بحث قانوني كبير حول زراعة عضو استؤصل في حد او قصاص

محمد تقي العثماني
دار العلوم كراتشي 14
قاضي القسم الشرعي بالمحكمة العليا لدولة باكستان
ونائب رئيس جامعة دار العلوم بكراتشي
وعضو ونائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي بجدة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا ومولانا محمد النبي الأمين , وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين , وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :

فموضوع هذا البحث معرفة الحكم الشرعي في مسألة زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص , وإعادته إلى محله بعملية من عمليات الطبّ الحديث , هل يجوز ذلك شرعاً ؟ وما حكم من فعل ذلك ؟

وبما أن المسألة أخذت اليوم مكانها من الأهمية بفضل ما وصل إليه التقدّم الطبّي في مجال زرع الأعضاء الذي لم يكن متصوراً في الأزمنة الماضية , فقد يزعم الزاعمون أنها مسألة مستجدة لا يمكن أن يوجد لها ذكر صريح في كتب الفقهاء السالفين , ولكن هذا الزعم غير صحيح . والواقع أن الفقهاء المتقدمين ذكروا هذه المسألة ودرسوها من النواحي المختلفة بما يدل في جانب على مدى توسّعهم في تصوير المسائل ودقة أنظارهم في بيان الأحكام . وفي جانب آخر , على أن إعادة العضو إلى محلّه لم يكن أمراً غير متصور في عهدهم و بل كان أمراً عرفه وجربه المتقدمون , حتى في القرن الثاني من الهجرة , إذ يتحدث عنه الإمام مالك رحمه الله تعالى بكل بصيرة طيّبة لا تزال صادقة حتى اليوم .

*نقاط البحث :

وقبل أن آتي بنصوص الفقهاء في المسألة أريد أن أحدّد مجال البحث في نقاط آتية :

(1) إذا جنى رجل على آخر , فقطع عضواً من أعضائه , ثم أعاده المجني عليه إلى محله قبل استيفاء القصاص أو الأرش و هل يؤثر ذلك في سقوط القصاص أو الأرش ؟ ولو أعاده بعد استيفاء القصاص , هل يؤثر ذلك فيما استوفاه من القصاص أو الأرش ؟ وألقب هذه المسألة بـ ( زرع المجني عليه عضوه )

(2) إذا قطع عضو الجاني قصاصاً , فهل يجوز له أن يعيده إلى محلّه بطريق الزراعة ؟ أو يعتبر ذلك إبطالاً لحكم القصاص ؟ وإن أعاد الجاني عضوه المقتص منه هل يجوز للمجني عليه أن يطالبه بالقصاص مرة ثانية ؟

(3) إن زرع أحد عضوه المنفصل عنه – سواء كان في حد أو قصاص لو لسبب آخر – فأعاده إلى محلّه , هل يعتبر ذلك العضو طاهراً ؟ أو يعتبر نجساً بحيث لا تجوز معه الصلاة فيؤمر بقلعه مرة أخرى ؟

(4) هل يجوز للسارق المقطوع يده أو رجله أن يعيدها إلى محلّهما ؟ أو يعتبر اعتداء على الحكم الشرعي في قطع يد السارق , ولئن فعل ذلك أحد , هل تقطـع يده مّرة ثانية ؟

وأريد أن أتكلم عن كل واحدة من هذه المسائل في فصل مستقل وبالله التوفيق .

*المسألة الأولى : زرع المجني عليه عضوه

أم المسألة الأولى , وهي أن يعيد المجني عليه عضوه المقطوع إلى محلّه , فأول من سئل عنها وأفتى فيها فيما أعلم : إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى , فقد جاء في المدونة الكبرى ( قلت : – القائل سحنون – أرأيت الأذنين إذا قطعهما رجل عمداً فردها صاحبهما فبرأت فثبتتا , أو السن إذا أسقطهما الرجل عمداً , فردها صاحبها فبرأت وثبتت , أيكون القود على قاطع الأذن أو قاطع السن ؟ قال – أي القاسم – : سمعتهم يسألون مالكاً , فلم يرد عليهم فيها شيئاً . قال : وقد بلغني عن مالك أنه قال : في السنّ القود وإن ثبت , وهو رأيي , والأذن عندي مثله أن يقتص منه . والذي بلغني عن مالك في السنّ لا أدري أهو في العمد يقتص منه , أو في الخطأ أن فيه العقل ؟ إلا أن ذلك كله عندي سواء في العمد وفي الخطأ )( )
ثم تتابعت فيه الروايات عن الإمام مالك وتلامذته رحمهم الله , واتفقت الروايات جميعاً على أن المجني عليه في العمد إن أعاد عضوه إلى محلّه , فلا يسقط القصاص عن الجاني , سواء كان العضو قد عاد إلى هيئته السابقة أو بقي فيه عيب , أما إذا كانت الجناية خطأ فإن قضي على الجاني بالدية , قم أعاد المجني عليه عضوه بعد القضاء , فالروايات متفقة أيضاً على أن الأرش لا يردّ . وأما إذا أعاد عضوه قبل القضاء على الجاني بالدية , ففيه ثلاث روايات . وقد فصل ابن رشد الجدّ هذه المسألة في كتابه ( البيان والتحصيل ) فقال : ( وأما الكبير تصاب سنّه فيقضي له بعقلها , ثم يردها صاحبها فثبتت . فلا اختلاف بينهم في أنه لا يرد العقل إذ لا ترجع على قوتها . هذا مذهب ابن القاسم , وقول أشهب في كتاب ابن المواز , وروايته عن مالك .
والأذن بمنزلة السنّ في ذلك , لا يرد العقل إذا ردّها بعد الحكم فتثبت واستمسكت . وإنما اختلف فيهما إذا ردّها فثبتتا . واستمسكتا , وعادتا لهيئتهما قبل الحكم على ثلاثة أقوال : أحدهما : قوله في المدونة إنه يُقتضى له بالعقل فيهما جميعاً , إن لا يمكن أن يعودا لهيئتهما أبداً , وقال : أشهب : إنه لا يقضى له فيهما بشيء إذا عادا لهيئتهما قبل الحكم . والثالث : الفرق بين السنّ والأذن , فيقضى بعقل السن وإن ثبتت , ولا يقضى له في الأذن بعقل إذا استمسكت وعادت لهيئتهما , وإن لم تعد لهيئتهما عقل له بقدر ما نقصت … ولا اختلاف بينهم في أنه يقضى له بالقصاص فيهما , وإن عادا لهيئتهما )( )

