بحث قانوني رائع في الوصية المستورة و اشتباهها بعقود البيع و الهبة

عبد العزيز سليمان

القاضي بمحكمة الإسكندرية الأهلية

مجلة المحاماة – العدد الخامس

السنة العشرون سنة 1940

بحث في الوصية المستورة واشتباهها بعقود البيع والهبة

الأصل أن الشارع وإن كان قد أطلق حرية المورث الذي يتوفى عن التصرف في أمواله حال حياته ولو أدى ذلك إلى تجريده من كل ثروته ما لم يكن غير أهل للتصرف فإنه بالرغم من هذا الأصل فإن المشرع قيد حريته في تصرفاته المضافة إلى ما بعد الموت وجعلها موقوفة على إجازة الورثة إن كانت لوارث وكذلك إذا كانت لغير وارث وتجاوزت الثلث وما دام الشارع قد حرم الوصية بغير القيود المذكورة فلا يملك شخص ما التحايل على أحكام الشريعة بإخفاء الوصية المستورة تحت ستار عقد آخر من العقود المنجزة غير الخاضعة لإجازة الورثة وإثبات هذه الصورية من الأصل جائز للورثة وللغير مهما كان شكل العقد الذي اتخذ ستارًا لإخفاء هذه الوصية سواء أكان العقد عقد بيع أو هبة والشريعة الإسلامية نفسها لا تستلزم لبطلان الوصية أن يكون التعاقد بلفظ الإيصاء صراحة بل أنها تقضي ببطلان الوصية المستورة إذا لم تكن إجازة الورثة لأنه قيل من الفقهاء أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.

وإذا كان الأصل كما سبق بيانه فإنه يتفرع على هذا أن الطعن بالصورية (في عقد البيع المدعي بتنجيزه والمقصود منه الوصية) يكون غير قاصر على الورثة بل يجوز لأحد المتعاقدين وهو الموصي أن يطعن بهذه الصورية بطرق الإثبات الواجبة قانونًا إما بورقة الضد وإما بالإثبات بالبينة إذا كان هناك مانع يمنع من الكتابة لأن للموصي حق الرجوع عن وصيته.

والبيع الوصية قد يشتبه أحدهما بالهبة – ولكن فيصل التفريق بين الوصية والهبة أن الهبة تمليك وتنجيز في الحال والوصية تمليك إلى ما بعد الموت وإن كانا معًا بتبرع – والفارق بين البيع والهبة أن الأول بعوض والثانية بتبرع وإن كانا معًا ينقلان الملكية في الحال – ولا يمكن القول بأن البيع قد قصد منه التبرع والهبة في صورة عقد البيع إذا ظهر من الظروف والقرائن أن التنجيز في الحال لم يكن قرين الهبة – فالوالد الذي يحرر عقدًا لأولاده بالبيع المذكور به قبض الثمن – ولو أن الظروف تدل على خلاف ذلك إما بإقرار المشترين وإما من قرائن التحقيق – فمثل هذا العقد لا يمكن اعتباره هبة جائزة في صورة عقد بيع لو أن الوالد احتفظ بالعقد بعيدًا عن متناول يد المشترين، لأن التعاقد في هذه الحالة يعتبر إما هبة لم يظهر من نية الموهوب له قبولها لا صراحة ولا ضمنًا وإما وصية لحفظ العقد تحت يد الوالد ومن باب أولى تحت يد غيره الأمر الذي يدل على أن الممسك لم يرد التمليك في الحال وأن نية الإيصاء كانت للاستقبال (المحاماة السنة 11 رقم (262) ص (519)).

