أهمية ثقافة الوعي بالقانون

للمستشار الدكتور / خالد القاضي
رئيس المركز المصري لتنمية الوعي بالقانون

مقدمة :

نوضح بداية أن ثقافة الوعي بالقانون ، ليس مجرد معرفة التشريعات والنصوص القانونية، كما أنها لا تعني تلك المناقشات النظرية والندوات القانونية التي تدور بين أوساط رجال القانون المتخصصين، من أساتذة وفقهاء، وقضاة ومحامين، وغيرهم من رجال القانون والقضاء، والتي كثيرًا ما تبدو خارج الاهتمامات المباشرة للمواطن.. بل إن الوعي بالقانون هو صورة متمازجة وشاملة لكل أنواع الثقافة العامة في المجتمع وفي مقدمتها الوعي الاجتماعي، وهذا يعني استيعاب المواطن – كركن من الأركان المكونة للمجتمع – لكل ما يدور حوله من علاقات ومفاهيم وأهداف من خلال تصورات قانونية سليمة.. بأن يتبنى هو بذاته القانون، وأن يعتبره قيمة من القِيَم التي يحترمها، وأن يتعامل مع واجباته بوصفها شيئًا وُجِد لمصلحته، حاضرًا له، ومستقبلا لأبنائه، وهو أمر لا يتأتى إلا من خلال وعيه بضرورة وجود القانون في حياته، وبفائدته، وبأنه جزء لا يتجزأ من مسؤوليته الشخصية، وهو واجب وطني وأخلاقي لا مِراء فيه .. وهذا ما يدعوه إلى أن يفكر – غير مرة – فيما قد تجره عليه إقامة الدعوى – بدون وعي قانوني- وما يمكن أن يسلكه من بدائل لإقامتها، أو الاستمرار في سجلات قضائية سقيمة لا جدوى منها سوى إطالة أمد نظر الدعوى .. وكذلك تعميق إدراكه بأن هناك ناظمًا موضوعيًا يحكم علاقاته، وهو القانون .. الذي يستظل الجميع بحمايته إنصافًا للحق، أو يقع تحت طائلته حسابًا وعقابًا !!

ولا يكفي أن يسير محور التوعية بالقانون إلى حدّ تبسيط مفاهيمه بنشر الثقافة القانونية بين مختلف فئات المجتمع المختلفة فحسب، بل يتوازى ذلك الوعي مع محور رفع المستوى الثقافي العام للمُواطِن، بُغِيَة استيعاب القانون، بحيث يتناغم ويتكامل المحوران بما يحقق تبسيط القانون أمامه من ناحية، ورفع المستوى الثقافي العام لديه من ناحية أخرى؛ وبذلك يصبح قادرا على تقبُّل أوامره ونواهيه بشكلٍ سليمٍ، وليس بالتسليم والاستسلام المشوب بالخوف من مجرد ذكره! بما يُسهّل للجميع مُدارسة الحد الأدنى (الكافي) من مفردات اللغة القانونية في سياق ثقافته العامة.

إذًا فالوعي بالقانون ضرورة وجود للإنسان أيًّا كان موقعه أو وظيفته وحرفته، وتحقيق هذا الهدف ليس بالأمر الهين اليسير بل يتطلب – في تقديري – وضع خطة قومية تنفيذية واضحة، تتساند فيها الوزارات والمحافظات والهيئات والمؤسسات الحكومية جنبًا إلى جنبٍ مع جهود مراكز البحوث والدراسات والإعلام والجهاز التعليمي والتربوي الخاص والمؤسسات والجمعيات الأهلية، مع التأكيد على الدور المهم للمساجد ودُور العبادة والمؤسسات الدينية، والتسليم بأن دورها لا يقتصر على أداء العبادات فقط، بل هي مؤسسات ذات تأثيرٍ هامٍ، ولها دور حيوي في تعبئة المواطنين، وتهيئتهم النفسية لتقبُّل الواجبات العامة التي يفرضها القانون على الجميع.

مفهوم التشريع وأنواعه :

التشريع هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد داخل الدولة ويشمل الدستور والقوانين واللوائح على اختلاف مسمياتها وأنواعها وأدواتها التشريعية من دولة لأخرى.. والتشريع مرآة أي أمة يعكس مصادرها وأدوارها، ويقنن أعرافها وتقاليدها.. والتشريع كائن حي.. يولد.. وينمو.. ويحقق أهدافه ومراميه في الحياة.. ثم لا يكاد.. يذبل.. ويهرم.. ويشيخ.. فبقاء التشريعات- عدا التشريعات السماوية- زمنا طويلا أمر يقترب من الاستحالة.. ذلك أنه مهما بلغت التشريعات من قوّة فإن ثمة عوامل وتداعيات عديدة تقتضي التعديل والاستبدال والإلغاء كذلك.. فقوة التشريع الحقيقية ليست في قدرته على الثبات والصمود، بل مدى مواءمته للمتغيرات المجتمعية- ومن ثم- استجابته لها، بما يعكس تلبية حاجة المخاطَبين بأحكامه، فالقاعدة القانونية تتسم بالعمومية والتجريد والحياد والإطلاق.

والمشرِّع عندما يبدأ في معالجة موضوع ما.. يجب عليه أولا أن يحدد الأهداف التي ينوي تحقيقها، ثم الحق الذي يحتاج إلى الحماية أو الرعاية القانونية، وأخيرا السياسة التشريعية التي في نطاقها يرى تلك الأهداف وذلك الحق.
وفي مجال التمييز بين الصياغة التشريعية والسياسة التشريعية يأتي التمايز بينهما في الإطار النظري، فالصياغة هي التجسيد العملي للسياسة التشريعية المتبعة، وإذا كانت السياسة هي الهدف الخفي الذي لا يبوح فيه، فإن للصياغة مقوماتها ومهاراتها المتمثلة بمهارات وقدرات لغوية وقانونية تمكِّن الصائغ من نسج أحكام تعبِّر عن معنى النص وروحيته دون لبس أو غموض.
وهناك فرق بين وجود التشريع وفاعليته.. فوجود التشريع يتمثل في صدوره شكلا من السلطة التي تملك إصداره وفقا لأحكام الدستور وللقواعد والإجراءات التي وضعها لسنّ التشريع، أما فاعلية التشريع فلا تكون إلا بكفالة التغلغل الاجتماعي لأحكامه في نسيج حياة وعلاقات المجتمع، ولا يكفي لذلك أن تقف سلطة الدولة وراء القاعدة التشريعية تمدها بالهيبة والنفوذ، بل لا بد لتحقق هذه الفاعلية من اقتناع أفراد المجتمع بأن تطبيق أحكام التشريع شرط لازم لحُسن سير حياتهم الاجتماعية وضبط علاقاتهم.

القانون عِلم وصياغة :

ويُقصد بالعلم المادة الأولية التي تتكون منها القاعدة القانونية وهي تنحصر في المعطيات الطبيعية وهي الظروف التي يوجد فيها الإنسان والتي يعيش في ظلها سواء كانت ظروفا مادية أو معنوية كالحالة النفسية والخُلُقية والدينية… إلخ.. والمعطيات التاريخية وهي التراث الذي خلّفته الأجيال السابقة من البشرية في مجال ينظم علاقاتها الاجتماعية من عُرف وعادات وتقاليد والتطورات التي مرّ بها هذا التراث.. ثم تأتي المعطيات العقلية أو الحقائق العقلية وهي تلك القواعد التي يمكن أن يستخلصها العقل من الحقائق الطبيعية والتاريخية، وفي كل الأحوال يجب عرض تلك الحقائق على العقل البشري حتى يتولى تمحيصها وتحليلها ومعرفة مدى استجابة هذه المواد للصياغة التي تحقق غاية النظام القانوني.. وأخيرًا المعطيات المثالية، وهي وإن لم تكن واضحة المضمون إلا أنه بشكل عام يمكن تلخيصها في أنها آمال البشرية وأمانيها وطموحاتها المستمرة نحو النهوض بالقوانين وتطويرها. وبهذا تكون المعطيات المثالية قادرة على التأثير في المعطيات الثلاثة السابقة.

أما الصياغة القانونية فهي العنصر الخاص من عنصري القاعدة القانونية، فالعنصر الأول هو العلم (المادة الخام)، ويأتي بعد ذلك عنصر الصياغة القانونية التي تتولى تحويل المواد الخام إلى نصوص تشريعية ميسورة قابلة للفهم والتطبيق.. فبعد أن يجمع المشرِّع المواد الأولية التي يصنع منها القواعد القانونية، وتتمثل هذه المواد في الحقائق والمعطيات الأربعة السابق بيانها، وبإعمال واستعمال وسائل الصيغة القانونية يتم وضع المعطيات في قوالب أو نماذج تشريعية تجعلها ميسورة التطبيق. والصياغة القانونية طريقة وضع تعني فن الوسائل القانونية التي يجب على المشرِّع أن يحيط بها ويستوعبها، فهي التي تُعينه على تحقيق الغرض الذي رسمته السياسة التشريعية والأهداف المحددة للتشريع.

الواقع التشريعي في مصر :

حينما نرصد الواقع التشريعي في مصر نصطدم بالفجوة العميقة بين صناعة التشريع وتنفيذه.. فهناك جزر منعزلة بين القائمين على إعداد وصياغة الأدوات التشريعية وبين أولئك المنوط بهم تنفيذها وأيضا المخاطَبين بأحكامها.. ومثال ذلك التشريعات المتعلقة بضمانات وحوافز الاستثمار.. هذه التشريعات رغم أهميتها وخطورتها على اقتصاديات الدولة فإننا نلاحظ كثرة تعديلاتها في أوقات وجيزة ومتلاحقة بما يزعزع ثقة المستثمر في اتخاذ قراره في هذه الدولة أو تلك خوفًا من تعديل التشريع الذي اتخذ قراره في ظله..

ولا يتعارض هذا القول مع حيوية التشريع وديناميكيته لمواكبة التطورات المتلاحقة، فهناك حد أدنى من الأمان التشريعي الواجب توافره تأكيدا للثقة والاطمئنان للمخاطبين بأحكامه.. ولعل في استطلاع رأي عيّنة من هؤلاء في مشروعات الأدوات التشريعية قبل صدورها ما يخفف أو يقلل من مظاهر العوار التشريعي الذي يمكن أن يظهر بعد صدوره.. وأوضح مثال على هذا ما حدث في مصر، حيث شارك القضاة وأعضاء النيابة العامة وضباط الشرطة ومجموعات نخبوية من الشعب المصري في استبيان حول مشروع قانون مكافحة المخدرات الذي صدر عام 1989- قام به المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية- وأعتقد أنه حقق- وما زال- أهدافه في محوري العرض والطلب، حيث استحدث آليات جديدة للمكافحة الوقائية وليست العقابية بإنشاء صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي برئاسة مجلس الوزراء، ولأول مرة أجاز لمحكمة الجنايات أن تأمر بإيداع المتهم (المدمن) في إحدى المصحات العلاجية ليقضي بها مدة العقوبة بدلا من إيداعه السجن.

هذا على الصعيد الموضوعي، أما على الصعيد الشكلي والإجرائي، فإنه يمكن إيجاز الواقع التشريعي في مصر في أربع نقاط هي:

* تراكُم آلاف التشريعات خلال الثمانين عامًا الماضية التي تستوجب إعادة النظر فيها تمهيدًا لإلغائها أو دمجها أو تعديلها بما ييسر الإلمام بها وضمان سلامة تطبيقها.

* تعدُّد جهات إعداد ومراجعة مشروعات القوانين المقدَّمة من الحكومة بين مجلس الدولة وإدارة التشريع بوزارة العدل، ومؤخرًا وزارة الدولة للشئون القانونية والمجالس النيابية، وذلك قبل مناقشتها في مجلس الوزراء وإحالتها لمجلسي الشعب والشورى، بما يَشي بتنازع للاختصاص فيما بينها لغياب ضوابط موضوعية دقيقة يمكن إعمالها في ذلك.

* صدور الأدوات التشريعية الأخرى، فيما عدا القوانين، وهي القرارات الجمهورية وقرارات رئيس مجلس الوزراء والوزراء والهيئات والمجالس العليا، بمعزل عن بعضها البعض، لا سيما تلك اللائحية والتنظيمية منها التي تُعَدّ قواعد قانونية عامة ومجردة، بما يفتح الباب لتعارضها ويزيد من فرص الطعن بعدم دستوريتها.

* تعدُّد جهات دراسة الاتفاقيات الدولية الشارعة (أي التي تلتزم بها الدولة في تشريعاتها وفقا للمادة 51 من الدستور) بين وزارات الخارجية والعدل والتعاون الدولي، وذلك في مراحل إعدادها وإبرامها أو الانضمام إليها أو المشاركة في ذلك في المنظمات الدولية والإقليمية والعربية.

التحديث التشريعي :

أعتقد أن التحديث التشريعي هذا هو رأس الأمر وذروة سنامه لكافة محاور الحراك السياسي والقانوني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمجتمع المدني التي تجتازها مصر في هذه المرحلة المفصلية من تاريخها، لا سيما بعد التعديلات الدستورية الأخيرة وما سوف يتلوها من مجلس برلمانية وشعبية محلية .. كما أرى التنويه إلى اعتبارات ثلاثة أثناء تنفيذه:

الاعتبار الأول: توحيد التشريعات المرتبطة من حيث فلسفة التشريع وموضوعه وأطرافه (المخاطبين بأحكامه)، بحيث نصل إلى مجموعة من المدونات التشريعية المتكاملة على غرار المدونة العقابية، ومدونة القانون المدني، ومدونة قانون التجارة، وقانون العمل الموحد، وقانون الضريبة الموحد، وقانون البناء الموحد، ومشروع قانون الصناعة الموحد، ومشروع قانون التعليم العالي الموحد، ومشروع قانون الغذاء الموحد.. إلخ ، وهذا سيؤدي إلى سهولة الإلمام بتلك المدونات والقوانين الموحدة والشاملة، وبالتالي تيسير تطبيقها والحد من فرص تعارضها والطعن فيها بعدم الدستورية، بما يقود إليه من استقرار المراكز القانونية وتوفير الأمان التشريعي.

الاعتبار الثاني: كفالة التغلغل الاجتماعي لأحكام التشريع في نسيج حياة وعلاقات المجتمع، ولا يكفي لذلك أن تقف سلطة الدولة وراء القاعدة التشريعية تمدها بالهيبة والنفوذ، بل لا بد لتحقق هذه الفاعلية من اقتناع أفراد المجتمع بأن تطبيق أحكام التشريع شرط لازم لحسن سير حياتهم الاجتماعية وضبط علاقاتهم.. ولعل في استطلاع رأي عينة من هؤلاء في مشروعات الأدوات التشريعية قبل صدورها ما يخفف أو يقلل من مظاهر العوار التشريعي الذي يمكن أن يظهر بعد صدوره.. على نحو ما ذكرناه سلفًا .

الاعتبار الثالث والأخير: العناية الفائقة بالصياغة القانونية الدقيقة للتشريع فهي العنصر الخاص من عنصري القاعدة القانونية – كما ذكرناه منذ قليل – بأنه العنصر الأول هو العلم (المادة الخام) ويأتي بعد ذلك عنصر الصياغة القانونية التي تتولى تحويل المواد الخام إلى نصوص تشريعية ميسورة قابلة للفهم والتطبيق.. فبعد أن يجمع المشرِّع المواد الأولية التي يصنع منها القواعد القانونية، وبإعمال واستعمال وسائل الصياغة القانونية يتم وضع المعطيات في قوالب أو نماذج تشريعية تجعلها ميسورة التطبيق. وللصياغة مقوماتها ومهاراتها المتمثلة في مهارات وقدرات لغوية وقانونية تمكِّن الصائغ من نسج أحكام تعبر عن معنى النص وغاياته دون لبس أو غموض. والصياغة القانونية وطريقة وضعها تعني فن الوسائل القانونية التي يجب على المشرِّع أن يحيط بها ويستوعبها فهي التي تعينه على تحقيق الغرض الذي رسمته له السياسة التشريعية والأهداف المحددة للتشريع..
لقد حملت مصر لواء التحديث التشريعي منذ أكثر من مائتي عام، لإدراكها القطعي واليقيني بأن التشريع يأتي انعكاسا للمعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما أن بإمكانه أن يمارس دورًا رياديًا بسبقه المجتمع بعض الشيء في تقديم أحكام قانونية جديدة تحتوي في مضمونها على المبادئ الحديثة المبتغاة، تلبية لتطلعاته واحتياجاته وطموحاته.سيما بعد ثورة الشباب 25 يناير 2011.

الإصلاح التشريعي :

لأن التشريع كائن حي، فإنه يواكب الحراك المجتمعي بما في ذلك بناء صروح البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع، ولتحقيق نتائج إيجابية في إنهاء التعقيدات والبيروقراطية مع تحقيق التوازن بين المصالح والعدالة الاجتماعية وصونها، فقد تعين وضع فلسفة عامة للتشريع تتضمن المبادئ العامة والأساسية التي يجب أن تحكم عملية التشريع في مختلف المجالات بما يحقق المصالح العليا للوطن في إطار من التكامل والانسجام ووحدة النظر والتوجهات العامة مع خصوصية وتفرّد كل تشريع بما يحقق أهدافه.

ولما كانت التشريعات بجميع أنواعها هي حجر الزاوية في النظام الديمقراطي، ولأن القانون يستهدف الصالح للناس إلا أنه يرتفع فوق الأشخاص ويسوّي بينهم ويفصل بين الحق والباطل والمباح والمحرم والمصلحة والضرر، وهو المعيار الذي يضعه المجتمع ويطوره ويتطور به على هدي من معتقداته وقيمه وتقاليده لقيادة الحركة إلى الأمام وحمايتها، ومن ثم فإن أي تشريع هو الأساس الصلب الذي يقوم عليه الإصلاح الاجتماعي بشتى صوره وبما يتواكب مع حركة المجتمع وتطوره أو تحديثه استجابة سريعة للمتغيرات أو دافعة لتحقيقها وليتواءم معها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع، مراعاة للتطور في الداخل والخارج ووسط عالم يموج بالتغيرات السريعة والهائلة.

وتبدو أهمية الإصلاح في مجال التشريعات بكل درجاتها وقوتها فيما أفصح عنه الدستور- وهو أسمى القوانين جميعا وأعلاها، وميثاق الشعب الذي يعلنه ويتعهد به* في وثيقة إعلان الدستور بأن تبذل جماهير شعب مصر كل الجهود للتطوير المستمر للحياة عن إيمان بأن التحدث الحقيقي هو تحقيق التقدم الذي لا يحدث تلقائيا أو بمجرد الوقوف عند إطلاق الشعارات، وإنما القوة الدافعة لهذا التقدم هي إطلاق جميع الإمكانيات والملكات الخلاقة والمبدعة للشعب. كما أكدت الوثيقة على أن سيادة القانون ليست ضمانًا لحرية الفرد فحسب ولكنها الأساس الوحيد لمشروعية السلطة في ذات الوقت.

والدستور- على سموّه وتصدّره البنيان القانوني للدولة- هو وثيقة قانونية لا تصد عن التطور آفاقه الرحبة، وتكمل نصوصه بعضها بعضا بحيث يكون نسيجها تناغما مع روح العصر ولا يجوز اعتبارها حلا نهائيًا ودائما لأوضاع اقتصادية جاوز الزمن حقائقها، بل ويتعين فهمها على أن تكون غايتها تحرير الوطن والمواطن سياسيًا واقتصاديًا، وذلك على ما انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا في قضائها في الطعن رقم 7 لسنة 61 دستورية، مما يعني عدم وجود تناقض بين نصوص الدستور وبين تطور الواقع في أهم تحوّل جرى للمجتمع من نظام اقتصادي اشتراكي إلى نظام اقتصادي حر مسايرة للنظام العالمي السائد، ومن ثم فلا يوجد أي عائق دستوري يمنع من مراجعة التشريعات القائمة حتى تأتي متسقة مع تطلعات الأمة وآمالها، وأن تواكب حركة المجتمع بما في ذلك بناء صروح البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبما يستلزم معه القضاء على هذه الغابة من التشريعات المتعددة في المجال الواحد، والقضاء كذلك على تعدد وتضارب التشريعات المصرية مع بعضها البعض والتي أضحت في مجملها مشكلة يصعب على كل من يعمل في المجال القانوني أن يتابعها أو يحقق الهدف من إصدارها. ولما كان الدستور قد عمد في اتجاهه إلى ترسّم النظم المعارضة ومتابعة خطاها والتقيّد بمناهجها التقدمية، فإنه- وفي ضوء هذا الاتجاه- تدعو الحاجة إلى التعرض لعدد من التشريعات التي بمراجعتها وضبط نصوصها واستحداث ما يمكن معه تحقيق المزيد من الحريات وإزالة العديد من الإجراءات البيروقراطية وما يؤدي إلى تدعيم مبدأ المساواة أمام القانون الذي هو أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعي، كما أنه يتوخى صون حقوق المواطنين وحرياتهم في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها.

وفي مجال إصلاح القوانين المتعلقة بممارسة السلطة التنفيذية لأعمالها فإنه يتعين مراجعتها وتطهير ما تتضمنه النصوص من حدة تسلُّط السلطة التنفيذية ودرءًا لانحرافها في استعمال السلطة أو إساءة استعمالها وتحقيق اللامركزية الإدارية في اتخاذ القرار وقرب مصدره من الجماهير، والأخذ بالمبادئ الحديثة في البيانات والإحصاء والرقابة واحترام التشريعات؛ وذلك لتحقيق مصالح الجماهير بسهولة ويسر. ومن هذه القوانين: قوانين الإدارة المالية، والعاملين المدنيين بالدولة وبالقطاع العام وبشركات قطاع الأعمال والوظائف القيادية، والتأمين الاجتماعي، والسجل العيني، والسجل المدني، وغير ذلك من القوانين التي تتعلق بأداء مصالح الناس، وفي ذات الوقت رعاية مصالح العاملين إعمالا لما أكدت عليه ديباجة الدستور من أن قيمة الفرد* التي ترتبط بها مكانة الوطن وقوته- مردّها إلى العمل الذي هو الطريق لتحرير الوطن والمواطن، وذلك بأن تحكِم القوانين الربط الوثيق بين الأجر والإنتاج. كذلك فإنه في ظل الظروف المتطورة التي تشهدها البلاد اقتصاديا يتعين إعادة النظر في قوانين الاستثمار، فعائد الاستثمار مرتبط بالتدابير التي تتخذها الدولة وتؤثر في مداها ومجراها، ومن ثم يجب أن تنحو هذه القوانين نحو العمل على جذب الأموال سواء من خارج البلاد أو من داخلها، ذلك أن تدفّق الاستثمار لازم لضمان سير الحياة وتطوير حركتها، على أن تراعي هذه القوانين أن الاستثمار الأفضل والأجدر بالحماية هو ذلك الذي يؤدي دوره في التنمية من خلال نقل التكنولوجيا المتطورة وتطويعها وتعميمها وخلق فرص جديدة للعمل. ويتحقق ذلك بإطلاق الحرية الاقتصادية للنشاط الاقتصادي، مع دور إيجابي للدولة في التمكين من هذه الحرية.

كما يتعين دفع التعليم إلى أقصى أداء تقطع به مصر الفجوة العلمية التي أصابت كيانها مقارنة بالعالم المتقدم، وتوظيف التشريع لإفساح الطريق أمام كل نشاط فردي جاد، وفي ذات الوقت الحيلولة دون أي نشاط أو ممارسات تعوقه أو تقوّضه، وكذلك يتعين قيام مؤسسات الدولة بدور ثقافي شديد الإيجابية لثقافة علمية ينهض على أساسها البناء الاجتماعي المنشود.

إننا بحاجة إلى محاولة اختصار التشريعات القائمة* التي تقترب من ستين ألفا ما بين تشريع رئيسي وفرعي* في أقل قدر ممكن وصولاً من الشكل إلى مضمون حقيقي يتعلق بافتراض علم الكافة بالقانون؛ إذ إن هذه القاعدة* مع خطورتها وأهميتها* باتت ضربًا من الخيال مع هذا الكم الهائل من التشريعات، ولا سبيل لعودتها إلى الحياة إلا بأن يصبح في مقدور المواطن العادي معرفة القاعدة القانونية التي تعنيه.

إن الإصلاح التشريعي ليس أمرًا ترفيًا، ولكنه ضرورة حتمية لمزيد من التطور في ضوء المستجدات المحلية والإقليمية والعالمية.

الشراكة الفاعلة لتنمية ثقافة الوعي بالقانون :

في سبيل إدراك تلك الغايات فإنه يراعى كفالة قيام شراكة فاعلة بين كافة الأطراف المعنية، وهي:

المجتمع المدني: بما يضمن المشاركة والتفاعل ما بين الحاكم والمحكومين أفرادًا ومؤسسات مع كفالة حقوق الأفراد والمؤسسات في المشاركة الفاعلة والسائلين بكل الوسائل التي يكفلها القانون المبني على أسس ديمقراطية سليمة تضمن الحريات العامة وحقوق الإنسان.
الحياة السياسية الديمقراطية: بضمان الأجواء الديمقراطية لوجود تنافس انتخابي حر وشامل ونزيه بما يوفّر الشرعية والقبول من قِبل المواطنين عبر حزمة تشريعات (قابلة للتنفيذ) من قِبل أجهزة حكومية تملك القدرة والحق في الاستقلال والقيام بالدور المحايد بين الحكم أفرادًا ومؤسسات.

نظام الحكم : من خلال ضمان نظام حكم دستوري ذي أجهزة حكم واضحة وذات صلاحيات دستورية يحميها ويضمنها القانون في نفس الوقت، مع إشاعة ثقافة تبادلية الأدوار ما بين المُواطِن والدولة بما يضمن احترام المواطن لمؤسسات وأنظمة وقوانين مؤسسات تساهم في استقلاله وسعيه نحو مصالح مواطنيه.
المؤسسات الاقتصادية: عن طريق إيجاد قوانين اقتصادية تحمي وتشجع تطوير وبناء اقتصاد وطني مستقل وفاعل وتنموي يعتمد أساسًا على تطوير الموارد المحلية وتنميتها.

مؤسسات الإعلام: لأن مهمة الإعلاميين ومؤسساتهم في المجتمع الديمقراطي هي حماية بنائهم الديمقراطي والمشاركة بفاعلية في تجلية الحقائق للناخبين ومتابعة المنتخَبين وجعلهم دائمًا عُرضة للقيود معتمدين على الحقيقة وعرضها بموضوعية وحيادية. ولا يمكن لغير وسائل الإعلام القيام بهذه المهمة.. ولقد كان الموقف بين الإعلام ودوره مختلفًا حسب العديد من وجهات النظر، فهناك من اعتبرها سلطة رابعة تقف إلى جانب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهناك من اعتبرها رقيبًا على كل السلطات الثلاثة بما يشمل بيروقراطية ونظم ومؤسسات الدولة ومراكز القوة الاقتصادية في الدولة بما يضمن أن تكون الصحافة مِلكًا للجمهور تسعى لتنويره وعرض أشكال استغلال السلطة وانحرافها أمامه بما يدفعه عمليًا للمشاركة في تقويم الحكم وإعادته إلى مساره الديمقراطية الصحيح.وهناك مدرسة أخرى ترى أن هناك قوّة سياسية تملك وتدير إعلامها الرسمي عبر موظفين رسميين، وقوة اقتصادية تملك إعلاما استثماريا خاصا، وفي ذلك غياب مطلق للجمهور والمشاركة العامة في أشكال العمل الوطني.أما المدرسة الثالثة فهي التي تصنِّف إعلام المجتمع المدني المتواصل مع الجمهور كرقيب ناقد لكل من القوة السياسية والقوة الاقتصادية، وذلك لن يكون دون وجود مؤسسات وهيئات ذات اعتبارات جماهيرية مستقلة وقوية قادرة على امتلاك وسائل إعلامها الخاصة أو فرض إرادتها بالحيادية والوضوح أو الصدق والشفافية حتى على وسائل الإعلام القائمة، والاستفادة من أي تناقض ما بين إعلام الحكم الرسمي المستند إلى قوة الدولة وإعلام المستثمرين المستند إلى قوة المال.
وللحديث بقية ..