فالحاصل أن القصاص لا يسقط بالإعادة في حال من الأحوال وأما الأرش ففيه ثلاث روايات :
(1) لا يسقط الأرش بإعادة عضو المجني عليه .
(2) يسقط الأرش بذلك .
(3) يسقط الأرش في الأذن ولا يسقط في السنّ .

ووجه الفرق بين السنّ والأذن على هذه الرواية الثالثة ما حكاه العتبيّ في المستخرجة عن ابن القاسم برواية يحيي , قال ( وسئل – يعني ابن القاسم – عن الرجل يقطع أذن الرجل فيردّها وقد كانت اصطلمت فثبتت , أيكون لها عقلها تامّاً ؟ فقال : إذا ثبتت وعادت لهيئتها فلا عقل فيها , فإن كان في ثبوتها ضعف , فله بحساب ما يرى من نقص قوتها .
قيل له : فالسنّ تطرح , ثم يردها صاحبها فثبتت , فقال : يغرم عقلها تاماً , قيل له : فما فرق بين هذين عندك ؟ قال : لأن الأذن إنما هي بضعة , إذا قطعت ثم ردّت , استمسكت , وعادت لهيئتها , وجرى الدم والروح فيها . وإن السنّ إذا بانت من موضعها ثم ردّت لم يجر فيها دمها كما كان أبداً , ولا ترجع فيها قوتها أبداً . وإنما ردها عندي بمنزلة شيء يوضع مكان التي طرحت للجمال , وأما المنفعة فلا تعود إلى هيئتها أبداً ) .

وشرحه ابن رشد ببيان الروايات الثلاثة المذكورة( ) , ولكنه لم يذكر أحد منهم وجه الفرق بين القصاص والأرش , على الروايات التي تقول بسقوط الأرش دون القصاص عن الجاني بعد إعادة المجني عليه عضوه المقطوع . والذي يظهر لي – والله أعلم – أن القصاص إنما يجب في العمد جزاءً للاعتداء القصديّ من الجاني , عملاً بقوله تعالى ( فَمَنِ اعتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم ) وقوله تعالى ( وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ ) , وإن هذا الاعتداء واقع لا يزول بإعادة المجني عليه عضوه إلى محلّه , فلا يسقط القصاص في حال من الأحوال . أما الأرش , فإنما يجب في الخطأ الذي لا يعتمد فيه الجاني اعتداءً على أحد , وليس الأرش إلا بمكافأة للضرر الحاصل من فعله , واستدراكاً لما فات المجني عليه من العضو أو المنفعة , فإن عاد العضو بمنفعته الفطرية وجماله السابق , انعدم الضرر المستوجب للأرش , فسقط الأرش .

ولكن الذي يظهر أن المختار عن المالكية عدم الفرق بين القصاص والأرش حيث لا يسقط واحد منهما , هكذا ذكره خليل في مختصره , واختاره الدردير والدسوقي وغيرهما , وعلّله الدردير بأن الموضحة إذا برئت من غير شين , فإنه لا يسقط الأرش , فكذلك الطرف إذا أعيد , فإنه لا يسقط أرشه مع كون كل منهما خطأ( )

*مذهب الحنفية في المسألة :

ثم الذي ذكر هذه المسألة بعد الإمام مالك , هو الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله , فقال في كتابه ( الأصل ) ( وإذا قلع الرجل سن الرجل , فأخذ المقلوعة سنة فأثبتها في مكانها , فثبتت , وقد كان القلع خـطأ , فعلى القالع أرش السنّ كاملاً , وكذلك الأذن )( )

فاختار محمد رحمه الله أن إعادة العضو لا يسقط الأرش عن الجاني . ثم أخذ عند الفقهاء الحنفية , فقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله ( وإذا قلع الرجل سنّ الرجل خطأ , فأخذ المقلوع سنه , فأثبتها مكانها فثبتت , فعلى القالع أرشها , لأنها وإن ثبتت لا تصير كما كانت , ألا ترى أنها لا تصل بعروقها ؟ … وكذلك الأذن إذا أعادها إلى مكانها , لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه في الأصل , وإن التصقت )( )

وهنا علّل السرخسي عدم سقوط الأرش بكون العضو بكون العضو لا يعود إلى حالته السابقة بعد الالتصاق , وفرّع عليه المتأخرون أن ( هذا إذا لم يعد إلى حالته الأولى بعد الثبات في المنفعة والجمال , والغالب أن لا يعود إلى تلك الحالة . وإذا تصور عود الجمال والمنفعة بالإثبات لم يكن على القالع شيء , كما لو نبتت السنّ المقطوع ) كما ذكره الزيلعي غيره عن شيخ الإسلام ( ) .

ولكن المسألة عن الحنفية مفروضة في جناية الخطأ , كما رأيت في عبارة الإمام محمد بن الحسن والإمام السرخسي , ولهذا اكتفوا بذكر سقوط الأرش , ولم أجد في كتب الحنفية حكم العمد , وأنه هل يسقط القصاص عندهم فيه بإعادة العضو أو لا ؟ والظاهر أنه لا يسقط وإن أعاده المجني عليه على هيئته , وذلك لما ذكرنا في الحديث عن مذهب المالكية , من أن القصاص جزاء للاعتداء القصديّ من الجاني , وهو واقع لا يزول بهذه الإعادة , فلمّا ذهب الحنفية إلى أن الأرش لا يسقط بها , فلأن لا يسقط بها القصاص أولى( ) .

نعم , ذكر الحنفية أن القصاص يسقط فيما إذا نبتت سنّ المجني عليه بنفسها , ولكن لا يقاس عليه مسألة زرع العضو وإعادته ,. وذلك لأمرين , الأول : أن العضو المزروع لا يكون في قوة النابت بنفسه , والثاني : إن نبتت السنّ بنفسها ربما يدل على أن السن الأولى لم يقلعها الجاني من أصلها , فتصبر شبهة في وجوب القصاص بخلاف ما أعيد بعملية , فإنه ليس في تلك القوة , ولا يدل على أن الجاني بم يستأصله .
فالظاهر أن إعادة العضو من قبل المجني عليه لا يسقط القصاص عند الحنفية أيضاً كما لا يسقطه المالكية .

*مذهب الشافعية :

ثم تكلم في المسألة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى , فقال في كتاب الأم ( وإذا قطع الرجل أنف رجل أو أذنه أو قلع سنه فأبانه ثم إن المقطوع ذلك منه ألصقه بدمه , أو خاط الأنف أو الأذن أو ربط السنّ بذهب أو غيره , فثبت وسأل القود قله ذلك , لأنه وجب له القصاص بإبانته )( ) .

وذكر النووي رحمه الله هذه المسألة في الروضة , فألحق بها مسألة الدية , فقال ( قطع أذن شخص , فألصقها المجني عليه في حرارة الدم , فالتصقت , لم يسقط القصاص ولا الدية عن الجاني , لأن الحكم يتعلق بالإبانة وقد وجدت )( ) .

فاتضح بهذه النصوص أن مذهب الشافعية في هذا مثل المختار من مذهب المالكية , أن إعادة العضو المجني عليه لا يسقط القصاص ولا الأرش .

*مذهب الحنابلة :

وأما الحنابلة فلهم في هذه المسألة وجهان وقد ذكرهما القاضي أبو يعلى فقال ( إذا قطع أذن الرجل و فأبانها ثم ألصقها المجني عليه في الحال فالتصقت , فهل على الجاني القصاص أم لا ؟ قال أبوبكر في كتاب الخلاف : لا قصاص على الجاني وعليه حكومة الجراحة , فإن سقطت بعد ذلك بقرب الوقت أو بعده كان القصاص واجباً , لأن سقوطها من غير جناية عليها من جناية الأول , وعليه أن يعيد الصلاة . واحتج بأنها لو بانت لم تلتحم , فلمّا ردّها والتحمت كانت الحياة فيها موجودة , فلهذا سقط القصاص .
وعندي أن على الجاني القصاص , لأن القصاص يجب بالإبانة , وقد أبانها . ولأن القصاص الإلصاق مختلف في إقرار عليه , فلا فائدة له فيه )( ) .

وكذلك ذكر ابن قدامة القولين , ولم يرجح واحداً منهما وكذلك فعل أبو إسحاق ابن مفلح( ) وذكر المرداوي وشمس الدين وابن المفلح القولين , واختار قول القاضي إنه لا يسقط القصاص( ) واختار البهوتي قول أبي بكر في أنه يسقط القصاص والأرش كلاهما( ) .

*القول الراجح في المسألة :

والقول الراجح عندنا ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والحنفية والشافعية , وجماعة من الحنابلة أن زرع المجني عليه عضوه لا يسقط القصاص أو الأرش من الجاني , لأن القصاص جزاء للاعتداء الصادر منه , وقد حصل هذا الاعتداء بإبانة العضو , فاستحق المجني عليه القصاص في العمد والأرش في الخطأ , فلا يسقط هذا الحق بإعادة عضوه إلى محله وذلك لأمور :

(1) إن إعادة العضو من قبل المجني عليه علاج طبي للضرر الذي لحقه بسبب الجناية , وإنّ البرء الحاصل بالعلاج لا يمنع القصاص والأرش , كما في الموضحة , وإن عالجها المجني فبرئ فإنه لا يمنع حقه في استيفاء القصاص أو الأرش . فكذلك العضو إذا أعيد بعد الإبانة من الجاني , فإنه لا يؤثر فيما ثبت له على الجاني من قصاص أو أرش .

(2) إن إعادة العضو من قبل المجني عليه , وإن كان يستدرك له بعض الضرر , فإن العضو لا يعود عادة إلى ما كان عليه من المنفعة والجمال , فإسقاط القصاص أو الأرش فيه تفويت لحق المجني عليه بعد ثبوته شرعاً .

(3) إن القصاص أو الأرش قد ثبت بالقلع يقيناً , وذلك بالنصوص القطعية , فلا يزول هذا اليقين إلا بيقين مثله , وليس هناك نص من القرآن أو السنّة يفيد سقوط القصاص بإعادة العضو .

