أفضل الأبحاث القانونية حول جريمة الإحتيال عبر البريد الإلكتروني

المقدمة :

أصبح الإنترنت ونحن في القرن الحادي والعشرين بيئة خصبة لجرائم النصب والاحتيال ، حيث نراها تتكاثر وتزداد يوماً بعد يوم ، ومما ساعد على انتشارها وتكاثرها البحث المشترك لكل من المجرم والضحية عن المال بأيسر الطرق ودون عناء ، فلم يعد المجرم اليوم بحاجة إلى أدوات وآلات تقليدية لارتكاب جريمته ، لأن المجال الآن أوسع ويكاد يكون جهاز الكمبيوتر هو الوسيلة الوحيدة المستعملة زائداً الحساب المصرفي . ومن المؤكد في الوقت الحاضر أن الدول المتقدمة والتي تعتمد بشكل كبير على هذه التكنولوجيا المتطورة في إدارة شؤون الحياة يزداد فيها هذا النوع من جرائم النصب والاحتيال الإلكتروني قياساً على غيرها من باقي الدول . ويمثل البريد الإلكتروني وسيلة من أكثر الوسائل للتحايل عبر الإنترنت ، ومنها إرسال الرسائل التي قد تحتوي على صفات وهمية وأسماء غير صحيحة من شأنها حمل المجني عليهم على تسليم المال إلى الجاني اعتقاداً منهم بصحة هذه المعلومات . حيث انتشرت ظاهرة قيام البعض بإرسال رسائل جماعية بالبريد الإلكتروني تفيد بفرصة الحصول على ملايين الدولارات الأمريكية .

أهمية البحث :

تتمثل أهمية هذا البحث في التعرف على جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني وبيان القوانين التي سيخضع لها مرتكب هذا النوع من الجرائم المستحدثة والأحكام التي تنطبق عليه .

فروض البحث – تساؤلاته :

يثير هذا الموضوع جملة تساؤلات : ما هي جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ؟ وبماذا تتميز عن جريمة الاحتيال العادية ؟ وكيف يمكن أن نتصور وقوع هكذا نوع من الاحتيال بين أشخاص لا يعرف أحدهم الآخر ؟ وما هو دور شبكة الإنترنت في ارتكاب مثل هذا النوع من الجرائم ؟ وما هو محل جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ؟ وما هو نوع الحساب المصرفي لدى كل من الجاني والمجني عليه ؟ وما هو دور المصرف في تحقيق مثل هذا النوع من الجرائم ؟ وهل تكفي النصوص القانونية العقابية التي نظمت جريمة الاحتيال والواردة في القسم الخاص من التشريعات الجزائية للتصدي لمثل هذا النوع من الجرائم الإلكترونية المستحدثة ؟ وما هو مكان وقوع جريمة الاحتيال ؟ ولأية جهة قضائية تخضع ؟ وأين يمكن إقامة الدعاوى المتعلقة بها ؟

وبالنظر لما لهذا الموضوع من أهمية بالغة ولكثرة هذا النوع من الجرائم على الإنترنت وباستخدام التقنيات الحديثة فقد بدت الحاجة ملحة لضرورة تدخل تشريعي لمعالجة ومكافحة مثل هذا النوع من الجرائم ، ومن هنا وقع اختيارنا على دراسة وبحث هذا الموضوع .

منهج البحث :

استخدمت في هذا البحث المنهج الاستقرائي التحليلي المقارن إذ تم تحليل نصوص القوانين الجنائية والمقارنة فيما بينها مع الاعتداد في هذا الصدد ببعض التشريعات الجنائية العربية التي قننت الجرائم الالكترونية في تشريعاتها .

أهداف البحث :

يهدف البحث إلى ما يلي :

1- بيان مفهوم جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني .

2- بيان مسؤولية مرتكب هذا النوع من الجرائم الإلكترونية المستحدثة .

3- معرفة حكم القوانين الجنائية العربية تجاه جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني .

4- لفت انتباه السلطة القضائية والسلطة التشريعية إلى ظهور جرائم جديدة ترتكب يومياً ضد الآخرين والمجتمع بواسطة الحاسبة الإلكترونية ومن خلال شبكة الإنترنت .

5- نشر الوعي لدى السلطة التحقيقية والقضائية ورفع مستوى الكفاءة لديهم واطلاعهم على كل ما هو جديد في عالم الجرائم الإلكترونية .

خطة البحث :

سوف نتعرض بالدراسة إلى صور وأشكال جرائم النصب والاحتيال عبر البريد الإلكتروني وموقف التشريعات الجزائية المقارنة .

عليه تم تقسيم خطة بحث الموضوع إلى أربعة مباحث ، ففي المبحث الأول تم التطرق إلى تحديد ماهية جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني في مطلبين ، المطلب الأول لتعريف جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني وفي المطلب الثاني لبيان أوجه الشبه والخلاف مع بعض الجرائم المشابهة لها . أما المبحث الثاني فتمت دراسة الركن المادي وتم تقسيمه إلى ثلاثة مطالب ففي المطلب الأول تناولنا عنصر السلوك المادي وفي المطلب الثاني عنصر النتيجة الجرمية وفي المطلب الثالث الرابطة السببية بينهما .

أما المبحث الثالث فتم تخصيصه لدراسة القصد الجنائي في مطلبين ففي المطلب الأول وضحنا القصد الجنائي العام وفي المطلب الثاني بينا القصد الجنائي الخاص .

وأخيراً ففي المبحث الرابع بينا العقوبة المفروضة على جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني .

واختتمنا البحث بجملة من النتائج والتوصيات ، نسأل الله عز وجل أن نكون قد وفقنا في دراسة هذا الموضوع والإلمام بكل ما يحيط به والله ولي التوفيق

المبحث الأول

ماهية جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني

في بادئ ذي بدء وقبل الدخول في دراسة هذا النوع من الجرائم الإلكترونية المستحدثة وبيان أركانها وعقوبتها ، لا بد من تعريفها من الناحية اللغوية والتشريعية والفقهية ثم التعرض إلى بيان أوجه الشبه والخلاف مع ما يشتبه بها من جرائم أخرى .

المطلب الأول

تعريف جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني

قبل دراسة أي موضوع فلا بد من تعريفه وبيان ما هيته ، فالاحتيال في اللغة العربية مأخوذ من الفعل الثلاثي ( ح ي ل ) والحيلة اسم من الاحتيال ، يقال ما له حيلة ، وهو أحيل منه أي أكثر حيلة(1) وجريمة الاحتيال تعرف في اللغة الإنكليزية Fraud(2) التي ورد تحديد معناها في قاموس مصطلحات العدالة الجنائية على أنها الحصول على النقود أو أي شيء آخر له قيمة عن طريق المظاهر الكاذبة والخداعة(3)، وفي اللغة الفرنسية Escroquerie(4) التي تعني النصب .

أما من الناحية القانونية ، فعلى صعيد الفقه وردت تعريفات متعددة فالدكتور رؤوف عبيد عرفها (بأنها كل كذب مصحوب بوقائع خارجية أو أفعال مادية يكون من شأنها توليد الاعتقاد لدى المجني عليه بصدق هذا الكذب بما يدفعه إلى تسليم ما يراد منه تسليمه طواعية واختياراً ) ، في حين عرفها السيد إياد العزاوي بأنها « تلك الجريمة التي تتحقق من خلال توصل الجاني أو شخص آخر إلى تسلم مال منقول مملوك للغير دون وجه حق ، نتيجة استخدام الجاني لإحدى وسائل الخداع المنصوص عليها في القانون على سبيل الحصر والتي تسفر عن وقوع المجني عليه في الغلط الدافع إلى التسليم» (5) .

أما تشريعياً ، فالأصل التعاريف هي ليست من واجب المشرع إلا إذا أريد بها معنى محدد ، ولهذا نجد أن معظم التشريعات الجزائية تتجنب إيراد التعاريف ، ففيما يخص جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ، ابتداءً وقبل بيان تعريفها من الناحية التشريعية ، فقد انقسمت التشريعات الجزائية فيما بينها حول إيراد النص عليها ، فمعظم التشريعات جعلتها خاضعة للقواعد العامة في جريمة الاحتيال والواردة في القسم الخاص من قانون العقوبات ومن ثم اكتفت بما هو وارد فيها ولم تستحدث نصوص قانونية خاصة بها ، فهذه التشريعات وسعت من تفسيرها لهذه النصوص وجعلتها تشمل جريمة الاحتيال الواقعة من خلال شبكة الإنترنت ، وعلى الجانب الآخر هناك من التشريعات الجزائية ما قد وضعت نصوصاً قانونية خاصة بهذا النوع من الجرائم المستحدثة كالقانون الاتحادي لمكافحة جرائم تقنية المعلومات الإماراتي وبعض الولايات المتحدة الأمريكية والتي أصدرت قوانين تعاقب على الاستخدام غير المسموح به للكمبيوتر بهدف ارتكاب أفعال الغش أو الاستيلاء على المال .

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى اختلفت التشريعات الجنائية العربية فيما بينها في تسميتها لجريمة الاحتيال في اتجاهين ، فالاتجاه التشريعي الأول ذهب إلى تسميتها بجريمة النصب كالقانون الجزائري والمصري والليبي والكويتي والبحريني والمغربي(6) ، أما الاتجاه التشريعي الثاني فقد استخدم تعبير الاحتيال كالقانون الأردني والسوري والعراقي واللبناني والعماني والقطري(7) .

أما التعريف التشريعي لجريمة الاحتيال ، فيوجد هناك اتجاهين ، أولهما لم يورد تعريف لهذه الجريمة كالقانون الإماراتي والقطري والعراقي واليمني والسوداني والسوري واللبناني والعماني والفنلندي . وثانيهما أورد تعريفاً لجريمة الاحتيال فقانون الجزاء الكويتي عرف جريمة الاحتيال «كل تدليس يقصد به فاعله إيقاع شخص في الغلط أو إبقاؤه في الغلط الذي كان واقعاً فيه لحمله على تسليم مال في حيازته وترتب عليه تسليم المال للفاعل أو لغيره ، سواء كان التدليس بالقول أو بالكتابة أو بالإشارة»(8) بينما عرفه قانون العقوبات البحريني «كل بيان أعطي عن أمر واقع ماض أو حاضر ، مع علم الشخص الذي أعطاه بأنه كاذب أو مع عدم اقتناعه بصحته ، وكل إخفاء مقصود ، أو بيان كاذب مقصود عن صحة أمر يعتبر احتيالاً على الناس»(9).

أما البريد الإلكتروني والذي يصطلح عليه في اللغة الإنكليزية e-mail فهو العنوان الإلكتروني الشخصي الذي يعين فيه اسم مستخدم الإنترنت كما ويحدد فيه الشركة المضيفة لهذا العنوان ويأخذ مثلاً الشكل التالي( ([email protected] فأصبح علي الفيل هو اسم المستخدم و @ تعني موجود لدى ، yahoo تعني اسم الشركة المضيفة . فهذا العنوان الإلكتروني يتيح لصاحبه تبادل الرسائل الإلكترونية ، وتوجد اليوم العشرات من الشركات المضيفة مثل (gmail, hotmail, yahoo) وغيرها كثير تسمح لأفراد المجتمع بتسجيل عناوينهم الإلكترونية لديها مجاناً(10) .

لقد اتخذت جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني والتي تم اكتشافها حديثاً العديد من الأشكال والسيناريوهات ولكنها كلها تشترك في كيفية تنفيذ عملية الاحتيال ، حيث يتم الاتصال بالضحية (المجني عليه) بواسطة البريد الإلكتروني ودون أية اتصالات مسبقة مع الضحية ، أما عناوين الضحايا فلا يوجد عنوان محدد بل يكون مفتوح بحيث يكون المرسل إليه بصيغة ([email protected]) ففي هذا النوع من رسائل البريد الإلكتروني تجد فيها طلب الحاجة إلى إخراج أموال من بلد ما ومعظم الأحيان يكون بلد أفريقي ، حيث يتم فيها طلب المساعدة من الضحية في تزويد المحتالين بتفاصيل معينة ومن ضمنها رقم حسابه المصرفي مقابل عرض نسبة عمولة قد تصل إلى 50% من المبالغ المطلوب إخراجها ، وبعد ذلك يتم طلب نسبة مقدمة أو مبلغ مالي مقطوع من المجني عليه وهو غالباً المبلغ النقدي الذي سيتم الاحتيال به على الضحية .

المطلب الثاني

تمييز جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني عما يشبه بها

لغرض إعطاء صورة أوضح لمعنى ومفهوم جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ، نميزها عن بعض الجرائم الأخرى التي قد تقترب منها أو وجود قواسم مشتركة فيما بينها .

1- الفرق بين جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني عن جريمة الاحتيال العادية .

هناك كثير من القواسم المشتركة بين الجريمتين فكلاهما احتيال يعتمد على وسائل الغش والخداع ، والجريمتين من الجرائم الواقعة على الأموال وغاية الجاني فيهما تتمثل في الاستيلاء على مال الغير بنية تملكه وحرمان صاحبه منه .

كما أن الجريمتين تعتمدان بالدرجة الأساس على دهاء وفطنة الجاني المحتال وقدرته على الاستيلاء على مال الغير وبرضاه وبكامل إرادته وبتمام سلامة قواه العقلية (للمجني عليه المخدوع) . ولهذا فكثير من الدول لم تشرع نصوصاً قانونية تجرم وتعاقب مرتكبي جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني لأن القضاء الجنائي في هذه الدول وسع من تفسيره للنصوص القانونية الخاصة بجريمة الاحتيال العادية وجعلها تمتد لتشمل هذه الجريمة ، وهذا ما أخذت به كافة الدول الإنكلوسكسونية كبريطانيا واستراليا وكندا .

ومع ذلك ، فثمة فوارق بين الجريمتين وكما يلي :

1- إن جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني تمر من خلال شبكة الإنترنت باستعمال رسائل البريد الإلكتروني ، بينما وسيلة الخداع في جريمة الاحتيال العادية تكاد لا تنحصر بطريقة معينة فكل ما من شأنه أن يؤدي إلى خداع الغير يعد احتيالاً ومن ثم فجريمة الاحتيال العادية هي أعم وأوسع في حين إن جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني هي جريمة خاصة وأضيق نطاقاً .

2- إن محل جريمة الاحتيال العادية يتمثل بالمال المنقول المملوك لغير الجاني ، بينما يتسع مفهوم المال المنقول في جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ليشمل المنافع والخدمات .

3 – تقع جريمة الاحتيال العادية بين الجاني والمجني عليه ، هي أقرب ما تكون وجهاً لوجه . في حين أن جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني تقع بين أشخاص متواجدين في مناطق متباعدة وفي دول مختلفة قاسمهم المشترك استخدامهم لرسائل البريد الإلكتروني عبر شبكة الإنترنت .

2 – الفرق بين جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني عن الجريمة المعلوماتية :

الجريمة المعلوماتية يطلق عليها جرائم الكمبيوتر ويقصد بها كل سلوك غير مشروع يتعلق بالمعلومات المخزنة في الكمبيوتر من حيث معالجتها والتلاعب بها وباستخدام جهاز الكمبيوتر ينشأ عنه خسارة تلحق بالمجني عليه أو كسب غير مشروع يحققه الفاعل(11) .

والجريمة المعلوماتية لها صور وأشكال متنوعة كسرقة المعلومات المخزنة أو التلاعب بها بالإضافة أو الحذف أو التعديل ، ووسيلة التوصل إلى مثل هذه المعلومات عادة ما تتم بطريق التحايل .

إن الجريمة المعلوماتية تتفق مع جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني في عدة أمور ، منها أن كل منهما يعدّ من الجرائم الإلكترونية المستحدثة وكلاهما يعتمد على طرفي الجريمة الجاني والمجني عليه في استخدامهم لجهاز الكمبيوتر لتنفيذ الجريمة كما أن الركن المادي في كل منهما يتشابه إلى حد بعيد لأن الجاني يعتمد على ما يحمله من فطنة وخدعة ودهاء وحيلة وكلاهما يعدان من الجرائم الواقعة على المال .

ومع ذلك ، توجد هناك عدة فوارق :

1 – يتوقف ارتكاب جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني على تحقق شرط توفر خدمة الإنترنت ، في حين لا يتوقف ارتكاب الجريمة المعلوماتية على تحقق مثل هذا الشرط .

2 – محل جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني هو المال المنقول المادي والمعنوي ، في حين أن محل الجريمة المعلوماتية لا يشمل المال المنقول المادي بل يقتصر على المال المنقول المعنوي ونقصد بها البيانات والمعلومات المخزنة .

3 – يتمثل القصد الجنائي الخاص في جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني بالاستيلاء على الحيازة الكاملة لمال الغير ، في حين يتمثل القصد الجنائي الخاص في الجريمة المعلوماتية بالتلاعب بالمعلومات والبيانات المخزونة داخل الكمبيوتر .

المبحث الثاني

الركن المادي

يعرف الركن المادي في جريمة النصب أو الاحتيال عبر البريد الإلكتروني على أنه الوسيلة التي يلجأ إليها النصاب أو المحتال بقصد استيلاء لنفسه أو لغيره على مال منقول وتحديداً النقود .

من ذلك يتبين بأن عناصر الركن المادي هي :

آ – السلوك الإجرامي (الطريقة الاحتيالية) أو اتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة .

ب – الإنترنت .

ج – تسليم المال .

د – العلاقة السببية .

المطلب الأول

السلوك الإجرامي (الطريقة الاحتيالية) أو اتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة

إن كل ما يؤدي إلى الخداع يمكن أن يعد طريقة احتيالية ، ومن ثم فإن الكذب المجرد ومهما كان منمقاً مرتباً يوحي بتصديقه لا يكفي لوحده لتحقق الطريقة الاحتيالية ، ما لم يكن مصاحباً بمظاهر خارجية أو أعمال مادية يتعمد النصاب أو المحتال حبكها تحمل المجني عليه على تصديقه والاعتقاد بصحته ، وقد أكدت على ذلك مراراً وتكراراً محكمة النقض المصرية ففي حكمها المرقم (2419) في 21/10/1932 تقول :« يبلغ الكذب مبلغ الطرق الاحتيالية إذا اصطحب بأعمال خارجية أو مادية تحمل على الاعتقاد بصحته …» وفي حكمها المرقم (44) في 27/2/1939 تقول : « إنه وإن كانت جريمة النصب لا تتحقق بمجرد الأقوال والادعاءات الكاذبة مهما بالغ قائلها في توكيد صحتها حتى تأثر بها المجني عليه ، لأن القانون يوجب دائماً أن يكون الكذب مصحوباً بأعمال مادية خارجية تحمل المجني عليه على الاعتقاد بصحته إلا أنه يدخل في اعداد الأعمال الخارجية التي يتطلب القانون توافرها ليكون الكذب من الطرق الاحتيالية المعاقب عليها استعانة الجاني في تدعيم مزاعمه بأوراق أو مكاتيب متى كان ظاهرها يفيد أنها صادرة من الغير بغض النظر عما إذا كان لهذا الغير وجود أم لا »(12) .

والطرق الاحتيالية لم يتم تحديد معناها قانوناً ، فكل ما من شأنه إيهام المجني عليه وخداعه وإيقاعه في دائرة النصب والاحتيال يعد طريقة احتيالية مثال ذلك القدرة على شفاء الناس من المرض والإعلان عن مشروع استثماري عقاري وهو في الحقيقة مشروع وهمي .

أما اتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة فيكفي أن يتخذ الجاني اسماً غير اسمه الحقيقي أو ادعائه لصفة معينة كادعائه بأنه محامي أو ضابط ودون الحاجة إلى استعمال طرق احتيالية فنية وعلى شرط أن يؤدي اتخاذ الاسم الكاذب الصفة غير الحقيقية إلى خداع المجني عليه وإيقاعه في دائرة النصب والاحتيال وهذا ما قرره القانون الفرنسي والإماراتي والعراقي والقطري والقانون الجزائي العربي الموحد واليمني والفنلندي(13) .

في حين أننا نجد أن القانون السوداني وعلى خلاف بقية التشريعات الجزائية لم يوضح وبصورة تفصيلية طرق ووسائل الاحتيال كما سبق وإن بينته بقية التشريعات الجزائية ، بل جاء بنص عام بحيث فسح المجال للمحكمة بأن تجتهد وتبين الطرق الاحتيالية فكل ما من شأنه من أقوال وأفعال تعمل على خداع الناس يعد فاعلها مرتكباً لجريمة الاحتيال وفقاً للقانون السوداني(14) .

المطلب الثاني

الإنترنت

الإنترنت تعني من الناحية الفنية ترابط بين شبكات حيث يتكون الإنترنت من عدد كبير من شبكات الحاسبة الإلكترونية المترابطة والمتناثرة في أنحاء العالم ويحكم ترابط تلك الأجهزة وتحادثها بروتوكول موحد يسمى بروتوكول تراسل الإنترنت .

يعد الإنترنت عنصراً أساسياً في الركن المادي لجريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ، حيث يستخدم الإنترنت في ارتكاب جميع أنواع الجرائم الإلكترونية المختلفة كسرقة بطاقات الائتمان لاستخدامها في شراء المنتجات عبر الإنترنت ونشر المواد الإباحية التي تمس قيم المجتمع الأخلاقية بشتى وسائل عرضها المصورة أو المسجلة وغيرها من الجرائم الأخرى التي تكون شبكة الإنترنت هي الوسيلة المستخدمة في ارتكابها ، فقد دخلت جرائم الاحتيال من أبواب الإنترنت المختلفة فكانت أشكال الاحتيال الأولى في مواقع الإنترنت بعدها انتقلت إلى البريد الإلكتروني معتمداً على بساطة الناس وعفوية تعاملهم مع سواهم . ويعد البريد الإلكتروني من أشهر الخدمات التي تقدمها شبكة الإنترنت ، إذ يجري بواسطتها إرسال واستقبال الرسائل الإلكترونية . وقد شاع استخدام البريد الإلكتروني بسبب سهولة إرسال الرسائل واستقبالها وقلة التكاليف وقصر الوقت ، كل هذه المزايا أدت إلى زيادة وتكاثر الرسائل الإلكترونية المقلدة والمزورة وارتكاب كثير من الجرائم المالية من خلال خدمة البريد الإلكتروني بإيجاد واختلاق رسائل إلكترونية (15) . والمبالغ التي يتم الاستيلاء عليها قد تصل إلى مئات ملايين الدولارات الأمريكية وخاصة عندما يمنح أحد الضحايا رقم حسابه المصرفي لشخص عبر البريد الإلكتروني ، حيث تنتشر مراكز عمل المحتالين في البلدان التي تنخفض فيها الرقابة على النشاط المعلومات وخصوصاً في أفريقيا .

ولغرض توضيح هذا العنصر ، نعرض بعض صور وأشكال جرائم الاحتيال التي ترتكب يومياً عبر رسائل البريد الإلكتروني ومن خلال شبكة الإنترنت .

الصورة الأولى : قيام إحدى الجهات بإرسال رسالة إلكترونية إلى كافة مستخدمي الإنترنت الذين لديهم صناديق بريد إلكترونية ورد في مقدمتها (مبروك ، إنك ربحت مليون دولار أمريكي من شركة يانصيب تختار الرابحين عشوائياً من الإنترنت) .

ويذكر في الرسالة بأنهم وجدوا منذ فترة مبلغاً نقدياً كبيراً وبملايين الدولارات الأمريكية في حساب مصرفي تابع لأحد زبائنهم الذي مات مع كل أفراد عائلته في حادث تحطم طائرة ، ومنذ وفاته ونحن ننتظر أن يتقدم أحد من عائلته للمطالبة بالمبلغ النقدي ، ولم نتمكن من تسوية الحساب المصرفي لأنه لم يتقدم أحد للمطالبة به رغم تأكد الشركة من عدم وجود وريث شرعي ، فقرروا إرسال المبلغ إلى أحد الأشخاص المحظوظين الفائزين باليانصيب وقد وقع الاختيار عليك ، ولأجل ذلك نطلب منك تزويدنا بما يلي :
1- رقم حسابك ، 2- رقم هاتفك ، 3- رقم حسابك المصرفي واسم البنك ، 4- اسم المستفيد منك عند وفاتك ورقم حسابه . وعلى اثر ذلك يقوم مستلم الرسالة المجني عليه بالرد وتزويدهم بالمعلومات المطلوبة ، ثم تقوم الجهة المرسلة بإجابتك تؤكد ربحك المبلغ النقدي وكل ما عليك فعله هو إرسال رقم هاتفك وعنوانك وصورة من بطاقتك الشخصية ، وبعد ذلك يطلبون منك دفع تكاليف البريد مسبقاً أو يطلبون منك رقم بطاقة اعتمادك الائتمانية لغرض تحويل مبلغ نقدي وبالدولار الأمريكي إليهم لغرض إرسال المبلغ النقدي ، وعندما تحول المبلغ النقدي وتشعرهم بذلك لا يأتي منهم الرد لا سلباً ولا إيجاباً .

الصورة الثانية : قيام إحدى الشركات بإرسال رسالة مفادها بأنك ربحت مبلغاً نقدياً كبيراً وبملايين الدولارات الأمريكية في يانصيب أجرته الشركة عشوائياً على كافة مستخدمي الإنترنت الذين لديهم صناديق بريد إلكترونية ويطلبون منك عدة بيانات لازمة كالاسم ورقم حسابك المصرفي واسم البنك ورقم هاتفك وعنوانك ، وعندما تقوم بالرد عليهم وتزويدهم بما هو مطلوب ، يرسلون لك فاتورة أو صك باسمك ، إلا أن إجراءات صرف الصك متوقفة على تحويلك لهم مبلغاً معيناً من النقود ، ومن ثم وبعد تحويلك لهذا المبلغ وإشعارهم بذلك تكتشف بأنك كنت مخدوعاً فيهم وتذهب نقودك لهم .

الصورة الثالثة : إنشاء مواقع وهمية للبيع والشراء وما إن يدخل مستخدم الإنترنت ويقوم بشراء ما يحتاجه عن طريق وضع أرقام بطاقته الائتمانية لخصم المبالغ النقدية المستحقة مقابل البضاعة حتى يقع في الشرك ولا تصل أية بضاعة بعد أن فقد جزءاً من نقوده من خلال بطاقته الائتمانية ويكتشف بأنه كان ضحية لجريمة الاحتيال الإلكترونية .

الصورة الرابعة : إرسال رسائل تشير إلى وجود ملايين الدولارات والتي تركها أحد النبلاء أو الأغنياء لهم في وصيته ويتم دعوة هؤلاء الضحايا للمطالبة بهذه الأموال وإمعاناً في التضليل يتم إرفاق وصايا مزورة مع هذه الرسائل مرسلة لأقارب الفقيد الراحل من مكاتب محاماة وهمية ، بعد ذلك يطلب من الضحية دفع مبلغ نقدي مقدم حتى يمكنهم استلام الإرث الوارد في الوصية وبالطبع فإن مثل هذا الإرث غير موجود أصلاً (16) .

المطلب الثالث

النتيجة الجرمية (تسليم المال محل الجريمة)

إذا ما تحقق العنصر الأول وأتى الجاني سلوكاً من شأنه خداع المجني عليه وحمله على التسليم دون وجه حق فقد تحقق العنصر الثاني .

قبل ظهور الإنترنت ، لم تكن هناك مشكلة تذكر بصدد محل جريمة الاحتيال ، فالأموال المنقولة ذات الطبيعة المادية المحسوسة والملموسة كلها تصلح لأن تكون محلاً لجريمة الاحتيال ، لأن تنظيم القانون لأحكام جريمة الاحتيال هدفه الأساس حماية المال المنقول ، كما أن ركن التسليم في مثل هذا النوع من الجرائم لا يقع إلا على الأموال المنقولة وسواء أكان التسليم مادياً أو حكمياً . كما لا يهم أن تكون يد المجني عليه على هذا المال يد أمانة أو يد ضامنة بمعنى أن حيازته لمثل هذا المال قد لا تكون مشروعة(17) .

ويجب أن يكون لهذا المنقول قيمة مالية ، ولهذا نجد أن القانون قد توسع في فكرة المنقول ونص صراحة على السندات التي لا تستعمل لإثبات الحقوق والتواقيع حتى أن القضاء الجنائي العراقي قد اعتبر جواز السفر مالاً يصلح أن يكون محلاً لجريمة الاحتيال(18) ويجب أن يكون هذا المال مملوك لغير الجاني المحتال ولا يهم أن يكون مملوكاً للمجني عليه فقد يكون حائزاً له ومن الممكن أن تكون حيازته غير مشروعة .

ولكن بعد أن ظهر الإنترنت ، أثيرت مسألة المنافع والخدمات المتأتية من خلال استخدام شبكة الإنترنت وعرضتها لأن تكون محلاً لجريمة الاحتيال .

إن التشريعات الجزائية المقارنة محل الدراسة قد اختلفت فيما بينها حول تحديد طبيعة المال محل جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني وكما يلي :

الاتجاه الأول : يشترط أن يكون المال منقولاً مادياً وسواء أكان هذا المال عبارة عن نقود أو أي منقول مادي آخر له قيمة مادية ومن ثم فالمال المنقول غير المادي كالمنافع والخدمات لا تصلح أن تكون محلاً لجريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ، ويمثل هذا الاتجاه قوانين كل من الإمارات وقطر والعراق ومصر(19) .

الاتجاه الثاني : لم يشترط أن يكون المال محل جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني منقولاً مادياً ، بل توسع في ذلك وجعل من المنافع والخدمات محلاً لهذا النوع من الجرائم فقد يكون محل التسليم مالاً غير مادي كما لو قام أحد مستخدمي الإنترنت بطلب استشارة محام أو طبيب وبواسطة البريد الإلكتروني وأوهمه بسداد قيمة الاستشارة من خلال بطاقة الاعتماد الائتمانية ولم يسددها ، فإنه يعدّ مرتكباً لجريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ، كذلك لو تمكن مستخدم شبكة الإنترنت من الحصول على كتاب إلكتروني أو اشترك في جريدة إلكترونية عن طريق وسائل احتيالية ففي مثل هذه الوقائع نجد أن قراءة الكتاب والجريدة هي منفعة استولى عليها مستخدم شبكة الإنترنت . فهذا الاتجاه يجعل الخدمات مساوية للنقود من ثم فإن المال المنقول مادياً كان أو معنوياً يصلح أن يكون محلاً لمثل هذا النوع من الجرائم . ويمثل هذا الاتجاه القانون الفرنسي واليمني والسوداني(20) .

ولا أهمية بعد ذلك بقيمة المال في قيام جريمة الاحتيال . ووسيلة التسليم في مثل هذا النوع من الجرائم لا تكون تقليدية كما هي في جريمة الاحتيال العادية . بل يتم تسليم النقود إما عن طريق أحد المصارف أو عن طريق إحدى شركات تحويل النقود أو باستعمال بطاقة الاعتماد الائتمانية الممغنطة أو عن طريق صك ، ومن ثم فلا يمكن أن نتصور أن يتم تسليم النقود باليد مباشرة ، ولكن إذا لم يحصل تسليم المال وبالرغم من ارتكاب الجاني لجريمة الاحتيال كأن ينتبه المجني عليه إلى أن الرسالة الإلكترونية التي تلقاها هي ليست حقيقية ، ففي مثل هذه الواقعة تكون أمام ما يعرف بالشروع في جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ، والشروع في مثل هذا النوع من الجرائم الإلكترونية يكون محكوماً بالقواعد العامة ومن ثم فالجاني يسأل عن جريمة الشروع لا عن جريمة الاحتيال لأن ما صدر منه يوصف بأنه بدء في تنفيذ هذه الجريمة . والأعمال التي يمكن أن تحمل هذا الوصف تتمثل بكل فعل يباشر به الجاني في استعمال الغش والخداع بواسطة الرسائل الإلكترونية عبر شبكة الإنترنت وهذا ما أكد عليه القضاء الجنائي المصري(21) .

فإذا ما وقع فعل من هذه الأفعال ، لكن أثره خاب لسبب خارج عن إرادة الجاني أي لم يترتب عليه خداع المجني عليه وحمله على تسليم المال فجريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني تقع ناقصة لتخلف النتيجة . وقد أكد على ذلك القضاء الجنائي المصري(22). كما لا يؤثر في قيام الجريمة ، ندم المحتال وإعادته المبلغ النقدي الذي استلمه إلا أنه قد يعدّ ظرفاً قضائياً مخففاً.

جريمة الاحتيال هي من الجرائم التي تقع على المال ومن ثم فمن باب تحصيل حاصل أن يترتب على وقوع مثل هذا النوع من الجرائم حصول ضرر بالمجني عليه أو بغيره ، إلا أن التشريعات الجزائية المقارنة قد اختلفت فيما بينها حول النص صراحة على ذلك أو بالإشارة له ضمناً وكما يلي :

الاتجاه الأول : أشار ضمناً إلى وجوب تحقق الضرر ، حيث لم ينص صراحة على ذلك وإنما يفهم ضمناً من سياق عبارات النص القانوني عندما ذكر عبارة الاستيلاء على مال الغير أو تسلمه أو نقل حيازته أو الحصول على فائدة مادية فهذه العبارات كلها يفهم منها تلقائياً حصول ضرر ناتج عن الاحتيال . ويمثل هذا الاتجاه القانون القطري والعراقي والإماراتي واليمني والفنلندي(23) .

الاتجاه الثاني : هذا الاتجاه هو أكثر وضوحاً من الاتجاه الأول ، حيث نص صراحة بعبارة التصرفات الضارة أو الخسارة غير مشروعة . ويمثل هذا الاتجاه القانون الفرنسي والسوداني والقانون الجزائي العربي الموحد(24) .

المطلب الرابع

العلاقة السببية بين وسيلة الاحتيال وتسلم المال

إن العنصر الرابع الذي يكتمل به الركن المادي يتمثل بقيام الرابطة السببية بين طريقة الاحتيال التي استخدمها الجاني في النصب على المجني عليه وبين النتيجة المتمثلة في تسلم المال محل الجريمة ، أي أن تسلم المال كان نتيجة منطقية ثابتة للخدعة التي وقع بها المجني عليه . وبالرجوع إلى القواعد العامة في الجريمة نجد أن مثلث الركن المادي للجريمة لا يكمل عدد أضلاعه إلا بوجود رابطة بين السبب المتمثل بالسلوك المادي للجاني والنتيجة المتحققة بسبب هذا السلوك ، فإن لم تكن النتيجة بسبب ذلك السلوك انعدمت الرابطة السببية بينهما . فعلاقة السببية في جريمة الاحتيال تفيد أن ما قام به الجاني من أفعال وسلوكيات كانت هي السبب الذي حمل المجني عليه على تسليم المال أو نقل حيازته . ومن ثم إذا انعدمت طريقة الاحتيال ومع ذلك انخدع الشخص الآخر فإن الواقعة لا تعدّ احتيالاً ، عندئذ تنتفي العلاقة السببية متى ما ثبت أن تسليم المال لم يكن نتيجة للغش والخداع بل كان بسبب آخر كالخوف والرهبة من الجاني .

كما يتعين أن يكون تسليم المال بوقت لاحق على استعمال طريقة الاحتيال لأنه لو كان تسليم المال أو نقل حيازته إلى الجاني قد تم قبل أن يقوم الجاني باستعمال أية وسيلة احتيالية لأي سبب كان ومن ثم طمع الجاني بهذا المال وأراد الاحتيال على صاحبه ، فإن الواقعة في مثل هذه الحالة لا تعدّ احتيالاً بل هي أقرب ما تكون إلى جريمة خيانة الأمانة مثلاً لأن استعمال وسائل الحيلة والخداع هنا لم يقصد بها الجاني حمل الغير على تسليم المال أو نقل حيازته وإنما قصد بها تملك المال لنفسه أو لغيره والتخلص من عبء الالتزام الواقع عليه والمتمثل برد المال إلى صاحبه . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى إن تسليم المال في مثل هذا الفرض كان قد تم سلفاً بين الجاني والمجني عليه وبرضا الأخير وبكامل أهليته وإرادته لم يشبها أي عيب من عيوب الأهلية ولم يكن عند تسليم المال أو نقل حيازته أي دور يذكر للحيلة أو الخداع(25) .

المبحث الثالث

القصد الجنائي

جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني جريمة عمدية تستلزم توفر القصد الجنائي العام والقصد الجنائي الخاص .

المطلب الأول

القصد الجنائي العام

يقوم القصد الجنائي العام على عنصرين أولهما العلم وثانيهما الإرادة . فيجب أن يكون الجاني المحتال على علم بأن الأفعال التي يقترفها ويأتيها يعدها القانون طرقاً احتيالية ، وإن هذا النوع من السلوكيات من شأنها خداع الجني عليه والنصب عليه وحمله على تسليم المال طواعية ، وهذا يفترض علم الجاني بأن أفعاله ليس لها أساس من الصحة ومن ثم إذا ثبت أن المتهم كان يظن صحة تصرفاته وأفعاله ، فإن القصد الجنائي يعدّ منتفياً وهذا ما أكد عليه القضاء الجنائي العراقي بقوله : « لا يتوافر القصد الجرمي لجريمة الاحتيال إذا باع المتهم أرضاً مخصصة له من قبل الجمعية ، وذكر خطأ رقم قطعة لا تعود له واقعة بنفس المنطقة بدلاً من رقم قطعته ، وكان رقم القطعة وموقع القطعة مطابقاً للحقيقية »(26) .

كما ويتطلب القصد الجنائي العام في جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني علم الجاني بأن المال الذي يبغي تسلمه أو نقل حيازته سواء أكان لنفسه أو لغيره ، هو مال مملوك للغير ولا يهم أن يكون الغير هو المجني عليه أو شخصاً آخر ، ولكن إذا اعتقد الجاني المحتال بأن المال مملوك له وكان قد فقده سلفاً ويبغي الآن وبطرقه الاحتيالية الفنية إلى استعادته فالقصد الجنائي يعدّ منتفياً لديه .

أما العنصر الثاني فهو الإرادة ، أي اتجاه إرادة الجاني إلى استعمال إحدى الطرق الاحتيالية التي نص عليها القانون من خلال أفعاله المادية المحسوسة والمرئية والمسموعة والمقروءة وأيضاً اتجاه إرادته إلى تحقيق النتيجة الجرمية وهي حمل المجني عليه على تسليم المال .

المطلب الثاني

القصد الجنائي الخاص

قد لا يكتفي القانون بتحقق القصد الجنائي العام لقيام الجريمة ، بل يشترط أن يكون المجرم مدفوعاً إلى ارتكابها بقصد تحقيق غاية معينة ، فالقصد الجنائي الخاص هو تلك الصورة من القصد الجنائي التي لا يقنع فيها القانون بهدف الإرادة القريب وهو الغرض ، بل يعتدّ بهدفها البعيد وهو الغاية(27) .

والقصد الجنائي الخاص يمكن استخلاصه في أية جريمة ، إما من خلال النص القانوني الصريح أو الضمني أو من خلال طبيعة الجريمة .

والقصد الجنائي الخاص في جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني يتمثل في انصراف نية الجاني المحتال إلى الاستحواذ والاستيلاء على المال محل الجريمة وتملكه ملكية مطلقة بحيث لا يستطيع المجني عليه مباشرة أي تصرف قانوني أو مادي عليه . ومن ثم فإذا لم تنصرف نية الجاني إلى وضع يده على المال وضع المالك أو الحائز أو على الأقل الانتفاع به ، عندئذ يعدّ القصد الجنائي الخاص منتفياً(28) .

وهناك من ذهب إلى القول بأن القصد الجنائي الخاص في جريمة الاحتيال هو تحصيل حاصل لأن القصد الجنائي العام يغني عنه ، فالقصد الخاص ضمنياً داخل في القصد العام ومن ثم فلا داعي لاشتراط وجود قصد جنائي خاص(29) .

إضافة إلى ما تقدم ، فإنه يشترط أن يتعاصر القصد الجنائي العام والقصد الجنائي الخاص في جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني مع وقت الاستيلاء على المال .

وقيام القصد الجنائي بشقيه لدى الجاني المحتال مرده إلى وقائع الدعوى وما تستخلصه منها محكمة الموضوع ، ولا عبرة في توفره بالباعث الدافع على ارتكاب الجريمة ، فالأمر سيان سواء أكان الباعث شريفاً أو دنيئاً(30) .

المبحث الر ابع

العقوبة

إذا ما وقعت جريمة الاحتيال بأركانها ، فقد وجبت العقوبة بحق الجاني المحتال والتعويض عن الضرر الذي لحق بالمجني عليه المخدوع .

وقد اتفقت التشريعات الجزائية المقارنة محل الدراسة على اعتبار جريمة الاحتيال البسيطة أو جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني جنحة استناداً إلى العقوبة المقررة لها .

إلا أن التشريعات الجزائية قد اختلفت فيما بينها بشأن تحديدها لنوع العقوبة وكما يلي :

الاتجاه الأول : حصر الجزاء بالعقوبة السالبة للحرية فقط وهي الحبس بدون ذكر حد أدنى خاص ، ومن ثم فالمحكمة وبموجب سلطتها التقديرية تملك وعلى حسب ظروف كل واقعة أن تختار مدة الحبس بين حده الأعلى العام وبين حده الأدنى العام ، ويمثل هذا الاتجاه قوانين كل من قطر والعراق ومصر(31) . وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه قد أخذ بنظام التدرج الكمي الثابت للعقوبة ، حيث أعطى للمحكمة صلاحية واسعة لتقدير العقوبة بين حديها ، ومن ثم فقد قرر هذا الاتجاه بالتفريد القضائي للعقاب(32) ، إلا أنه يلاحظ على هذا الاتجاه التشريعي أنه قد لا يحقق الردع العام أو الخاص عند فرض العقوبة ، فعدم وجود حد أدنى خاص لعقوبة الاحتيال قد يضر بالدفاع الاجتماعي حيث إنه يسلب النص القانوني العقابي بعضاً من تأثيره التهديدي المعنوي ، وأحياناً قد يؤدي إلى انسياق القضاة إلى الرأفة الزائدة بالمتهم المحتال مما يفقد القوة الرادعة للعقوبة وبالتالي لا يتحقق الردع العام . أما الرد الخاص ، فإن إيقاع عقوبة خفيفة على هذا النوع من الجرائم الإلكترونية الفنية قد لا يفي بالغرض لإصلاح المحكوم عليه وإعادة تأهيله ومنعه من أن يكرر جريمته مستقبلاً .

الاتجاه الثاني : جمع بين عقوبة الحبس والغرامة وأعطى الحق للمحكمة بأن تحكم بالعقوبتين معاً أو بإحداهما بموجب سلطتها التقديرية وحسب ظروف كل واقعة ، ويمثل هذا الاتجاه القانون الإماراتي والسوداني والكويتي والبحريني(33) . ويلاحظ على هذا الاتجاه أنه قد أخذ بنظام التمييز النوعي للعقوبة ، الذي يقضي بترك القانون للمحكمة حرية الاختيار في الحكم على المجرم بإحدى عقوبتين مختلفتي النوع أو بالعقوبتين معاً ، ومن ثم فهذا الاتجاه قد أخذ بالتفريد القضائي للعقاب(34) .

الاتجاه الثالث : جمع بين عقوبة الحبس والغرامة إلا أنه لم يعط للمحكمة الحق بأن تحكم بالعقوبتين معاً بل بإحداهما فقط وهذا الاتجاه قد قيد من سلطة المحكمة ويمثل هذا الاتجاه القانون اليمني والفنلندي(35) .

الاتجاه الرابع : جمع بين عقوبة الحبس والغرامة جمعاً مطلقاً ، فلم يعط الحق للمحكمة بأن تحكم بإحدى العقوبتين بل بالعقوبتين سوية ، ويمثل هذا الاتجاه القانون الفرنسي والجزائري واللبناني والعماني والأردني والتونسي والمغربي واليمني ، والقانون الجزائي العربي الموحد(36) .

ويلاحظ على هذا الاتجاه الذي يلزم القاضي بأن يجمع بين العقوبتين أنه يمنحه صلاحية الاختيار لنوع العقوبة ، لكنه بالمقابل فقد أعطى للقاضي نطاقاً واسعاً للتحرك بين حدي العقوبة الأعلى والأدنى ومن ثم فالمحكمة تكون لها القدرة على أن تأخذ بالعقوبة المناسبة لحالة كل جاني وظروف كل جريمة على حدة .

أما الظروف المشددة لمثل هذا النوع من الجرائم ، فقد أجمعت التشريعات الجنائية العربية على عدم اقترانها بأي ظرف مشدد للعقوبة ولا أي عذر قانوني مخفف للعقوبة ، فقد يحصل أن يقوم المجرم المحتال بإعادة الأموال والنقود التي حصل عليها جراء احتياله إلى المجني عليه وقبل اتخاذ أي إجراء قانوني ، ففي مثل هذه الحالة لا يستطيع القاضي اعتبار تصرف المجرم المحتال عذراً قانونياً مخففاً ، لكن ذلك لا يمنعه من عدّه ظرفاً قضائياً مخففاً .

أما التعويض عن الضرر الناتج عن جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ، فإن إقامة الدعوى المدنية هو السبيل القانوني الذي يجب أن يسلكه المتضرر من الجريمة لتعويضه عما لحقه من ضرر وأحياناً الحكم له برد ما سبق أن فقده من أموال .

لقد بدأت العديد من الدول في اتخاذ العديد من الإجراءات القانونية والتشريعية والأمنية تمهيداً لمكافحة جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ، من هذه الإجراءات هي إنشاء آليات للتعاون بين الأجهزة الأمنية فيما يخص جمع الأدلة وتحديد أماكن الشهود والمحتالين والمشتبه بهم وتنفيذ مذكرات القبض والتفتيش ومصادرة الأموال واستعادة المبالغ المدفوعة من قبل المجني عليهم .

الخاتمة

نتيجة لبروز التطور التقني المتمثل في ظهور الكمبيوتر وشبكة الإنترنت فقد وجدت أشكال جديدة للجريمة لم تكن معروفة سابقاً ، إزاء ذلك تصدت العديد من التشريعات الجزائية في قسم من دول العالم إلى هذا النوع من الجرائم سواء أكان ذلك في نطاق قانون العقوبات أو في تشريعات خاصة … وكما أشرنا إلى ذلك في البحث .

أولاً – النتائج :

1 – إن القانون الجنائي التقليدي لا يكفي من حيث المبدأ لمواجهة هذا الشكل الجديد من الإجرام المتمثل بجريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني ، لذلك تم التدخل تشريعياً عن طريق تعديل النصوص القانونية النافذة أو إصدار بعض التشريعات الجنائية الخاصة التي تهدف إلى فرض الحماية القانونية الجنائية للمعلوماتية .

2 – يلاحظ أن الدول العربية لم تطور تشريعاتها العقابية لمواجهة الجرائم المعلوماتية كما حدث في الدول المتقدمة باستثناء بعض الدول حيث طورت دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية واليمن والأردن تشريعاتها وأنظمتها متمثلة بإصدار قوانين لمواجهة الجرائم المعلوماتية .

3 – إن جرائم الاحتيال الإلكتروني التي تم اكتشافها حديثاً قد اتخذت العديد من الأشكال والسيناريوهات ولكنها كلها تشترك في آلية تنفيذ جريمة الاحتيال حيث يتم الاتصال بالضحية (المجني عليه) باستخدام البريد الإلكتروني فجأة وبدون أية وجود اتصالات سابقة .

4 – على الرغم من حملات التوعية المتعلقة وبمختلف الوسائل الإعلامية حول هذا النوع من جرائم الاحتيال ، إلا أن العديد من الضحايا ما زالوا يقعون في شرك عصابات الاحتيال الإلكتروني طمعاً في الحصول على الملايين المزعومة من الدولارات الأمريكية .

5 – عدم وجود تشريع جنائي عربي موحد يجرم صور جرائم الكومبيوتر بأنواعها بحيث يضع لكل صورة منها العقوبة التي تتناسب مع خطورتها ، فوجود مثل هذا القانون الاسترشادي يسهل على البلاد العربية ويمهد الطريق لها لوضع تشريع جنائي خاص بالجرائم الإلكترونية أو تلك الجرائم التي تتخذ من الإنترنت طريقة لاستخدامها .

ثالثاً – التوصيات :

1 – استجابة للجهود الدولية التي بذلت لمكافحة جرائم الإنترنت ، نرتئي على البلاد العربية أن تضمّن تشريعاتها الجنائية الوطنية نصوصاً قانونية تجرم وتحدد الجرائم الإلكترونية وجرائم الإنترنت ومنها جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني بما يتلاءم وينسجم مع مستجدات العصر من ظهور أجهزة الكمبيوتر وشبكة الإنترنت مما يتطلب سد النقص والقصور الموجود في بعض القوانين الجنائية العربية وبعض التشريعات الخاصة لمواجهة مثل هذا النوع من الجرائم والعمل على مواكبة التطورات التشريعية في البلاد المتقدمة وتحديد الجهات المسؤولة المختصة بمراقبة هذه الجرائم مع بيان المحكمة المختصة لمثل هذا النوع من الجرائم .

2 – لغرض إيجاد نوع من التوحيد في المصطلحات القانونية الجنائية العربية ، نأمل من التشريعات الجنائية العربية أن تتجه نحو تسمية هذه الجريمة بالاحتيال بدلاً من جريمة النصب وعلى صعيد كل القوانين الجنائية العربية .

3 – إن جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني جريمة دولية ، لذلك يجب وبشكل مستمر توعية عامة الناس ورجال الأعمال والمستثمرين بمخاطر الاستجابة لمثل هذه الرسائل الإلكترونية والبعد عن الطمع في مكاسب لا تحقق أبداً جراء الانسياق في مثل هذا النوع من جرائم الاحتيال الإلكترونية .

4 – ضرورة التأهيل المستمر لأعضاء الضبط القضائي على النحو الذي يساعدهم في مواجهة هذا الإجرام المستحدث في مجال عملهم عند البحث والتنقيب عنها بطرق أخرى تختلف عما هو متبع في الجرائم التقليدية مع ضرورة تثقيف المحققين في الجرائم الإلكترونية مع تجهيز المختبرات الجنائية بالتقنيات الحديثة وتوعية المواطن العربي البسيط وتثقيفه بمفهوم الجريمة الإلكترونية ومدى خطورتها مع توعية هيئة القضاة والادعاء العام بماهية الجريمة الإلكترونية عموماً وجريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني خاصة .

5 – يفترض أن تكون عقوبة جريمة الاحتيال عبر البريد الإلكتروني أشد وأقسى من عقوبة جريمة الاحتيال التقليدية لأن ارتكاب مثل هذا النوع من الجرائم الإلكترونية يحتاج إلى فطنة ودهاء فاعلها كما أنها من الجرائم الخاصة غير التقليدية والتي ورد النص عليها في التشريعات الجنائية الخاصة ومن ثم فليس من

المنطقي ولا من المعقول أن يعاقب مرتكب مثل هذا النوع من الجرائم الإلكترونية المستحدثة بذات عقوبة جريمة الاحتيال التقليدية .

6 – ضرورة إيجاد تعاون قضائي وأمني عربي يتفق مع طبيعة هذا النوع المستحدث من الجرائم ويخفف من غلو الفوارق بين القوانين والتشريعات الجنائية العقابية وذلك بعقد وإبرام اتفاقيات ومعاهدات خاصة يراعى فيها هذا النوع من الجرائم الإلكترونية العابرة للحدود .

علي عدنان الفيل