1 – وأن ما يجدر بحثه هو بيان قيمة اشتراط البائع لنفسه الاحتفاظ بحق الانتفاع مدة حياته أو مدة معينة واشتراط عدم تصرف المشتري مدة معينة أو مدة حياة البائع ولمعرفة ذلك يمكن القول بأن مثل هذين الشرطين بمفردهما وبلا قرائن أخرى لا يدلان على نية الإيصاء ولا يدلان على أكثر من أن المملك قد اشترط تأجيل وضع اليد فقط ولم يؤجل الملكية فلا تستنج منهما نية التمليك إلى ما بعد الموت ولا تعرف نية الإيصاء بهما لأن في معنى الوصية تأجيل الملك وتأجيل تنجيزه إلى ما بعد الوفاة والأصل أنه لا يوجد قانونًا ما يمنع وجود هذين الشرطين في عقود البيع المنجزة وفقط يجب التفريق بين شرط عدم التصرف المؤبد وفي هذه الحالة يكون باطلاً وشرط عدم التصرف المؤقت الذي يعتبر عندئذ صحيحًا إذا كان لمدة قصيرة فإذا كان شرط عدم التصرف clause de nonalienabilité محدودًا بمدة حياة ناقل الملكية أو حياة شخص أجنبي فإنه يكون شرطًا صحيحًا جائزًا في البيع المنجز ولكن إذا اشترط عدم التصرف لمدة أطول من حياة ناقل الملكية فإنه يكون في حكم شرط عدم التصرف المؤبد ويكون باطلاً (الملكية والحقوق العينية لكامل بك مرسي نَبذة (287)) وقد ذهب الراجح من أحكام المحاكم وبحق إلى أن الاشتراط في عقد البيع على بقاء حيازة البائع للانتفاع بالعين المبيعة واشتراط عدم تصرف المشتري المؤقت لا يدل في ذاته وبمفرده على نية الإيصاء بل قد يفهم من هذين الشرطين التمليك البات لأن مثل هذه الاشتراطات أمر جائز قانونًا وهذه الأحكام جميعها اعتبرت مثل هذين الشرطين صحيحين:

أولاً: لأنه لا يمكن اعتبار العقد بهما وصية لأن الوصية بلا مقابل واحتفاظ البائع بالانتفاع يكون كمقابل.
ثانيًا: مثل هذه الاشتراطات صحيحة إذا كان للمشتري أو للبائع مصلحة محققة في إدراجها كمصلحة البائع في أن يحافظ على كيان المشتري المالي خوفًا من أن يتصرف فيمنع تصرفه لمدة مؤقتة إلى المدة اللائقة أو كمصلحة المشتري في أن يكون بارًا بالبائع فيمنحه حق الانتفاع المؤقت.
ثالثًا: لأن حكم الوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع ولكن في مثل هذه الاشتراطات ليس الأمر كذلك لأن المشتري يملك الرقبة في الحال وإن كان قد حرم من المنفعة مؤقتًا.
رابعًا: مثل هذه الاشتراطات التي يحتفظ فيها البائع بحق الانتفاع من قبيل تقرير مرتب مقرر بمدة الحياة وتعهد المشتري بعدم التصرف في العين لحين وفاة المملك نتيجة طبيعية للاشتراط الأول.
خامسًا: لأن الوصية تأجيل للملكية ووضع اليد معًا إلى ما بعد الموت أما مثل هذه الاشتراطات فتأجيل فقط لوضع اليد وهذا لا ينفي تنجيز الملكية في الحال لو كان التنجيز صحيحًا من ظروف أخرى (يراجع حكم النقض المنشور سنة 1939 بمجلة المحاماة السنة 19 العدد الثالث رقم (154) ص (360) وذكر به أن اشتراط البائع الاحتفاظ بحق الانتفاع واشتراط منع المشتري من التصرف في العين المبيعة مدة حياته هو عقد منجز مع الأخذ فقط بظاهر مثل هذا الشرط بمفرده وبدون قرائن أخرى تدل على نية الإيصاء – وأنه ليس لمحكمة النقض أن تتعرض لما استنتجته محكمة الموضوع – اللهم إلا إذا كان هناك خطأ في تكييف العقد وتطبيقه على القانون – ولا تتعرض محكمة النقض ما دامت محكمة الموضوع قد بنت رأيها عن تنجيز العقد على أسباب منتزعة من ظروف الدعوى وملابساتها بقرائن مسوغة لهذا التنجيز وتراجع أيضًا الأحكام الأخرى الصادرة قبل ذلك عن شرط عدم التصرف من جانب المشتري وشرط احتفاظ البائع بالانتفاع بصحة هذين الشرطين مع عقد البيع المنجز (مجلة الحقوق (3) ص (172)، الشرائع (3) رقم (165)، المحاماة السنة 2 رقم (64) ص (210)، المحاماة السنة 2 رقم (63) ص (207)، المجموعة لسنة 23 رقم (99) ص (153)، المحاماة السنة 2 رقم (25) ص (65)، المحاماة السنة 3 رقم (109) ص (162)، المحاماة السنة 3 رقم (420) ص (516)، المحاماة السنة 5 رقم (383)، المحاماة السنة 5 رقم (562) ص (684)، المحاماة السنة 8 رقم (486) ص (796)، المحاماة السنة 9 رقم (32) ص (52)، المحاماة السنة 9 رقم (594) ص (1090).
وذهبت بعض الأحكام إلى أن عدم دفع الثمن وبقاء الحيازة تحت يد البائع لحين الوفاة يجعل العقد وصية ولا يغير من هذه الصفة ذكر الثمن في العقد وإقرار البائع باستلامه متى ظهر أن الثمن لم يدفع حقيقة (المجموعة السنة 11 رقم (45) ص (125)، المجموعة السنة 11 رقم (47) ص (132)، المحاماة السنة 4 رقم (45) ص (419)، المحاماة السنة 6 رقم (254) ص (331)) ولكن تصور هذه الأحكام جاء من اعتبارها أن احتفاظ البائع بحق الانتفاع وشرط عدم التصرف من جانب المشتري تأجيل للملكية كما في الوصية ولكن الصحيح والواقع أن الذي يؤجل هو وضع اليد فقط وليست الملكية كما سبق بيانه.
ونية الإيصاء هي مسألة تقديرية تستنتجها المحكمة من ظروف كل دعوى على حدة بعيدًا عن بحث مثل هذين الشرطين السابقين وإذا وجدت مثل هذه الاشتراطات بتقييد المشتري من الانتفاع مع ظروف أخرى تدل على نية تأجيل الملكية إلى ما بعد الوفاة ومع ظهور عدم دفع الثمن حقيقة – ولا عبرة بما يذكر في العقد – ومع نية التبرع اعتبر العقد حتمًا وصية – ويلاحظ أن عدم دفع الثمن بمفرده لا يكفي لاعتبار العقد وصية بل لا بد من ظهور نية التمليك بعد الوفاة مع قرينة عدم دفع الثمن معًا – إذ قد يكون العقد منجزًا في الحال مع نية التبرع فيكون هبة في صورة عقد بيع وهذا جائز.

2 – وإتمامًا للبحث يتعين بيان ما جرت عليه أحكام المحاكم من احتفاظ البائع بعقد البيع الذي يحرره ويبقيه تحت يده أو تحت يد غيره كأمين وبيانًا لذلك قد حكم بأن تصرف الوالد لأولاده في أطيانه بعقود بيع حجزها ولم يسلمها إليهم بل أودعها لدى أمين وأوصاه بأن لا يسلمها لأحد منهم إلا بعد الوفاة مثل هذا الشرط يدل على نية الإيصاء ما دامت قد ظهرت نية التبرع في العقد بوضوح (المحاماة السنة 10 رقم (143) ص (291) وحكم أيضًا أن البيع الصادر من والد إلى ولديه ولم يدفع عنه ثمن (وصلة القرابة بين والد وأولاده كافية لاستنتاج عدم دفع الثمن) مع احتفاظ العقد تحت يد الوالد فمثل هذا التصرف إما هبة في صورة عقد بيع لكن لم تقبل الهبة فهي باطلة – وإما وصية وتمليك في الاستقبال بدليل الاحتفاظ بالعقد ولا تتم الوصية إلا حين الوفاة – ومن باب أولى لا تتم الوصية إذا عدل الموصي عن وصيته حال حياته – (تراجع المجموعة الرسمية السنة 32 رقم (93) ص (209) ثم جاء حكم محكمة النقض فاصلاً في مسألة احتفاظ البائع بالعقد تحت يده وهو لا يسلمه لمن حصل لهم التصرف وقررت أن تعرف نية العاقدين الواقع في الدعوى مسألة موضوعية ومتى كان هذا التعرف مبنيًا على أسباب منتجة له فهو تعرف صحيح، فإذا ثبت لقاضي الموضوع أن العقد المتنازع على تكييفه صدر من جد لأحفاده وكان له ولد ظهر أنه لم يدفع للمبيع ثمن (إما بإقرار المشتري وإما من التحقيق) وإذا كان الجد قد احتفظ بالعقد تحت يده (ومثله من يحتفظ بالعقد تحت يد أمين ولا يسلم إلا بعد الوفاة) ودون تسجيل هذا العقد، فإذا ثبت لقاضي الموضوع ذلك كله واستخلص من القرائن أن الجد لم يرد بذلك العقد غير وصية فإن استخلاص الوقائع بهذه الكيفية هو تحصيل منتج للوقائع التي اعتمد عليها (حكم النقض الصادر في 22 فبراير سنة 1934 مجموعة الأستاذ محمود عمر رقم (167) ص (327) والمحاماة السنة 14 ص(360)، المجموعة الرسمية السنة 35 ص(219)).

3 – وأما حكم عقود البيع التي يظهر منها ذكر الثمن في التعاقد وهو لم يدفع حقيقة مع احتفاظ البائع لنفسه بحق التصرف في الملك حال حياته فهذا أمر يدل على نية الإيصاء ولا يدل على نية التنجيز في الحال إذا ظهرت نية التبرع وذلك مفهوم يقينًا لأن احتفاظ البائع بحرية التصرف في ملكه معناه أنه يمكنه أن يعدل عن البيع الذي صدر بنقل الملكية لشخص آخر خلاف من اشترى منه، وهذا المظهر لا يكون إلا فيمن يعدل عن الوصية، ومعنى احتفاظ البائع لنفسه بحق التصرف في الملك هو احتفاظه بوضع اليد لنفسه واحتفاظه بحق التصرف معًا وحق التصرف هذا يبيح له نقل الملكية للغير، وإذا احتفظ لنفسه بوضع اليد والانتفاع فقط أمكن اعتبار هذا الشرط الأخير مستطاعًا مع فكرة تنجيز العقد، وقد تستنتج فكرة احتفاظ البائع بحرية التصرف في الملك إما من العقد صراحة وإما من الظروف ضمنًا كأن يبيع البائع ماله للمشتري ويذكر في العقد أنه منجز ثم يتصرف بعد ذلك إلى مشترٍ آخر فيصادق المشتري الأول على التصرف الحادث بعد ذلك (المحاماة الـ 8 رقم (143) ص (191)) وقد ورد بهذا الحكم أنه لا يعقل أن يجرد البائع نفسه من كل ما يملك إلا إذا كان يقصد نية الإيصاء فإذا تصرف البائع بعد عقده الأول وصادقه المشتري الأول على هذا التصرف الأخير كان عقده الأول غير منجز وأنه يرمي به إلا اعتباره وصية بدليل إقرار من صدر العقد لمصلحته أولاً بعدم حصول التنجيز.

4 – وعكس ذلك إذا ما ذكر في عقد البيع أن المشتري أبيح له أن يتصرف تصرف الملاك فيما بيع له كمالك له حق التصرف بنقل التكليف والملكية إلى الغير، فإن معنى إباحة التصرف له في هذه الحالة هو المقصود منه التصريح له بنقل الملكية للغير وليس المقصود فقط إباحة التصريح له بالتنازل عن وضع اليد كالتأجير والمزارعة وإلا لو ذكر هذا الاشتراط الأخير بإباحة التصرف للمشتري فقط في وضع اليد فإنه يدل على نية البائع المتصرف بأنه لا يقصد البيع المنجز في الحال إذا كانت القرائن والظروف تساعد على استنتاج نية الإيصاء.

وينبني على القاعدتين السالف بيانهما:

أولاً: إذا ذكر في عقد البيع احتفاظ البائع لنفسه بحق التصرف في ملكه لحين وفاته أو حال حياته دل هذا صراحة على نية الإيصاء لو اكتفى بهذا الشرط أو إذا ذكر معه شرط منع المشتري من التصرف.
ثانيًا: إذا ذكر في عقد البيع احتفاظ المشتري لنفسه والإباحة له بحق التصرف فيما اشتراه تصرف الملاك دل هذا صراحة على فكرة تنجيز العقد ولو اكتفى بهذا الشرط أو ذكر معه شرط منع البائع من التصرف فيما بيع ولو مع احتفاظ البائع بحق الانتفاع.
عبد العزيز سليمان
القاضي بمحكمة الإسكندرية الأهلية