حكم القانون في البلدان العربية

يرجع أصل مفهوم «حكم القانون» Rule of Law إلى التاريخ الدستوري والسياسي الإنكليزي* حين ظهرت البوادر الأولى المؤسِّسَة له منذ صدور «الميثاق الأعظم» Magna Charta العام 1215 على عهد الملك Jean sans Terre* وذلك قبل أن تتوالي الوثائق المواكبة للتحولات الديمقراطية التي نقلت بريطانيا من ملكية مطلقة* ثم مقيَّدَة* إلى ملكية برلمانية ديمقراطية مع منتصف القرن التاسع عشر.

وبالموازاة* لعب الفلاسفة الألمان من قبيل كانط* وفيخته* دوراً ريادياً في تأصيل المفهوم في الفلسفة السياسية الأوروبية الحديثة. فهكذا* سينتقل مصطلح «حكم القانون» من الإقليمية والقارية (أوروبا) إلى العالمية والكونية* وسيشهد كثافةً كبيرةً على صعيد تداوله وتوظيفه في الخطابات الوطنية والدولية على حد سواء.

بيد أن ولوجَه دائرةَ النظر العربي جاء متأخراً قياساً مع قدم ترسخه في ثقافة العديد من الدول التي تعمقت قيمةُ الديمقراطية في نسيج مجتمعاتها* كما هو حال جل أقطار المنظومة الليبرالية في الغرب.

يُعرَّفُ «حكم القانون» بكونه القاعدة الحصرية الناظِمة لعلاقة المواطنين بالسلطة* وعلاقة السلطة بالمواطنين* ما يعني أن قيمته البيداغوجية والسياسية تكمن في قدرته على تأطير الصلة بين الدولة والمجتمع* بشكل يجعلها مقبولةً ومتوازنةً* وتحظى بالشرعية.. إن حكم القانون هو الذي يُحوِّل السلطةَ* وسلطة الدولة على وجه التحديد* إلى قوة مادية ورمزية غير قهرية ولا ظالمة* كما يسمح لحريات المجتمع بأن تكون راشِِدةً* مسؤولةً* وناجعةً على صعيد الممارسة والتطبيق. ومن هنا تتجلى المعاني الحساسة والدقيقة لمفهوم حكم القانون* والمتطلبات التي يستلزمها بغية إدراك المقاصد التي وُلد أصلاً من أجلها.

ويعتبر المفهوم* من زاوية ثانية* شكلاً من أشكال إدارة الحكم* يخضع الجميع بمن فيهم الحكام والمؤسسات والكيانات والهيئات العامة والخاصة للمساءلة أمامه بعدل وإنصاف ومساواة* عبر قضاء مستقل ونزيه وفعال. كما يحمي حقوق الإنسان ويتيح للمواطنين فرصَ المشاركة في صنع القرار* ويقيم الفصل بين السلطات* ويحقق الشفافية في الإجراءات والقوانين.

يصعب الإقرار بوجود صورة وردية لحكم القانون في البلاد العربية. فالمفهوم* الذي مازال يتلمس طريقه للتشكُّل والاكتمال* يصطدم بالعديد من العوائق* نجُمِلها في ثلاثة أنواع على درجة بالغة الدقة والتعقيد.

فمن جهة أولى* يشكو تطبيق «حكم القانون» في البلاد العربية من وجود بنية تاريخية وسوسيوثقافية موسومة بسيادة عقلية الاستبداد* وروح الجور التي تحكُم علاقة الدولة والسلطة بالمجتمع. وهي عقلية يتداخل في تشكلها الموروث التاريخي* أي التراث* والسيرورة التاريخية الحديثة لمجتمعاتنا الموسومة بالانكسارات* وانكسار صدمة الاستعمار أساساً* والمثاقفة القانونية والمؤسساتية التي أُرغِمنا عليها نتيجة تغلغل الاحتلال في نفوس نخبنا.

لذلك* يعتبر هذا المعطى التاريخي تحدياً مفصليا في إعاقة صيرورة حكم القانون قيمة مشتركة في تأطير علاقة الدولة بالمجتمع* وفي تنظيم علاقات كل مكونات المجتمع* والأكثر من ذلك كله* يعدّ تفكيك هذه البنية وإعادة صياغتها على أسس جديدة قوامها الانفتاح* والدَّمقرطة* واحترام حقوق الإنسان والشرعية الدستورية والقانونية* مدخلاً لا مندوحة عنه لتوفير شروط توطين حكم القانون واستقراره في المجال السياسي العربي.

ويتعلق العائق الثاني* من جهة أخرى* بالتحدي النظري الذي يحكم تصورات العرب لمفهوم «حكم القانون»* وسبل إعماله في واقع الممارسة. فمن الملاحظ أن هناك تجاذبا بين مرجعيتين فكريتين في تأسيس المفهوم وإدراكه.

فبينما يعتبر البعض أن العدالة* وهي المقصد الرئيس لحكم القانون* يمكن تحقيقها بواسطة تكريس نفاذ هذا الأخير وإشاعة قيمته داخل الدولة والمجتمع* يعتبر البعض الآخر أن العدالة قضية إلهية يتم إرجاء إدراكها باعتبارها أمرا إلهياً لا قدرة للبشر على تحقيقها.. فهذان التصوران المتناقضان لمفهوم العدل والعدالة جعلا التصورات العربية لمفهوم «حكم القانون» ضبابية* ومرتبكة* وغير مستقيمة على الصعيد العملي.

أما العائق الصنف الثالث* فيخص التحدي المرتبط بالسلوكات الناجمة عن منظومة القيم السائدة منذ عقود* والتي استفحلت سلبياتها في السنوات الأخيرة* يتعلق الأمر بظاهرة الفساد التي طاولت مؤسسات الدولة واخترقت نسيج المجتمع* وإن بدرجات متفاوتة على صعيد البلاد العربية* وهو ما تدلِّل عليه مواقع هذه الأخيرة في مراتب الشفافية العالمية. فمما لاشك فيه أن احترام الانصياع لحكم القانون يحتاج إلى ثقافة سياسية مجتمعية تغلب سمو القانون وسيادته على المصلحة الشخصية.

كما تعطي الأولوية لمبادئ الاستحقاق والكفاءة والقدرة على الإنجاز* عوض نزعات الاستزلام والشلَلِية* وكل أنماط الولاءات غير الشرعية. وهو ما نلاحظه* مع الأسف* مستحكماً في دواليب مؤسسات دول عربية كثيرة. ففي هذا السياق* تستلزم الموضوعية التأكيد على أن الفساد ليس ظاهرة لصيقة بالدولة فحسب* بل يهمُّ قطاعات من المجتمع أيضا.

فمن الجدير بالإشارة أن المجتمع المدني لعب في دول كثيرة في العالم أدواراً رياديةً في التعريف بحكم القانون والتعبئة من أجل وعي أهميته في استراتيجية البناء الديمقراطي للدول والمجتمعات.. بيد أن ذلك لا يتأتى من دون وجود مجتمع مدني فعلي* يعي استقلاليته العضوية والوظيفية* ويجهد من أجل المحافظة عليها وصيانة احترامها* في علاقته بالدولة والسلطة أولاً* وفي تفاعله مع باقي مكونات المجتمع ثانيا* وهو ما نراه ضعيف الوجود في المجال السياسي العربي.

لذلك* تبدو قضية انغراس حكم القانون في البلاد العربية سيرورة طويلة ومعقدة* وككل سيرورة من هذا النوع والطبيعة* يحتاج الأمر إلى قدر كبير من الجرأة* والإصرار* والإرادة الجماعية..ونميل إلى الظن أنها عملية تستوجِب تكاتف كل الأطراف من أجل بناء التأييد حول أهميتها* ومن أجل ذلك تحتاج إلى مصلحين من داخل الدولة وخارجها على حدّ سواء* كما تشترط نخباً نزيهة مؤهلة لأن تلعب دور القيادة في مسيرة الانتصار لحكم القانون وتعزيز تطبيقه في المجال السياسي العربي.

*نقلا عن جريدة “أوان” الكويتية