ولما ثبت أن إعادة المجني عليه عضوه لا يسقط القصاص عن الجاني , فلو قطع رجل عضوه المزروع مرة ثانية , هل يجب فيه القصاص مرة أخرى ؟ قد صرح أكثر الفقهاء بأنه لا يجب , وعلّله بعضهم بأن العضو المزروع لا يعود إلى هيئته الأصلية في المنفعة والجمال , فهذا الإلصاق لا يعتدّ به , فال الموصلي الحنفي رحمه الله تعالى ( والمقلوع لا ينبت ثانياً , لأنه يلتزق والعصب , فكان وجود هذا النبات وعدمه سواء , حتى لو قلعه إنسان لا شيء عليه )( ) .

ومقتضاه أنه لا يجب القصاص ولا الأرش , لأنه جعل النبات وعدمه سواء , ولكن اليوم أمكن في كثير من الأعضاء المقلوعة أن تعاد فتلتزق بالعروق والعصب , فلا يتأتى فيها التعليل الذي ذكره الموصلي , فالظاهر في حكم أمثالها أن لا يوجب القصاص , لأن العضو المزروع , وإن التزق بالعروق والعصب , فإنه عضو معيب لا يكون بمثابة العضو الأصلي , فلا يقطع به العضو الصحيح في أصل خلقته . ولكن بمثابة العضو الأصلي , فلا يقطع به العضو الصحيح في أصل خلقته . ولكن يجب أن يلزم به الأرش على الجاني الثاني . وهو قول الحنابلة . قال البهوتي رحمه الله ( ” وإن قلعه ” أي ما قطـع ثم رد فالتحـم ” قالع بعد ذلك فعليه ديته ” ولا قصاص فيه , لأنه لا يقاد به الصحيح بأصل الخلقة لنقصه بالقلع الأول )( ) .

*****

*المسألة الثانية : إعادة الجاني عضوه المقطوع بالقصاص :

أما المسألة الثانية فهي أن الجاني إذا قطع عضوه من القصاص , فأعاده إلى محله بعد استيفاء القصاص , هل يعتبر ذلك مخالفة لأمر القصاص , فيقتص منه مرة أخرى ؟ أو لا يعتبر ؟ .

فجزم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بأن القصاص قد حصل بإبانة عضو الجاني مرة , فلو أعاده إلى محله فإنه لا يلغي استيفاء القصاص السابق , فلا يقتص منه مرّة ثانية , وإن ترك العضو المزروع في محله لا يعتبر مخالفة لأمر القصاص . قال رحمه الله بعد بيان المسألة الأولى وهي إعادة المجني عليه عضوه إلى محلّه ( وإن لم يثبته المجني عليه , أو أراد إثباته فلم يثبت( ) وأقص من الجاني عليه , فأثبته , فثبت , لم يكن على الجاني أكثر من أن يبان منه مرّة , وإن سأل المجني عليه الوالي أن يقطعه من الجاني ثانية لم يقطعه الوالي للقود , لأنه قد أتى بالقود مرّة إلا أن يقطعه لأنه ألصق به ميتة )( ) .

فظهر أن الجاني لا يمنع من ذلك , ولا يقطع عضوه مرة ثانية , لمخالفتـه لموجب القصاص . وأما ما ذكره الشافعي رحمه الله من الأمر بقطعه بسبب إلصاق الميتة فسيجيء الكلام على ذلك تحت المسألة الثالثة إن شاء الله تعالى .

وأما الحنابلة , فعندهم في هذه المسألة قولان : أحدهما موافق للشافعية , وجزم به ابن قدامة في المغني , فقال ( وإن قطع أذن إنسان , فاستوفى منه , فألصق الجاني أذنه , فالتصقت , وطلب المجني عليه إبانتها , لم يكن له ذلك , لأن الإبانة قد حصلت , والقصاص قد استوفي , فلـم يبقَ له قبله حـق … والحكـم في السنّ كالحكم في الأذن )( ) .

وكذلك جزم القاضي أبو يعلى بأنه لا يقتص منه ثانياً , فقال رحمه الله ( فإذا قطعنا بها أذن الجاني , ثم ألصقها الجاني , فإن قال المجني عليه : ألصق أذنه بعد أن أثبتها , أزيلوها عنه , قلنا : بقولك لا نزيلها , لأن القصاص وجب بالإبانة وقد وجد ذلك )( ) .

ولكن جزم ابن مفلح في الفروع بأنه يقتص من الجاني مرة ثانية , فقال ( ولو ردّ الملتحم الجاني أقيد ثانية في المنصوص )( ) .

واختاره المرداوي والبهوتي أيضاً . قال البهوتي رحمه الله ( ومن قطعت أذنه ونحوها كمارنه قصاصاً , فألصقها فالتصقت , فطلب المجني عليه إبانتها , لك يكن له ذلك , لأنه استوفى القصاص . قطع به في ” المغني ” و ” الشرح ” . والمنصوص أنه يقاد ثانياً , اقتصر عليه في الفروع , وقدمه في المحرر وغيره . قال في ” الإنصاف “( ) : في ديات الأعضاء ومنافعها : أقيد ثانية على الصحيح من المذهب . وقطع به في التنقيح هناك وتبعه في ” المنتهى ” . قال في شرحه : للمجني عليه إبانته ثانياً , نص عليه لأنه أبان عضواً من غيره دوماً , فوجبت إبانته منه دواماً لتحقق المقاصة )( ) .

وأما المالكية فقد ذكروا إعادة المجني عليه عضوه , كما نقلنا عنهم في المسألة الأولى , ولم يذكروا إعادة الجاني عضوه بعد القصاص بهذه الصراحة التي وجدناها في كتب الشافعية والحنابلة . ولكن وجدت للمسألة ذكراً مختصراً في كلام ابن رشد رحمه الله , حيث يقول ( فإن اقتص بعد أن عادا لهيئتها , فعادت أذن المقتص منه أو عينه فذلك , وإن لم يعودا , أو قد كانت عادت سنّ الأول أو أذنه فلا شيء له , وإن عادت سنّ المستقاد منه أو أذنه , ولم تكن عـادت سنّ الأول ولا أذنه غـرم العقل . قالـه أشهب في كتـاب ابن المواز )( ) .

وحاصله أن إعادة الجاني عضوه إنما لا يؤثر في القصاص , إذا كان المجني عليه أعاد عضوه أيضاً , أما إذا لم يعد المجني عليه أعاده الجاني , فإن الجاني يغرم العقل .

أما الحنفية , فلم أجد عندهم مسألة إعادة الجاني عضوه ولكن ذكر في ( الفتاوى الهندية ) عن ( المحيط ) مسألة تشابه ما نحن فيه, وهي ما يلي ( إذا قلع رجل ثنية رجل عمداً , فاقتص له من ثنية القالع , ثم نبتت ثنية المقتص منه , لم يكن للمقتص له أن يقلع تلك الثنية التي نبتت ثانياً )( ) .

وهذا يدل على أن الأصل عند الحنفية أن المجني عليه إنما يستحق إبانة عضو الجاني مرّة واحدة , وليس من حقه أن يبقي العضو فائتاً على الدوام , فالظاهر أن مذهبهم مثل مذهب الشافعية في هذه المسألة وذلك لأمور :

(1) إنهم أجازوا بقاء الثنية النابتة بنفسها , ولم يروها معارضة لمقتضى القصاص , مع أنها أحكم وأثبت من السنّ الملصقة , وأكثر منها نفعاً , فالظاهر أن السنّ المزروعة أولى أن لا تكون معارضة لمقتضى القصاص .

(2) قد ذكرنا في المسألة الأولى أن المجني عليه إذا أعاد عضوه إلى محله , فإن ذلك لا يؤثر في ما ثبت على الجاني من القصاص والأرش , بل يجب القصاص كما كان يجب عند عدم الزرع . فيقاس على ذلك زرع الجاني عضوه , وأنه لا يؤثر في ما استوفى من قصاص . وإلا فليس من الإنصاف أن يزرع المجني عليه عضوه . ويمنع الجاني من ذلك بتاتاً .

فالراجح عندي مذهب الشافعية وجماعة من الحنابلة وهو مقتضى مذهب الحنفية , أن القصاص يحصل بإبانة العضو مرّة واحدة , ولكل واحد من الفريقين الحرية في إعادة عضوه بعملية طبية إذا شاء . فلو فعل ذلك الجاني , ولم يفعله المجني عليه , فإن ذلك مبني على أن كل واحد يتصرف في جسمه بما يشاء , ولا يقال إن عمل الجاني مخالف لمقتضى القصاص , كما إذا أعاده المجني عليه , ولم يعده الجاني , فإن ذلك لا يؤثر في أمر القصاص , وكل واحد يختار في معالجة ضرر جسمه ما يتيسر له , ولا سبيل إلى إحداث المساواة بين الناس في علاج أجسامهم . والله سبحانه وتعالى أعلم .

*****

* المسألة الثالثة : هل العضو المزروع في المسألتين نجس ؟

كل ما قدمنا كان يتعلق بمسألة القصاص , وإنما نظرنا إلى الآن في مسألة زراعة العضو المقطوع من حيث أنه يعارض مقتضى الحكم بالقصاص أو لا ؟ وقد رجحنا مذهب جمهور الفقهاء أن الزراعة لا تؤثر في أمر القصاص شيئاً , فما كان ثابتاً قبل الزراعة , يبقى ثابتاً بعدها , وما استوفى قبلها , لا يحكم بإعادته بعدها .

وننتقل الآن إلى مسألة أخرى , وهي : هل يجوز للمجني عليه أو الجاني ديانة أن يعيد عضوهما المبان إلى محلّه ؟ وهل يعتبر ذلك العضو طاهراً أم نجساً ؟ وهل تجوز الصلاة معه أو لا يجوز ؟

وإنما نشأت هذه المسألة , لأن الفقهاء قد اختلفوا في العضو المبان من الحي , هل هو طاهر أم نجس ؟ فذهبت جماعة إلى أن كل ما أبين من الحيّ فهو نجس على الإطلاق , استدلالاً بقوله عليه السلام ( ما قطع من حي فهو ميت )( ) .
وبما رواه أبو واقد الليثي رضي الله عنه قال : قد النبي صلى الله عليه وسلم المدينة , وهو يُجبّون أسنمة الإبل , ويقطعون أليات الغنم , فقال ( ما يقطع من البهيمة وهي حيّة , فهو ميتة )( ) .

فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن هذا الحكم عامّ لكل حيّ فقال في كتاب الأم ( وإذا كسر للمرأة عظم , فطار , فلا يجوز أن ترقعه إلا بعظم ما يؤكل لحكم ذكياً . وكذلك إن سقطت سنّه صارة ميتة , فلا يجوز له أن يعيدها بعدما بانت … وإن رقع عظمه بعظم ميتة أو ذكي لا يؤكل لحمه , أو عظم إنسان فهو كالميتة , فعليه قلعه , وإعادة كل صلاة صلاها وهو عليه . فإن لم يقلعه جبره السلطان على قلعه )( ) .

وما نقلنا عنه في المسألة الثانية من قوله ( وإن سأل المجني عليه الوالي أن يقطعه من الجاني ثانية , لم يقطعه الوالي للقود , لأنه قد أتى بالقود مرّة , إلا أن يقطعـه , لأن ألصق به ميتة )( ) .

فهو في هذا السياق .. فكأن الإمام الشافعي رحمه الله , حسب ما يبدو من كتاب الأم , لا يرى في إعادة الجاني عضوه مانعاً من حيث مخالفته لمقتضى القصاص , ولكنه لا يراه جائزاً من حيث أن العضو المبان نجس , فلا يجوز إلحاقه بالجسم , ولو ألحقه أمره السلطان بالقلع , لكونه مانعاً من صحة الصلاة .

ولكننا إذ نراجع كتب الشافعية المعتبرة , نجد أن معظمهم اختاروا طهارة جزء الآدمي , وإن بان منه حال حياته , فيقول النووي رحمه الله ( الأصل أن ما انفصل من حيّ فهو نجس , ويستثنى الشعر المجزوز من مأكول اللحم في الحياة .. ويستثنى أيضاً شعر الآدمي , والعضو المبان منه .. فهذه كلها طاهرة على المذهب )( ) .

ويقول الشربيني الخطيب رحمه الله ( والجزء المنفصل من الحيوان الحيّ ومشيمته كميتته , أي ذلك الحيّ , إن طاهراً فطاهر , وإن نجساً فنجس … فالمنفصل من الآدمي أو السمك أو الجراد طاهر , ومن غيرها نجس )( ) .

ويقول الرملي رحمه الله ( والجزء المنفصل بنفسه أو بفعل فاعل من الحيوان الحيّ كميتته طهارة وضدها … فاليد من الآدمي طاهرة , ولو مقطوعة في سرقة )( ) .

ويذكر الشبراملسي رحمه الله تحته ( انظر لو اتصل الجزء المذكور بأصله وحلته الحياة , فهل يطهر ويؤكل بعد الذكية أو لا ؟ ونظيره ما لو أحيا الله الميتة ثم ذكيت , ولا يظهر في هذه إلا الحلّ , فكذا الأولى )( ) .

وهذا يدل على أن العضو المبان من الآدمي الحيّ طاهر مطلقاً . وأما العضو المنفصل من غيره , فإنما يحكم بنجاسته إذا لم يتصل بعد الإبانة بمحلّه الأصليّ , فلو اتصل وحلـّته الحياة , عاد طاهراّ .

وإن هذه النصوص بظاهرها معارضة لما نقلنا عن كتاب الأم . فلعلّ ما في كتاب الأم رجع عنه الشافعي بعد ذلك , أو اختار الفقهاء الشافعية قولاً يخالف رأيه , وعلى كلّ , فالمذهب عند الشافعية الآن طهارة العضو المبان من الآدمي . وعليه فلا يؤمر بقلعه إذا أعاده إلى محلّه , ولا يحكم بنجاسته وفساد صلاته .

أما الحنفية , فالأصل أن الأعضاء التي لا تحلّها الحياة , كالظفر , والسنّ , والشعر , لا تجنس بإبانتها من الآدمي الحيّ . ولكن الأعضاء التي لا تحلها الحياة , مثل الأذن , والأنف وغيرهما , فإنها تجنس بعد إبانتها من الحيّ . ولكن قرر المتأخرون منهم أنها ليست نجسة في حق صاحبها , فلو أعادها صاحبها إلى اصلها , لا يحكم بنجاستها , وإنما هي نجسة في حق غيره . فلو زرعها غير المقطوع منه في جسمه كانت نجسة . وهذا أيضاً إذا لم تحلها الحياة . أما إذا حلّتها الحياة بعد الزرع , فلا نجاسة في حق الغير أيضاً .

أما الأصل المذكور فقد بينه ابن نجيم بقوله ( إن أجزاء الميتة لا تخلو : إما أن يكون فيها دم أو لا , فالأولى كاللحم نجسة , والثانية ففي الخنزير والآدمي ليست نجسة إن كانت صلبة كالشعر والعظم بلا خلاف … وأما الآدمي ففيه روايتان : في رواية نجسة … وفي رواية طاهر لعدم الدم , وعدم جواز البين للكرامة )( ) .

ولكن جاء في الفتاوى الخانية ( قلع إنسان سنه أو قطع أذنه , ثم أعادها إلى مكانهما وصلى , أو صلى وسنه أو أذنه في كمّه , تجوز صلاته في ظاهر الرواية )( ) .

والمسألة المذكورة في ( التجنيس ) و ( الخلاصة ) و ( السراج الوهاج ) أيضا , كما في ( البحر ) و ( رد المحتار ) واستشكلها بعض العلماء بالأصل المذكور , فإن الأذن تحلها الحياة , فينبغي أن تصير نجسة بالإبانة على ما ذكرنا من أصل الحنفية . وأجاب عنه المقدسي , كما نقل عنه ابن عابدين بقوله ( والجواب على الإشكال أن إعادة الأذن وثباتها إنما يكون غالباً بعود الحياة إليها , فلا يصدق أنها مما أبين من الحيّ , لأنها بعود الحياة إليها صارت كأنها لم تبن , ولو فرضنا شخصاً مات , ثم أعيدت حياته معجزة , أو كرامة , لعاد طاهراً )( ) .

وعلق عليه ابن عادين بقوله ( أقول : إن عادت الحياة إليها فهو مسلم , لكن يبقى الإشكال لو صلى وهي في كمّ مثلاً , والأحسن ما أشار إليه الشارح – أي صاحب ” الدر المختار ” – من الجواب بقوله : وفي ” الأشباه ” … إلخ , وبه صرح في ” السراج ” – أي حيث قال : والأذن المقطوعة والسنّ المقطوعة طاهرتان في حق صاحبهما , وإن كانتا أكثر من قدر الدرهم – فما في ” الخانية ” من جواز صلاته ولو الأذن في كمّه , لطهارتهما في حقه , لأنها أذنه )( ) .

وعبارة الأشباه التي أشار إليها ابن عابدين نصها ما يلي ( الجزء المنفصل من الحيّ كميتة , كالأذن المقطوعة والسن الساقطة إلا في حق صاحبه فطاهر وإن كثر )( ) .

وتبين بهذه النصوص الفقهية أن العضو المبان من الآدمي ليس نجساً في حق صاحبه عند الحنفية , وكذلك إذا حلته الحياة بعد الإعادة , فإنه ليس نجساً في حق أحد . وإنما النجس عند الحنفية في حق الغير ما أبين من الآدمي فلم تحلّه الحياة بالإعادة . فثبت أن الحكم عند الحنفية في مسألتنا مثل المختار من مذهب الشافعية , أن إعادة العضو المبان إلى محلّه لا ينحسه , فلا يمنع منه , ولا تفسد به الصلاة .

أما المالكية فإن المتعمد عندهم أن ما أبين من الآدمي ليس نجساً . قال الدردير في ( الشرح الكبير ) ( فالمنفصل من الآدمي مطلقاً طاهر على المعتمد ) .

وقال الدسوقي تحته ( أي بناء على المعتمد من طهارة ميتته , وأما على الضعيف فما أبين منه نجس مطلقاً … على المعتمد من طهارة ما أبين من الآدمي مطلقاً , يجوز ردّ سن قلعت لمحلها لا على مقابله )( ) .

ثم ذكر الحطاب أن القول بالنجاسة , على كونه مرجوحاً , إنما يؤثر في ابتداء الإعادة فيمنع منه الرجل ابتداء , ولكن إذا ردّ الإنسان السنّ إلى موضعها , فثبتت والتحمت جازت صلاته على هذا القول أيضاً .

وفي البرزاليّ ( إذا قلع الضرس وربط لا تجوز الصـلاة به , فـإن ردّه والتـحم , جازت الصلاة به للضرورة )( ) .

وذكر الزرقاني عن المدونة أن القول بالنجاسة , – وإن كان ضعيفاً كما أسلفنا – يستثنى من مواضع الضرورة . قال رحمه الله ( وعلى عدم طهارة ميتته لا ترد سنّ سقطت , وعلى طهارتها تردّ . وظاهره لم يضطر وإن لردّها على هذا بخلافه على الأول , فيجوز للضرورة كما في ” شرح المدونة ” وروي عن السلف , عبدالملك وغيره أنهم كانوا يردونها ويربطونها بالذهب )( ) .

فظهر أن الراجح في مذهب المالكية طهارة العضو المبان فيجوز إعادته إلى محلّه , ولو عاد وثبت والتحم , حكم بطهارته وجواز الصلاة فيه على القولين جميعاً .

والحنابلة عندهم في ذلك روايتان . قال ابن مفلح ( وإن عاد سنه بحرارتها , فعادت فطاهرة , وعنه نجسة )( ) .

ولكن رجح المرداوي الطهارة , وذكر أن عليه الأكثرين , قال رحمه الله ( فإن سقطت سنّه فأعادها بحرارتها , فثبتت , فهي طاهرة , هذا المذهب , وعليه الجمهور , وقطع به أكثرهم , وعنه أنها نجسة … وكذا الحكم لو قطع أذنه فأعادها في الحال . قـاله في القواعد )( ) .

وبهذا القول جزم البهوتي أيضا( ) . وهو مؤيد بما رواه أبو يعلى عن الإمام أحمد رحمه الله برواية الأثرم في مسألة القصاص نفسها . قال ( ونقل الأثرم عنه في الرجل يقتص منه أذن أو أنف , فيأخذ المقتص منه فيعيد بحرارته فيثبت و هل تكون ميتة ؟ فقال : أرجو أن لا يكون به بأس … فقيل له : يعيد سنّه ؟ قال : أما سنّ نفسـه فلا بأس , وهذا يدل على الطهارة , لأنه بعض من الجملة , فلـــما كانت الجملة طــاهرة كان أبعاضها طاهرة )( ) .

فثبت بما أسلفنا – والحمد لله – أن الراجح في المذاهب الأربعة جميعاً : أن الرجل إذا أعاد عضوه المبان إلى محلّه , فإنه يبقى طاهراً , ولا يحكم بنجاسته , ولا بفساد صلاته , ولا يؤمر بقلعه من هذه الجهة .

فلما ثبت أن إعادة العضو لا يخالف مقتص القصاص ولا يستلزم النجاسة , ظهر أنه مباح لا بأس به . والله سبحانه وتعالى أعلم .

*المسألة الرابعة : إعادة العضو المبان في حدّ :

والمسألة الرابعة : إذا أبين عضو رجل في حدّ شرعي , كالسرقة والحرابة , هل يجوز للمحدود أن يعيده إلى محله بعد استيفاء الحد , وهل يعتبر ذلك افتياتا على الحد الشرعي ؟

وإن هذه المسألة لم أجدها في كلام الفقهاء , ولعل وجه ذلك أن إبانة العضو في الحد إنما يتصور في اليد أو الرجل , لأن الحد الذي يبان فيه عضو منت الأعضاء ينحصر في سرقة أو حرابة . والعضو المبان في كل واحد منهما يد أو رجل . ولعلّ الفقهاء لم يتصوروا إعادتها إلى محلّهما بعد الإبانة . والوضع لا يزال حتى الآن كما كان في مجال الجراحة ورزع الأعضاء , ولكنها لم ينجح إلى اليوم في إعادة هذه الجوارح إلى محلّها نجاحا كاملاً . وإن الأيدي والأرجل المزروعة , على ما تكلف من النفقات الباهظة , وتتطلب الجهد الشاق , لا تعمل عملها السابق , حتى أن الأعضاء المصنوعة من الخشب أو الحديد تفيد المريض أكثر بالنسبة إلى الأعضاء الأصلية المزروعة . وجاء في دائرة المعارف البريطانية :

“if the delicate sheaths containing the nerves are cut , however , as must happen if a nerve is partially or completely severed , regeneration may not be possible .
Even if regeneration occurs , it is unlikely to be Complete … defective nerve regeneration is the main reason why limb grafts usually are unsatisfactory . A mechanical artificial limb is likely to be of more value to the patient “( )

( إن قطع الغلاف النحيف الذي يحوي الأعصاب , كما يقع لزاماً حينما يبان عصب من الأعصاب كلا أو جزءاً , فإن نشأتها الثانية غير ممكنة . ولو نشأت من جديد , فإن كون النشأة كاملة معتذرة … وإن هذا النقص في نشأتها الثانية هو السبب الأكبر في كون زراعة الجوارح غير ناجحة . والظاهر أن عضواً مكانيكياً مصنوعاً أكثر إفادة للمريض .

وذكر في محل آخر :

” Replacement of severed hands and arms has been tried in a few patients , and some of the results appear to have been worthwhile ; replacement of lower limbs seem much less justifiable the patient is likely to be better off with an artificial leg ” ( )

( إن إعادة اليدين والعضدين المقطوعتين قد حولت في بعض المرضى , وإن بعض النتائج تبدو معتدة بها . ولكن يبدو أن المبرر لإعادة الجوارح السفلية – كالأرجل – أقل كثير , لأن المريض يكون أحسن حالة باستعمال رجل مصنوعة ) .

وقد راجعت بعض الأطباء الموثوق بهم فأيدوا هذا المعنى , وأكدوا أن إعادة اليد أو الرجل لا تكون ناجحة , ولما كانت إعادة اليد أو الرجل أمراً لا يقع , حتى في زماننا , فالبحث عن حكمه الشرعي بحث نظري بحت لا علاقة له بالواقع العملي , بخلاف مسألة القصاص , فإنه يمكن أن يبان فيه أي عضو من أعضاء اليدين بما فيها الأعضاء الممكن زرعها وإعادتها , فلا يخلو البحث فيها من فائدة عملية , ولذلك ذكرتها بشيء من البسط والتفصيل .

أما البحث عن مسألة العضو المقطوع في السرقة أو الحرابة فلا يتعلق بالواقع العملي , فالمناسب أن لا نخوض فيها قبل وقوعها وكان السلف يكرهون الخوض في مسائل لم تقع بعد , ويقولون ( لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله ) .

ولذلك لا أرى البت في هذه المسألة حتى نشاهدها تقع عيناً , ولكني أريد أن أذكر الأصل الذي تبتنى عليه المسألة لو فرضنا أنها وقعت ليكون مساعداً في استخراج الحكم حينئذ .

وذلك أن المسألة لها منزعان :

المنزع الأول : أن نقيس الحد على القصاص , فنقول : قد ثبت بما أسلفنا في مبحث القصاص أن المختار عند جمهور الفقهاء أن القصاص ينتهي حكمه بإبانة العضو , وليس من جملة القصاص أن يبقى العضو فائتاً إلى الأبد , فكذلك الحدّ , إذا أقيم مرة بإبانة اليد أو الرجل , انتهت وظيفة الحدّ , وليس المقصود تفويت اليد أو منفعتها على سبيل الدوام , ولذلك يجوز للسارق والمحارب أن يستعمل يداً أو رجلاً مصنوعة . فلا مانع من أن يزرع المقطوعة .

والمنزع الثاني : أن بين الحدّ والقصاص فرقاً , وهو أ، المقصود من القصاص أن يصيب الجاني ضرر مماثل لضرر المجني عليه , وذلك يحصل بإبانة عضوه , فإن الجناية الصادرة من الجاني لم تتجاوز أن تقطع عضواً . ولك تكن مانعة من إعادته إلى محله إذا اختار المجني عليه ذلك . فكذلك استيفاء القصاص يحصل بمجرد الإبانة , ولا يمنع ذلك أن يعيد الجاني عضوه إلى محله , بخلاف إبانة العضو في الحد , فإنه ليس ذلك لأن يعيد الجاني عضوه إلى محله , بخلاف إبانة العضو في الحد , فإنه ليس مقابلاً لضرر مماثل , وإنما هو مقدر الله تعالى عقوبة ابتدائية , وحيث قد فرض الله سبحانه وتعالى قطع اليد أو الرجل فليس المقصود منه فعل الإبانة , وإنما المقصود إبانته لتفويت منفعته على الجاني , ولو أجزنا للجاني أن يعيده مرة أخرى , فإن ذلك تفويت لمقصود الحدّ .

فالنظر في المسألة موقوف على أن المقصود من الحد هل هو إيلام الجاني بفعل الإبانة فقط . أو المقصود تفويت عضوه بالكلية ؟ وعلى الأول تجوز الإعادة , وعلى الثاني لا نجوز . ولكل من الاحتمالين دلائل . ولا يجب علينا القطع بأحدهما الآن , لكون المسألة غير متصورة الوقوع حتى اليوم . ولئن وقعت فسيشرح الله تعالى صدور الفقهاء حينذاك بما فيه رضاه إن شاء الله .