لاحظ فقهاء فرنسا في القرن التاسع عشر التمييز بين أعمال السلطة العامة وأعمال الإدارة، وهذا التمييز في نظرهم هو الذي يحدد مجال تطبيق كل من القانون الإداري والقانون الخاص. فأعمال السلطة العامة هي التي تباشرها الإدارة أعمالاً لاختصاصاتها باعتبارها سلطة آمرة عن طريق إصدار أوامر واتخاذ قرارات من جانب واحد، وهذه الأعمال لا مقابل لها في دائرة القانون الخاص وبالتالي لا تخضع لأحكام القانون العادي ولا تختص بنظرها المحاكم العادية. أما أعمال الإدارة المالية علي العكس من الأولى لا تباشرها الإدارة بصفتها صاحبة السلطة، بل تباشرها كأي فرد يقوم بالتصرفات العادية في إدارة شئونه الخاصة ومن المنطق أن تخضع هذه الأعمال للقانون الخاص وتخرج من نطاق القانون الإداري. فالادارة هنا تخلع عن نفسها الرداء اللامر والناهي فتنزل منزله الافراد وتستعين بالوسائل المتروكة لهم ، ومن امثلة تلك الاعمال العقود التي تبرمها الادارة مع الافراد والمؤسسات الخاصة كالشركات في تلك الحاله تخضع الادارة الي القواعد التي يخضع لها سائر الافراد واذا سار نزاعا حول بنود تلك تختص المحاكم العادية في نظره (1) ولكن فكرة السلطة العامة وإن كانت تبدو سهلة وواضحة إلا أن التطبيق يكشف من الناحية العملية صعوبة التحديد إذ أن كلاً من صفة السلطة العامة وصفة الإدارة متداخلتان بحيث يصعب فيما يتعلق ببعض الأعمال تحليل طبيعتها بشكل واضح، مما جعل القضاء الإداري في الفقه اللاتيني أن يعدل عنها باحثاً عن معيار آخر(2) وذلك للأسباب الآتية:

1 / صعوبة التفرقة بينما يعتبر من قبيل اعمال السلطة العامة ومايعتبر من قيبل اعمال الادارة المالية لما بين العملين من تداخل مستمر كما ان اعمال السلطة العامة في هذا المعيار قد تحددت علي مفهمو ضيق جدا يقوم فقط علي مجموعة الاوامر والنواهي التي تصدرها الهئيات العامة المتخصصة ، وهذا التتضييق الشديد لنطاق القانون الاداري لا يتناسب مع مقتضيات الحياة بحيث يمكن ان يكون تصرف الادارة من قبيل اعمال السلطة العامة دون اصدار اوامر او نواهي .

2/ يمكن تصور قيام الادارة ببعض تصرفات ذات الطبيعة المختلفة بحيث لا تعتبر تصرفات عادية تماما ، كما انها لا تعتبر اوامر ونواهي بالمعنى الحرفي مثل العقود الادارية .

3/يدور القانون الإداري وجوداً وعدماً مع المرفق العام، فالمرفق العام هو أساس ومبرر وجود القانون الإداري . ويقصد بالمرفق العام كل نشاط تقوم به هيئة عامة يهدف إلي إشباع حاجة تتعلق بالمصلحة العامة، فالعنصر الرئيس في تعريف المرفق هو تعلق الحاجة المراد إشباعها بالمصلحة العامة.(3)

فاذا ما اعترفت الدوله ان حاجة عامة يحس بها المجموع (الشعب) ولا يستطيع النشاط الفردي تحقيقها ، وتولت هي نشاطها السعي اليها وتوفيرها ، بان هذا النشاط يكون مرفقا عاما ومن امثله ذلك اعمال الشرطة ، الدفاع الوطني ، السكك الحديدية ، التمثيل الدبلوماسي ، التعليم ، الصحة . اذاً ان عنصر الحاجة العامة او المصلحة العامة هو الذي يميز المرافق العامة عن المشروعات الخاصة للادارة (4).

ولاينتفي عنصر الحاجة العامة او المصلحة العامة نهائيا اذا جعلت الادارة اشباع هذه الحاجات العامة نظير رسم يدفعه الافراد ، كما لا يتحول المرفق العام اذا حقق ارباحا ليصبح مشروعا خاصا للادارة ، كمرفق المياة والكهرباء(5)

لقد اعتقد بعض فقهاء فرنسا استناداً للأحكام التي أصدرها مجلس الدولة، بأن القانون الإداري يقوم علي نظرية المرافق العامة، ويعرفون القانون الإداري بأنه قانون المرافق العامة ويجعلون من المرفق العام معياراً لرسم حدود القانون الإداري وتحديد اختصاص القضاء الإداري، ولقد ساد هذا المعيار لفترة طويلة نسبياً إلا أنه لم يعد اليوم كافياً بذاته لتحديد مجال تطبيق القانون الإداري وذلك للأسباب الآتية: (6)

1- إن نشاط الإدارة لا يقتصر علي المرافق العامة ، فهي تتولى إضافة إلي ذلك تنظيم نشاط الأفراد عن طريق البوليس الإداري وهذا النشاط لا يدخل ضمن المرافق العامة.

2- إن المرافق العامة لا تدار دائماً وفقاً لقواعد القانون الإداري، فكثيراً ما تلجأ السلطات الإدارية إلي اتباع طرق الإدارة الخاصة وقواعد القانون الخاص.

3- لقد أدت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في فرنسا مهد القانون الإداري إلي تغير محتوى التمييز بين النشاط العام والنشاط الخاص، ذلك التمييز الذي كان أساس نظرية المرافق العامة، إلا أن مذهب التدخل الاقتصادي حمل الدولة علي القيام بنشاطات مشابهة في طبيعتها لنشاطات الأفراد وبذلك نشأت مرافق عامة جديدة تختلف عن المرافق العامة التقليدية هي المرافق التجارية والصناعية التي تخضع للقانون الخاص. وهذه الأسباب مجتمعة أدت إلي جعل فكرة المرافق العامة لا تصلح كمعيار لرسم حدود القانون الإداري وبيان مجال تطبيقه، فذهب الفقهاء يبحثون عن معيار آخر وبعضهم يحاول التشبث بفكرة المرفق العام وبعثها من جديد.(7)

______________

1- مصطفي ابو زيد فهمي – القانون الاداري – الدار الجامعية – ط1992 ص ـ60

2- راجع في ذلك د. توفيق شحاتة – مبادئ وأحكام القانون الإداري ط 1953م ص70 وأيضاً د. طعيمة الجرف – القانون الإداري – ط 1978م ص 37.

3- راجع في ذلك د. توفيق شحاتة – مبادئ وأحكام القانون الإداري ط 1953م ص70 وأيضاً د. طعيمة الجرف – القانون الإداري – ط 1978م ص 37.

4- و5 د.مصطفي ابوزيد فهمي- مرجع سابق – ص 64 .

6- راجع في ذلك د. توفيق شحاتة – مبادئ وأحكام القانون الإداري ط 1953م ص70 وأيضاً د. طعيمة الجرف – القانون الإداري – ط 1978م ص 37.

7- راجع د. خالد عبد العزيز غريم – القانون الإداري الليبي – الجزء الأول ط 1969م ، ص 161

المؤلف : يوسف حسين محمد البشير
الكتاب أو المصدر : مبادئ القانون الاداري

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .