أهمية توثيق التصرفات العقارية

الاستاذ الطيب البواب
من هيئة الدار البيضاء

لماذا اللجوء الى اثبات التصرفات العقارية؟

انه خلال العصور الاولى لم يعرف الناس التزاحم والتنافس على امتلاك الارض واقتنائها. فارض الله واسعة جدا، وكلها في اصلها موات لا ملك لاحد عليها، ولكل امرئ ان يضع يده على ما قدر عليه منها لتصبح ملكا خاصا به وليستعمله ويستغله كما شاء.
وكانت الارض تعتبر العامل الانتاجي الطبيعي الثاني الذي يكون مع العامل الاول، عمل الانسان، العنصرين الوحيدين للانتاج، ورغم عالم الاقتصاد مع تعاقب العصور، عرف تطورا كبيرا ادى الى خلق رؤوس اموال جديدة ، فان عنصر الارض بقي حتى الان يلعب دورا مهما في الانتاج بجانب العمل والعوامل الانتاجية الاخرى.

وبعدان كانت الارض متوفرة بكثرة وفوق حاجيات سكانها، فان النمو الديموغرافي الذي اشتدت كثافته في العالم كله الى حد الانفجار، اخذ يؤدي الى تقليص مساحات الارض، وكان من نتائج ذلك ان اشتد التزاحم والتنافس على اقتنائها مما ادى الى ارتفاع قيمتها ارتفاعا شديدا في اصقاع العالم كله.
ومن طبيعة التنافس في الاشياء والتهالك عليها ان تتعارض المصالح والمنافع،فتنشا المنازعات والخصومات مما يؤدي الىالاضطراب وعدم الاستقرار في المراكز الحقوقية ويكثر عدوان الطغاة المعتدين على حقوق اخوانهم المستضعفين.
————————-
*) تقدم بهذه الورقة الاستاذ الطيب البواب نيابة عن السيد النقيب بمناسبة اليومين الدراسيين المنظمين من طرف الهيئة الوطنية لعدول المغرب ( 13-14 ابريل ‏2001‏)
————————
ولفرض نظام في مجتمع يسوده الاستقرار والاطمئنان والامن والسلام، اقيمت المؤسسات القضائية لنصرة المظلومين والضرب على ايدي الظالمين وكان منطقيا ولزاما على من يستنجد العدالة لحماية حقوقه ان يثبت لديها صحة دعواه. وقد جاء في الحديث الشريف الذي اخرجه الامام مسلم في صحيحه في كتاب الاقضية براوية ابن عباس : “لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال واموالهم…” قال فقهاؤنا الاقدمون اجمعت الامة على انه لو ادعى اتقى الناس على افجر الناس لما اعطى بدعواه حتى يقيم الدليل عليها. وعلى هذا الاصل الاصيل في تحقيق العدالة بين الناس قام المبدء المشهور، سواء في الميدان الجنائي ” الاصل في الناس البراءة حتى تثبت ادانتهم “، وفي الميدان المدني ” الاصل في الذمة براءتها حتى تثبت عمارتها “.

فكل حق مدعى به لا تدعمه وسائل اثباته عند قيام نزاع بشانه يعتبر عدما محضا، والادعاء به عبثا ولددا. وجميع التصرفات العقارية التي تتم بين الاحياء مجانية كانت او بعوض، لا يعتبر لها وجود عند نشوء منازعة ما بشانها الا بقيام الدليل عليها – فمن كان له حق عيني معلوم في عقار وزعم غيره انتقال ملكيته اليه فلا عبرة بزعمه اذا لم يثبت بوجه صحيح الوسيلة التي انتقلت اليه بها ملكية ذلك الحق، ولا حاجة الى مطالبة المدعى عليه باثبات استمرار ملكيته عملا بمبدا الاستصحاب الذي هو اصل من اصول الفقه والذي يوجب بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.

فكيف يكون الاثبات في مجال التصرفات العقارية؟

قبل تناول صميم الموضوع ينبغي تقديم بعض التوضيحات الفقهية المتعلقة بالمصطلحات الواردة في هذا العنوان حتى تكون الاحالة على معلوم.
فالاثبات يراد به التدليل على وجود الحق المدعى به. وينصب الاثبات لا على الحق ذاته، ولكن على الواقعة المنشئة له والتي تعتبر مصدرا لوجوده. وسواء كانت هذه الواقعة تصرفا قانونيا (شراء هبة…) او واقعة قانونية (ارث وصية…) .

