مشاكل تقسيم الإرث في المجتمع الليبي

عندما كتبت منشورا حول حماية حق النساء في الارث سأل سائل : هل تقسيم الارث الوارد في القران هو من النظام العام ، اي يلتزم الوارث بأخذه ولا يجوز له تعديله ام من حقه ان يتنازل عنه او يعدل فيه ، ثم سؤال اخر هل يجوز تأخير تقسيم التركة ، وما حدود هذا التأخير .؟

ورايت ان الرد على هذين السؤالين يحتاج الى منشور حتى يكون واضحا ، ويتعين قبل ذلك طرح المشاكل العملية في توزيع التركات من خلال عملنا في القضاء المدني وقضاء الاحوال الشخصية حيث مرت علينا مئات القضايا ، ومما يؤسف ان الكثير من خلافات الارث تحولت الى قطيعة بين الورثة بدلا من ان يكون صلة للارحام ، وغالبا ما تكون الضحايا من النساء اللائي يستحيين من اثارة خلافات وقضايا مع الإخوة فيسلمن ويرضين بالقليل من حقهن او بالمنع ، حتى وصلت القطيعة عند بعضهم الى انه لاتجمعهم اية مناسبة ولو كانت وفاة احد الاقارب ، وكم آلمني تلك المرأة التي كان والدها من كبار الاغنياء ومن اصحاب الملايين الا انها لم تتمكن من الحصول على شقة مما يملك والدها بسبب تسلط احد الأخوة على التركة ، بعد ان طردها زوجها مع ابنائها فتحولت الى معيشة الكفاف .. حتى قال بعضهم تمنيت لو اني من اسرة فقيرة حتى احتفظت بصلة الرحم بدلا من القطيعة .

ولعل ابرز المشاكل التي تحصل حول الارث بعد وفاة المورث : 1) الخوف من تطبيق القانون رقم 4 لسنة 1978 فيضطر المورث ان يسجل بعض العقارات باسماء بعض ابنائه دون ان يتنازل عنها وذلك بهدف حمايتها من تطبيق القانون المذكور وعندما يتوفى يتمسك الابن بالعقار المسجل باسمه باعتباره ملكا له . 2) تداخل الأموال عندما يكون الاب رجل اعمال او تاجر ويعمل معه بعض الابناء في تجارته ا و اعماله ثم يدعي الابن انه كان شريكا لوالده وان المال ماله ويدخل الورثة معه في خصومات طويلة كثيرا ما تعوزها المستندات والادلة . 3) عدم تسجيل العقارات في التسجيل العقاري حتى توضح الملكية خاصة الاراضي القبيلية المشاعة فيحوز بعضها الوارث ثم ينقلب على بقيتهم بحجة انه لم يتم الاتفاق قبليا على التقسيم . 4) عدم حسم توزيع التركة بعد الوفاة بفترة معقولة … فتبقى اعيان التركة عند بعض الورثة لفترات زمنية قد تصل الى عشرات السنين ويحرم منها بقية الورثة وكم من وارث حرم من حقه في التركة وغادر الحياة الدنيا قبل ان يستفيد منها . 5) الخلل في استخراج الفرائض الشرعية فرغم خطورتها فإنه تستخرج بأمر ولائي في الغالب في غياب بعض الورثة وبحضور شاهدين قد لايعرفان جميع المورثة ويتم تقديم هذه الفريضة لدعوى القسمة فتتم ا لقسمة في غياب الورثة الآخرين . 6) سكنى بعض الورثة في بعض العقارات قد يمنع تقسيمها لاعتبارات ادبية مثل سكنى الارملة في ا لبيت او بعض الاخوة فيستحيي بقية الورثة من طلب تقسيم التركة كي لا يفقد صلة الرحم باقاربه . 7) تسلط بعض الورثة على اجزاء من التركة ونكران ملكية المورث …. وهكذا .

