عرض موجز للعربون في القانون المدني العراقي

العربون

(Les arrhes)

العربون ودلالته في القوانين الأجنبية : يتفق أحياناً أن يدفع أحد المتعاقدين للأخر عند إبرام العقد مبلغاً من المال – يكون عادة من النقد – يسمى العربون. وأكثر ما يكون ذلك في عقد البيع وفي عقد الإيجار، فيدفع المشتري للبائع أو المستأجر للمؤجر جزءاً من الثمن أو من الأجرة. ويكون غرض المتعاقدين من ذلك إما حفظ الحق لكل منهما في العدول عن العقد بأن يدفع من يريد العدول قدر هذا العربون للطرف الآخر، وإما تأكيد العقد والبت فيه عن طريق البدء في تنفذه بدفع العربون.

وقد انقسمت القوانين الأجنبية بين هاتين الدلالتين المتعارضتين. فالقوانين اللاتينية بوجه عام تأخذ بدلالة العدول([1] )، أما القوانين الحرمانية فتأخذ بدلالة البت([2] ). وغنى عن البيان أن كلتا الدلالتين قابلة لإثبات العكس، فإذا تبين من اتفاق المتعاقدين أو من الظروف أن المقصود من العربون هو غير ما يؤخذ من دلالته المفروضة وجب الوقوف عند ما أراده المتعاقدان.

141 – العربون في القانون المدني القديم : لم يرد نص عن هذه المسألة في القانون المدني القديم، فكان القضاء المصري يتردد بين الدلالتين([3]). وكان في ذلك يأخذ بنية المتعاقدين([4] ). ويفسر هذه النية عند غموضها في ظل العرف الجاري. والظاهر أن العرف في مصر يميزيين البيع والإيجار. ففي البيع تكون دلالة العربون في العقد الابتدائي جواز العدول وفي العقد النهائي التأكيد والبت([5] ). أما في الإيجار فالعربون دليل على التأكيد والبت لا على جواز العدول، ويعتبر تعجيلا لجزء من الأجرة تنفيذاً للعقد.

العربون في القانون المدني الجديد : اخذ القانون المدني الجديد، حسما للخلاف والتردد، بدلالة جواز العدول. ومن هنا كان العقد المقترن بعربون مرحلة غير باتة في التعاقد النهائي، إذ يجوز العدول عنه.

وقد نصت المادة 103 من القانون الجديد على ما يأتي :

1 – دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه، إلا إذا قضي الاتفاق بغير ذلك.

2 – فإذا عدل من دفع العربون وقت، فقده. وإذا عدل من قبضه، رد ضعفه. هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر([6] )”.

ويتبين من هذا النص أنه إذا دفع عربون وقت إبرام العقد، ولم يتفق المتعاقدان صراحة أو ضمناً على أنه إنما دفع لتأكيد البتات في التعاقد، كان دفعه دليلا على أن المتعاقدين ارادا أن يكون لكل منهما الحق في العدول عن العقد، يستوى في ذلك البيع والإيجار وأي عقد آخر. فإذا لم يعدل أحد منهما عن العقد في خلال المدة التي يجوز له فيها العدول، أصبح العقد باتاً، واعتبر العربون تنفيذاً جزئياً له، ووجب استكمال التنفيذ. أما إذا عدل أحد المتعاقدين عنه في المدة التي يجوز له فيها ذلك، وجب على من عدل أن يدفع للطرف الآخر قدر العربون جزاء العدول. فإذا كان هو الذي دفع العربون فإنه يفقده، ويصبح العربون حقاً لمن قبضه. أما إذا كان الطرف الذي عدل هو الذي قبض العربون، فإنه يرده ويرد مثله، أي يرد ضعفيه([7] )، للطرف الآخر، حتى يكون بذلك قد دفع قيمة العربون جزاء عدوله عن العقد. ويلاحظ أن النص يرتب التزاماً بدفع قيمة العربون في ذمة الطرف الذي عدل عن العقد، لا تعويضاً عن الضرر الذي أصاب الطرف الآخر من جراء العدول، فإن الالتزام موجود حتى لو لم يترتب على العدول أي ضرر كما هو صريح النص، بل تفسيراً لنية المتعاقدين، فقد فرض المشرع أن المتعاقدين أرادا إثبات حق العدول لكل منهما في نظير الالتزام بدفع قدر العربون فجعلا العربون مقابلا لحق العدول. وفي هذا يختلف العربون عن الشرط الجزائي، فإن هذا الشرط تقدير اتفق عليه المتعاقدان لقيمة التعويض عن الضرر الذي ينشأ عن الإخلال بالعقد، ومن ثم جاز للقاضي تخفيض هذا التقدير إذا كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة، بل جاز له إلا يحكم به أصلاً إذا لم يلحق الدائن أي ضرر. وسيأتي بيان ذلك عند الكلام في الشرط الجزائي([8] ).

أما إذا اتفق المتعاقدان صراحة أو ضمناً على أن دفع العربون إنما كان لتأكيد العقد لا لإثبات حق العدول، وجبت مراعاة ما اتفقا عليه. فلا يجوز لأحد منهما العدول عن العقد، ولكل منهما مطالبة الآخر بتنفيذه. ويعتبر العربون تنفيذا جزئياً يجب استكماله. وتجري على العقد الذي أبرم القواعد العامة التي تجري على سائر العقود من جواز المطالبة بالتنفيذ العيني أو بالتعويض أو بالفسخ. وإذا فسخ العقد وترتب على الفسخ تعويض، فليس من الضروري أن يقدر التعويض بقدر العربون، فقد يكون أكثر أو أقل بحسب جسامة الضرر.

([1]) أنظر مثلا المادة 1599 من القانون الفرنسي والمادة 1217 من القانون الإيطالي القديم. ومع ذلك أنظر المادة 170 من المشروع الفرنسي الإيطالي.

([2]) أنظر المادة 336 من القانون الألماني والمادة 158 من قانون الالتزامات السويسري والمادة 74 من القانون البولوني.

([3]) قضت محكمة الاستئناف المختلطة بان اشتراط العربو لا يدل على جواز العدول بل على إثبات حق الفسخ مع تحديد التعويض الواجب عند التخلف عن الوفاء ( 27 مارس سنة 1902 م 14 ص 242 – 17 ابريل سنة 1902 م 14 ص 254 ) ، على أن المشتري الذي يفقد العربون بسبب التخلف عن تنفيذ العقد لا يحق له إقامة الدليل على أن البائع لم يصبه ضرر من جراء ذلك على نقيض ما يجري بشأن الشرط الجزائي ( 16 نوفمبر سنة 1915 م 28 ص 22 – أول فبراير سنة 1922 م 34 ص 142 ) ، وقضت كذلك بأن العربون قد يدل على الثبات ( 3 ديسمبر سنة 1935 م 48 ص 45 ) .

وفى دعاوى أخرى قضت المحاكم المصرية بأن العربون في حالة الشك يدل على جواز العدول ( محكمة استئناف مصر الوطنية في 31 أكتوبر سنة 1939 المحاماة 21 رقم 26 ص 35 – القضاء المستعجل في 28 مارس سنة 1940 المحاماة 21 رقم 62 ص 111 – محكمة الاستئناف المختلطة في 31 مارس سنة 1948 م 60 ص 64 ) .

وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه إذا كان العربون دليل العدول لوقت معين، فلا يجوز العدول عبد انقضاء هذا الوقت. أما إذا لم يعين وقت لجواز العدول فيجوز العدول إلى وقت التنفيذ. وبأنه لا تجوز اساءة استعمال الحق في العدول، فالبائع الذي أظهر نيته في أن يمضي في العقد دون استعمال حقه في العدول وأخذ يقوم بالاجراءات اللازمة لاتمام العقد حتى اوشك على إنمائها ثم عدل بعد ذلك فجأة لا يقتصر على خسارة العربون بل يجب أيضاً أن يدفع تعويضا لإساءته استعمال حقه في العدول ( 5 ابريل سنة 1938 م 50 ص 215 ) .

([4]) وقد قضت محكمة النقض بان العربون هو ما يقدمه أحد العاقدين إلى الآخر عند إنشاء العقد، وقد يريد المتعاقدان بالاتفاق عليه أن يجعلا عقدهما مبرما بينهما على وجه نهائي، وقد يريدان أن يجعلا لكل منهما الحق في امضاء العقد أو نقضه، ونية العاقدين هي وحدها التي يجب التعويل عليها في إعطاء العربون حكمه القانوني. وعلى ذلك إذا استخلص الحكم من نصوص العقد أن نية عاقديه انعقدت على تمامه، وأن المبلغ الذي وصف فيه بأنه عربون ما هو في الواقع إلا قيمة التعويض الذي اتفقا على استحقاقه عند الفسخ المسبب عن تقصير أحد المتعاقدين في الوفاء بما التزم به، وكان ما استظهرته محكمة الموضوع من نية المتعاقدين على هذا النحو تفسيراً للعقد تحتمله عباراته، فذلك يدخل في سلطتها التقديرية التي لا تخضع فيها لرقابة محكمة النقض ( نقض مدني في 21 مارس سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 52 ص 132 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن دلالة العربون، وقد تكون لتأكيد العقد لا لجواز العدول عنه، تترك لتفسير نية المتعاقدين ( 25 مايو سنة 1947 م 59 ص 157 ) .

([5]) وقد قضت محكمة استئناف مصر بأنه إذا دفع العربون وقت تحرير العقد الابتدائي كان هذا دليلا على جواز العدول، أما إذا دفع عند تحرير العقد النهائي فلا يجوز العدول ( 21 فبراير سنة 1924 المجموعة الرسمية 26 رقم 39 ) – وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن العربون في العقد الابتدائي دليل على جواز العدول، وفي العقد النهائي دليل على الثبات : 17 ديسمبر سنة 1919 م 32 ص 74 ( عقد ابتدائي ) – 30 أكتوبر سنة 1916 م 29 ص 22 – 7 فبراير سنة 1917 م 26 ص 204 – 11 ابريل سنة 1917 م 29 ص 352 – 4 نوفمبر سنة 1925 م 38 ص 11 ( عقد نهائي ) – 5 ابريل 1938 م 50 ص 215 ( وهو الحكم التي سبقت الإشارة إليه ) – محكمة الإسكندرية الكلية المختلطة في 15 ابريل سنة 1944 م 56 ص 103 ) .

([6]) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 152 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” 1 – يكون العربون المدفوع وقت إبرام العقد دليلا على أن العقد أصبح باتاً لا على أنه يجوز العدول عنه، إلا إذا قضى الاتفاق أو العرف بغير ذلك 2 – فإذا امتنع أحد المتعاقدين عن تنفيذ العقد، فللمتعاقد الآخر أن يختار بين التنفيذ والفسخ. وله في حالة الفسخ أن يحتفظ بالعربون الذي قبضه أو أن يطالب بضعف العربون الذي دفعه، حتى لو لم يلحق به الفسخ أي ضرر. هذا مع عدم الإخلال بحقه في استكمال التعويض إن اقتضى الأمر ذلك. 3 – ويسري حكم هذه المادة أياً كانت الألفاظ التي عبر بها المتعاقدان علن العربون “. ولما تلى النص في لجنة المراجعة أقرته اللجنة في المشروع النهائي تحت رقم 105 بعد إبدال نص الفقرة الأولى بالنص الآتي : ” 1 – دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن العقد يفيد أن العقد بات لا يجوز العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق أو العرف بغير ذلك “. ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل. وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ نوقشت المادة تفصيلا، ورأت اللجنة أن تأخذ بحكم يخالف ما قررته، وقالت في تقريرها ما يأتي : ” رأت اللجنة أن تأخذ بحكم يخالف ما قررته المادة تمشيا مع العرف، فعدلت الفقرة الأولى باستبدال عبارة ” لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه “، بعبارة ” العقوبات لا يجوز العدول عنه “، وحذف عبارة ” أو العرف ” لزوال وجه الحاجة إليها بعد التعديل، واستعاضت عن الفقرة الثانية بالنص الآتي : ” فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإذا عدل من قبضه رد ضعفه، ولو لم يترتب على العدول ضرر “. وقد صدرت اللجنة في هذه الإضافة عن وجوب التمشي مع العرف، ولم تر محلا للابقاء على الفقرة الثالثة فحذفتها تاركة أمر تفسير نية المتعاقدين لتقدير القاضي. وأصبح النص كالآتي : ” 1 – دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك. 2 – فإذا عدل من دفع العربون فقده، وإذا عدل من قبضه رد ضعفه. هذا ولو لم يترتب على العدول أي ضرر “. وأصبح رقم المادة 103. ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 80 – ص 89 – وراجع المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في ص 81 – ص 84 ) .

