demander l’ouverture d’une information

وبالتالي يكون القائم بالحق الشخصي باتصال مباشر مع قاضي التحقيق دون وساطة النيابة العمومية على غرار التشريع الفرنسي.

وتقديم مطلب القيام للنيابة العمومية يثير العديد من التساؤلات، فما موقف النيابة العمومية في صورة إخلال هذا المطلب بأحد البيانات الضرورية كعدم المطالبة الصريحة بالتعويض ثم إلى أي مدى يمكن للنيابة العمومية أن تتعامل بموضوعية مع هذا المطلب الذي يعتبر تجاوزا لقرارها القاضي بحفظ القضية.

كل هذه التساؤلات كان بالإمكان تجاوزها إذا انتهج المشرع التونسي نهج نظيره الفرنسي أو إذا تم تعريب الفصل 36 بطريقة واضحة و دقيقة.

ج – تأمين المصاريف

جاء بالفصل 39 فقرة ثانية م.إ.ج أن مطلب القيام بالحق الشخصي “معفى من تأمين المصاريف غير أنه في الصورة المقررة في الفصل 36 يجب على الشاكي أن يؤمن المبلغ الذي يظهر ضروريا لتسديد مصاريف القضية و إلا سقط حقه في القيام و يتولى تعيين هذا المبلغ بحسب الأحوال رئيس المحكمة أو قاضي التحقيق.”

و انطلاقا من هذا الفصل نلاحظ أن واجب تأمين المصاريف محمول على المتضرر الذي أقدم على إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة دون القائم بالحق الشخصي الذي انضم بدعواه المدنية لدعوى العمومية.

للنظر في الدعوى والبت فيها يكون على القائم بالحق الشخصي تأمين المصاريف اللازمة المستحقة لخزينة الدولة. وهذه المصاريف يتم دفعها مسبقا ففي صورة الحكم بعدم سماع الدعوى تضيع كلها على القائم بالحق الشخصي وقد يحكم ببعضها أو كلها على خصمه في صورة قبول الدعوى.

ويبرر اشتراط المشرع لتأمين المصاريف رغبة منه في الحد من إساءة استعمال هذا الحق فهذا الشرط يكون بمثابة الحاجز أمام القائم بالحق الشخصي حتى لا يستغل هذا الحق لمجرد الانتقام والتشفي من المتهم، في حين يرى البعض الأخر أن الغاية من هذا الشرط هو في الحقيقة مجابهة إعسار القائم بالحق الشخصي وعدم قدرته على الدفع في صورة حفظ القضية خاصة وأن المصاريف القضائية تحمل على المحكوم عليه عملا بأحكام الفصل 191 م.إ.ج .

و يتم تحديد هذه المصاريف من قبل رئيس المحكمة في حالة الادعاء المباشر أما في صورة الإحالة على التحقيق فقاضي التحقيق هو الذي يتولى هذه المهمة.

و لعل ما نلاحظه في صياغة الفصل 39 م.إ.ج هو إطلاقه و عموميته فهذا الفصل لم يحدد تاريخ التأمين و لا المبلغ الأقصى الواجب توفيره، فالقاضي الجزائي في هذه الحالة يتمتع بسلطة تقديرية هامة في تحديد هذه المصاريف خاصة إذا ما تراءى لهذا الأخير الترفيع في المبلغ الواجب تأمينه مع اختصار الآجل الواجب الدفع فيه.

ويترتب عن الإخلال بهذا الشرط سقوط حق القيام([229]) استنادا إلى أحكام الفصل 39م.إ.ج و هو ما أكدّته محكمة التعقيب في قرار لها صادر بتاريخ 8 ديسمبر 1976 أنه “من قام على المسؤولية الخاصة بعد حفظ التهمة من طرف النيابة حسب الفصل 36م.إ.ج يجب عليه تأمين المبلغ الذي يظهر ضروريا لتسديد مصاريف القضية و إلاّ سقط حقّه في القيام على الفصل 39 منها…” ([230]).

إذن إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة يخضع إلى جملة من الشروط التي ترتب بدورها جملة من الآثار.

الفصل الثاني: آثار إثارة الدعوى العمومية من المتضرر
جاء بالفصل 36 م.إ.ج “حفظ القضية من طرف وكيل الجمهورية لا يمنع المتضرر من إثارة الدعوى العمومية على مسؤوليته الشخصية وفي هذه الصورة يمكنه عن طريق القيام بالحق الشخصي إمّا طلب إحالة القضية على التحقيق أو القيام مباشرة لدى المحكمة.”

فالمتضرر له الحق في إثارة الدعوى العمومية شأنه في ذلك شأن النيابة العمومية و لكن ليس بنفس القدر و الكيفية.

بالرجوع إلى أحكام الفصل 2 م.إ.ج نلاحظ أن المشرع خصّ النيابة العمومية و الإدارة بسلطة إثارة الدعوى العمومية بصفة أصلية ، و جاء ذكر المتضرر في الفقرة الثانية وهو ما يؤكد الصبغة الاستثنائية لإمكانية إثارة الدعوى العمومية من المتضرر.

فإثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية هو بمثابة رقابة و تجاوز للموقف السلبي للنيابة العمومية التي خيرت حفظ القضية فهو طريقة مختلفة لتحريك التتبع الجزائي([231]) و لئن مكّن المشرع المتضرر من حق إثارة الدعوى العمومية فإن هذا الحق يرتب جملة من الآثار بالنسبة لكل من الدعوى العمومية ( المبحث الأول) وكذلك الدعوى المدنية( المبحث الثاني) و مبرر البحث في مدى تأثير الدعوى العمومية على الدعوى المدنية هو ارتباطهما و تبعية الثانية للأولى.

(9) المبحث الأول: الآثار بالنسبة للدعوى العمومية
يترتب عن إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة تحريك الدعوى العمومية ( الفقرة الأولى) وقيام مسؤولية المتضرر(الفقرة الثانية) في صورة ثبوت قيامه التعسفي.

13) الفقرة الأولى: تحريك الدعوى العمومية

يعتبر القيام على معنى الفصل 36 م.إ.ج مخرجا قانونيا شرّع لفائدة مدّعي الضرر قصد تجاوز قرار النيابة العمومية السلبي القاضي بالتخلي عن الدعوى العمومية، فخوّل المشرع المتضرر من أن يقوم بنفسه بتحريك الدعوى العمومية و من ثمة تعهد القاضي الجزائي بالنزاع(أ) و في المقابل يكتسب المتضرر وضعية خاصة في النزاع (ب).

أ- تعهد القاضي الجزائي بالنزاع

يعتبر إثارة الدعوى العمومية و تعهد القاضي الجزائي من أهم الآثار المترتبة عن القيام على المسؤولية الخاصة حيث يتولى المتضرر أمّا عرض النزاع مباشرة على المحكمة أو إحالة القضية على التحقيق.

* تعهد المحكمة بالإدعاء المباشر:

أقرّ الفصل 36 م.إ.ج إمكانية القيام على المسؤولية الخاصة مباشرة أمام المحكمة فإذا ما اختار المتضرر هذه الطريقة فإن المحكمة تبت في مطلبه و إذا ما أقرت قبوله فهي تتعهد بالدعوى العمومية و المدنية([232]) .

و لقد أقرّ المشرع صورتين لتعهد المحكمة أولا صورة الفصل 200 م.إ.ج وثانيا اصورة الفصل 206 م.إ.ج .

حيث جاء بالفصل 200 م.إ.ج أن حاكم الناحية ” يتعهد بالمخالفات بمقتضى إحالة مباشرة من وكيل الجمهورية أو… من المتضرر.”

كما اقتضى الفصل 206 م.إ.ج أن المحكمة الابتدائية تتعهد ” بمقتضى إحالة مباشرة من وكيل الجمهورية… أو من المتضرر عند امتناع ممثل النيابة العمومية من إجراء التتبع من تلقاء نفسه.”

و يتضح من خلال هذين الفصلين أن تعهد المحكمة يمكن أن يترتب عن اتخاذ القائم بالحق الشخصي طريق الادعاء المباشر الذي يدخل حوزة قضاء الحكم و التزام هذا القضاء بالنظر فيها و الفصل فيها بغض النظر عن طلبات النيابة العمومية فيكون على المحكمة أن تسمع أقوال عضو النيابة العمومية أو تدعوه إلى تقديم طلباته دون أن يكون لتلك الطلبات سلطة على المحكمة في اتخاذ القرار و إصدار الحكم الذي ترتئيه وفقا للوقائع المعروضة عليها صلب عريضة دعوى القائم بالحق الشخصي و دون اعتداد بالوصف القانوني لكل من النيابة العمومية أو القائم بالحق الشخصي([233]).

فالمحكمة لا تتعهد بصفة نهائية بالدعوى العمومية بناءا على القيام بالحق الشخصي إلاّ من بعد قبول مطلب القيام، فإذا كان الطلب غير مقبول فإنه لا يترتب عليه إثارة الدعوى العمومية وهو ما أدى البعض إلى القول بإمكانية تحريك الدعوى العمومية من طرف النيابة العمومية وذلك بتوجيه التهمة للمتهم إذا كان حاضرا بالمحكمة([234]) .

و بالتالي لا يمكن الحديث عن إثارة الدعوى العمومية أمام المحكمة مباشرة إلاّ متى خرجت هذه الأخيرة من حوزة القائم بالحق الشخصي و حوزة النيابة العمومية.

و بالرجوع إلى الفصلين 200 و 206 م.إ.ج نلاحظ أن المشرع سوّى بين المتضرر والنيابة العمومية باعتبار أن الاستدعاء الموجّه إلى المقام ضدّه يقوم مقام قرار الإحالة طالما تمّ قبول مطلب القيام مباشرة في الدعوى من حيث الأصل بشقيها الجزائي و المدني([235]).

* تعهد قاضي التحقيق:

إذا ما توفرت في المطلب شروطه القانونية فإن قاضي التحقيق يتعهّد مباشرة بالمطلب و يصبح ملزما بفتح تحقيق دون أن ينتظر قرارا في افتتاح البحث من النيابة العمومية، لأن النيابة قررت حفظ القضية.

هذا الموقف أساسه القرار الفرنسي الشهير Laurent Atthalan الذي أكّد أن الشكوى المصحوبة بالادعاء المدني تنشئ بالنسبة لإثارة الدعوى العمومية نفس الآثار التي يرتبها قرار افتتاح البحث، فاستنادا لهذه الشكوى يصبح قاضي التحقيق ملزما بفتح البحث مهما كانت طلبات النيابة العمومية.

و مثل هذا الإقرار فيه مخالفة لمبدأ التعهد الموضوعي لقاضي التحقيق التي تقتضي أن تعهد قاضي التحقيق يشمل الأفعال لا الأشخاص على أنه في هذه الصورة يصبح قاضي التحقيق ملزما لا فقط بالتحقيق رغم معارضة النيابة العمومية بل ملزم كذلك بتوجيه الاتهام إلى الأشخاص المذكورين بالشكوى.

و يرى البعض أنه يمكن لقاضي التحقيق توسيع البحث ليشمل أشخاص جدد وذلك في صورة طلب النيابة العمومية ذلك على أن مثل هذا الإقرار يتعارض مع صريح الفصل 36 م.إ.ج الذي لم يعطي دور ايجابي وفعّال لنيابة العمومية بل خصّ المتضرر بحق إثارة الدعوى العمومية.

كما يقتضي مبدأ التعهد الموضوعي لقاضي التحقيق خضوع تكييف الأفعال المصرّح بها لسلطته حيث جاء بقرار فرنسي أنّه إذا حدّدت الشكوى الأفعال التي ظهرت في ذهن القائم على أنها جريمة فإن قاضي التحقيق ملزم بفحصها وفق جميع التكييفات الجنائية الممكنة([236]).

من جهة أخرى فإن قاعدة التعهد الموضوعي لقاضي التحقيق تقتضي أن يتقيد بالبحث في الوقائع المعروضة في شكوى القائم بالحق الشخصي دون الأفعال التي يمكن أن يكشف عنها التحقيق مثلا إذا قام المتضرر على أساس خيانة الأمانة واتضح اثر التحقيق قيام المتهم بالتدليس فهنا قاضي التحقيق غير ملزم بإحالة الملف إلى القائم لتقديم طلباته الإضافية([237]).

والتعهد الموضوعي لقاضي التحقيق يفيد خضوع تكييف الأفعال المصرّح بها في الشكوى لسلطته، على أن البحث يمكن أن يشمل أشخاص آخرين لم تشملهم الشكوى وإنما كشف عنهم التحقيق.

فالدعوى العمومية ليس ملكا للقائم بالحق الشخصي و لا لنيابة إنما للمجتمع فإذا اتضح من خلال البحث وجود أطراف أخرى فإنه بإمكان قاضي التحقيق توجيه الاتهام بغض النظر عن موقف القائم بالحق الشخصي أو ممثل النيابة العمومية.

و سواء تحركت الدعوى العمومية أمام قاضي التحقيق أو لدى المحكمة فإن القائم بالحق الشخصي يكتسب وضعية خاصة.

ب – وضعية المتضرر

إذا ما قرر المتضرر إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة فهو يكتسب صفة ثابتة باعتباره طرف في الدعوى المدنية المرفوعة أمام القاضي الجزائي في مقابل المتهم أو المسؤول المدني و ذلك للمطالبة بالتعويض.

و السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يكتسب المتضرر صفة الطرف في هذه الدعوى ؟

الإجابة عن هذا الإشكال تحمل رأيين مختلفين:

* الرأي الأول يعتبر أن القائم بالحق الشخصي لا يصبح طرفا في الدعوى العمومية و ذلك لأن حقه في الطعن في الأحكام والقرارات الصادرة لا يكون إلاّ بالنسبة لما كان منها مجحفا بحقوقه المدنية وحدها، كما أن الفصل 36 م.إ.ج خوّل المتضرر إمكانية إثارة الدعوى العمومية دون ممارستها التي تبقى حكرا على النيابة العمومية ثم إن الإقرار بأن القائم بالحق الشخصي طرف في الدعوى العمومية يتنافى مع خاصيّتها العمومية باعتبارها حق للمجتمع لا ينوبه عنها سوى النيابة العمومية و بالتالي قبول القائم بالحق الشخصي كطرف في الدعوى العمومية يتناقض مع جوهرها.

* الرأي الثاني يقرّ بإمكانية اعتبار القائم بالحق الشخصي طرف في الدعوى العمومية لكن ليس طرف منظم كالنيابة العمومية أو الإدارات التي خوّلها القانون حق إثارة الدعوى العمومية و ممارستها. فالمتضرر عند إثارته لدعوى العمومية هو في الحقيقة يبحث عن تعويض لضرر المترتب عن الجريمة و توقيع العقاب على الجاني فالقيام أما المحكمة الجزائية يكون له هدف مزدوج الحصول على تعويض وتوقيع العقاب.

كما أن اعتبار القائم بالحق الشخصي طرفا في الدعوى لا يتعارض في جوهره مع مبدأ عمومية هذه الدعوى فهي ترفع إلى القضاء باسم الهيئة الاجتماعية و لفائدتها سواء كان ذلك من النيابة العمومية أو المتضرر([238]).

ثم إن الطعن في الأحكام و القرارات لا يكون مقتصرا على ما هو مجحف بالحقوق المدنية للمتضرر ذلك أنه بالرجوع إلى الفصل 38 م.إ.ج نلاحظ أنه إذا ما قرر قاضي التحقيق رفض مطلب القيام بالحق الشخصي فإنه للقائم بالحق الشخصي في هذه الصورة الطعن في القرار بوجه ينقل الدعويين العامة و الخاصة أمام دائرة الاتهام.

و يؤكد هذا الاتجاه موقفه بضرورة اعتبار المتضرر القائم بالحق الشخصي طرفا في الدعوى العمومية بالاستناد إلى قاعدة تحجير سماع القائم بالحق الشخصي كشاهد و هو ما أقرّه الفصل 43 م.إ.ج الذي جاء فيه ” الطرف الذي قام بالحق الشخصي لا يسوغ سماعه بوصفه شاهدا” على أنه يمكن سماع القائم بالحق الشخصي على سبيل الاسترشاد و دون أداء يمين([239]) .

و ما يدّعم اعتبار القائم طرفا في الدعوى هو جملة الحقوق المتمتع بها سواء أمام قاضي التحقيق أو المحكمة حيث يمكنه إحضار شهوده و حضور الاختبارات والطعن بالاستئناف في قرار الحفظ و قرار رفض التحقيق و غيرها من القرارات. وقد أكّدت محكمة التعقيب في قرار لها بأن انتداب حاكم التحقيق طبيب لفحص المتهم دون أن يأخذ سلفا رأي القائم بالحق الشخصي خلل ينجر عنه بطلان هذا الإجراء و ما انبنى عليه من أعمال التحقيق([240]).

وما يمكن استنتاجه من خلال عرض هذين الرأيين هو أن المتضرر القائم بالحق الشخصي هو طرف في الدعوى ولكن ليس طرف أصلي و إنما هو تبعي لسلطة النيابة العمومية التي لئن غابت عن مرحلة إثارة الدعوى العمومية و تخلت عنها لفائدة المتضرر، فهي تعود لتحتكر سلطة ممارسة هذه الدعوى.

لكن هل يستطيع المتضرر القائم بالحق الشخصي الرجوع في دعواه والتخلي عنها؟

ينصّ الفصل 41 م.إ.ج على أن” القائم بالحق الشخصي الذي يرجع صراحة في قيامه خلال الثماني والأربعين ساعة من وقت القيام لا يكون ملزما بالمصاريف من تاريخ رجوعه، لا يمكن بعد الرجوع إلا القيام لدى المحكمة المدنية.”

هذا الفصل يحيلنا إلى صورة شبيهة هي صورة الرجوع في الشكاية، فإذا كان الرجوع في الشكاية سبب من أسباب انقضاء الدعوى العمومية فهل يمكن سحب هذا الأثر على الرجوع في القيام؟

أقرّ محكمة التعقيب في قرار لها صادر بتاريخ 16 جويلية 1983 “بأن الإسقاط الواقع من القائم بالحق الشخصي لا يوقف الحق العام.” و بالتالي الرجوع في القيام لا يؤثر على الدعوى العمومية طالما كانت الإجراءات سليمة لكن المتضرر يفقد صفته كطرف في الدعوى.

كما يتم إعفاء القائم من المصاريف إذا تم ذلك في الآجال القانونية التي حدّدها المشرع بثماني و أربعين ساعة، و في هذه الحالة لا يبقى أمام القائم سواء الطريق المدني ولا يشترط في هذا الرجوع شكلية معينة إذ يكفي أن يكون صريحا لا لبس فيه.

و يترتب عن الرجوع في القيام جملة من الآثار تنعكس على كل من الدعوى المدنية و الدعوى العمومية.

بالنسبة لدعوى المدنية فالرجوع عن القيام يعني العدول عن اختيار الطريق الجنائي بحيث يبقى أمام المتضرر القائم بالحق الشخصي الطريق المدني إن أراد ذلك و بالتالي فإن القائم يفقد صفته كطرف أمام القاضي في الدعوى أمام القاضي الجزائي حيث يصبح أجنبيا فلا يقع إعلامه بتاريخ الجلسات أو حضور المرافعات أو توجيه الأسئلة إلى المتهم أو بعض الشهود أو طلب إجراء بعض التحقيقات و لا يمكنه المطالبة بالتعويض أو القيام بأي إجراء من إجراءات الطعن ضدّ الأحكام([241]).

و الرجوع في القيام قد يكون نتيجة إبرام صلح و في هذه الحالة يكون على القاضي الجزائي تقدير قيمة هذا الصلح من حيث الشكل و الأصل.

أما بالنسبة لدعوى العمومية فإنه يقع تطبيق قاعدة الفصل 3 م.إ.ج التي نصّت على أن الدعوى العمومية ” لا يوقفها و لا يعلقها الرجوع في الشكاية أو في القيام بالحق الشخصي.”

إذا ما تمت إثارة الدعوى العمومية بناءا على شكوى مصحوبة بالقيام بالحق الشخصي فإن الرجوع في القيام بعد صدور قرار من النيابة العمومية بافتتاح بحث لا يرتب أي آثر على تحريك الدعوى العمومية ولا على قاعدة التعهد النهائي لقاضي التحقيق.

أما إذا كانت إثارة الدعوى العمومية تمت من خلال الإدعاء مباشرة أمام المحكمة فإنه الدعوى العمومية تنقضي على أن يكون ذلك في إطار الجرائم التي تستوجب لإثارتها صدور شكوى ففي هذه الحالة و استنادا لمقتضيات الفصل 4 م.إ.ج تنقضي الدعوى العمومية.

و عموما فإن الرجوع في القيام لا يؤثر في الدعوى العمومية التي تمّ تحريكها و تعهدت بها الهيئات القضائية المختصة و لا ينتج الرجوع آثره في انقضاء الدعوى إلا إذا كانت معلقة على شكوى .

والسؤال الذي يطرح في هذه المرحلة هو كيف تعامل المشرع مع المتضرر الذي تعسف في استعمال حقه في إثارة الدعوى العمومية حيث كانت غايته التشهير بالجاني والاقتصاص منه.

14) الفقرة الثانية : مسؤولية المتضرر

يعتبر إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة من قبل المتضرر حق قانوني لا يرتب مساءلة لصاحبه فهو ضمان يمكن المتضرر من مراقبة النيابة العمومية و تجاوز قرارها القاضي بحفظ القضية على أن المتضرر قد يسئ استعمال هذا الحق لغاية الإضرار بخصمه أو الاستفادة من الضمانات التي يوفرها القضاء الجزائي من سرعة البت و الإعفاء من الإثبات أو لتأجيل الفصل في الدعوى المدنية([242]).

ولمجابهة مثل هذا التصرف أقرّ المشرع عديد الوسائل الوقائية الهدف منها حماية المقام ضدّه الدعوى العمومية من ذلك تحجير نشر الأخبار المتعلقة بالقيام على المسؤولية الخاصة قبل البت في القضية([243])، عدم سماع القائم بالحق الشخصي كشاهد([244])، إعفاء المتهم من الحضور شخصيا أمام القضاء([245]).

وبالتوازي مع هذه الوسائل فقد رتّب المشرع عن إساءة استعمال هذا الحق وسائل زجرية ردعية من خلال ترتيب المسؤولية المدنية (أ) والمسؤولية الجزائية(ب) للقائم.

أ– المسؤولية المدنية

جاء بالفصل45 م.إ.ج” إذا صدر قرار بالحفظ إثر قيام بالحق الشخصي جاز للمتهم أن يطلب تعويض الضرر الحاصل له من جراء إثارة الدعوى العمومية …”

هذا الفصل يؤسس للمتهم حق تتبع القائم على مسؤوليته الخاصة مدنيا وذلك كجزاء لسوء استعمال حقه في إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة.

و لقيام المسؤولية المدنية للقائم بالحق الشخصي يجب توفر جملة من الشروط.

فبرجوع إلى الفصل 45 م.إ.ج فإن إثارة المسؤولية المدنية للقائم تستوجب:

– إثارة الدعوى العمومية من قبل القائم على مسؤوليته الخاصة استنادا إلى عبارة الفصل 45 م.إ.ج ” من جراء إثارة الدعوى العمومية”.

فلا يمكن تتبع القائم مدنيا إلا متى قام هذا الأخير بإثارة الدعوى العمومية على مسؤوليته الخاصة فالانضمام إلى الدعوى المرفوعة من قبل النيابة العمومية لا يخوّل المتهم الواقع حفظ القضية في حقه مطالبة القائم بالحق الشخصي بالغرم على أساس الفصل 45 م.إ.ج، كما أن الشكوى حتى و إن اقترنت بفتح تحقيق لا يخوّل القيام بهذه الدعوى باعتبار و أنه في الصورتين تكون إثارة الدعوى من قبل النيابة العمومية وتبقى إمكانية المطالبة بالغرم أمام القاضي المدني فقط أو بناء على القيام بالحق الشخصي في صورة التتبع من أجل الادعاء بالباطل([246]).

– أن يوّجه مطلب القيام صراحة الاتهام إلى شخص المتهم: هذا الشرط لم ينصّ عليه الفصل 45 م إ ج صراحة و لكن يقع استنتاجه بصفة ضمنية خاصة وأن الفقه الفرنسي أكّد عليه([247]).

– أن تكون إثارة الدعوى العمومية عن طريق إحالة القضية على التحقيق وبالتالي الادعاء مباشرة أمام المحكمة لدى المحكمة لا يخوّل المتهم المتمتع بحكم يقضي بترك السبيل من القيام بدعوى الغرم المنصوص عليها بالفصل 45 م.إ.ج. ففي هذه الحالة ليس له إلا تتبع القائم بالحق الشخصي من أجل جريمة الادعاء بالباطل حيث يمكن لمن حكم عليه بترك السبيل القيام بدعوى غرم الضرر بناء على المسؤولية التقصيرية وفقا للقواعد العامة و أمام القاضي المدني إلا إذا سبق للمتهم أن قدم طلبه في التعويض قبل تصريح المحكمة بترك السبيل و هو ما يجعلها تتعهد بدعوى الغرم وتقضي فيها في نفس الوقت([248]).

– صدور قرار بات([249]) في الحكم([250]) وهو القرار الصادر عن حاكم التحقيق أو دائرة الاتهام وانطلاقا من هذا الشرط فإنه لا يمكن إثارة مسؤولية القائم مدنيا في صورة رفض التحقيق أو صدور قرار بعدم الاختصاص لأن من شأن القرار الأول عدم ترتيب تحريك الدعوى العمومية أما القرار الثاني فيترتب عليه التخلي عن الدعوى لفائدة الجهات المختصة .