ويراد بالتصرفات -أي القانونية- كل تعبير عن الارادة ينتج عنه اثر قانوني، سواء كان صادرا من جانبين اثنين، وهو ما يسمى بالعقد، (بيع-هبة- رهن….) او كان صادرا من جانب واحد وهو المسمى بالارادة المنفردة (الوعد بجائزة الى الجمهور الوصية- الوقف…).

اما مصطلح العقار- والمراد هنا العقار بطبيعته – فيطلق على كل مالا يمكن نقله من مكان الى اخر ويشمل الاراضي والبنايات ما دامت متصلة بالارض والثمار التي بها، وفي الفقه الاسلامي يطلق العقار على الاراضي البيضاء والفدادين والجنات والكروم وجميع الاغراس المتصلة بالارض، اما البنايات فيطلق عليها “الرباع” (بكسر الراء، جمع ربع بفتحها) وتجمعها معا، أي الارض وما اتصل بها من بناء وغرس مصطلح “الاصول” ( جمع اصل ) .

والعقارات كلها تتعلق بها حقوق عينية عقارية. وهي على نوعين :

اصلية، وهي القائمة بذاتها من دون حاجة الى غيرها، كحق الملكية وحق الانتفاع وحق السطحية.
وتبعية، وهي كما يدل عليه اسمها، غير مستقلة بذاتها ولا قيام لها الا بالتبع لغيرها، كالرهن المستند على الدين الذي بذمة الراهن.

وقد عدد المشرع المغربي في ظهير 19 رجب عام 1333 (02/06/1915) المحدد للتشريع المطبق على العقارات الحفظة الحقوق العينية الجارية على العقارات المحفظة وحصرها في عشرة، في الفصل الثامن منه. وهي الملكية -الانتفاع- الاحباس- حقا الاستعمال والسكنى، الكراء الطويل الامد، حق السطحية -الرهن الحيازي- حقوق الارتفاقات- الامتيازات والرهون الرسمية- والحقوق العرفية الاسلامية كالجزاء والاستيجار والجلسة والزينة والهواء- وكلها حقوق عينية اصلية ما عدا ثلاثة منها تبعية وهي الرهن الحيازي والرهن الرسمي والامتيازات – وجميع هذه الحقوق العينية العقارية قابلة للتسجيل بالصكوك العقارية باستثناء حقوق الامتيازات فانها معفاة من تسجيلها به.

وسائل الاثبات في مجال التصرفات القانونية:

ان الاصل هو قبول كل وسائل الاثبات لاية واقعة مالم يقض القانون بغير ذلك.
وقد نص الفصل 404 من ق.ز.ع على ان وسائل الاثبات التي يقررها القانون هي:
1) اقرار الخصم.
2) الحجة الكتابية.
3) شهادة الشهود.
4) القرينة.
5) اليمين والنكول عنها.

ونص الفصل 401 منه على انه لا يلزم، لاثبات الالتزامات، أي شكل خاص، الا في الاحوال التي يقرر القانون فيها شكلا معينا. واذا قرر شكلا معينا لم يسغ اجراء اثبات الالتزام اوالتصرف بشكل اخر يخالفه الا في الاحوال التي يستثنيها القانون. وترك المشروع في اخر الفصل المذكور الحرية المطلقة للمتعاقدين، اذا لم يكن العقد خاضعا لشكل خاص، في ان يتفقا صراحة على انهما لا يعتبرانه تاما الا اذا وقع في شكل معين، فيكون العمل على ما اتفقا عليه .
وهذه المقتضيات تتفق مع الاحكام الواردة في الفقه الاسلامي .

ويستنتج مما سبق ان وسائل الاثبات لا تعتبر من النظام العام ما دام المتعاقدون يتمتعون بكامل الحرية في الاتفاق على شكل معين للعقد الذي يريدون ابرامه.
وبالنسبة لوسائل الاثبات في مجال التصرفات العقارية فانها تتفق احيانا وتختلف اخرى حسب كون العقار المراد اثبات التصرف في الحق المتعلق به محفظا او غير محفظ.

اولا – بالنسبة للعقار غير المحفظ:
من المعلوم ان العقارات غيرالمحفظة تجري عليها احكام الفقه الاسلامي، وبالاخص المذهب المالكي الجاري به العمل بالمغرب، بل انها تجري حتى على العقارات المحفظة ما لم تتعارض مع احكام ظهير 12/08/1913 الخاص بالتحفيظ العقاري واحكام ظهير 02/06/1915 المتضمن للتشريع المطبق على العقارات المحفظة، وغيرها من المقتضيات المتعلقة بالعقارات المحفظة – (الفصل 106 من ظهير التحفيظ العقاري) .
وحسب الفقه الاسلامي فان التصرفات العقارية يمكن اثباتها:
1) بالكتابة التي تحرر بها الرسوم العدلية، أي باشهاد اصلي من المتعاقدين على عدلين اثنين، ويقود الموثقين، والعقود العرفية المشهود بصحة امضاءاتها من طرف السلطات المسؤولة عن ذلك والاوراق التي تتضمن اقرارا بحق.
2) وبشهادة الشهود-أي الشهادات الاسترعائية – واقل عددهم اثنا عشر، وهو النصاب المحدد في شهادة غير العدول.
3) وبالاقرار القضائي
4) وباليمين المتممة للنصاب او يمين النكول.

ونقتصر حديثنا على الاثبات بالكتابة والشهود نظرا لاهميتها القصوى، واحتراما للوقت المحدد للمتدخلين.
– الاثبات بواسطة الكتابة :
ان الاثبات بالكتابة، سواء كانت في شكل اشهاد عدلي، او في شكل محرر موثق، او في شكل عقد عرفي، او في شكل اقرار يعد في اعلى مراتب الاثبات .
يقول الاستاذ السنهوري في كتابه الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الثاني، الصفحة 103، الفقرة65 :
” ان طرق الاثبات تنقسم الى طرق ذات قوة مطلقة وطرق ذات قوة محدودة” وطرق معفية من الاثبات”.

” اما الطرق ذات القوة المطلقة في الاثبات فهي الطرق التي تصلح لاثبات جميع “الوقائع سواء كانت وقائع مادية او تصرفات قانونية، وايا كانت قيمة الحق المراد اثباته. ولا يوجد “من الطرق التي تعالجها ما هو ذو قوة مطلقة في الاثبات على هذا النحو الا الكتابة، فهي تصلح “لاثبات جميع الوقائع المادية وجميع التصرفات القانونية مهما بلغت قيمة الحق.

” والطرق ذات القوة المحدودة في الاثبات هي الطرق التي تصلح لاثبات بعض الوقائع “القانونية دون بعض. فهي اذن محدودة القوة. وهذه هي البينة والقرائن القضائية، اذ هي “لا تصلح لاثبات التصرفات القانونية اذا زادت قيمتها على عشر جنيهات الا في حالات استثنائية” معينة. وكذلك اليمين المتممة طريق للاثبات ذات قوة محدودة. فهي لا تصلح الا لاتمام “دليل ناقص.

“والطرق المعفية من الاثبات هي الاقرار- أي اقرار الخصم- واليمين الحاسمة”والقرائن القانونية. ولما كانت هذه الطرق تعفي من الاثبات فهي تصلح للاعفاء من اثبات اية “واقعة مادية او أي تصرف قانوني مهما بلغت قيمته، وهي من هذه الناحية ذات قوة مطلقة”.

واعتبارا للمزية الكبرى التي تحظى بها الكتابة جاء في كتاب الله المجيد الحض على توثيق الحقوق بها واشهاد العدول عليها، وذلك في الاية الكريمة 281 من سورة البقرة التي تضمنت الامر الصريح بتوثيق الديون والبيوعات يقول الله تعالى :
( يا ايها الذين امنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، ولا ياب كاتب ان يكتب، كما علمه الله فليكتب، وليملل الذي عليه الحق، وليتق الله ربه، ولا يبخس منه شيئا. فان كان الذي عليه الحق سفيها او ضعيفا او لا يستطيع ان يمل هو فليملل وليه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فان لم يكونا رجلين فرجل وامراتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى. ولا ياب الشهداء اذا ما دعوا، ولا تسئموا ان تكتبوهم صغيرا او كبيرا الى اجله، ذلكم اقسط عند الله، واقوم للشهادة، وادنى ان لا ترتابوا ، الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ان لا تكتبوها. واشهدوا اذا تبايعتم، ولا يضار كاتب ولا شهيد، وان تفعلوا فانه فسوق بكم، واتقوا الله، ويعلمكم الله ، والله بكل شيء عليهم).