هذا وقد تضمن المشروع التمهيدي نصين اخرين، هما المادتان 153 و 154 من هذا المشروع. فنصت المادة 153 على ما يأتي :

” 1 – إذا نفذ الالتزام الذي من أجله دفع العربون خصم العربون من قيمة هذا الالتزام، فإذا استحال الخصم استرد العربون من دفعه. 2 – ويتيعن كذلك رد العربون إذا استحال تنفيذ العقد لظروف لا يكون أحد من المتعقادين مسئولا عنها، أو إذا فسخ العقد بخطأ من المتعاقدين أو باتفاق بينهما “. وقد حذف هذا النص في لجنة المراجعة لامكان الاستغناء عنه اكتفاء بتطبيق القواعد العامة. ونصت المادة 154 على ما يأتي : ” إذا اتفق المتعاقدان على أن العربون دليل على جواز العدول عن العقد، كان لكل منهما حق العدول، فإن عدل من دفع العربون وجب عليه تركه، وإن عدل من قبضه رد ضعفه ” وقد حذفت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ هذا النص بناء على تعديل المادة 103 من القانون على الوجه السابق الذكر. ( أنظر في كل ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 80 – ص 82 في الهامش ) .

([7]) الصحيح لغة ” ضعفية ” لا ” ضعفه ” كما ورد في نص القانون. فالضعف هو المثل، والمثلان ضعفان لا ضعف واحد. وضعف الشيء مثله في المقدار أو مثله وزيادة غير محصورة. وقد اختار القانون الجديد أن يقول الضعف وهو يريد الضعفين، مؤثراً ذلك الخطأ المشهور على هذا الصواب المهجور، حتى يتجنب اللبس في صدد نصوص تشريعية الخطأ في تطبيقها يؤدي إلى نتائج عملية خطيرة.

([8]) أنظر المواد 223 – 225 من القانون الجديد. ويختلف العربون عن الشرط الجزائي أيضاً في التكييف القانوني.

فالعربون الذي يدفع في مقابل العدول عن العقد يمكن تكييفه بأنه البدل في التزام بدلى. ويكون المدين ملتزماً أصلاً بالالتزام الوارد في العقد ودائناً بالحق الذي يقابل هذا الالتزام، ولكن تبرأ ذمته من الالتزام ويسقط الحق المقابل إذا هو أدى العربون ( م 278 ) . ومؤدى اذلك أن العدول في حالة دفع العربون لا يكون عن العقد في جملته، بل عن الالتزام الأصلي والحق المقابل له، والعربون بدل مستحق بالعقد، فدفعه إنما هو تنفيذ للعقد في أحد شرطيه وهو البدل، لا عدول عنه في جملته.

أما الشرط الجزائي فكالتعويض تماماً، بل هو تعويض مقدر اتفق عليه المتعاقدان مقدماً. فالتكييف القانونين للششرط الجزائي هو ذات التكييف القانونين للتعويض. ولا يجوز القول بأن التعويض بدل في االتزام بدلى، لأن المدين لا يملك أن يؤديه بدلا من تنفيذ الالتزام الأصلي تنفيذاً عينياً إذا كان هذا التنفيذ ممكناً وطالب به الدائن. ولا هو أحد المحلين في التزام تخييري، فالمدين لا يخير بينه وبين التنفيذ العيني إذا أراد الدائن هذا التنفيذ وكان ممكنناً، ولا خيار للدائن كذلك بين المحلين إذا تقدم المدين بالتنفيذ العيني.