بالرجوع إلى صريح الفصل 45 م.إ.ج نلاحظ أنه لم يتضمن صراحة أساس هذه الدعوى و اكتفى بالتنصيص على مختلف الشروط التي سبق عرضها و في هذا الإطار يقع طرح التساؤل التالي هو هل يمكن اعتبار هذه الشروط المنصوص الواردة صلب الفصل 45 م.إ.ج كافية لقيام المسؤولية المدنية للقائم بالحق الشخصي أم أن المشرع أغفل ذكر شرط هام كان الأجدى به إدراجه ضمن الفصل 45 م.إ.ج؟

أكّد الفقه و فقه القضاء الفرنسي أنّ دعوى غرم الضرر التي يثيرها المتهم ذات طبيعة مدنية صرفة و التي تجد أساسها في الفصل 1382 م.م.ف المقابل للفصل83م.إ.ع المتضمن لأساس المسؤولية التقصيرية والمتمثل ضرورة في توفر عنصر الخطأ([251]). وبالرجوع إلى القانون التونسي نلاحظ غياب تشريعي حول هذه المسألة كما أن فقه القضاء حرص على تطبيق الفصل 45 م.إ.ج بحذافيره دون التعرض لأساس هذه المسؤولية([252]).

فمن الثابت أن أساس دعوى الغرم هو ضرورة تحقق خطأ القائم و ضرر المتهم و العلاقة السببية بينهما لكن الفصل 45 م.إ.ج لم يتضمن مثل هذا الشرط بصفة صريحة فكيف يمكن قيام المسؤولية المدنية للقائم بالحق الشخصي بالرغم من أن المشرع لم يشترط خطئه؟

يمكن القول أن إرادة المشرع اتجهت نحو تمكين المتضرر من نفس وضعية النيابة العمومية فكما هو ثابت فإن النيابة العمومية و رغم توفر قرينة عدم الخطأ في جانبها على أساس مبدأ عدم مسألتها([253]) فقد أقرّ المشرع في قانون 29 أكتوبر 2002([254]) إمكانية تعويض الموقوفين أو المحبوسين الذين ثبتت براءتهم عن الضرر المادي والمعنوي الذي لحقهم من جراء الإيقاف أو الحبس. و في المقابل منح إمكانية مساءلة القائم مدنيا سواء توفر الخطأ في جانبه أم لم يتوفر فكأن إرادة المشرع اتجهت نحو جعل القائم على مسؤوليته الخاصة في مرتبة النيابة العمومية له نفس حقوقها و عليه نفس واجباتها .

و تتميز دعوى الغرم بخصوصية على مستوى الإجراءات حيث يقع إقصاء النيابة العمومية من جهة، فهذه الدعوى تدور بين طرفين هما القائم على مسؤوليته الشخصية(المطلوب) و المتهم المتمتع بقرار الحفظ (المطلوب).

و استنادا إلى طبيعة الغرم المدنية فإن أهلية القيام المدنية يجب أن تتوفر في جانب القائم و بالتالي فإن قيام المتهم المحجور عليه للصغر لا يمكن قبوله إلا بواسطة وليّه الشرعي و هذا الأمر ينطبق على جميع فاقدي الأهلية أو ناقصيها لكنه لا ينطبق على وضعية المفلس حيث ليس من الضروري مساندة أمين الفلسة في هذه الدعوى.

كما أن القيام بهذه الدعوى لا يمكن قبوله تجاه شخص غير أهل بحيث يجب توجيهها ضدّ وليّه الشرعي على خلاف الدعوى الموجهة ضدّ الوكيل أو الممثل القانوني للشخص المعنوي التي لا يمكن قبولها مع الإشارة أن الخطأ الشخصي للممثل القانوني يوجب مسؤوليته لكن أمام القاضي المدني و ليس القاضي الجزائي و هو نفس الحل الواجب تطبيقه في صورة وفاة القائم على مسؤوليته الشخصية حيث توجه الدعوى ضدّ الورثة أمام القاضي المدني([255]).

من جهة أخرى دعوى الغرم تتميز بخاصية على مستوى اختصاص النظر، فبالرغم من صبغتها المدنية فإن اختصاص النظر فيها يرجع إلى المحكمة الابتدائية المنتصبة للقضاء في المادة الجناحية الواقع بدائرتها بحث القضية وذلك قصد الاستفادة من سرعة الإجراءات و من ثمة سرعة فصل النزاع.

و قد يبرر حياد المشرع عن القواعد العامة لمرجع النظر الحكمي وحياده كذلك عن مبدأ حياد القاضي المدني لقدرة هذه الدائرة أولا على البت في النزاع و ثانيا لتمتعها بسلطة التحقيق والتحري وهو ما يجعلها تحتفظ بدور ايجابي في تحديدي المسؤولية.

بالنسبة للآجال فقد نصّ الفصل 45 م.إ.ج أن مطلب الغرم يقدم في ظرف ثلاثة أشهر ابتداء من اليوم الذي أصبح فيه قرار الحفظ باتا.

و قرار الحفظ لا يصير بات إلا إذا انقضت آجال الطعن المفتوحة لكل من أعضاء النيابة العمومية و القائم بالحق الشخصي و هي أربعة أيام من تاريخ صدوره بالنسبة للنيابة و أربعة أيام من تاريخ الإعلام بالنسبة للقائم و يستثنى من ذلك قرار محكمة التعقيب القاضي برفض الطعن حيث يبدأ الآجل من تاريخ الحكم و ليس من تاريخ الإعلام([256]) .

ولقد خوّل الفصل 45 م.إ.ج و الفصل 179 م.إ.ج القائم بالحق الشخصي الصادر ضدّه حكم بالغرم غيابيا إمكانية الاعتراض.

وبتوفر الشروط الأربعة الواقع ذكرهم بصفة صريحة ضمن الفصل 45 م.إ.ج، وتحقق سوء نية القائم على مسؤوليته الشخصية أو خطئه في تقدير الأمور تقوم مسؤوليته المدنية وهي مسؤولية ذات صبغة مزدوجة مدنية من حيث الأصل و جزائية من حيث الإجراءات.

إلا أن القيام على المسؤولية الشخصية لا يرتب فقط دعوى الغرم في جانبها المدني بل تمتد أيضا لتشمل الجانب الجزائي وذلك من خلال ترتيب المسؤولية الجزائية للقائم التي تتجسم في جريمة الادعاء بالباطل.

ب – المسؤولية الجزائية

رتب المشرع مسؤولية الجزائية للقائم كردّ على تعسفه في استعمال حقه في القيام على المسؤولية الخاصة وذلك من خلال إمكانية تتبعه من أجل جنحة الإدعاء بالباطل من جهة و الحكم عليه بخطية مالية من جهة أخرى.

فقد جاء بالفصل 46 م.إ.ج أنه في “في صورة الحكم بترك السبيل يسوغ للمحكمة أن تحكم على القائم بالحق الشخصي الذي قام مباشرة على المظنون فيه بخطية قدرها خمسون دينارا بدون أن يمنع ذلك من تتبعه عند الاقتضاء لأجل جريمة الادعاء بالباطل”.

ولعل ما يثير الانتباه عند قراءة هذا الفصل هو تنصيصه على عقوبتين في جانب القائم على مسؤوليته الشخصية من أجل نفس الفعل وهو ما يخالف القاعدة القائلة بأنه لا يعاقب الشخص من أجل نفس الفعل مرتين، فالفصل 46 يقرّ عقوبة الخطية المالية كعقوبة أولية لكن هذه العقوبة المالية لا تمنع من تتبع القائم”عند الاقتضاء لأجل الادّعاء بالباطل” و هي الجريمة التي كرّسها الفصل 248 م.ج([257]).

و ما يمكن استنتاجه من صريح الفصل 46 م.إ.ج هو ولئن كانت عقوبة الخطية اختيارية بالنسبة للمحكمة فلا شئ يمنع من الجمع بين العقوبتين، خاصة إذا ما تم الأخذ بصبغة المدنية للخطية حيث اعتمدها المشرع لتسوية بينها وبين الحكم بالغرم باعتبار أن الفصل 179 م.إ.ج أقرّ قابليتها للاعتراض([258]).

و قد عرّف الفقه جريمة الادعاء بالباطل بأنها ” إخبار بواقعة غير صحيحة تستوجب عقاب من تسند إليه، موّجه إلى أحد الحكّام القضائيين أم الإداريين و يقترن بالقصد الجنائي”([259]).

وانطلاقا من هذا التعريف يمكن القول بضرورة توفر أركان جريمة الادعاء بالباطل حتى تتحقق مسؤولية المتضرر و هذه الأركان ثلاث:

– وجود بلاغ كاذب عن أمر يستوجب عقوبة لفاعله.

– أن يكون هذا البلاغ أو الادّعاء رفع إلى أحد الحكّام القضائيين أو الإداريين.

– توفر سوء النية أو قصد الإضرار لدى الواشي.

على أن المسؤولية الجزائية للقائم لا تتحقق إلا إذا توفرت شروط الفصول 45 و46 م.إ.ج و 248 م ج مجتمعة، حيث لا يمكن قيام هذه المسؤولية إلا في صورة صدور قرار حفظ عن حاكم التحقيق أو الحكم بترك السبيل المتهم، على أنه في صورة تخلف هذين الشرطين الأخيرين فإنه يمكن تطبيق الفصل 248 م.ج لكن دون التعرض إلى المسؤولية الجزائية للقائم بالحق الشخصي.

و في هذا الاطار يقع التساؤل عن المسؤولية الجزائية لذات المعنوية خاصة وأن المشرع التونسي لم يقر مساءلة الشخص المعنوي جزائيا كمبدأ عام في القانون التونسي([260]).

لكن هل يجوز مساءلة ممثلي هذه الذوات من أجل جنحة الادعاء بالباطل بناءا على حلول إرادتهم في إثارة الدعوى العمومية محلّ إرادة الذات المعنوية؟

إن مساءلة ممثلي الذات المعنوية ممكنة باعتبار أن الفصل 248 م.ج ورد عاما “كل من أوشى باطلا”، ثم أن القيام على المسؤولية الخاصة باسم الذات المعنوية لا يقصي مسؤوليتهم باعتبار أن هذا المطلب يعد من قبيل الوشاية.

(10) المبحث الثاني: الآثار بالنسبة للدعوى المدنية
إن حق إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية شرّع أساسا من أجل تحقيق غايتين: الأولى هو تعويض المتضرر عن الضرر الذي لحقه والثاني هو توقيع العقاب على الجاني.

و تبعا لذلك فإن الحق المباح للمتضرر هو حق ذو طبيعة مزدوجة فهو تعويضي من جهة و زجري من جهة أخرى.

واختصاص المحاكم الزجرية بنظر في الدعوى المدنية بالتبعية لدعوى العمومية من شأنه أن يجعل الدعوى المدنية مرتبطة بالدعوى العمومية.

ومن هنا يبرز تأثير الدعوى العمومية على الدعوى المدنية حيث أن الآثار المترتبة عن إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية تختلف بحسب ما كانت الدعوى المدنية مقترنة بالدعوى العمومية أي أنها محل نظر القاضي الجزائي الذي يبت في الدعوى العمومية و المدنية معا (الفقرة الأولى) أو مستقلة عنها أي محل نظر القاضي المدني فقط (الفقرة الثانية).

ففي صورة تعهد المحكمة الجزائية بالدعوى العمومية و الدعوى المدنية معا فإن هذا التأثير يجد سند له في الفصلين 7 و 8 م إ ج.

وهذا التأثير يمتد في صورة تعهد القضاء المدني بالدعوى بعد البت فيها من القضاء الجزائي و ذلك من خلال التمتع بقاعدة حجية الجزائي على المدني.

15) الفقرة الأولى : الدعوى المدنية المقترنة بالدعوى العمومية

يقرّ بعض الفقهاء([261]) أن إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية هو ضمان لممارسة الدعوى المدنية أمام القاضي الجزائي (أ) لكن ارتباط الدعوى المدنية بالدعوى العمومية خاصة فيما يخص آجال انقضاء (ب) من شانه أن يؤدي إلى تقلص هذا الضمان.

أ- إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الشخصية ضمان للإدعاء مدنيا أمام القضاء الجزائي

تتميز إجراءات التقاضي أمام القضاء الجزائي بالبساطة و هو ما ينعكس إيجابا على الدعوى المدنية حيث يستفيد المتضرر الذي قام بإثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة من بساطة الإجراءات و ذلك من خلال الانتفاع من نتائج البحث والتحقيق من جهة و من جهة أخرى إقامة الدليل لدى القاضي بوجود الحق وبالتالي الاستفادة من مبدأ حرية الإثبات في المادة الجزائية([262]).

فحسب الفصل 150 م.إ.ج يكون الإثبات حرّ في المادة الجزائية على خلاف المادة المدنية حيث أن البينة على من ادّعى([263]) كما أن وسائل الإثبات تكون محددة قانونا استنادا للفصل 428 م.إ.ع و ما بعده، ثم إن مبدأ حياد القاضي من شأنه أن يحول من أي دور إيجابي للقاضي في عملية الإثبات، و تبعا لذلك فإن قيام المتضرر على المسؤولية الخاصة واختياره الطريق الجزائي يضمن له إمكانية إثبات الأفعال الجنائية موضوع قيامه.

ففي صورة قبول مطلب القيام، يصبح قاضي التحقيق هو المتعهد بالإثبات حيث سيستند في إثباته إلى ما سيفضي له التحقيق من أبحاث و معاينات و اختبارات وهو ما يعجز المتضرر عن الحصول عليه لافتقاره الصلاحيات المخوّلة لسلطة التحقيق.

كما تجدر الإشارة أنه في صورة الادعاء مباشرة أمام المحكمة فإن المتضرر سيستفيد من قاعدة الفصل 150 م.إ.ج التي تؤكد بأن القاضي الجزائي يقضي بحسب وجدانه الخالص. ففي بعض الحالات قد يقضي القاضي بإدانة المتهم لا لشيء سواء لتمكين المتضرر من التعويض.

وعلى هذا الأساس يقع الإقرار بأن إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة هو يضمن للمتضرر التمتع بحقوقه المدنية خاصة في صورة صدور حكم بالإدانة.

فإذا أصدر القاضي الجزائي حكما لصالح الدعوى العمومية، فإنه يترتب عن ذلك النظر مباشرة في الدعوى المدنية على أن ذلك لا يكون إلا بعد التثبت من الشروط الواجب توفرها في هذه الدعوى من ذلك الضرر وعلاقته المباشرة بالفعل محل الإثارة و مدى إمكانية قبول هذه الدعوى أمام المحكمة.

و إذا ما تبين للقاضي الجزائي وجاهة الإدّعاء المدني وقابليته للفصل، فإنه يصدر ضمن الحكم القاضي بالإدانة حكما يقضي بتعويض المتضرر القائم على المسؤولية الخاصة.

وعند تقدير التعويض فإنه يقع مراعاة وضعية المتضرر الذي قبلت دعواه الأولى بالحفظ، والذي تكبد عناء القيام على المسؤولية الخاصة لإثبات تضرره من جهة و معاقبة الجاني من جهة أخرى.

ولضمان تمتع المتضرر بحقوقه المدنية والحصول على التعويض المناسب فقد مكّن المشرع المتضرر القائم على المسؤولية الخاصة من الطعن بالإستئناف و بالتعقيب في الحكم الجزائي المجحف بحقوقه المدنية([264]).

وقد أقرّت الدوائر المجتمعة في قرار لها صادر بتاريخ 25 أكتوبر 2001 أن طعن القائم في حقوقه المدنية من شأنه إحياء الدعوتين الجزائية و المدنية، و قد يؤدي إعادة تقدير الأدلة و النظر فيها من جديد إلى تعديل مقدار التعويض. وهو ما يؤكد أن إثارة الدعوى العمومية على المسؤولية الخاصة هو ضمان لتمتع المتضرر بحقوقه المدنية، لكن هذا الضمان يتقلص لارتباط الدعوى المدنية بمآل الدعوى العمومية.

ب- ارتباط الدعوى المدنية بآجال انقضاء الدعوى العمومية

جاء بالفصل 8 م.إ.ج ” تسقط الدعوى المدنية بنفس الشروط و الآجال المقررة للدعوى العمومية الناتجة عن الجريمة التي تولد عنها الضرر.” و ينصّ الفصل 4 من نفس المجلة على أن الدعوى العمومية تنقضي بموت المتهم، بمرور الزمن، بالعفو العام، بنسخ النص الجزائي، باتصال القضاء، بالصلح إذا نص القانون على ذلك صراحة، بالرجوع في الشكاية إذا كانت شرطا لازما بالتتبع و الرجوع بالنسبة لأحد المتهمين يعد رجوعا بالنسبة للباقين.

و من خلال هذين الفصلين نتبين مدى ارتباط الدعوى المدنية بالدعوى العمومية، حيث تنقرض الدعوى المدنية بالتبعية لانقراض الدعوى العمومية في صورة مرور الزمن و في صورة إبرام الصلح، لكن في بقية الحالات المنصوص عليها ضمن الفصل 4 فإنه يترتب عن انقراض الدعوى العمومية التخلي عن الدعوى المدنية.

* انقراض الدعوى العمومية:

تنقرض الدعوى المدنية بالتبعية لدعوى العمومية في صورة مرور الزمن و في صورة إبرام الصلح.

– مرور الزمن: تنقضي الدعوى العمومية بمرور الزمن لعدم إثارتها وممارستها من طالبها سواء كانت السلطة الأصلية كالنيابة العمومية والإدارات التي أعطها القانون هذا الحق أو السلطة الخاصة أو الاستثنائية المتمثلة في المتضرر.

و قد نصّ الفصل 5 م.إ.ج أن آجال سقوط الدعوى العمومية هو 10 سنوات بالنسبة للجنايات و 3 سنوات للجنح و سنة كاملة للمخالفات.

و استنادا للفصل 8 فقرة أولى فإن هذه الآجال تنطبق على الدعوى المدنية تطبيقا لمبدأ التضامن([265]) بين الدعوتين العامة و الخاصة من حيث آجال السقوط.

و تطبيق هذه الآجال على الدعوى المدنية يمثل استثناءا لقواعد القانون المدني الذي يقضي بسقوط الدعوى المدنية بمرور 15 سنة من تاريخ حصول الضرر استنادا لمقتضيات الفصل 115 م.إ.ع.

على أنه تجدر الإشارة أن الدعوى المدنية تتحرر من آجال تقادم الدعوى العمومية و تخضع لأحكام الفصل 115 م.إ.ع في دعوى استرجاع مسروق موضوع الفصل 19 م.ج التي تتأسس على حق الملكية لا على الجريمة([266]).

ويبرر الفقه سقوط الدعوى بمرور الزمن بعامل النسيان فعدم إثارة الدعوى العمومية ضدّ المتهم لمدة طويلة من شأنه أن يمحو النتائج المادية و المعنوية للجريمة، وبمرور الزمن تندثر وسائل الإثبات مما يعقّد سير العدالة و يجعلها غير قادرة على أداء مهمتها([267]) .

– الصلح: قد تنقضي الدعوى العمومية بموجب الصلح إذا نص القانون على ذلك صراحة و في هذا الإطار نجد العديد من النصوص القانونية التي تنصّ على إمكانية إبرام الصلح.

فقد نص الفصل 31 من مجلة الصرف والتجارة الخاريجية أن لوزير المالية أو لمن يمثله إبرام الصلح مع مرتكب الجريمة. كما أن الفصل 322 من مجلة الديوانة خوّل لإدارة القمارق إبرام الصلح مع الأشخاص الواقع تتبعهم من أجل مخالفة أو جنحة ديوانية حيث يوقف الصلح المحاكمة.

كما أن قانون عدد 64 لسنة 1991 المؤرخ في 29 جويلية 1991 المتعلق بالمنافسة و الأسعار نصّ في الفصل 59 أن لوزير الاقتصاد أن يجري صلحا في المخالفات التي ترجع له معاينتها و تتبعها بمقتضى هذا القانون.

ويمكن أن يحصل الصلح مع المتضرر من الجريمة الذي يمكنه أن يسقط دعواه مثل الصورة المنصوص عليها صلب الفصل 218 م.ج و هي صورة الاعتداء بالعنف الشديد من الخلف على السلف، فإسقاط السلف المعتدى عليه دعواه يوقف المحاكمة.

و يؤدي الصلح المبرم بين الأفراد أو بين الإدارة و الأفراد طبق القانون إلى انقضاء الدعوى العمومية و ينقضي بموجبه طلب التعويض عن الضرر الناشئ عن الجريمة أمام المحكمة الجزائية لأنه يعدّ تنازلا من المتضرر عن حقوقه المدنية و لا يمكن له الرجوع فيه لاحقا.

* التخلي عن الدعوى المدنية:

– موت المتهم: يقتضي مبدأ شخصية العقوبة عدم مواصلة تتبع شخص فارق الحياة.

فموت المتهم يسقط الحق في إثارة الدعوى العمومية مهما كان وقت الوفاة، وذلك ما لم يصدر حكم أحرز قوة اتصال القضاء.

و يقع التساؤل في هذه الحالة عن مآل الدعوى المدنية فهل تنقضي بالتبعية لدعوى العمومية بموجب موت المتهم أم تبقى من أنظار القاضي الجزائي؟

اعتمد فقه القضاء التونسي على قاعدة الفصل 170 م.إ.ج التي تقضي بالتخلي عن الدعوى الخاصة إذا كانت الفعلة لا تتألف منها جريمة أو أنها غير ثابتة أو أنه لا يمكن نسبتها لمتهم، و تبعا لذلك فإنه في صورة موت المتهم تنقضي الدعوى العمومية و يقع التخلي عن الدعوى المدنية.

فليس من المعقول أن تستمر المحكمة الجزائية و خاصة في الطور الابتدائي بالنظر في الدعوى المدنية متى انقرضت الدعوى العامة بموجب الوفاة، لذلك يبدو من الوجيه التخلي عن الدعوى الخاصة أي منع المحاكم الجزائية من النظر في الدعوى المدنية في صورة وفاة المتهم قبل نهاية النظر في الدعوى العامة باعتبار أن المتهم لم يدافع عن نفسه و من الأولى إرجاع المتضرر صاحب الدعوى المدنية إلى المحكمة المختصة أصلا بالنظر في الدعوى المدنية([268]).

على أن اتجاه أخر يقر بأن انقراض الدعوى العامة أثناء نشر القضية بسبب الوفاة لا يؤثر على الدعوى المدنية و تبقى المحكمة الجزائية صاحبة النظر([269]).

– نسخ النص الجزائي: إن نسخ النص الجزائي من طرف المشرع هو إلغاء الصبغة الإجرامية للأفعال موضوع التتبع و يؤدي ذلك إلى انقضاء الدعوى العمومية.

فإذا تعهدت المحكمة الجزائية بأفعال لها صبغة جزائية ثم ألغى نص القانون الصبغة الجزائية لهاته الأفعال، لم يعد هناك موجب على المحكمة الجزائية مواصلة النظر في الدعوى العمومية لانقضائها، حيث يجب عليها أن تقضي بتخليها عن الدعوى المدنية التي أثيرت بتبعية لدعوى العمومية لانتفاء الركن الشرعي للجريمة استنادا لأحكام الفصل 170 من م.إ.ج الذي ينص على أنه “إذا رأت المحكمة أن الفعلة لا تتألف منها جريمة… فإنها تحكم بترك سبيله. وإذا كان هناك قائم بالحق الشخصي تتخلى المحكمة عن النظر في الدعوى الشخصية…”.

– اتصال القضاء: يعني عدم إثارة الدعوى العمومية و إجراء التتبعات من جديد بخصوص أفعال محددة سبق الحكم فيها أو اتخاذ قرار حفظ في شأنها و تمّ إمّا استنفاد كافة وسائل الطعن بشأنها أو أن الأطراف لم يعد لهم حق الطعن في ذلك الحكم أو القرار لفوات الأجل([270]).

و قد أقر المشرع “اتصال القضاء” كسبب من أسباب انقضاء الدعوى العمومية حتى تبقى للأحكام هيبتها و لتلافي ما قد يحصل من تناقض في الأحكام.

– الرجوع في الشكاية : في بعض الحالات تكون إثارة الدعوى العمومية غير ممكنة إلا بعد صدور شكوى من المتضرر مثل جريمة الزنا حسب مقتضيات الفصل 236 م ج.

وفي هذه الحالة يكون التتبع معلق على شكاية المتضرر الذي خوله القانون التراجع عنها وهو ما يؤدي إلى انقضاء الدعوى العمومية و من ثمة التخلي عن الدعوى المدنية.

– صدور عفو عام: القاعدة القانونية تقتضي أن الدعوى العمومية تنقضي بصدور عفو عام على أن الفصل 377 م.إ.ج ينصّ في فقرته الأخيرة على أن “العفو العام لا يضر بحقوق الغير لا سيما القائم بالحق الشخصي..”

و تبعا لذلك نستنتج أن انقراض الدعوى العمومية بموجب العفو العام لا تأثير له على حق المتضرر في المطالبة بالتعويض. لكن الإشكال الذي يطرح ما هو الحل في حال صدور العفو العام و الدعوى العمومية مازالت منشورة أمام القضاء الجزائي فهل يواصل هذا الأخير النظر في الدعوى المدنية أم أنه يتخلى عنها و في هذه الحالة لا يكون أمام المتضرر القائم بالحق الشخصي سواء الرجوع إلى المحكمة المدنية؟

فيما يخصّ المشرع و فقه القضاء التونسي نلاحظ صمت بخصوص هذه المسألة على خلاف فقه القضاء الفرنسي الذي يقر بمواصلة المحاكم الجزائية النظر في الدعوى الخاصة بالرغم من صدور قانون العفو العام([271]).

تتأثر الدعوى المدنية بالدعوى العمومية فترتبط بها إمّا ارتباطا مطلقا فتنقرض بانقراضها أو نسبيا ممّا يؤدي إلى تخلي المحكمة الجزائية عن النظر فيها([272]) وهو ما قد يهدد حقوق القائم في حصوله عن التعويض وفي هذه الحالة لا يكون أمام المتضرر سواء القيام أمام القاضي المدني.

16) الفقرة الثانية: الدعوى المدنية المستقلة عن الدعوى العمومية

انطلاقا مما سبق عرضه نتبين أن انقراض الدعوى العمومية أو صدور حكم بالبراءة لصالح المتهم يؤدي إلى التخلي عن الدعوى المدنية، و هو من شأنه أن يجعل القائم يتجه بدعواه إلى القاضي المدني، لكن في هذه الصورة فإن المتضرر يكون في مواجهة قاعدة هامة هي قاعدة حجية الحكم الجزائي على المدني(أ) وهو ما يبين مدى ارتباط الدعوى المدنية بالدعوى العمومية لكن مثل هذا الإقرار لا يجب الأخذ على إطلاقه باعتبار أن الدعوى المدنية في بعض الصور تتحرر من تبعيتها لدعوى العمومية (ب).

أ- قاعدة حجية الحكم الجزائي على المدني

يفيد هذا المبدأ أن القاضي المدني يكون ملزما بعدم النظر فيما بت فيه القاضي الجزائي وأن يقبل ما أكدّه الحكم الجزائي على أنه حقيقة ثابتة([273]) .

وفي غياب نص تشريعي صريح بالقانون التونسي يكرّس مبدأ “حجية الحكم الجزائي البات على الدعوى المدنية” حاول الفقه و فقه القضاء البحث عن أساس قانوني له ضمن نصوص متفرقة، وتجدر الإشارة أن هذا المبدأ أخذه فقه القضاء التونسي عن نظيره الفرنسي الذي بدوره يفتقد لنص قانوني صريح يقر هذا المبدأ.

و قد حاول الفقه و فقه القضاء في تونس الاعتماد على بعض النصوص القانونية لتأصيل هذا المبدأ من خلال الاستناد إلى الفصل 7 م.إ.ج فقرة ثانية جاء فيه أنه ” يمكن القيام بها – الدعوى المدنية- في آن واحد مع الدعوى العمومية أو بانفرادها لدى المحكمة المدنية و في هذه الصورة يتوقف النظر فيها إلى أن يقضي بوجه بات في الدعوى العمومية التي وقعت إثارتها…” فالجزائي يوقف النظر في المدني([274])، هذا الفصل يقر بصفة ضمنية هذه القاعدة لأن إيقاف النظر في الدعوى المدنية هدفه تقيد القاضي المدني بالحكم الجزائي البات([275]) . على أن هذا الرأي تعرض للنقد لأهمية هذه القاعدة بالنسبة لأصل النزاع و هو ما يفرض إقرارها بصفة صريحة من المشرع.

كما أن القراءة العكسية للفصل 101 م.إ.ع يمكن اعتمدها كأساس لمبدأ حجية الجزائي على المدني.

لكن مثل هذا التوجه من شأنه أن يحدّ من نطاق حجية هذا المبدأ إذ أنه سيحصره في الأحكام القاضية بالإدانة فقط دون الأحكام القاضية بالبراءة([276])، و هو ما يتعارض مع ما استقر عليه فقه القضاء الذي يؤكد أن الحكم الجزائي له حجية على القاضي المدني سواء قضى بالإدانة أو بالبراءة([277]).

و هو ما أدّى إلى الاستناد إلى أحكام الفصل 443 م.إ.ع الذي يقرّ بأن الأحكام القضائية تعدّ من الحجج الرسمية وهو ما أكدته محكمة التعقيب لتأصيل قاعدة حجية الحكم الجزائي على المدني([278]). كما أنها اعتبرت أن هذه القاعدة هي من القواعد التي تهم النظام العام([279]).

و لهذا المبدأ حجية مطلقة في صورة صدور حكم بالإدانة على أن هذه الحجية تتراجع في صورة صدور حكم بالبراءة.

فإذا أصدر القاضي الجزائي حكما لصالح الدعوى يقضي بإدانة المتهم فإن القاضي المدني يكون مقيدا بهذا الحكم باعتبار أن الخطأ الجزائي يستوعب الخطأ المدني.

لكن في صورة صدور حكم بالبراءة فنلاحظ تذبذب في موقف فقه القضاء الذي لم يستقر على رأي معين. فالبعض يعتبر أن الحجية المطلقة التي يكتسبها الحكم الجزائي البات القاضي بالبراءة على القاضي المدني تحول دون الحكم بالتعويض مهما كان أساس طلب التعويض([280]).

فالحكم الجزائي يكتسي حجية مطلقة تجاه الكافة و في جميع المسائل التي قضى فيها القاضي الجزائي سواء بإقرار الخطأ أو نفيه.

و قد اعتبرت محكمة التعقيب أن اتصال القضاء جزائيا يقيّد المحكمة المدنية بحيث لا يمكن لها أن تعيد النظر أصلا فيما أثبته الحكم الجزائي([281]).

على أن اتجاه أخر يرى بأن للحكم الجزائي البات القاضي بالبراءة له حجية نسبية على القاضي المدني إذ يمكن لهذا الأخير أن يقضي بالتعويض رغم تصريح القاضي الجزائي بانتفاء خطأ في جانب المتهم حيث يكون أساس حكم القاضي المدني بالتعويض هو خطأ الغير القصدي و الحال أن الحكم الجزائي ببراءة المتهم يكون على أساس انتفاء الخطأ القصدي([282]).

و هذا التمشي لا يمكن اعتماده إلا في صورة تبني فكرة ازدواج الخطأ المدني و الجزائي.

و بالرغم من كل هذه الاختلافات التي سبق عرضها حول تأصيل هذه القاعدة و مدى حجيتها، فإنها تظل ثابتة لأهميتها بالنسبة لنظام الاجتماعي الذي يرفض التناقض بين الأحكام الجزائية و الأحكام المدنية.

على أن هذه القاعدة ليست مطلقة باعتبار أن مثل هذا الإقرار قد يتعارض مع مصلحة المتضرر الذي يبحث عن تعويض لضرر الذي لحقه خاصة إذا كان متضرر بالفعل وعجز عن إثبات حقه وهو ما يستوجب تأسيس حدود لهذا المبدأ.

ب – حدود هذه القاعدة

إن الأخذ بقاعدة حجية الحكم الجزائي على المدني بصفة مطلقة من شأنه أن يضر بحقوق المتضرر الذي قبلت دعواه الأولى بالحفظ فقرر إثارتها على مسؤوليته الشخصية لكن بالرغم من ذلك لم يصدر حكم لصالحه.

ففي هذه الحالة لا يبقى له سواء اللجوء إلى القضاء المدني من اجل المطالبة بالتعويض لكن ذلك لا يكون ممكن إلاّ بعد إقرار إمكانية استقلال الدعوى المدنية عن الدعوى العمومية.

حيث يمكن تأسيس هذا التعويض على أحكام الفصل 101 م.إ.ع الذي جاء فيه أن ” الحكم الصادر من مجلس جناحي بترك سبيل المتهم لا يؤثر في مسألة تعويض الخسارة الناشئة من الفعل الذي قامت به التهمة.”

يجمع الفقه على أن هذا الفصل يكرس فكرة ازدواجية الخطأ الجزائي و الخطأ المدني و اختلافهما. و هو ما يتعارض مع مبدأ حجية الحكم الجزائي على المدني الذي يرتكز على فكرة وحدة الخطأ الجزائي و المدني. و تتأكد هذه الازدواجية من خلال اختلاف المصالح المحمية في كل من الجزائي و المدني والتي تقتضي من القاضي الجزائي اعتماد معيار ذاتي شخصي للبحث في خطأ المتهم في حين يعتمد القاضي المدني معيارا موضوعيا([283]).

و المشرع انطلاقا من الفصل 101 م.إ.ع يؤكد على أن انتفاء المسؤولية الجزائية لا يمنع من قيام المسؤولية المدنية على نفس الأفعال التي أثار القائم على أساسها الدعوى العمومية على مسؤوليته الشخصية.

كما أن المتضرر قد يعجز عن إثبات حقه جزائيا لعدم توفر الأدلة الكافية لإدانة الفاعل جزائيا مما يؤدي إلى صدور حكم يقضي ببراءة المتهم لكن قد يترتب عن أفعاله أضرار يتعين جبرها، لذلك لا يمكن الاحتجاج ببراءة المتهم للتفصّي من المسؤولية المدنية.

و لقد كرّست محكمة التعقيب استقلالية الدعوى المدنية عن الدعوى العمومية استنادا لأحكام الفصل 101 م.إ.ع حيث اعتبرت أن” الفصل 101 م.إ.ع يجب أن يؤخذ على معنى عدم تأثير الأحكام الجزائية الصادرة ببراءة المتهم على التعويض و ذلك في خصوص الجنحة التي انقرضت بسبب قانوني كالوفاة أو العفو العام”([284]).

و إلى جانب إمكانية التعويض على معنى الفصل 101 م.إ.ع فإن الفقه وفقه القضاء عمل على مزيد تكريس استقلال الدعوى المدنية عن الدعوى العمومية وذلك من خلال إمكانية التعويض على أساس الفصل 96 م.إ.ع.

جاء بالفصل 96 م.إ.ع أنه ” على كل إنسان ضمان الضرر الناشئ ممّا هو في حفظه إذا تبين أن سبب الضرر من نفس تلك الأشياء إلا إذا أثبت ما يأتي:

أولا: انه فعل كل ما يلزم لمنع الضرر.

ثانيا : أن الضرر نشأ بسبب أمر طارئ أو قوة قاهرة أو بسبب من لحقه.”

وانطلاقا من هذا الفصل يمكن الإقرار بأن الخطأ الجزائي لا يكون دائما مطابقا للخطأ المدني باعتبار أن القانون الجزائي لا يعاقب إلا على الأفعال الشخصية فالشخص لا يسأل جزائيا إلا عن فعله الشخصي وذلك تكريسا لمبدأ شخصية العقوبة فالمبدأ أن لا يمكن إدانة شخص من أجل فعل ارتكبه الغير إلا في بعض الحالات الاستثنائية كالجرائم الاقتصادية.

على أنه في المادة المدنية فإنه يمكن مسألة الشخص مدنيا من أجل فعله الشخصي أو فعل الغير أو حتى من أجل حفظه لأشياء قد ترتب ضررا.

لكن هذا الرأي لم يسلم من النقد على مستويين، أولهما هو أن محكمة التعقيب وقعت في خلط بين المسؤولية الشخصية موضوع الفصل 83 م.إ.ع والمسؤولية الشيئية موضوع الفصل 96 م.إ.ع حيث قضت في إحدى قراراتها بأن ” المسؤولية الواردة بالفصلين 96 و 101 من م.إ.ع هي نفس المسؤولية التقصيرية التي جاء بها الفصل 83 وإنما الخلاف بينهما هو في خصوص حمل عبئ الإثبات هل هو على المتضرر حسب المبدأ العام الذي جاء به الفصل 83 أو على من وقع منه الضرر حسب الفصل 96.”([285])

و يمكن القول بان هذا الخلط ساعد على تكريس مبدأ حجية الحكم الجزائي على المدني.

من ناحية أخرى فإن هذا موقف من شأنه أن يفرغ الفصلين 96 و 101 من م.إ.ع من كل محتواهما. ذلك أن محكمة التعقيب تصر على أن الفصل 101 م.إ.ع لا يشير إلا لأمرين هما سقوط الدعوى العمومية بسبب الوفاة أو لصدور عفو عام([286])، و هو ما يتعارض مع صريح الفصلين خاصة أنه تم حذف صورة الحكم بالبراءة المنصوص عليها بالفصل 101 م.إ.ع.

و لتدارك مثل هذا الموقف برز اتجاه جديد في موقف محكمة التعقيب حيث أكدّه قرار لها صادر سنة 1986 جاء فيه أن ” القضاء جزائيا ببراءة مرتكب الحادث من تهمة القتل و الجرح على وجه الخطأ لانتفاء خطئه لا يمنع من القيام وفق أحكام الفصل 96 من المجلة المدنية بطلب تعويض الضرر الناشئ عن نفس الجريمة ولا يقيّد بالتالي القاضي المدني لأن الخطأ المدني في هذه الحالة ليس بخطأ شخصي يمكن أن يتجسم من الخطأ الجزائي في القصور أو عدم الاحتياط أو عدم التنبيه .. وإنما هو خطأ في الحفظ أي في الإخلال بواجب قانوني يفرض على الإنسان حراسة الشيء الذي هو في حفظه.”([287])

و هذا القرار يؤكد نسبية مبدأ حجية الجزائي على المدني و إمكانية التعويض على أساس الفصل 96 م إ ع، لكنه لا يعبر عن اتجاه موحد للموقف فقه القضاء.

و لتجاوز هذه الاختلافات والتضارب في المواقف تدخلت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة سنة 1995 بإصدارها مجموعة من القرارات المتعلقة بالفصل96م.إ.ع تبين فيها أن الفصل 96 م.إ.ع يحتوي على قرينة مسؤولية وأن القاضي المدني بإمكانه إلزام حافظ الوسيلة المتسببة في الضرر بالتعويض رغم صدور حكم جزائي يقضي ببراءة هذا الأخير لأن الدعوى المدنية ليست مؤسسة على الخطأ الشخصي و بناءا عليه فإن الحكم الجزائي القاضي بعدم سماع الدعوى العمومية لا يقيّد القاضي المدني الذي يؤسس حكمه على الفصل 96م.إ.ع([288]).

و في الأخير تجدر الملاحظة أن المشرع التونسي لم يحدد نطاق الدعوى المدنية التابعة لدعوى العمومية على أنه بالرجوع إلى أحكام الفصل 1 م.إ.ج وقع حصر هدف أو غاية هذه الدعوى في الحصول على تعويض الضرر المترتب من الجريمة.

لكن الادعاء مدنيا أمام القاضي الجزائي قد يكون الهدف منه طلب أخر غير طلب التعويض كطلب إرجاع الحالة لما كانت عليه فمثلا في جنحة افتكاك حوز بالقوة بالنسبة للعقار مسّح ففي هذه الحالة تقضي المحكمة في نفس الحكم بإرجاع الحوز للمتضرر بناء على طلبه صلب دعواه المدنية([289]).

و باستقراء بعض النصوص القانونية نلاحظ أن الدعوى المدنية تتجاوز طلب التعويض لتشمل الترجيع([290]) و كذلك دفع المصاريف القانونية و الحجر و نشر مضمون الحكم.

(11) الخاتمة

تعبّر لدعوى العمومية عن حق الدولة في ملاحقة مرتكب الجريمة وتقديمه للقضاء لتوقيع العقاب عليه[291]. و ذلك لا يكون إلا من خلال إثارة الدعوى العمومية التي هي في الأصل سلطة مخوّلة للنيابة العمومية تمارسها باسم المجتمع نيابة عنه ولمصلحته و ذلك من خلال الالتجاء للقضاء للوصول إلى إثبات وجود فعل إجرامي معاقب عنه وإقامة الدليل على مرتكبه وتوقيع العقوبة المقررة له قانونا.

فإثارة الدعوى العمومية وممارستها هي من خصائص الحكّام و الموظفين الذين أناطها القانون بعهدتهم، على معنى الفصل 2 م إ ج. فالنيابة العمومية عي السلطة الأصلية لإثارة الدعوى العمومية لكن المشرع مكّن الإدارة أيضا من هذه السلطة لتمتعها بوسائل تقنية و فنية قد تفتقر لها النيابة العمومية .

كما قد تلحق الجريمة أضرار شخصية تصيب المعتدى عليه في ماله أو سلامه بدنه أو في حقوقه المعنوية، فيترتب عن هذا الضرر نشأة حقه في التعويض، ويقع ذلك عن طريق الدعوى المدنية، وبذلك تكون الجريمة سببا قانونيا للقيام بدعويين، دعوى عمومية تمارسها السلطة العامة بواسطة جهاز هو النيابة العمومية ، ودعوى مدنية يمارسها المتضرر أو ما يطلق عليه اصطلاحا القائم بالحق الشخصي وذلك بصفة موازية للدعوى العمومية أو بصفة مستقلة عنها مثلما نص على ذلك الفصل 1 م إ ج.

فقد سعى المشرع من خلال إثارة الدعوى العمومية إلى تحقيق التوازن بين مصلحة الفرد و مصلحة المجتمع حتى لا يفلت مجرم من عقاب و ذلك بتكليف أجهزة مختصة لها الكفاءة القانونية و التقنية على تتبع مرتكب الجريمة.