وجاء في الاية الثانية من سورة الطلاق ( واشهدوا ذوي عدل منكم ).
وقد قام الخلاف بين الفقهاء في الامر الوارد في قوله تعالى (فاكتبوه) وقوله (واشهدوا اذا تبايعتم) في الاية281 من سورة البقرة السابقة الذكر فكثير من الفقهاء قالوا بالوجوب اخذا بصيغة الامر الدال عليه، وهو الاصل فيه. غير ان الجمهور، ومنهم المالكية، ذهبوا الى القول بانه للندب والارشاد فقط، اذ في ايجاب الكتابة والاشهاد مشقة عظيمة على المتعاقدين ، لان المعاملات كثيرة جدا، وفي كل يوم، فايجاب الكتابة عليهم فيما يتعاملون فيه والاشهاد به على ذوي العدل، فيه حرج شديد لا يطاق، ومن شانه ان يعرقل نشاط الناس في معاملتهم، ويعطل اعمال تجارتهم. والشريعة الاسلامية مبنية على التيسير، ولا على التشديد والتعسير.
والعمل الجاري في المغرب المتمذهب بالمذهب المالكي، ان الاثبات بالكتابة للتصرفات في العقار غير المحفظ غير واجب. فكما يكون التدليل على وجودها بالكتابة يصح ان يكون ايضا بشهادة الشهود، وهو ما يسمى بالبينة الشرعية.

الاثبات بواسطة الشهود
رغم ان قاعدة الاثبات بواسطة الشهود تعتبر قاعدة عامة معمولا بها في الفقه الاسلامي، فانه قد وردت نصوص فقهية، تحد من تطبيقها في مجال التصرفات العقارية، وبالاخص في المجتمعات التي يتوفر فيها العدول، وجرت العادة بان يلتجئ اليهم غالبية الناس لتوثيق حقوقهم وكتب عقودهم،لا سيما اذا كانت تكتسي اهمية كبرى عندهم، كعقود بيع العقارات والرهون العقارية واجراء المقاسمة في العقارات المشتركة.
فقد نص غير واحد من الفقهاء على ان شهادة اللفيف لا يلجا اليها فيما يخص المعاملات الا عندما تدعو اليها الضرورة التي يجب بيانها، وان العدول عن العدول المتوفرين في مكان الواقعة القانونية واللجوء الى الاثبات بواسطة اللفيف يعد ريبة في شهادتهم توجب ابعادها وعدم العمل بها.

وهذا ما اكده المجلس الاعلى في قراره الصادر بتاريخ 04/12/1992 والذي جاء فيه :
“ان الامر يتعلق ببيع عقار وان كان غير محفظ فانه يخضع في الجوهر لاحكام الفقه ” المالكي التي تقرر، كما اشارالى ذلك الشيخ ميارة ، انه حتى بالنسبة لشهادة اللفيف، فانه لا يلجا “اليها فيما يخص المعاملات الا عندما تدعو الى ذلك الضرورة التي وجب توضيحها. ولذلك فان المحكمة عندما بتت في النازلة على النحو المذكور -قضت بصحة بيع عقار بناء على شهادة عدل “واحد شهادة غير مكتوبة مع اليمين المتممة للنصاب – رغم انكار البائعات لعملية البيع وعدم “وجود محرر كتابي يثبت انعقاده بين طرفيه، تكون قد خرقت القانون وعرضت قرارها للنقض” (مجلة قضاء المجلس الاعلى -العدد 46- الصفحات 32-33-34).

ان هذا القرار الصادر من المجلس الاعلى يعد تراجعا منه عن قرارات صادرة قبله تتضمن اعمال شهادة اللفيف واعتمادها في اثبات التصرفات العقارية بالنسبة للعقارات غير المحفظة. وهو تراجع جد محمود.
وقد حذر كثير من اكابر الشيوخ من قبول شهادة اللفيف الذين يتجرؤون على الشهادة بما لا يعلمون، ويساند بعضهم بعضا، لقاء دريهمات يبيعون بها دينهم وضمائرهم.
جاء في شرح الوازلي الشهير بسيدي المهدي الوزاني للعمل الفاسي لدى قوله : (بينة اللفيف منها بادية فيها كفى استفسارها عن تزكية ) -الجزء الثاني – الصفحة 94-انه سميت شهادتهم بشهادة اللفيف لا نها تجمع من يصلح للشهادة ومن لا يصلح لها من اخلاط الناس.

ونقل عن بعض الشيوخ: ادركنا الكبار من اشياخا منعوا من قبول شهادة اللفيف في المعاملات فضلا عن الانكحة، حتى اشتكى الناس ضياع الاموال والحقوق فانتقلوا الى جوازها فيما يتفق حدوثه دون ان يحضره عدول فيضطر الى اللفيف اداء، كما يضطر الى شهادتهم تحملا في بلد لا عدول فيه ليلا تهدر دماء وتضيع حقوق.
ونقل عن الشيخ التاودي ان بعض الناس احتاج الى اقامة بينة فاقامها بست اوراق في ساعة واحدة.
وكان بعض القضاة لا يعملون بشهادة اللفيف الا بعد تحليفهم كما اشار اليه في ا لعمل الفاسي بقوله:

وحلف ابن سودة الشهودا من اللفيف لفجور زيدا

وذلك من باب “تحدث للناس اقضية بقدر ما احدثوا من الفجور”.
ومما تجدر ملاحظته ان العمل الجاري حاليا بمحاكمنا هو اعتمادها شهادة اللفيف وقضاؤها بها دون ادائهم اليمين القانونية ، رغم ان قانون المسطرة المدنية نص في الفصل 76 على وجوب اداء الشهود لليمين على قول الحقيقة، وهو اجراء يعد من النظام العام.

وحبذا لوان المشرع المغربي، اعتمادا على ما نص عليه كثير من الشيوخ الكبار والفقهاء المعتمدين من فساد العمل بشهادة اللفيف التي ضاعت بها كثير من الحقوق، منعها من اثبات التصرفات العقارية بالنسبة للعقارات غير المحفظة كما منعها بالنسبة للعقارات المحفظة، وكما منعها في اثبات عقود الانكحة في الفصل 5 من مدونة الاحوال الشخصية، وان رخص في قبولها بصفة استثنائية. وكما منعها ايضا في اثبات ما تزيد قيمته على 250 درهما كما جاء في الفصل 443 من ق. م. ز. ع. ولئن فعل، وهذا ما يرجوه ويؤمله ويتطلع اليه كثير من رجال القضاء والفقه والقانون، فسيقضي على فساد كبير، وينقد كثيرا من الحقوق ومن وبال خطير، وشر مستطير، ويقدم خدمة جلية للعدالة التي عانت وتعاني الكثير من شهادة اللفيف.

ثانيا- بالنسبة للعقار المحفظ :
جاء في الفصل 489 من ق.ز.ع :
“اذا كان المبيع عقارا او حقوقا عقارية او اشياء اخرى يمكن رهنها رهنا رسميا” وجب ان يجري البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ. ولا يكون له اثر في مواجهة الغير الا اذا سجل “في الشكل المحدد بمقتضى القانون”.
وبمقتضى هذا النص الصريح فاثبات التصرفات في عقار محفظ لا يكون الا بواسطة محرر مكتوب ولا تقبل شهادة الشهود، أي البينة باللفيف الذي سبق الحديث عنها.
كما جاء نص صريح خاص بالرهن الحيازي يوجب الكتابة في عقده، وذلك في الفصل 100 من ظهير 02/06/1915 المحدد للتشريع المطبق على العقارات المحفظة والذي : “لايقرر الرهن الحيازي الا بعقد كتابي…”

كما جاء ايضا نص صريح خاص بوجوب كتابة عقد انشاء الشركة التي يكون محلها عقارات او اموال يمكن رهنها رهنا رسميا. وذلك في الفصل 987 من ق.ز.ع الذي يقول :
“تعقد الشركة بتراضي اطرافها على انشائها وعلى شروط العقد الاخرى مع استثناء”الحالات التي يتطلب القانون فيها شكلا خاصا. الا انه اذا كان محل الشركة عقارات اوغيرها من “الاموال مما يمكن رهنه رهنا رسميا وابرمت لتستمر اكثر من ثلاث سنوات وجب ان يحرر “العقد كتابة…”.

وهكذا نرى ان العقود التي يجب كتابتها تحتاج الى نص خاص لان الاصل في العقود الرضائية كما جاء في الفصل 401 من ق.ز.ع الذي يقول :
“لا يلزم، لاثبات الالتزامات، أي شكل خاص، الا في الاحوال التي قرر القانون فيها شكلا معينا”.
وقد سبقت الاشارة الى ان المشرع خول للاشخاص التشارط على جعل تصرفاتهم خاضعة لشكلية خاصة لا تتم الا بها كما جاء في الفصل402 من ق.ز.ع الذي يقول:
“اذا لم يكن العقد خاضعا لشكل خاص واتفق عاقداه صراحة على انهما لا يعتبرانه تاما” الا اذا وقع في شكل معين فان الالتزام لا يكون موجودا الا اذا حصل في الشكل الذي اتفق “عليه المتعاقدان”.
وهكذا تكون شكلية العقود بنص قانوني، كما تكون بارادة واتفاق الاطراف المتعاقدين، عملا بقاعدة “العقد شريعة المتعاقدين” .

وينبغي بيان ان الكتابة قد تكون مشروطة لوجود التصرف وانعقاد العقد وقيامه، كما تقيده النصوص المذكورة اعلاه، وقد تكون مشروطة لاثباته فقط، كما في بيع السلم الذي يقول الفصل 613 من ق.ز.ع بشانه : “ولا يجوز اثبات بيع السلم الا بالكتابة”.
فالعقد هنا رضائي ولكن الشكلية تتعلق فقط باثباته.
وبناء على ما تقدم فانه لا يسوغ اثبات التصرفات المتعلقة بعقارات محفظة بواسطة الشهود عملا بمقتضيات الفصل 401 من ق.ز.ع الذي يقول :
“اذا قرر القانون شكلا معينا لم يسغ اثبات الالتزام اوالتصرف بشكل اخر يخالفه الا في” الاحوال التي يستثنيها القانون”.

والكتابة في عقود التصرفات العقارية يمكن ان تكون في ورقة رسمية كما حددها الفصل 418 من ق.ز.ع كما يمكن ان تكون في مجرد ورقة عرفية مصححة الامضاء المشار اليها في الفصل 424 من نفس القانون.
واذا كان كل من الورقة الرسمية والورقة العرفية يؤدي الى نفس الغاية المقصودة منهما فانه مع ذلك تمتاز الورقة الرسمية عن الورقة العرفية بامتيازات، اهمها انها اكثر ضمانا لحقوق اطرافها لانه لا يمكن الطعن فيها الا بالزور (الفصل 419 من ق.ز.ع) بخلاف الورقة العرفية التي يمكن لاطرافها ادعاء خلاف ما جاء فيها بسبب اميتهم وجهلهم بما تضمنته، كما يفيده الفصل 427 من ق.ز.ع الذي جاء فيه:
“المحررات المتضمنة لالتزامات اشخاص اميين لا تكون لها قيمة الا اذا تلقاها موثقون” او موظفون عموميون ماذون لهم بذلك”.
وكما يفيده ايضا الفصل432 من نفس القانون الذي جاء فيه:
“اعتراف الخصم بخطه او بتوقيعه لا يفقده حق الطعن في الورقة بما عساه ان يكون “له من وسائل الطعن الاخرى المتعلقة بالموضوع او الشكل” .

ومن جهة اخرى، فانه اذا كانت بعض العقود العرفية، وبالاخص المتضمنة لتصرفات متعلقة بعقارات محفظة او غير محفظة، محررة تحريرا سليما من طرف اشخاص ذوي معرفة وخبرة ممن بسمون بالكتاب العموميين، فان كثيرا منها تحرر من طرف اشخاص منهم شبه اميين فتاتي معيبة شكلا وموضوعا، ولا تكاد تعثر فيها على جملة صحيحة مستقيمة ومفيدة، الشيء الذي يضر بحقوق المتعاقدين، ويعرضها للمنازعة فيها امام المحاكم لتفسير مضامينها ومقاصدها وبيان المراد من مبانيها.

وانه، حفاظا على حقوق المتعاقدين، يتعين على المسؤولين النظر بجدية في هذه الوضعية الماساوية التي طالما وقع لفت النظر اليها والتنبيه عليه من طرف رجال القانون.
واخيرا فان مهنة التوثيق تكتسي اهمية بالغة في حفظ الاموال وصون الاعراض وتنظيم الجماعة ومساعدة العدالة. ومن ثم ، فان اهل التوثيق الذين يحظون بشرف امتهان هذه المهنة السامية يتحملون امانة عظمى في اداء المهمة التي يضطلعون بها. والله ولي التوفيق.

الاستاذ الطيب البواب
محام بهيئة الدار البيضاء.
مجلة المحاكم المغربية عدد 87، ص33