اما ردي على السؤال الأول فإن التركة هي احد اسباب كسب الملكية وفقا لنص المادة 880 من القانون المدني ، اذ ان الاهلية القانونية للانسان تنتهي بالوفاة وفقا للمادة 29 من القانون المدني وبالتالي فإنه منذ الوفاة تنتقل ملكية التركة الى الورثة لايقيدها الا مايدفع من مال لدفن الميت وتسديد ديونه فإن الميراث يدخل في ملك الوارث قهرا بدون رضاه فهي ملكية بقوة القانون ووفقا للتقسيم الشرعي للفريضة المنصوص عليها في القران الكريم . الا انه اذا علم حقه حقه واستلم نصيبه او كان بالامكان استلامه ، فإنه يكون قد دخل في ملكه مثلما يدخل في ملكه اي مال بالبيع الهبة او الاجر او المرتب فإنه يستطيع برضاه وبارادته ان يتنازل عنه وان يهبه لمن شاء شريطة ان يكون له اهلية الأداء … فاذا اتفق الورثة برضاهم على تقسيم المال بالتراضي بطريقة اخرى كان تضاعف حصة المرأة الفقيرة او المعوقة او المريضة من نصيب اخوتها او ان يستبدل العقار بالمال فهو جائز قانونا وشرعا ، مثله مثل المرتب المقدر لك فإنك تستطيع ان تتبرع به او بجزء منه بارادتك لصاحب العمل اذا افلس او اذا نشب حريق في ملكه مثلا . فللورثة أن يقسموا التركة وفق إحدى طرق القسمة الثلاث التي هي المهايأة والمراضاة والقرعة, فالمهايأة هي قسمة المنافع بأن يستغل كل وارث المنزل بالسكنى أو الإيجار فترة تناسب نصيبه, والمراضاة أن يتراضى الورثة على تقسيم يأخذ به كل واحد من المتروك نصيبه أو أكثر منه أو أقل حسبما يرتضيه الورثة, والقرعة هي أن يقسم ما كان قابلا للقسمة فيأخذ كل وارث حقه منه, وأن يباع ما كان غير قابل لها ثم يقسم ثمنه بين الورثة كل حسب ما له شرعا .
اما السؤال الثاني وهو المماطلة في توزيع التركة او تأخيرها فإنه من الناحية القانونية فإنه مثل من يستولي على املاكك ثم يمنعك منها لأن التركة تصبح ملكة الورثة بقوة القانون فالوارث الذي يستغل ملك الورثة ويمنعهم من الاستفادة منه يقوم بعمل غير مشروع وتجوز مقاضاته والوصول الى قسمة وتوزيع التركة واستلامها منه بالقوة مثل من ستولي على ملك الغير .. وهناك فرق بين ان تكون التركة محدودة فيتم توزيعها بطريقة بسيطة قد يقوم بها القاضي بنفسه اما اذا كان التركة كبيرة مثل تركات الاثرياء التي تتكون من عقارات ومصانع وشركات …. الخ فإنها تحتاج الى فترة تسيير وادارة قبل ان يتم التوزيع وعادة مايقوم المورث بتعيين وصي على التركة او يتم الاتفاق بين الورثة على تكليف احدهم بذلك … والا فإنه يتعين اللجوء الى المحكمة لتعيين مصف للتركة … مثل مصفي الشركات المنتهية او التي تكون في حالة الافلاس الى ان يتم توزيعها حسب الاوجه الشرعية … اما من الناحية الشرعية فإني انقل فتوى دار الافتاء المصرية التي جاء فيها (( ان مماطلة أحد الورثة أو تأجيلُه قسمةَ الإرث أو منع تمكين الورثة من نصيبهم بلا عذر أو إذن من الورثة محرَّم شرعًا، وصاحبه آثم مأزور، وعليه التوبة والاستغفار مما اقترفه، ويجب عليه رَد المظالم إلى أهلها؛ بتمكين الورثة من نصيبهم وعدم الحيلولة بينهم وبين ما تملكوه إرثًا. وأوضحت الدار فى بيان لها اليوم، أن الفقهاء أجمعوا على أن المال ينتقل بعد الموت من ملك المُوَرِّث إلى ملك ورثته؛ لأنه ينقطع عن ملك المُوَرِّث بالموت، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله”. وأكدت دار الإفتاء فى فتواها، أن التركة بعد موت المُوَرِّث حقٌ لعموم الورثة على المشاع- ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم- فيستحق كل وارث نصيبه من التركة بعد أن يخصم منها نفقة تجهيز الميت وبعد قضاء الديون وإنفاذ الوصايا والكفارات والنذور ونحو ذلك. وأشارت الفتوى إلى أنه لا يجوز لأى أحد من الورثة الحيلولة دون حصول باقى الورثة على حقوقهم المقدَّرة لهم شرعًا بالحرمان أو بالتعطيل، كما لا يجوز استئثار أحدِهم بالتصرف فى التركة دون باقى الورثة أو إذنهم، فمنع القسمة أو التأخير فيها بلا عذر أو إذن محرَّم شرعًا، مؤكدة أن من أعظم أسباب دخول الجنة ونيل رضا الله أداء الحقوق مطلقًا، سواء كان حق الله أو حق الناس أو حتى حق النفس، ويدخل فى أداء حقوق الناس أداء الولى أو المسئول عن التركة حقوقَ باقى الورثة إليهم والمسارعة فى ذلك واتقاء تأخيرها عن موعد استحقاقها بلا عذر أو إذن. واستدلت الفتوى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من فَرَّ مِن ميراث وارثِه، قَطَع الله ميراثَه مِن الجنة يوم القيامة”، فحرمان الوارث حرام، بل قضية هذا الوعيد أنه كبيرة، وفى رواية قال النبى صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ، قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ”؛ فقطع الميراث عن أحد الورثة حرام؛ لأن الوعيد على الشيء دليلٌ على حرمته، والقطع الوارد فى الحديث يدخل فيه المنع من الإرث مطلقًا، أو تأخيره عن ميعاد استحقاقه دون عذر أو إذن. وأضافت الدار أنه لا يجوز منع التركة عن أحد الورثة أو تأخير القسمة بلا إذن؛ إذ الأصل أن للإنسان أحقية التصرف فيما يملك، وملك الوارث لميراثه يحصل بمجرد موت مُوَرِّثِه، فكل واحد من الورثة مالك لنصيبه فى التركة ملكًا لا يقبل التشارك وله أحقية التصرف فى نصيبه دون تسلط من أحد عليه فى ذلك، والأصل أنه لا يجوز للإنسان التصرف فى ملك الغير أو الافتئات عليه فيه. وتابعت الفتوى أن المنع أو التأخير بلا عذر أو إذن تعدٍّ على حقوق الغير وهضم لحقهم، وذلك من الظلم، والظلم من الكبائر المتوعَّد عليها، قال: “اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة”، وفيه أيضًا أكل لأموال الناس بالباطل الذى نهى الله تعالى عنه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.
وختاما انصح كل من من الله عليه بالثروة ان يجهز دائما وصيته تتضمن اقتراحه عن كيفية توزيع الثروة بعده و تعيين عدة اسماء ليكونوا اوصياء للتركة من بعده وفقا للمادة ( 880) من القانون المدني (( إذا لم يعين المورث وصيا لتركته وطلب أحد ذوي الشأن تعيين مصف لها،عينت المحكمة،إذا رأت موجبا لذلك،من تجمع الورثة على اختياره.فإن لم تجمع الورثة على أحد تولى القاضي اختيار المصفي على أن يكون بقدر المستطاع من بين الورثة،وذلك بعد سماع أقوال هؤلاء. )) اتمنى ان يقوم المشرع اللييي باضافة نص الى القانون المدني بتطلب الاعلام الشرعي بالورثة والمال الموروث خلال تسعين يوما من الوفاة يتنم توثيقه في المحكمة … وهو يحقق حدا ادني يمنع التلاعب بالتركات.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت