بحث قانوني هام حول حكم النشوز و الخلع

أ / أيمن عاطف

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله وصحبه وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة مسألة النشوز والخلع – وقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في الموضوع للمجلس وهذا نصه:
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فبناء على ما تقرر من أن تبحث مسألة النشوز والخلع في الدورة الخامسة، وأن يدرج موضوعها في جدول أعمال تلك الدورة، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على ما يأتي:
1 – معنى النشوز والخلع في اللغة وفي الاصطلاح الشرعي.
2 – الحكم فيما إذا كان النشوز من الزوج.
3 – الحكم فيما إذا كان النشوز من الزوجة.
4 – حكم أخذ العوض على الخلع عند تحقق النشوز أو توقعه.
5 – الحكم فيما إذا كان النشوز منهما جميعا أو ادعاه كل واحد منهما على الآخر.
وختمت ذلك بخلاصة لما تضمنه البحث…وبالله التوفيق
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

النشوز في اللغة وفي عرف الفقهاء:

قال ابن منظور: نشز: النشز، والنشز: المتن المرتفع من الأرض، وهو أيضاً ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض، وليس بالغليظ، والجمع أنشاز ونشوز، وقال بعضهم: جمع النشز نشوز، وجمع النشز أنشاز ونشاز، مثل جبل وأجبال وجبال، والنشاز بالفتح كالنشز.
ونشز ينشز نشوزاً أشرف على نشز من الأرض وهو ما ارتفع وظهر، يقال: أقعد على ذلك النشاز وفي الحديث: ((إنه كان إذا أوفى على نشز كبر))، أي: ارتفع على رابية في سفر، قال: وقد تسكن الشين، ومنه الحديث في خاتم النبوة ((بضعة ناشزة))، أي: قطعة لحم مرتفعة على الجسم، ومنه الحديث ((أتاه رجل ناشز الجبهة)) أي مرتفعها، ونشز الشيء ينشز نشوزاً ارتفع، وتل ناشز مرتفع. وجمعه نواشز، وقلب ناشز إذا ارتفع عن مكانه من الرعب وأنشزت الشيء إذا رفعته عن مكانه، ونشز في مجلسه ينشز وينشز بالكسر والضم ارتفع قليلاً، وفي التنزيل العزيز: (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) [سورة المجادلة الآية 11]، قال الفراء: قرأها الناس بكسر الشين وأهل الحجاز يرفعونها، قال: وهما لغتان. قال أبو إسحاق: معناه إذا قيل انهضوا فانهضوا وقوموا كما قال تعالى: (وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) [سورة الأحزاب الآية 53]، وقيل في قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا) [سورة المجادلة الآية 11]، أي قوموا إلى الصلاة أو قضاء حق أو شهادة فانشزوا، ونشز الرجل ينشز إذا كان قاعداً فقام، وركب ناشز: ناتئ مرتفع. وعرق ناشز منتبر ناشز، لا يزال يضرب من داء أو غيره وقوله: وأنشده ابن الأعرابي:

فما ليلى بناشزة القصيرى*** ولا وقصـاء لبسـتها اعتجـار
فسره فقال: ناشزة القصيرى أي ليست بضخمة الجنين مشرفة القصيرى بما عليها من اللحم وأنشز الشيء: رفعه عن مكانه. وإنشاز عظام الميت: رفعها إلى مواضعها وتركيب بعضها على بعض. وفي التنزيل العزيز: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) [سورة البقرة الآية 259]، أي نرفع بعضها على بعض قال الفراء: قرأ زيد بن ثابت ننشزها بالزاي، قال: والإنشاز نقلها إلى مواضعها، قال وبالراء قرأها الكوفيون.
قال ثعلب: والمختار الزاي؛ لأن الإنشاز تركيب العظام بعضها على بعض.. وفي الحديث ((لا رضاع إلا ما أنشز العظم))1 أي رفعه وأعلاه وأكبر حجمه وهو من النشز المرتفع من الأرض.
قال أبو إسحاق النشوز يكون بين الزوجين، وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه، واشتقاقه من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، ونشزت المرأة بزوجها وعلى زوجها تنشز وتنشز نشوزاً وهي ناشز: ارتفعت عليه واستعصت عليه وأبغضته وخرجت عن طاعته وفركته، وقال:

سرت تحت إقطاع من الليل حتى*** لخمـان بيـت فهـي لا شـك ناشـز
قال الله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) [سورة النساء الآية 34]، نشوز المرأة استعصاؤها على زوجها ونشز هو عليها نشوزا كذلك، وضربها وجفاها وأضر بها، وفي التنزيل العزيز: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) [سورة النساء الآية 128]، وقد تكرر ذكر النشوز بين الزوجين في الحديث، والنشوز كراهية كل واحد منهما صاحبه وسوء عشرته له. ورجل نشز: غليظ عيل، قال الأعشى:

وتـركب منـي إن بلـوت نكـيثتي*** على نشز قد شاب ليس بتوئم
أي غلظ ذهب إلى تكبيره وتعظيمه فلذلك جعله أشيب. ونشز بالقوم في الخصومة نشوزا: نهض بهم للخصومة.
ونشز بقرنه ينشز به نشوزا احتمله فصرعه، قال شمر: وهذا كأنه مقلوب2 مثل جذب وجبذ، ويقال للرجل إذا أسن ولم ينقص: إنه لنشز من الرجال، وصم إذا انتهى سنه وقوته وشبابه، قال أبو عبيد: النشز والنشز الغليظ الشديد ودابة نشيزة إذا لم يكد يستقر الراكب عليها والسرج على ظهرها، ويقال للدابة إذا لم يكد يستقر السرج والراكب على ظهرها: إنها لنشزة3.
وقال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص في تعريف النشوز:
وأصل النشوز: الترفع على الزوج بمخالفته. مأخوذ من نشز الأرض وهو الموضع المرتفع منها4. وقال القرطبي: والنشوز: العصيان، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض. يقال: نشز الرجل ينشز وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما ومنه قوله عز وجل (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) [سورة المجادلة الآية 11]، أي: ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى، فالمعنى أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج.

قال أبو منصور اللغوي: النشوز كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه، يقال نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء، ونشصت تنشص وهي السيئة للعشرة.. قال ابن فارس ونشزت المرأة استعصت على بعلها ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها. قال ابن دريد نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد5.
وقال منصور البهوتي: فصل في النشوز، وهو كراهة كل من الزوجين صاحبه وسوء عشرته، يقال نشزت المرأة على زوجها فهي ناشزة وناشز، ونشز عليها زوجها جفاها وأضر بها، قاله في المبدع وغيره، وهو معصيتها إياه فيما يجب عليها، مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من الأرض، فكأنها ارتفعت عما فرض الله عليها من المعاشرة بالمعروف، ويقال: نشصت بالشين المعجمة والصاد المهملة6. ا هـ المقصود.

النشوز قد يكون من الرجل وقد يكون من المرأة، وقد يدعيه كل منهما على صاحبه:
أما نشوز الزوج على امرأته فقد قال الله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [سورة النساء الآية 128]، قال ابن جرير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: يعني بذلك جل ثناؤه، وإن خافت امرأة من بعلها يقول: علمت من زوجها نشوزا يعني استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها أثرة عليها وارتفاعا عنها، إما لبغضه وإما لكراهة منه بعض أسبابها: إما دمامتها وإما سنها وكبرها أو غير ذلك من أمورها، (أَوْ إِعْرَاضًا) يعني انصرافاً عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) يقول: فلا حرج عليهما يعني على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضه عنها (أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) وهو أن تترك له يومها أو تضع عنه بعض الواجب لها من حق عليه، تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح. يقول: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) يعني والصلح بترك بعض الحق استدامة للحرمة وتماسكا بعقد النكاح خير من طلب الفرقة والنكاح – ثم قال – وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل ثم ذكر – رحمه الله – مجموعة آثار بأسانيدها إلى عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعائشة وابن عباس، ورافع بن خديج، وعبيدة وإبراهيم، وقتاده ومجاهد، والسدي، والضحاك وابن زيد7.

قال الجصاص: باب مصالحة المرأة زوجها
قال الله – تعالى – (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) [سورة النساء الآية 128]، قيل في معنى النشوز: إنه الترفع عليها لبغضه إياها مأخوذ من نشز الأرض وهي المرتفعة، وقوله (أَوْ إِعْرَاضًا) [سورة النساء الآية 128] يعني لموجدة أو أثرة فأباح الله لهما الصلح.
فروي عن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها، وقال عمر: ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت يا رسول الله لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل، فنزلت هذه الآية: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) [سورة النساء الآية 128])) 8 الآية فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة – رضي الله عنها – أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها، فتقول أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي فذلك قوله تعالى (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) إلى قوله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).

وعن عائشة من طرق كثيرة أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقسم به لها قال أبو بكر: فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة على وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة.
وقضى كعب بن سور بأن لها يوماً من أربعة أيام بحضرة عمر، فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة وأباح الله أن تترك حقها من القسم وأن تجعله لغيرها من نسائه، وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية. إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه، وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه، وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة ‌‌‌وبالكون عندها.
فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا.

ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضاً على ترك حقها من القسم أو الوطء؛ لأن ذلك أكل مال بالباطل، أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه؛ لأنه لا يسقط مع وجود السبب الموجب له وهو عقد النكاح، وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر، فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد.
فإن قيل: فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها، فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة.
قيل له: لم يجيزوا البراءة من النفقة، ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد، ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة، والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع، ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها.
وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه، أو بعضه أو على الزيادة عليه؛ لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه. وقوله – تعالى -: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) قال بعض أهل العلم: يعني خير من الإعراض والنشوز، وقال آخرون: من الفرقة وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر الأشياء إلا ما خصه الدليل9. ا هـ
وقال القرطبي قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا). [سورة النساء الآية 128].
فيه مسائل:

الأولى:

قوله – تعالى -وإن امرأة رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده وخافت بمعنى توقعت وقول من قال خافت تيقنت خطأ. قال الزجاج: المعنى وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز. قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد. والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها.
ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعه، روى الترمذي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي منك لعائشة ففعل فنزلت (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب10.
وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره. فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما شئت فجرت السنة بذلك ونزلت سورة النساء الآية 128 وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ.
‌‌‌‌‌‌وروى البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية وقراءة العامة (أن يصالحا)، وقرأ أكثر الكوفيين (أن يصلحا) وقرأ الجحدري وعثمان البتي (أن يصلحا) والمعنى يصطلحا ثم أدغم.

الثانية:

في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها.
قال ابن أبي مليكة: إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يطلقها، فآثرت الكون معه، فقالت له: أمسكني واجعل يومي لعائشة، ففعل – صلى الله عليه وسلم – وماتت وهي من أزواجه.
قلت: وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة، روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية، فكانت عنده حتى كبرت، فتزوج عليها فتاة شابة، فآثر الشابة عليها، فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق، فقال: ما شئت، إنما بقيت واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك، قالت: بل أستقر على الأثرة، فأمسكها على ذلك، ولم ير رافع عليه إثما حين قرت على الأثرة. رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد: فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).
قال أبو عمر بن عبد البر: قوله والله أعلم (فآثر الشابة عليها) يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت؛ لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع والله تعالى أعلم.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه أن رجلاً سأله عن هذه الآية فقال: (هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها، أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج).
وقال الضحاك: لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه، وقال مقاتل بن حيان: هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة، فيقول لهذه الكبيرة أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه، وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم.

الثالثة: قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطى هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء فهذا كله مباح، وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها، كما فعل أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – وذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان غضب على صفية، فقالت لعائشة: أصلحي بيني وبين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد وهبت يومي لك11. ذكره ابن خويز منداد عن عائشة. ا هـ12
فإذا كان النشوز من الزوج ولم يتم اصطلاح بين الزوجين فلا يحل له أن يستمر في نشوزه عليها والعضل لها ليضطرها أن تفتدي نفسها ببذلها ما آتاها أو بعضه ليطلقها، بل عليه أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، أو أن تأتي الزوجة بفاحشة مبينة فيباح له حينئذ عضلها ليأخذ ما آتاها أو بعضه ليطلقها، قال تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ). [سورة البقرة الآية 229].
قال ابن جرير يعني تعالى ذكره بقوله: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) [سورة البقرة الآية 229]، ولا يحل لكم أيها الرجال أن تأخذوا من نسائكم إذا أنتم أردتم طلاقهن – لطلاقكم وفراقكم إياهن – شيئا مما أعطيتموهن من الصداق وسقتم إليهن بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان وذلك إيفاؤهن حقوقهن في الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم سورة البقرة الآية 229 إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ – إلى أن قال – فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما ألا يقيما حدود الله حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟

قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضه حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق ويخاف عليها بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له تركه أداء الواجب له، عليها، فذلك حين الخوف عليهما ألا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي – صلى الله عليه وسلم – لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان أتى زوجته إذ نشزت عليه بغضا منها له – ثم ذكر مجموعة أحاديث بأسانيدها تؤيد ما ذهب إليه من تعيين الحال التي يخاف على الزوجين ألا يقيما حدود الله فيباح للزوجة الافتداء من زوجها ويباح للزوج أخذ العوض على طلاقها، ومن ذلك قوله: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: ((نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة قال وكانت اشتكته إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -تردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فدعاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكر ذلك له فقال: ويطيب لي ذلك؟ قال: نعم، قال ثابت: قد فعلت)13 ،فنزلت (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا)14 اهـ

وقال تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)، [سورة النساء الآية 19].
ذكر ابن جرير – رحمه الله – أقوالا لأهل العلم في المخاطب بالنهي عن العضل منها: أن المخاطبين بذلك ورثة الأزواج، ومنها: أن المخاطبين بذلك أولياء المرأة، ومنها أن المخاطبين بذلك أولياء المرأة، ومنها: أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين طلقوا زوجاتهم ومنعوهن أن يتزوجن بعدهم إلا بإذنهم، ومنها: أن المخاطبين بذلك الأزواج الذين كرهوا زوجاتهم وأمسكوهن ضرارا ليفتدين، ثم قال: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ)، قول من قال: نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق، وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة؛ لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد رجلين إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك؛ ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك، أو لوليها الذي إليه إنكاحها، وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحد غيرهما وكان الوالي معلوماً أنه ليس ممن آتاها شيئاً، فيقال: إن عضلها عن النكاح عضلها ليذهب ببعض ما آتاها، كان معلوماً أن الذي عنى الله- تبارك وتعالى -بنهيه عن عضلها هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدي منه. – إلى أن قال – قوله: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) يعني بذلك جل ثناؤه: لا يحل لكم أيها المؤمنون أن تعضلوا نساءكم ضراراً منكم لهن، وأنتم لصحبتهن كارهون وهن لكم طائعات؛ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فيحل لكم حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم، ثم ذكر – رحمه الله – أقوال أهل التأويل في معنى الفاحشة، فذكر آثاراً بأسانيدها إلى الحسن البصري وعطاء الخراساني والسدي أن المقصود بالفاحشة الزنا. وذكر آثاراً أخرى بأسانيدها إلى ابن عباس ومقسم، والضحاك بن مزاحم، وقتادة وعطاء بن أبي رباح، أن المقصود بالفاحشة النشوز، ثم قال: وأولى ما قيل في تأويل قوله: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أنه معني به كل فاحشة من بذاء باللسان على زوجها، وأذى له، وزنا بفرجها، وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) كل فاحشة متبينة ظاهرة، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنا أو نشوز فله عضلها على ما بين الله في كتابه، والتضييق عليها حتى تفتدي منه بأي معاني الفواحش أتت، بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله- تبارك وتعالى -وصحة الخبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كالذي: حدثني يونس بن سليمان البصري قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: ((اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))15.

حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال: حدثنا زيد بن الحباب قال حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: قال((أيها الناس، إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق. ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يعصينكم في المعروف، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف))16.
فأخبر – صلى الله عليه وسلم – أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطئ فراشه أحداً وأن لا تعصيه في معروف، وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه، إنما هو واجب عليه إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق، بتركها إيطاء فراشه غيره، وتركها معصيته في معروف.
ومعلوم أن معنى قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((من حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً إنما هو أن لا يمكن من أنفسهن أحدا سواكم))17.

وإذا ما روينا في ذلك صحيحاً عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبين أن لزوج المرأة إذا وطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه، أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف. وإذا كان ذلك له، فمعلوم أنه غير مانع لها – بمنعه إياها ماله منعها – حقا لها واجبا عليه. وإذا كان ذلك كذلك، فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها، فأخذ منها زوجها ما أعطته، أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح، وإذا كان ذلك كذلك، كان بينا أنه داخل في استثناء الله- تبارك وتعالى -الذي استثناه من العاضلين بقوله: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)، وإذا صح ذلك فبين فساد قول من قال: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)، منسوخ بالحدود؛ لأن الحد حق الله جل ثناؤه على من أتى بفاحشة التي هي الزنا، وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه، فحق لزوجها كما أن عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه، حق له. وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر.

قال أبو جعفر: فمعنى الآية: لا يحل لكم، أيها الذين آمنوا أن تعضلوا نسائكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتكم إلا أن يأتين بفاحشة من زنا أو بذاء عليكم، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم – مبينة ظاهرة، فيحل لكم حينئذ عضلهن والتضييق عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به18. ا هـ
وذكر أبو بكر الجصاص19، وأبو بكر بن العربي20، والقرطبي21 نحواً مما ذكره ابن جرير في الموضوع.
وقال تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [سورة النساء الآية 20]، قال ابن جرير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: (وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة لكم تطلقونها وآتيتم إحداهن قنطارا يقول: وقد أعطيتم التي تريدون طلاقها من المهر قنطارا.. (فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)، يقول: فلا تضروا بهن إذا أردتم طلاقهن ليفتدين منكم بما آتيتتوهن، أتأخذون ما آتيتموهم من مهورهن بهتاناً يقول: ظلماً بغير حق وإثماً مبيناً يعني وإنما قد أبان أمر أخذه أنه يأخذه إياه لمن أخذه منه ظالم، وكيف تأخذونه وعلى أي وجه تأخذون من نسائكم ما آتيتموهن من صدقاتهن إذا أرتم طلاقهن واستبدال غيرهن بهن أزواجا (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) [سورة النساء الآية 21] فتباشرتم وتلامستم، وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فإنه في معنى النكير والتغليظ كما يقول الرجل لآخر: كيف تفعل كذا وكذا وأنا غير راض به؟ على معنى التهديد والوعيد، ثم قال بعد ذلك – واختلف في حكم هذه الآية أمحكم أم منسوخ؟
فقال بعضهم محكم وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها إذا أراد طلاقها، إلا أن تكون هي المريدة للطلاق.
وقال آخرون: هي محكمة، وغير جائز له أخذ شئ مما آتاها منها بحال، كانت هي المريدة للطلاق أو هو. وممن حكي عنه هذا القول بكر بن عبد الله المزني.

حدثنا مجاهد بن موسى قال: حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا عقبة بن أبي الصهباء. قال: سألت بكراً عن المختلعة، أيأخذ منها شيئا؟ قال: لا، (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا).
وقال آخرون: بل هي منسوخة، نسخها قوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [سورة البقرة الآية 229] ذكر من قال ذلك.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله – تعالى -: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) [سورة النساء الآية 20] إلى قوله تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [سورة النساء الآية 21]. قال: ثم رخص بعد فقال (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229]، قال: فنسخت هذه تلك.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: إنها محكمة غير منسوخة وغير جائز للرجل أخذ شيء مما آتاها، إذا أراد طلاقها من غير نشوز كان منها، ولا ريبة أتت بها. وذلك أن الناسخ من الأحكام ما نفي خلافه من الأحكام على ما قد بينا في سائر كتبنا، وليس في قوله تعالى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) [سورة النساء الآية 20]، نفي حكم قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229]؛ لأن الذي حرم الله على الرجل بقوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [سورة النساء الآية 20] أخذ ما آتاها منها إذا كان هو المريد طلاقها، وأما الذي أباح له أخذه منها بقوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229]، فهو إذا كانت هي المريدة طلاقه وهو له كاره، ببعض المعاني التي قد ذكرنا في غير هذا الموضع.
وليس في حكم إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، وإذا كان ذلك كذلك، لم يجز أن يحكم لإحداهما بأنها ناسخة. وللأخرى بأنها منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها. وأما قول بكر بن عبد الله المزني من أنه ليس لزوج المختلعة أخذ ما أعطته على فراقه إياها إذا كانت هي الطالبة الفرقة وهو الكاره – فليس بصواب، لصحة الخبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأنه أمر ثابت بن قيس بن شماس بأخذ ما ساق إلى زوجته وفراقها إذا طلبت فراقه، إذا طلبت فراقه، وكان النشوز من قبلها22. اه
وذكر أبو بكر الجصاص وأبو بكر بن العربي والقرطبي نحوا مما ذكره ابن جرير في تفسير هذه الآية23.
وقال السمرقندي: إن كان النشوز من جهة الزوج فلا يحل له أن يأخذ شيئا منها بل له أن يطلقها بلا عوض لقوله – تعالى -: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [سورة النساء الآية 20] 24.

وقال محمد بن رشد في معرض الكلام عن الخلع

وإن في معرض الكلام على الخلع:
كرها فارقها، ولا يحل له إذا كرهها أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه وإن أتت بفاحشة من زنا أو نشوز أو بذاء، لقول الله – عز وجل – (وإن أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [سورة النساء الآية 20 – 21]، وهذا مذهب مالك – رحمه الله – وجميع أصحابه لا اختلاف بينهم فيه ومن أهل العلم من أباح للرجل إذا اطلع على زوجته بزنا أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه لقول الله – عز وجل – وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وتأول أن الفاحشة المبينة هو الزنا هنا، وجعل الاستثناء متصلا، ومنهم من تأول أن الفاحشة المبينة: البغض والنشوز والبذاء باللسان، فأباح للزوج إذا أبغضته زوجته ونشزت عنه وبذت بلسانها عليه أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه. ومنهم من حمل الفاحشة على العموم فأباح ذلك للزوج سواء كانت الفاحشة التي أتت بها زنا أو نشوزا أو بذاء باللسان أو ما كانت.
والصحيح ما ذهب إليه مالك – رحمه الله تعالى – لأنه إذا ضيق عليها حتى تفتدي منه، فقد أخذ مالها بغير طيب نفس، ولم يبح الله ذلك إلا عن طيب نفسها فقال – تعالى -: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [سورة النساء الآية 4]، والآية التي احتجوا بها لا حجة لهم فيها؛ لأن الفاحشة المبينة من جهة النطق أن تبذو عليه وتشتم عرضه وتخالف أمره، لأن كل فاحشة أتت في القرآن منعوتة بمبينة فهي وكل فاحشة أتت فيه مطلقة فهي الزنا، والاستثناء المذكور فيها منفصل فمعني الآية: لكن إن نشزت عليكم وخالفت أمركم حل لكم ما ذهبتم به من أموالهن، معناه: إذا كان ذلك عن طيب أنفسهن. ولا يكون ذلك عن طيب أنفسهن إلا إذا لم يكن منهم إليهن ضرر ولا تضييق. فعلى هذا التأويل تتفق أي القرآن ولا تتعارض وقد قيل في تأويل الآية غير هذا. وهذا أحسن وذهب إسماعيل القاضي إلى أن الخلع يجوز، ويسوغ للزوج ما أخذ منه على الطلاق إذا كان النشوز والكراهية منها.

وإذا خافا أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، وليس قوله مخالفاً لما حكيناه عن مالك وأصحابه: من أن الخلع لا يجوز للزوج وإن كرهته المرأة ونشزت عليه وأضرت به إذا قارضها على بعض ذلك لأنه إنما حمل المخالفة على بابها فأباح الفدية قبل وقوع ما خافاه أن يقع ما ذكر وخاف كل واحد منهما صاحبه، هو إن أمسكها أن لا يقيم حدود الله فيها من أجل كراهته إياها، وخافت هي أن لا تقوم بما يلزمها من حقه فخالفته مخالفة الإثم والحرج فقد أعطته مالها على الطلاق طيبة به نفسها إذا لم يضطرها إلى ذلك بإضرار كان منه إليها.

وأما ابن بكير فإنما حمل الخوف المذكور في الآية على العلم إلا أنه ذهب إلى أن الخطاب فيها إنما هو للولاة كآية التحكيم سواء، فقال: تقدير الكلام فإن خفتم يا ولاة أن لا يقيم الزوجان حدود الله فيما بينهما فلا جناح عليكم فيما أخذتم من مالها وفرقتم بينهما، فالاختلاف بينه وبين أبي بكير إنما هو في تأويل الآية لا في الموضع الذي يجوز فيه الخلع من الذي لا يجوز فيه، ولا اختلاف في المذهب أن الزوج يجوز له أن يأخذ من زوجته شيئا على طلاقها إذا كان النشوز من قبلها ولم يكن منه في ذلك ضرر إليها، إذ ليس له أن يقارضها على نشوزها عليه بالإضرار لها والتضييق عليها حتى تفتدي منه لقول الله – عز وجل – (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ) [سورة النساء الآية 19]، وإنما له أن يعظها فإن اتعظت وإلا هجرها في المضاجع فإن اتعظت وإلا ضربها ضربا غير مبرح فإن أطاعته فلا يبغي عليها سبيلا لقول الله – عز وجل – (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) [سورة النساء الآية 34]، فإن هي بذلت له على ألف، حل له أن يقبله إذا لم يتعد أمر الله فيها25 .26 اه المقصود.
وقال الشيرازي: وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو كبر سن ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز لقوله – عز وجل -: وإن امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) [سورة النساء الآية 128]، قالت عائشة – رضي الله تعالى عنها -: أنزل الله – عز وجل – هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن فتجعل يومها لامرأة أخرى27.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميه – رحمه الله -: ولا يحل للرجل أن يعضل المرأة ويضيق عليها حتى تعطيه الصداق أو بضعه، لكن إذا أتت بفاحشة مبينة كان له أن يعضلها حتى تفتدي نفسها منه28. اه.
أما إذا كان النشوز من الزوجة فإن لزوجها حق وعظها فإن لم يجد الوعظ كان له حق هجرها، فإن لم يفد الهجر كان له ضربها ضربا غير مبرح، فإن لم يجد ذلك كان له عضلها حتى تفتدي نفسها منه ببذلها ما آتاها أو بعضه لقاء تطليقه إياها؛ لأنها باستمرارها على النشوز أتت فاحشة مبينة تبيح للزوج عضلها ليأخذ منها ما آتاها أو بعضه قال تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) [سورة النساء الآية 34]، وقال تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء الآية 19].

قال ابن العربي: من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية، قول سعيد بن جبير: قال: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها فينظران ممن الضرر وعند ذلك يكون الخلع29. ا هـ وقد سبق بعض الكلام على الحال التي تجيز للزوج أن يعضل امرأته لتفتدي نفسها منه وذلك عند الاستدلال بقوله تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء الآية 19]، وبقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [سورة البقرة الآية 229] على تحريم عضل الزوج امرأته لتفتدي منه.
وقد ذكر ابن جرير – رحمه الله – أقوالا لأهل التأويل في معني الخوف ألا يقيما حدود الله:

الأول: أن المراد بذلك أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر منها حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها، وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى ابن عباس وعروة وجابر بن زيد وهشام بن عروة وغيرهم.
الثاني: أن المراد بالخوف من ذلك ألا تبر له قسماً ولا تطيع له أمراً وتقول: لا أغتسل لك من جنابة ولا أطيع لك أمراً فحينئذ يحل له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها ثم ذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي ومجاهد.
الثالث: أن المراد بالخوف من ذلك، أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة، ثم ذكر ذلك بإسناده إلى عطاء بن أبي رباح.
الرابع: أن الذي يبيح له أخذ الفدية أن يكون خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صاحبه الآخر وذكر جملة آثار في ذلك بأسانيدها إلى الشعبي وطاووس والحسن، ثم اختار هذا القول وذكر توجيه اختياره إياه30.

وقال الكاساني: فصل ومنها التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته بأن كانت ناشزة فله أن يؤدبها لكن على الترتيب، فيعظها أولا على الرفق واللين بأن يقول لها: كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ولا تكوني من كذا وكذا، فلعلها تقبل الموعظة فتترك النشوز. فإن نجحت فيها الموعظة ورجعت إلى الفراش وإلا هجرها، وقيل يخوفها بالهجر أولا والاعتزال عنها وترك الجماع والمضاجعة، فإن تركت وإلا هجرها لعل نفسها لا تحتمل الهجر، ثم اختلف في كيفية الهجر.
قيل يهجرها بأن يجامعها ولا يضاجعها على فراشه، وقيل يهجرها بأن لا يكلمها في حال مضاجعته إياها لا أن يترك جماعها ومضاجعتها لأن ذلك حق مشترك بينهما فيكون في ذلك عليه من الضرر ما عليها فلا يؤدبها بما يضر نفسه ويبطل حقه، وقيل يهجرها بأن يفارقها في المضجع وضاجع أخرى في حقها وقسمها لأن حقها عليه في القسم في حال الموافقة وحفظ حدود الله – تعالى -لا في حال التضييع وخوف النشوز والتنازع، وقيل يهجرها بترك مضاجعتها وجماعها لوقت غلبة شهوتها وحاجتها لا في وقت حاجته إليها، لأن هذا للتأديب والزجر، فينبغي أن يؤدبها لا أن يؤدب نفسه بامتناعه عن المضاجعة في حال حاجته إليه.
فإذا هجرها، فإن تركت النشوز وإلا ضربها ضربا غير مبرح ولا شائن، والأصل فيه قوله – عز وجل – (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) [سورة النساء الآية 34].

وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب، والواو تحتمل فإن نفع الضرب وإلا رفع الأمر إلى القاضي ليوجه إليهما حكمين، حكما من أهله وحكما من أهلها كما قال الله – تعالى -: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [سورة النساء الآية 35]، وسبيل هذا الأمر سبيل بالمعروف والنهي عن المنكر في حق سائر الناس، أن الأمر يبدأ بالموعظة على الرفق واللين دون التغليظ في القول، فإن قبلت وإلا غلظ القول به، فإن قبلت وإلا بسط يده فيه، وكذلك إذا ارتكبت محظورا سوى النشوز ليس فيه حد مقدر، فللزوج أن يؤدبها تعزيراً؛ لأن للزوج أن يعزر زوجته كما للولي أن يعزر مملوكه31. ا هـ.

وقال الشافعي: وأشبه ما سمعت – والله أعلم – في قوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ) [سورة النساء الآية 34] أن لخوف النشوز دلائل، فإذا كانت (فَعِظُوهُنَّ)؛ لأن العظة مباحة فإن لججن فأظهرن نشوزا بقول أو فعل (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ)، فإن أقمن بذلك على ذلك فاضربوهن، وذلك بين أنه لا يجوز هجرة في المضجع وهو منهي عنه ولا ضرب إلا بقول أو فعل أو هما. قال: ويحتمل في (تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) [سورة النساء الآية 34]، إذا نشزن فأبن النشوز فكن عاصيات به أن تجمعوا عليهن العظة والهجرة والضرب.
قال: ولا يبلغ في الضرب حدا ولا يكون مبرحا ولا مدميا ويتوقى فيه الوجه قال: ويهجرها في المضجع، حتى ترجع عن النشوز ولا يجاوز بها في هجرة الكلام ثلاثا لأن الله – عز وجل – إنما أباح الهجرة في المضجع، والهجرة في المضجع تكون بغير هجرة الكلام، ونهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يجاوز بالهجرة في الكلام ثلاثاً، قال: ولا يجوز لأحد أن يضرب ولا يهجر مضجعا بغير بيان نشوزها.
قال: وأصل ما ذهبنا إليه من أن لا قسم للممتنعة من زوجها ولا نفقة ما كانت ممتنعة؛ لأن الله- تبارك وتعالى -أباح هجرة مضجعها وضربها في النشوز، والامتناع نشوز. قال: ومتى تركت النشوز لم تحل هجرتها ولا ضربها، وصارت على حقها كما كانت قبل النشوز32. ا هـ

وقال ابن قدامة بعد تعريف النشوز:
فمتى ظهرت منها أمارات النشوز مثل أن تتثاقل وتدافع إذا دعاها، ولا تصير إليه إلا بتكره ودمدمة فإنه يعظها، فيخوفها الله – سبحانه – ويذكر ما أوجب الله له عليها من الحق والطاعة، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة والمعصية وما يسقط بذلك من حقوقها من النفقة والكسوة، وما يباح له من ضربها وهجرها لقول الله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ) [سورة النساء الآية 34]، فإن أظهرت النشوز وهو أن تعصيه وتمتنع من فراشه أو تخرج من منزله بغير إذنه فله أن يهجرها في المضجع لقول الله تعالى: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) [سورة النساء الآية 34].
قال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك، فأما الهجران في الكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، لما روى أبو هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام))33 وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له ضربها في النشوز في أول مرة.
وقد روي عن أحمد: إذا عصت المرأة زوجها فله ضربها ضربا غير مبرح، فظاهر هذا إباحة ضربها كما لو أصرت، ولأن عقوبات المعاصي لا تختلف بالتكرار وعدمه كالحدود، ووجه قول الخرقي المقصود زجرها عن المعصية في المستقبل وما هذا سبيله يبدأ فيه بالأسهل فالأسهل كمن هجم منزله فأراد إخراجه، وأما قوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) [سورة النساء الآية 34]، ففيها إضمار تقديره واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع، فإن أصررن فاضربوهن كما قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) [سورة المائدة الآية 33]، والذي يدل على هذا أنه رتب هذه العقوبات على خوف النشوز ولا خلاف أنه لا يضربها لخوف النشوز قبل إظهاره، وللشافعي قولان كهذين.
فإن لم ترتدع بالوعظ والهجر فله ضربها لقوله تعالى: (واضربوهن)، وقال- صلى الله عليه وسلم –
((إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح))34، رواه مسلم. معنى غير مبرح غير موجع ولا شديد.

وقال الخلال سألت أحمد بن يحيى عن قوله (غير مبرح)، قال: غير شديد، وعليه أن يجتنب الوجه والمواضع المخوفة؛ لأن المقصود التأديب لا الإتلاف، وقد روى أبو داود عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت))35، وروى عبد الله بن زمعة عن النبي – صلى الله – تعالى -عليه وسلم – قال ” لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم))36، ولا يزيد في ضربها على عشرة أسواط لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله))37 متفق عليه38 ا هـ.
وقال ابن قدامة أيضاً (مسألة) قال ” والمرأة إذا كانت مبغضة للرجل وتكره أن تمنعه ما تكون عاصية بمنعه فلا بأس أن تفتدي نفسها منه ” وجملة الأمر أن المرأة إذا كرهت زوجها لخلقه أو خلقه أو دينه أو كبره أو ضعفه أو نحو ذلك، وخشيت أن لا تؤدي حق الله في طاعته جاز لها أن تخالعه بعوض تفتدي به نفسها منه لقول الله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. [سورة البقرة الآية 229].

وروي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” ما شأنك؟ ” قالت: لا أنا ولا ثابت لزوجها، فلما جاء ثابت قال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكره ” وقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لثابت بن قيس: ” خذ منها ” فأخذ منها وجلست في أهلها))39، وهذا حديث صحيح ثابت الإسناد رواه الأئمة مالك وأحمد وغيرهما وفي رواية البخاري قال: ((جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالت يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فردتها عليه وأمره ففارقها))40.

وفي رواية فقال ((اقبل الحديقة وطلقها تطليقة))41، وبهذا قال جميع الفقهاء بالحجاز والشام.
قال ابن عبد البر: ولا نعلم أحداً خالفه إلا بكر بن عبد الله المزني فإنه لم يجزه، وزعم أن آية الخلع منسوخة بقوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) [سورة النساء الآية 20].
وروي عن ابن سيرين، وأبي قلابة أنه لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا لقول الله تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء الآية 19].

ولنا الآية التي تلوناها والخبر وأنه قول عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم من الصحابة لم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعاً، ودعوى النسخ لا تسمع حتى يثبت تعذر الجمع وأن الآية الناسخة متأخرة ولم يثبت شيء من ذلك. إذا ثبت هذا فإن هذا يسمى خلعاً؛ لأن المرأة تنخلع من لباس زوجها قال الله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [سورة البقرة الآية 187]، ويسمى افتداء؛ لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله قال الله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229] 42 اهـ.
وإذا كان النشوز من المرأة وتعذرت أوبتها منه لبغضها إياه وكراهتها له وعرضت عليه افتدائها منه فقد أجمع أهل العلم على أنه ينبغي إجابتها واختلفوا هل يجبر الزوج على ذلك؟
قال ابن مفلح: يباح لسوء عشرة بين الزوجين وتستحب الإجابة إليه واختلف كلام شيخنا في وجوبه وألزم به بعض حكام الشام المقادسه الفضلاء فقال أبو طالب: إذا كرهته حل أن يأخذ منها ما أعطاها لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أتردين عليه حديقته))43 ا هـ 44

وسئل الشيخ حسين ابن الشيخ محمد: إذا كرهت زوجها هل يجبر على الخلع فأجاب إذا كرهت زوجها فالذي نفتي به أنه مستحب ولا يجبر الزوج على الخلع45.
وقال الشوكاني – رحمه الله -:

قوله: ((اقبل الحديقة))46، قال في الفتح: هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب، ولم يذكر ما يدل على صرف الأمر عن حقيقته47. اهـ
وقال في حاشية المقنع على قوله: وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وتخشى ألا يقيم حدود الله فلا بأس أن تفتدي نفسها منه، أي فيباح للزوجة والحالة هذه على الصحيح من المذهب وأما الزوج فالصحيح من المذهب أنه يستحب له الإجابة إليه وعليه الأصحاب، واختلف كلام الشيخ في وجوب الإجابة إليه والأصل فيه قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229]، ولقول ابن عباس – رضي الله عنهما – جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت يا رسول الله: ثابت بن قيس لا أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ((أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم فأمرها بردها وأمره ففارقها))48 رواه البخاري. وبه قال جميع الفقهاء في الأمصار إلا بكر بن عبد الله المزني لم يجزه. اه

وقال الجصاص ذكر اختلاف السلف وسائر علماء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع.
روى عن علي- رضي الله عنه – أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس وسعيد بن جبير، وروى عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ومجاهد وإبراهيم والحسن رواية أخرى أنه جائز له أن يخلعها على أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها.

وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: إذا كان النشوز من قبلها حل له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد، وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئاً فإن فعل جاز في القضاء، وقال ابن شبرمة: تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه، وإن كانت على إضرار منه لم تجز، وقال ابن وهب عن مالك: إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له، وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث نحو ذلك.
وقال الثوري: إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها شيئا، وإذا كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا، وقال الأوزاعي في رجل خالع امرأته وهي مريضة، إن كانت ناشزة كان في ثلثها وإن لم تكن ناشزة رد عليها الرجعة، وإن خالعها قبل أن يدخل بها على جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز إذا اجتمعا على فسخ النكاح قبل أن يدخل بها فلا أرى بذلك بأساً.
وقال الحسن بن حيي: إذا كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه، وكذلك قول عثمان، وقال الشافعي: إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج، وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفساً على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفساً وتأخذ الفراق به.
قال أبو بكر: قد أنزل الله تعالى في الخلع آيات منها قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [سورة النساء الآية 20]، فهذا يمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله، فلذلك قال أصحابنا: لا يحل له أن يأخذ منها في هذه الحال شيئا، وقال تعالى في آية أخرى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [سورة البقرة الآية 229]، فأباح في هذه الآية الأخذ عند خوفهما ترك إقامة حدود الله، وذلك على ما قدمنا من بغض المرأة لزوجها وسوء خلقها أو كان ذلك منهما فيباح له أخذ ما أعطاها ولا يزداد والظاهر يقتضي جواز أخذ الجميع، ولكن ما زاد مخصوص بالسنة، وقال تعالى في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء الآية 19].

قيل فيه: إنه خطاب للزوج وحظر به أخذ شيء مما أعطاها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، قيل فيها: إنها هي الزنا، وقيل: إنها النشوز من قبلها، وهذه نظير قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229]، وقال تعالى في آية أخرى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35].
وسنذكر حكمها في مواضعها إن شاء الله تعالى، وذكر تعالى إباحة أخذ المهر في غير هذه الآية إلا أنه لم يذكر حال الخلع في قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [سورة النساء الآية 4]، وقال تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) [سورة البقرة الآية 237]، وهذه الآيات كلها مستعملة على مقتضى أحكامها.

فقلنا: إذا كان النشوز من قبله لم يحل له أخذ شيء منها لقوله تعالى: (فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [سورة النساء الآية 20]، وقوله تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ)[سورة النساء الآية 19]، وإذا كان النشوز من قبلها أو خافا لسوء خلقها أو بغض كل واحد منهما لصاحبه أن لا يقيما. جاز له أن يأخذ ما أعطاها لا يزداد، وكذلك (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء الآية 19]، وقد قيل فيه: إلا أن تنشز فيجوز له عند ذلك أخذ ما أعطاها.
وأما قوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [سورة النساء الآية 4]، فهذا في غير حال الخلع بل في حال الرضا بترك المهر بطيبة من نفسها به، وقول من قال: إنه لما جاز أخذ مالها بغير خلع فهو جائز في الخلع خطأ، لأن الله تعالى قد نص على الموضعين، في أحدهما بالحظر وهو قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) [سورة النساء الآية 20]، وقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [سورة البقرة الآية 229]، وفي الآخر بالإباحة وهو قوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)[سورة النساء الآية 4]، فقول القائل: لما جاز أن يأخذ مالها بطيبة من نفسها من غير خلع جاز في الخلع قول مخالف لنص الكتاب وقد روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم – في الخلع ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن حبيبة بنت سهل الأنصارية، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن الشماس وأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” من هذه؟ ” قالت: أنا حبيبة بنت سهل، قال ” ما شأنك؟ ” قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها. فلما جاءه ثابت بن قيس قال له: ” هذه حبيبة بنت سهل فذكرت ما شاء الله أن تذكره ” فقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لثابت ” خذ منها ” فأخذ منها وجلست في أهلها))49.

وروي فيه ألفاظ مختلفة في بعضها: ((خل سبيلها))، وفي بعضها: ((فارقها)).
وإنما قالوا: إنه لا يسعه أن يأخذ منها أكثر ما أعطاها لما حدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن أبي سمينة، قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رجلاً خاصم امرأته إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – ((تردين إليه ما أخذت منه؟ قالت نعم وزيادة، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -أما الزيادة فلا)).

وقال أصحابنا: لا يأخذ منها الزيادة لهذا الخبر وخصوا به ظاهر الآية، وإنما جاز تخصيص هذا الظاهر بخبر الواحد من قبل أن قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229] لفظ محتمل لمعان، والاجتهاد سائغ فيه وقد روي عن السلف فيه وجوه مختلفة، وكذلك قوله تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء الآية 19] محتمل لمعان على ما وصفنا فجاز تخصيصه بخبر الواحد وهو كقوله تعالى: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) [سورة النساء الآية 43]، وقوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [سورة البقرة الآية 237]، لما كان محتملاً للوجوه، واختلف السلف في المراد به جاز قبول خبر الواحد في معناه المراد به، وإنما قال أصحابنا: إذا خلعها على أكثر مما أعطاها، أو خلعها على مال والنشوز من قبله أن ذلك جائز في الحكم وإن لم يسعه فيما بينه وبين الله تعالى من قبل أنها أعطته بطيبة من نفسها غير مجبرة عليه، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه))50، وأيضا فإن النهي لم يتعلق بمعنى في نفس العقد، وإنما تعلق بمعنى في غيره وهو أنه لم يعطها مثل ما أخذ منها ولو كان قد أعطاها مثل ذلك لما كان ذلك مكروها، فلما تعلق النهي بمعنى في غير العقد لم يمنع ذلك جواز العقد كالبيع عند أذان الجمعة، وبيع حاضر لباد وتلقي الركبان ونحو ذلك. وأيضاً لما جاز العتق على قليل المال وكثيره، وكذلك الصلح عن دم العمد، كان كذلك الطلاق وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر المثل وهو بدل البضع، كذلك جاز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها؛ لأنه بدل من البضع في الحالين، فإن قيل: لما كان الخلع فسخاً لعقد النكاح لم يجز بأكثر مما وقع عليه العقد كما لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن.

قيل له: قولك: إن الخلع فسخ للعقد. خطأ. وإنما هو طلاق مبتدأ كهو لو لم يشترط فيه بدل، ومع ذلك فلا خلاف أنه ليس بمنزلة الإقالة؛ لأنه لو خلعها على أقل مما أعطاها جاز بالاتفاق، والإقالة غير جائزة بأقل من الثمن، ولا خلاف أيضاً في جواز الخلع بغير شيء.
وقد اختلف السلف في الخلع دون السلطان، فروي عن الحسن وابن سيرين أن الخلع لا يجوز إلا عند السلطان، وقال سعيد بن جبير لا يكون الخلع حتى يعظها فإن اتعظت وإلا هجرها فإن اتعظت وإلا ضربها فإن اتعظت وإلا ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيردان ما يسمعان إلى السلطان فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق وإن رأى أن يجمع جمع.
وروي عن علي، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وشريح، وطاووس، والزهري في آخرين أن الخلع جائز دون السلطان وروى سعيد عن قتادة قال: كان زياد من رد الخلع دون السلطان، ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في جوازه دون السلطان.
وكتاب الله يوجب جوازه وهو قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229]، وقال تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء الآية 19]، فأباح الأخذ منها بتراضيهما من غير سلطان، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – لامرأة ثابت بن قيس ((أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فقال: للزوج خذها وفارقها))51 يدل على ذلك أيضاً؛ لأنه لو كان الخلع إلى السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم يسألهم النبي- صلى الله عليه وسلم – عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله: اخلعها، بل كان يخلعها منه ويرد عليه حديقته وإن أبيا أو واحد منهما، كما لما كانت فرقة المتلاعنين إلى الحاكم لم يقل للملاعن خل سبيلها. بل فرق بينهما، كما روى سهل بن سعد ((أن النبي – صلى الله عليه وسلم – فرق بين المتلاعنين))52. كما قال في حديث آخر: ((لا سبيل لك عليها))53، ولم يرجع ذلك إلى الزوج، فثبت بذلك جواز الخلع دون السلطان ويدل عليه أيضاً قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل مال امرئ إلا بطيبة من نفسه))54 اهـ.55 المقصود.
وقال ابن حجر – رحمه الله – على قول البخاري في صحيحه وقول الله – عز وجل -: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [سورة البقرة الآية 229]، وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها. العقاص بكسر المهملة وتخفيف القاف وآخره صاد مهملة: جمع عقصة وهو ما يربط به شعر الرأس بعد جمعه.

وأثر عثمان هذا رويناه موصولا في أمالي أبي القاسم بن بشران من طريق شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان، وأخرجه البيهقي من طريق روح بن القاسم عن ابن عقيل مطولا وقال في آخره: فدفعت إليه كل شيء حتى أجفت الباب بيني وبينه.
وهذا يدل على أن معنى دون: سوى، أي أجاز للرجل أن يأخذ من المرأة في الخلع ما سوى عقاص رأسها، وقال سعيد بن منصور، حدثنا هشام عن مغيرة عن إبراهيم كان يقال: الخلع ما دون عقاص رأسها.
وعن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد يأخذ من المختلعة حتى عقاصها، ومن طريق قبيصة بن ذؤيب إذا خلعها جاز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ثم تلا: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229]، وسنده صحيح.
ووجدت أثر عثمان بلفظ آخر أخرجه ابن سعد في ترجمة الربيع بنت معوذ من طبقات النساء، قال: أنبأنا يحيى بن عباد حدثنا فليح بن سليمان حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت – كان بيني وبين ابن عمي كلام – وكان زوجها – قالت – فقلت له: لك كل شيء وفارقني، قال قد فعلت فأخذ كل شيء حتى فراشي فجئت عثمان وهو محصور فقال: الشرط أملك خذ كل شيء حتى عقاص رأسها.

قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للرجل أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها، وقال مالك: لم أر أحدا ممن يقتدى به يمنع ذلك، لكنه ليس من مكارم الأخلاق. ثم ساق شرح باقي الحديث، وقال بعد ذلك: – وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: أن الشقاق إذا حصل من قبل المرأة فقط جاز الخلع والفدية، ولا يتقيد ذلك بوجوده منهما جميعا، وأن ذلك يشرع إذا كرهت المرأة عشرة الرجل ولو لم يكرهها ولم ير منها ما يقتضي فراقها.

وقال أبو قلابة ومحمد بن سيرين: لا يجوز له أخذ الفدية منها إلا أن يرى على بطنها رجلا. أخرجه ابن أبي شيبة. وكأنهما لم يبلغهما الحديث، واستدل ابن سيرين بظاهر قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء الآية 19]، وتعقب بأن آية البقرة فسرت المراد بذلك مع ما دل عليه الحديث، ثم ظهر لي لما قاله ابن سيرين توجيه، وهو: تخصيصه بما إذا كان ذلك من قبل الرجل بأن يكرهها وهي لا تكرهه فيضاجرها لتفتدي منه فوقع النهي عن ذلك إلا أن يراها على فاحشة ولا يجد بينة، ولا يحب أن يفضحها فيجوز حينئذ أن يفتدي منها ويأخذ منها ما تراضيا عليه ويطلقها فليس في ذلك مخالفة للحديث لأن الحديث ورد فيما إذا كانت الكراهة من قبلها.

واختار ابن المنذر أنه لا يجوز حتى يقع الشقاق بينهما جميعا، وإن وقع من أحدهما لا يندفع الإثم، وهو قوي موافق لظاهر الآيتين، ولا يخالف ما ورد فيه وبه قال طاووس، والشعبى وجماعة من التابعين وأجاب الطبري وغيره عن ظاهر الآية بأن المرأة إذا لم تقم بحقوق الزوج التي أمرت بها كان ذلك منفرا للزوج عنها غالبا، ومقتضيا لبغضه لها فنسبت المخالفة إليها لذلك، وعن الحديث بأنه – صلى الله – تعالى -عليه وسلم – لم يستفسر ثابتا هل أنت كارهها كما كرهتك أم لا56. ا هـ المقصود.
وقال محمود العيني: أي هذا باب في بيان الخلع – بضم الخاء المعجمة وسكون اللام – مأخوذ من خلع الثوب والنعل ونحوهما وذلك لأن المرأة لباس للرجل كما قال الله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [سورة البقرة الآية 187]، وإنما جاء مصدره بضم الخاء تفرقة بين الأجرام والمعاني، يقال: خلع ثوبه ونعله خلعا بفتح الخاء وخلع امرأته خلعا وخلعة بالضم.
وأما حقيقته الشرعية فهو فراق الرجل امرأته على عوض يحصل له، وهكذا قاله شيخنا في شرح الترمذي وقال هو الصواب، وقال كثير من الفقهاء: هو مفارقة الرجل امرأته على مال وليس بجيد، فإنه لا يشترط كون عوض الخلع مالا، فإنه لو خالعها عليه من دين أو خالعها على قصاص لها عليه فإنه صحيح وإن لم يأخذ الزوج منها شيئا، فلذلك عبرت بالحصول لا بالأخد.
قلت قال أصحابنا: الخلع إزالة الزوجية بما يعطيه من المال، وقال النسفي: الخلع الفصل من النكاح بأخذ المال بلفظ الخلع وشرطه شرط الطلاق وحكمه وقوع الطلاق البائن وهو من جهته يمين ومن جهتها معاوضة، وأجمع العلماء على مشروعية الخلع إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي المشهور حكاه ابن عبد البر في التمهيد، وقال عقبة بن أبي الصهباء سألت بكر بن عبد الله المزني عن الرجل يريد أن يخالع امرأته فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا، قلت: فأين قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229]، قال: هي منسوخة.

قلت: وما نسخها؟ قال ما في سورة النساء، قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) [سورة النساء الآية 20].
قال ابن عبد البر: قول بكر بن عبد الله هذا خلاف السنة الثابتة في قصة ثابت بن قيس وحبيبة بنت سهل وخالف جماعة الفقهاء والعلماء بالحجاز والعراق والشام انتهى. وخصص ابن سيرين وأبو قلابة جوازه بوقوع الفاحشة فكانا يقولان: لا يحل للزوج الخلع حتى يجد على بطنها رجلاً؛ لأن الله تعالى يقول: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء الآية 19].
قال أبو قلابة فإذا كان ذلك فقد جاز له أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه، قال أبو عمر: ليس هذا بشيء لأن له أن يطلقها، أو يلاعنها. وأما أن يضارها ليأخذ مالها فليس له ذلك57. ا هـ
وقال في حاشية المقنع على قوله: (ولا يستحب أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها فإن فعل كره وصح):
إذا تراضيا على الخلع بشيء صح، وإن كان أكثر من الصداق وهذا قول أكثر أهل العلم، روى ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقبيصة والنخعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها وعقاص رأسها كان ذلك جائزا.

وقال عطاء وطاووس والزهري وعمرو بن شعيب: لا يأخذ أكثر مما أعطاها وروي ذلك عن علي بإسناد منقطع واختاره أبو بكر، فإن فعل رد الزيادة.
واحتجوا بما روي أن جميلة بنت سلول أتت النبي – صلى الله عليه وسلم – قالت: والله ما أعيب على ثابت في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا فقال لها النبي- صلى الله عليه وسلم -: ((أتردين عليه حديقته، قالت: نعم فأمره النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد))58. رواه ابن ماجه.
ولنا قوله تعالى: ((فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)) [سورة البقرة الآية 229]؛ ولأنه قول من سمينا من الصحابة.
وقالت الربيع بنت معوذ: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك علي، ولكن لا يستحب أن يأخذ أكثر مما أعطاها، وهذا المذهب وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وإسحاق وأبو عبيد ولم يكرهه أبو حنيفة ومالك والشافعي59. ا هـ

حكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الخلع:

في صحيح البخاري عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي- صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم – (( تردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة واحدة))60، وفي سنن النسائي عن الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها – وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول – فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأرسل إليه فقال: خذ الذي لها عليك وخل سبيلها، قال: نعم. فأمرها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تتربص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها))61.
وفي سنن أبي داود والترمذي عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت من زوجها، فأمرها النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تعتد بحيضة))62، وقال الترمذي: حسن غريب.
وفي سنن الدارقطني في هذه القصة: فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ ” قالت: نعم، وزيادة. فقال النبي – صلى الله – تعالى -عليه وسلم -: ” أما الزيادة فلا، ولكن حديقته “، قالت: نعم. فأخذ ماله، وخلى سبيلها. فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم -))63 قال الدارقطني: إسناده صحيح.
فتضمن هذا الحكم النبوي عدة أحكام، أحدها: جواز الخلع كما دل عليه القرآن قال تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229]، ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس، خالفت النص والإجماع، وفي الآية دليل على جوازه مطلقاً بإذن السلطان وغيره، ومنعه طائفة بدون إذنه، والأئمة الأربعة، والجمهور: على خلافه، وفي الآية دليل على حصول البينونة؛ لأنه – سبحانه وتعالى – سماه “فدية” ولو كان رجعيا – كما قال بعض الناس – لم يحصل للمرأة الافتداء من الزوج بما بذلته له.
ودل قوله – سبحانه وتعالى -: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه) [سورة البقرة الآية 229] على جوازه بما قل أو كثر، وأن له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.

وقد ذكر عبد الرازق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته: أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه، فخوصم في ذلك إلى عثمان بن عفان- رضي الله عنه- فأجازه، وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه.
وذكر أيضاً عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع أن ابن عمر جائته مولاة لامرأته اختلعت من كل شيء لها، وكل ثوب لها حتى نقبتها.
ورفعت إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – امرأة نشزت عن زوجها فقال: اخلعها ولو من قرطها، ذكره حماد بن سلمة عن أيوب عن كثير بن أبي كثير عنه.

وذكر عبد الرازق عن عمر عن ليث عن الحكم بن عتبة عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه –لا يأخذ منها فوق ما أعطاها.
وقال طاووس: لا يحل أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
وقال عطاء: إن أخذ زيادة على صداقها فالزيادة مردودة إليها.
وقال الزهري: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
وقال ميمون بن مهران: إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان.
وقال الأوزاعي: كانت القضاة لا تجيز أن يأخذ منها شيئا إلا ما ساق إليها.

والذين جوزوه: احتجوا بظاهر القرآن وآثار الصحابة، والذين منعوه: احتجوا بحديث أبي الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس لما أراد خلع امرأته، قال النبي- صلى الله عليه وسلم- ” أتردين عليه حديقته؟ ” قالت: نعم، وزيادة، فقال النبي – صلى الله – تعالى -عليه وسلم -: ” أما الزيادة فلا قال الدارقطني: سمعه أبو الزبير من غير واحد وإسناده صحيح.
قالوا: والآثار من الصحابة مختلفة. فمنهم من روي عنه تحريم الزيادة، ومنهم من روي عنه إباحتها، ومنهم من روي عنه كراهتها.
كما روي عن وكيع عن أبي حنيفة عن عمار بن عمران الهمداني عن أبيه عن علي ” أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ” والإمام أحمد أخذ بهذا القول، ونص على الكراهة. وأبو بكر من أصحابه حرم الزيادة وقال: ترد عليها.
وقد ذكر عبد الرازق عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: أتت امرأة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله، إني أبغض زوجي، وأحب فراقه قال: ((أفتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت: نعم وزيادة من مالي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أما الزيادة من مالك فلا، ولكن الحديقة، قالت: نعم، فقضى بذلك على الزوج))64، وهذا – وإن كان مرسلاً – فحديث أبي الزبير مقو له، وقد رواه ابن جريج عنهما65. ا هـ

أما إذا ادعى كل من الزوجين نشوز صاحبه عليه وخيف الشقاق بينهما كما في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [سورة النساء الآية 35]، وقد اختلف العلماء – رحمهم الله – في المراد من الآية فيمن يبعث الحكمين وما صفتهما، وهل هما حاكمان لهما الفصل في الخصومة بين الزوجين، أو أنهما وكيلان ينفذ تصرفهما في حدود وكالتهما، أم أنهما جهة نظر يرفعان ما يريانه إثر التحقيق مع الزوجين إلى الحاكم ليتولى نفسه الفصل في خصومتهما؟
وقال ابن جرير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية:
يعنى بقوله جل ثناؤه: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) [سورة النساء الآية 35]، وشاقته بقول: عادته، ثم ذكر اختلاف أهل التأويل في المراد بالمخاطبين في هذه الآية ببعث الحكمين فذكر أثرين بسنديهما إلى سعيد بن جبير والضحاك بأن المأمور بذلك السلطان الذي يرفع ذلك إليه.
وذكر أثراً بسنده إلى السدي أن المأمور بذلك الرجل والمرأة.
وذكر جملة آثار بأسانيدها إلى علي وابن عباس والحسن وقتاده أن المأمور بذلك السلطان غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما.
ثم ذكر- رحمه الله – اختلاف أهل التأويل فيما يبعث له الحكمان، وما الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما، وكيف وجه بعثهما بينهما؟ فقال بعضهم: يبعثهم الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما، وليس لهما أن يعملا شيئاً في أمرهما إلا ما وكلاهما به أو وكله كل واحد منهما بما إليه، فيعملان بما وكلهما به من وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه أو توكيل من وكل منهما في ذلك. وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى علي بن أبي طالب- رضي الله عنه – وإلى السدي تؤيد القول بأن الحكمين ليس لهما أن يعملا شيئاً في أمرهما إلا في حدود ما وكلا به.

وقال آخرون: إن الذي يبعث الحكمين السلطان غير أنه يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قبل صاحبه لا التفريق بينهما.
ثم ذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى الحسن وقتاده وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن زيد تدل على ذلك.
وذكر رأياً ثالثاً في أن الذي يبعث الحكمين السلطان على أن حكمهما ماض على الزوجين في الجمع والتفريق وذكر مجموعة آثار بأسانيدها إلى ابن عباس ومعاوية وابن سيرين وسعيد بن جبير وعامر وإبراهيم وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك. ثم قال بعد ذلك: وأولى الأقوال بالصواب في قوله تعالى: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35]، أن الله – سبحانه – خاطب المسلمين بذلك وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض، وقد أجمع الجميع على أن البعثة في ذلك ليست لغير الزوجين وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين أو من أقامه في ذلك مقام نفسه. واختلفوا في الزوجين والسلطان ومن المأمور بالبعثة في ذلك: الزوجان أو السلطان؟ ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين ولا أثر به عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والأمة فيه مختلفة.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يكون مخصوصا من الآية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها وإذا كان ذلك كذلك فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن شمله حكم الآية والأمر بقوله: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35] إذ كان مختلفا بينهما هل هما معنيان بالأمر بذلك أم لا؟ – وكان ظاهر الآية قد عمهما – فالواجب من القول إذ كان صحيحا ما وصفنا أن يقال: إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكما من قبله لينظر في أمرهما وكان كل واحد منهما قد بعثه من قبله في ذلك لما له على صاحبه ولصاحبه عليه فتوكيله بذلك من وكل جائز له وعليه. وإن وكله ببعض ولم يوكله بالجميع كان ما فعله الحكم مما وكل به صاحبه ماضيا جائزا على ما وكله. وذلك أن يوكله أحدهما بماله دون ما عليه. وإن لم يوكل كل واحد من الزوجين بما له وعليه أو بما له أو بما عليه لا الحكمين كليهما لم يجز إلا ما اجتمعا عليه دون ما انفرد به أحدهما. وإن لم يوكلهما واحد منهما بشيء وإنما بعثاهما للنظر بينهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما – لم يكن لهما أن يحدثا بينهما شيئا غير ذلك من طلاق، أو أخذ مال أو غير ذلك، ولم يلزم الزوجين ولا واحدا منهما شيء من ذلك66. اهـ المقصود.

وذكر أبو بكر الجصاص أن الحكمين وكيلان ليس لهما إلا ما وكلا فيه، وأن أمر الجمع بين الزوجين أو التفريق خاص بالحاكم وإن الخطاب في قوله تعالى: (وإن خفتم) للحاكم الناظر بين الخصمين؛ لأن الله قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله، ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر، ثم بضربها إن قامت على نشوزها، ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما. فقال:

باب: الحكمين كيف يعملان

قال الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [سورة النساء الآية 35]، وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم؟ فروى عن سعيد بن جبير والضحاك: أنه السلطان الذي يترافعان إليه. وقال السدي: الرجل والمرأة. قال أبو بكر: قوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) [سورة النساء الآية 34]، هو خطاب للأزواج لما في نسق الآية من الدلالة عليه وهو قوله تعالى: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) [سورة النساء الآية 34]، وقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) [سورة النساء الآية 35]، الأولى أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم، وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله، ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر، ثم بضربها إن أقامت على نشوزها.
ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما.
وروى شعبة عن عمرو بن مرة، قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب وقال: ما ولدت إذ ذاك فقلت إنما أعني حكمي شقاق قال: إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ67، بعثوا حكمين فأقبلا على من جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما فما حكما من شيء فهو جائز.
وروى عبد الوهاب: قال: حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل كذا ويفعل كذا، ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا. فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ فوق يده وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع.

قال أبو بكر: وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء، في باب أن الحاكم هو الذي يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله. فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكماً من أهله وحكماً من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما.
وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما. فإذا كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله.
ويدل أيضا قوله تعالى: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35]، على أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال: فابعثوا رجلاً من قبله ورجلاً من قبلها. فهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا وإن شاءا فرقا بغير أمرهما، وزعم إسماعيل بن إسحاق أنه حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين.
قال أبو بكر: هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء قال الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [سورة ق الآية 18]، ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه وأمر الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب، فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة؟ ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما، أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج.

وكذا روي عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: أتي عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس فقال علي: ما شأن هذين، قالوا بينهما شقاق، قال: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [سورة النساء الآية 35]، فقال علي: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما عن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله، فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت.
فأخبر علي أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين، فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج؛ وذلك أنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها.

فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى الزوج وتوكيله، ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها.. فلذلك قال أصحابنا إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين.
فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين؛ لأن الحاكم لا يملك ذلك، فكيف يملكه الحكمان؟ وإنما الحكمان وكيلان لهما، أحدهما وكيل المرأة، والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل ذلك إليه.
قال إسماعيل الوكيل ليس بحكم ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره عليه وإن أب.

وهذا غلط منه؛ لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة؛ لأنه لا يكون وكيلاً أيضاً إلا ويجوز أمره عليه وفيما وكل به فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة، وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما، فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة اصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئاً.
وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا، والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات..
قال إسماعيل: والوكيل لا يسمى حكماً، وليس ذلك كما ظن؛ لأنه إنما سمى الوكيل ههنا حكما تأكيداً للوكالة التي فوضت إليه.
وأما قوله: إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا. فليس كذلك، ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا؛ لأنهما وكيلان، وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما، ويعرف أمور المانع من الحق منهما حتى ينقلا إلى الحاكم ما عرفاه من أمرهما فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا، وينهي الظالم منهما عن ظلمه، فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما، وجائز أن يكونا سميا بذلك لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكولا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح، سميا حكمين لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل، فلما كان ذلك موكولا على رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق مضى ما أنفذاه. فسميا حكمين من هذا الوجه.

فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح سميا حكمين، ويكونان مع ذلك وكيلين لهما. إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما. وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج لأنه لم يرض بكتاب الله. قال: ولم يأخذ بالتوكيل وإنما أخذه بعدم الرضى بكتاب الله.
وليس هذا على ما ذكر؛ لأن الرجل لما قال: أما الفرقة فلا. قال علي: كذبت أما والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت. فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة، وأمره بأن يوكل بالفرقة، وما قال الرجل لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه، وإنما قال لا أرضى بالفرقة بعد رضى المرأة بالتحكيم، وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها. قال: ولما قال: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [سورة النساء الآية 35]، علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من الحكم. قال وهذا لا يقال للوكيلين لأنه لا يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به، والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة: لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك.
وأخبر الله تعالى أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما، فلا فرق بين الوكيل والحكم إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحري الخير والصلاح فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به.

قال: وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاوس وإبراهيم قالوا: ما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز، وهذا عندنا كذلك أيضا ولا دلالة فيه على موافقة قوله لأنهم لم يقولوا إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضى الزوجين بل جائز أن يكون مذهبهم أن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضى الزوجين بالتوكيل ولا يكونان حكمين إلا بذلك، ثم ما حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز. وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه، ويخرجا المال عن ملكها، وقد قال الله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [سورة النساء الآية 4]، وقال تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229] .
وهذا الخوف المذكور ههنا هو المعنى بقوله تعالى: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35]، وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه، فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقاً من غير رضاهما وقد نص الله تعالى على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطي إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به، فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب، وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [سورة النساء الآية 29]، فمنع كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه، وقال الله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) [سورة البقرة الآية 188]، فأخبر تعالى أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره.

وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه))68 وقال – صلى الله عليه وسلم-: ((فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار))69، فثبت بذلك: أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ونقله عنه إلى غيره من غير رضى من هو له. فالحكمان إنما يبعثان للصلح بينهما وليشهدا على الظالم منهما، كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ) [سورة النساء الآية 35].
قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا، فإن أعياهما أن يصلحا شهدا على الظالم بظلمه وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك وكذلك روى عن عطاء.
قال أبو بكر: في فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا، وهو قوله تعالى: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [سورة النساء الآية 35]، ولم يقل إن يريدا فرقة، وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما وينكرا عليه ظلمه وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده، فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه، وقالا له: لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك، وإن كانت هي الظالمة قالا لها: قد حلت لك الفدية وكان في أخذها معذورا لما يظهر للحكمين من نشوزها، فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ما له من التفريق والخلع كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا، فهما في حال شاهدان وفي حال مصلحان وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر، ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق، وأما قول من قال: إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل الزوجين فهو تعسف خارج عن الكتاب والسنة، والله – تعالى -أعلم بالصواب70. اهـ

وذكر أبو بكر العربي بأن الحكمين قاضيان لا وكيلان وذكر نصا عن الشافعي بأنهما وكيلان وناقشه ثم ذكر توجيه قول المالكية بأنهما قاضيان فقال: قال الشافعي ما نصه:
الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالهما، وذلك أنى وجدت الله – سبحانه وتعالى – أذن في نشوز الزوج بأن يصالحا، وبين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذلك وبين في نشوز المرأة بالضرب. وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة.
وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئاً إن أراد استبدال زوج مكان زوج، فلما أمر فيما خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج. فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما للحكمين بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك ووجدنا حديثا بإسناد يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين.
قال القاضي أبو بكر: هذا منتهى كلام الشافعي، وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصا به في العلم. وقد تولى القاضي أبو إسحاق الرد عليه ولم ينصفه في الأكثر. والذي يقتضي الرد عليه بالإنصاف والتحقيق أن نقول: أما قوله الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين فليس بصحيح بل هو نصه وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء فإن الله تعالى قال: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) [سورة النساء الآية 34]، ومن خاف من امرأته نشوزاً وعظها فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع، فإن ارعوت وإلا ضربها، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما، وهذا إن لم يكن نصا وإلا فليس في القرآن بيان. ودعه لا يكون نصاً. يكون ظاهرا. فأما أن يقول الشافعي: يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي يشبه الظاهر. وكيف يقول الله: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35]، فنص عليهما جميعا ويقول هو: يشبه أن يكون فيما عمهما وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع، وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه ثم قال: فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما بغير اختيارهما فيتحقق الغيرية.
وأما قوله: لا يبعث الحكمين إلا مأمونين. فصحيح وأما قوله برضا الزوجين بتوكيلهما فخطأ صراح، فإن الله تعالى خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين.

وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه، والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر وذلك لا يمكن ههنا.

المسألة الأولى:

قوله: (وإن خفتم) قال السدي: يخاطب الرجل والمرأة إذا ضربها فشاقته تقول المرأة لحكمها: قد وليتك أمري وحالي كذا، ويبعث الرجل حكما من أهله ويقول له حالي كذا قال ابن عباس. ومال إليه الشافعي.
وقال سعيد بن جبير المخاطب السلطان ولم ينته رفع أمرهما إلى السلطان فأرسل الحكمين، وقال مالك: قد يكون السلطان وقد يكون الوليين إذا كان الزوجان محجورين. فأما من قال إن المخاطب الزوجان فلا يفهم كتاب الله كما قدمنا، وأما من قال إنه السلطان فهو الحق.
وأما قول مالك: إنه قد يكون الوليين فصحيح ويفيده لفظ الجمع فيفعله السلطان تارة ويفعله الوصي أخرى، وإذا أنفذ الوصيان حكمين فهما نائبان عنهما فما أنفذاه نفذ كما لو أنفذه الوصيان، وقد روى محمد بن سيرين وأيوب عن عبيدة عن علي قال: جاء إليه رجل وامرأة ومعهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، ثم قال: للحكمين أتدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بما في كتاب الله لي وعلي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال: لا تنقلب حتى تقر بمثل الذي أقرت.
قال القاضي أبو إسحاق: فبين علي أن الأمر إلى الحكمين الذين بعثا من غير أن يكون للزوج أمر في ذلك ولا نهي. فقالت المرأة بعد ما مضيا من عند علي: رضيت بما في كتاب الله تعالى لي وعلي. وقال الزوج: لا أرضى فرد عليه علي تركه الرضا بما في كتاب الله تعالى وأمره أن يرجع عليه كما يجب على كل مسلم أو أن ينفذ بما فيه بما يجب من الأدب. فلو كانا وكيلين لم يقل لهما أتدريان ما عليكما. إنما كان يقول: أتدريان بما وكلتما ويسأل الزوجين: ما قالا لهما.

المسألة الثانية:

قوله تعالى: (حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35]، هذا نص من الله سبحانه وتعالى في أنهما قاضيان لا وكيلان، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى، فإذا بين الله – سبحانه وتعالى – كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ فكيف لعالم أن يركب معنى أحدهما على الآخر. فذلك تلبيس وإفساد للأحكام وإنما يسيران بإذن الله ويخلصان النية لوجه الله تعالى وينظران فيما عند الزوجين بالتثبت، فإن رأيا للجمع وجها جمعا وإن وجداهما قد أنابا تركاهما. كما روي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: اصبر لي وأنفق عليك، وكان إذا دخل عليها قالت يا بني هاشم لا يحبكم قلبي أبدا. أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ترد أنوفهم قبل شفاههم، أين عتبة بن ربيعة أين شيبة بن ربيعة؟ فيسكت، حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له: أين عتبة بن ربيعة فقال: على يسارك في النار إذا دخلت. فنشرت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك، فأرسل ابن عباس ومعاوية فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما، وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما.
وفي رواية أنهما لما أتيا اشتما رائحة طيبة وهدوءاً من الصوت، فقال له معاوية: ارجع فإني أرجو أن يكونا قد اصطلحا، وقال ابن عباس: أفلا نمضي فننظر أمرهما، فقال معاوية: فتفعل ماذا؟ فقال ابن عباس: أقسم بالله لئن دخلت عليهما فرأيت الذي أخاف عليهما منه لأحكمن عليهما ثم لأفرقن بينهما.
فإن وجداهما قد اختلفا سعيا في الألفة وذكرا بالله تعالى وبالصحبة، فإن أنابا وخافا أن يتمادى ذلك في المستقبل بما ظهر في الماضي، فإن يكن ما اطلعا عليه في الماضي يخاف منه التمادي في المستقبل فرقا بينهما، وقاله جماعة: منهم علي وابن عباس والشعبي ومالك.

المسألة الثالثة:

وقال الحسن وابن زيد: هما شاهدان يرفعان الأمر إلى السلطان ويشهدان بما ظهر إليهما وروى ذلك عن ابن عباس وبه قال أبو حنيفة والشافعي، والذي صح عن ابن عباس ما قدمنا من أنهما حكمان لا شاهدان فإذا فرقا بينهما.

المسألة الرابعة:

تكون الفرقة كما قال علماؤنا لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة، فإن قيل إذا ظهر الظلم من الزوج أو الزوجة فظهور الظلم لا ينافي النكاح بل يؤخذ من الظالم حق المظلوم ويبقى العقد. قلنا هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال.
فأما عقود الأبدان فلا يتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه وكانت المصلحة في الفرقة وبأي وجه رأياها من المشاركة أو أخذ شيء من الزوج أو الزوجة.
المسألة الخامسة:
جاز ونفذ عند علمائنا وقال الطبري والشافعي لا يؤخذ من مال المحكوم عليه شيء إلا برضاه، وبه قال كل من جعلهما شاهدين، وقد بينا أنهما حكمان لا شاهدان وأن فعلهما ينفذ فعل الحاكم في الأقضية كما ينفذ فعل الحكمين في جزاء الصيد وهي أختها71.اهـ

قال ابن رشد: باب في بعث الحكمين
اتفق العلماء على جواز بعث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر أعني المحق من المبطل لقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35] ، وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين، أحدهما من قبل الزوج، والآخر من قبل المرأة، إلا أن لا يوجد في أهلها من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما… وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، وأجمعوا على أن قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك ؟
فقال مالك وأصحابه: يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين والإذن منهما في ذلك وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: ليس لهما أن يفرقا إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق، وحجة مالك ما رواه عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه قال في الحكمين: إليهما التفرقة بين الزوجين والجمع.

وحجة الشافعي وأبي حنيفة أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج.
واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا، فقال ابن القاسم: تكون واحدة، وقال أشهب والمغيرة تكون ثلاثاً إن طلقاها ثلاثاً.
والأصل أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك. وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روى في حديث علي هذا أنه قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي، فقال الرجل أما الفرقة فلا، فقال علي: لا والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة، قال فاعتبر في ذلك إذنه، ومالك يشبه الحكمين بالسلطان، والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين72. اهـ

وذهب الشافعي إلى أن الحكمين وكيلان وأنه ليس لهما إلا ما وكلا فيه ففي كتاب الأم للشافعي ما نصه: قال الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) [سورة النساء الآية 35] ، قال: الله أعلم بمعنى ما أراد من خوف الشقاق الذي إذا بلغاه أمره أن يبعث حكما من أهله وحكما من أهلها والذي يشبه قوله والذي يشبه إلى قوله: والتباين. كذا في الأصل، وانظر. كتبه مصححة. ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما وذلك أني وجدت الله – عز وجل – أذن في نشوز الزوج أن يصطلحا، وسن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذلك.

وأذن في نشوز المرأة بالضرب، وأذن في خوفهما أن لا يقيما حدود الله بالخلع ودلت السنة أن ذلك برضا من المرأة وحظر أن يأخذ الرجل مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل ذلك على أن حكمهما غير حكم الأزواج غيرهما وكان يعرفهما بإباية الأزواج أن يشتبه حالاهما في الشقاق فلا يفعل الرجل الصفح ولا الفرقة ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية أو تكون الفدية لا تجوز من قبل مجاوزة الرجل ماله من أدب المرأة وتباين حالهما في الشقاق.
والتباين هو ما يصيران فيه من القول والفعل إلى ما لا يحل لهما ولا يحسن ويمتنعان كل واحد منهما من الرجعة ويتماديان فيما ليس لهما، لا يعطيان حقا ولا يتطوعان ولا واحد منهما بأمر يصيران به في معنى الأزواج غيرهما، فإذا كان هكذا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ولا يبعث الحكمان إلا مأمونين وبرضا الزوجين ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك.

أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي – رحمه الله تعالى – قال أخبرنا الثقفي عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي في هذه الآية (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35]، ثم قال للحكمين هل تدريان ما عليكما؟ إذا رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا. قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي- رضي الله عنه -: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
قال فقول علي- رضي الله عنه – يدل على ما وصفت من أن ليس للحاكم أن يبعث حكمين دون رضا المرأة والرجل بحكمهما وعلى أن الحكمين إنما هما وكيلان للرجل والمرأة بالنظر بينهما في الجمع والفرقة.

فإن قال قائل: ما دل على ذلك؟ قلنا: لو كان الحكم إلى علي – رضي الله عنه – دون الرجل والمرأة بعث هو حكمين، ولم يقل: ابعثوا حكمين، فإن قال قائل: فقد يحتمل أن يقول ابعثوا حكمين فيجوز حكمهما بتسمية الله إياهما حكمين. كما يجوز حكم الحاكم الذي يصيره الإمام فمن سماه الله- تبارك وتعالى -حاكما أكثر معنى، أو يكونا كالشاهدين إذا رفعا شيئا إلى الإمام أنفذه عليهما، أو يقول: ابعثوا حكمين أي دلوني منكم على حكمين صالحين كما تدلوني على تعديل الشهود. قلنا: الظاهر ما وصفنا، والذي يمنعنا من أن نحيله عنه مع ظهوره أن قول علي- رضي الله عنه- للزوج: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به. يدل على أنه ليس للحكمين أن يحكما إلا بأن يفوض الزوجان ذلك إليهما، وذلك أن المرأة فوضت، وامتنع الزوج من تفويض الطلاق فقال علي- رضي الله عنه-: كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به. يذهب إلى أنه إن لم يقر لم يلزمه الطلاق وإن رأياه: ولو كان يلزمه طلاق بأمر الحاكم أو تفويض المرأة لقال له: لا أبالي أقررت أم سكت. وأمر الحكمين أن يحكما بما رأياه73.
وذكر الشيرازي قولين في المذهب:

أحدهما: أنهما وكيلان.
والثاني: أنهما حاكمان.
فقال: فإن ادعى كل واحد منهما النشوز على الآخر أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ليعرف الظالم منهما فيمنع من الظلم، فإن بلغا إلى الشتم والضرب بعث الحاكم حكمين للإصلاح أو التفريق لقوله – عز وجل – (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [سورة النساء الآية 35]، واختلف قوله في الحكمين، فقال في أحد القولين: هما وكيلان فلا يملكان التفريق إلا بإذنهما؛ لأن الطلاق إلى الزوج وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز إلا بإذنهما، وقال في القول الآخر: هما حاكمان، فلهما أن يفعلا ما يريان من الجمع والتفريق بعوض وغير عوض، لقوله – عز وجل – (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35]، فسماهما حكمين ولم يعتبر رضا الزوجين.
وروى أبو عبيدة أن عليا – رضي الله عنه – بعث رجلين فقال لهما: أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقال الرجل: أما هذا فلا، فقال: كذبت لا والله ولا تبرح حتى ترضى بكتاب الله – عز وجل – لك وعليك. فقالت المرأة رضيت بكتاب الله لي وعلي.

ولأنه وقع الشقاق واشتبه الظالم منهما فجاز التفريق بينهما من غير رضاهما كما لو قذفها وتلاعنا. والمتسحب أن يكون حكما من أهله وحكما من أهلها للآية، لأنه روى أنه وقع بين عقيل بن أبي طالب وبين زوجته شقاق وكانت من بني أمية فبعث عثمان – رضي الله عنه – حكما من أهله وهو ابن عباس – رضي الله تعالى عنه -، وحكما من أهلها وهو معاوية – رضي الله عنه – ولأن الحكمين من أهلهما أعرف بالحال. وإن كان من غير أهلهما جاز لأنهما في أحد القولين حاكمان، وفي الآخر وكيلان، إلا أنه يحتاج فيه إلى الرأي والنظر في الجمع والتفريق، ولا يكمل لذلك إلا ذكران عدلان. فإن قلنا: إنهما حاكمان لم يجز أن يكونا إلا فقيهين، وإن قلنا: إنهما وكيلان جاز أن يكونا من العامة74. اه
والمشهور لدى الحنابلة أنهما وكيلان لا حاكمان قال المرداوي:
اعلم أن الصحيح من المذهب: أن الحكمين وكيلان عن الزوجين لا يرسلان برضاهما وتوكيلهما فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا عليه. قال الزركشي هذا هو المشهور عند الأصحاب، حتى أن القاضي في الجامع الصغير – والشريف أبا جعفر، وابن البنا لم يذكروا فيه خلافا. ورضيه أبو الخطاب. قال في تجريد العناية: هذه أشهر. وقطع به في الوجيز، والمنور ومنتخب الأزجي وغيرهم.. وقدمه في الهداية، والمذهب ومسبوك الذهب، والمستوعب، والخلاصة، والهادي، والمحرر، والرعايتين، والحاوي الصغير، والنظم، والفروع، وغيرهم.

وعنه: أن الزوج إن وكل في الطلاق بعوض أو غيره أو كلت المرأة في بذل العوض برضاها، وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك – فهذا يدل على أنهما حكمان يفعلان ما يريان من جمع أو تفريق بعوض أو غيره من غير رضا الزوجين.

قال الزركشي: وهو ظاهر الآية الكريمة.. انتهى..

واختاره ابن هبيرة والشيخ تقي الدين – رحمهما الله – وهو ظاهر كلام الخرقي قال في الفروع، وأطلقهما في الكافي، والشرح75. اهـ
وقال ابن القيم: حكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين الزوجين يقع الشقاق بينهما.
روى أبو داود في سننه من حديث عائشة – رضي الله تعالى عنها – ((أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس، فضربها فكسر بعضها، فأتت النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد الصبح، فدعا النبي – صلى الله عليه وسلم – ثابتا، فقال: خذ بعض مالها وفارقها، فقال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم ، قال: فإني أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : خذهما وفارقها، ففعل))76.
وقد حكم الله بين الزوجين يقع الشقاق بينهما بقوله – تعالى -سورة النساء الآية 35 وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا وقد اختلف السلف والخلف في الحكمين: هل هما حاكمان أو وكيلان؟ على قولين:
أحدهما أنهما وكيلان وهو قول أبي حنيفة والشافعي في قول وأحمد في رواية.
الثاني أنهما حاكمان. وهذا قول أهل المدينة، ومالك، وأحمد في الرواية الأخرى والشافعي في القول الآخر. وهذا هو الصحيح.
والعجب كل العجب ممن يقول: هما وكيلان، لا حاكمان، والله تعالى قد نصبهما حكمين، وجعل نصبهما إلى غير الزوجين، ولو كانا وكيلين لقال فليبعث وكيلا من أهله ولتبعث وكيلا من أهلها، وأيضا: فلو كانا وكيلين لم يختصا بأن يكونا من الأهل. وأيضا: فإنه جعل الحكم إليهما، فقال تعالى (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [سورة النساء الآية 35]، والوكيلان لا إرادة لهما إنما يتصرفان بإرادة موكليهما.

وأيضاً: فإن الوكيل لا يسمى حكماً في لغة القرآن، ولا في لسان الشارع، ولا في العرف العام ولا الخاص.
وأيضاً: فالحكم من له ولاية الحكم والإلزام، وليس للوكيل شيء من ذلك.
وأيضا: فإن الحكم أبلغ من حاكم لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت، ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك.
فإذا كان الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض فكيف بما هو أبلغ منه؟ وأيضاً: فإنه – سبحانه وتعالى – خاطب بذلك غير الزوجين، وكيف يصح أن يوكل على الرجل والمرأة غيرهما؟ وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا: وإن خفتم شقاق بينهما: فمروهما أن يوكلا وكيلين: وكيلا من أهله ووكيلا من أهلها. ومعلوم

بعد لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير، وأنها لا تدل عليه بوجه، بل هي دالة على خلافه، وهذا بحمد الله واضح.
– وبعث عثمان بن عفان – رضي الله عنه – عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة، فقيل لهما: ” إن رأيتما أن تفرقا فرقتما ” وصح عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه قال للحكمين بين الزوجين ” عليكما أن رأيتما أن تفرقا فرقتما وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما ” فهذا عثمان، وعلي وابن عباس ومعاوية جعلوا الحكم إلى الحكمين ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف، وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم. والله أعلم.
وإذا قلنا: إنهما وكيلان فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره وتوكيل الزوجة في بذل العوض، أو لا يجبران؟ على روايتين:
فإن قلنا: يجبران، فلم يوكلا، جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضا الزوجين.
وإن قلنا: إنهما حكمان لم يحتج إلى رضا الزوجين، وعلى هذا النزاع: ينبني ما لو غاب الزوجان أو أحدهما، فإن قيل إنهما وكيلان: لم ينقطع نظر الحكمين، وإن قيل: حكمان انقطع نظرهما لعدم الحكم على الغائب، وقيل يبقى نظرهما على قولين، لأنهما يتصرفان بحظهما، فهما كالناظرين، وإن جن الزوجان انقطع نظر الحكمين، وإن قيل: إنهما وكيلان، لأنهما فرع الموكلين، ولم ينقطع إن قيل: إنهما حكمان لأن الحاكم يلي على المجنون وقيل: ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما، فكأنما وكيلان ولا ريب أنهما حكمان، فيهما شائبة الوكالة، ووكيلان منصوبان للحكم، فمن العلماء من رجح جانب الوكالة، ومنهم من اعتبر الأمرين77. اهـ

الخلاصة:

معنى كل من النشوز والخلع لغةً وشرعاً:

أولاً:
(أ) النشوز مصدر نشز ينشز بضم الشين وكسرها في المضارع، معناه ارتفع، وهو مأخوذ من النشز بسكون الشين وفتحها، وهو ما ارتفع من الأرض، ويطلق أيضا على ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض، وليس بالغليظ، وقال أبو عبيد: النشز الغليظ الشديد، ويجمع النشز مطلقا عن أنشاز ونشوز، وقيل يجمع ساكن الشين على نشوز ومفتوحها عن أنشاز ونشاز بكسر النون ويتعدى بالهمزة فيقال: أنشز عظام الميت إنشازا إذا رفعها إلى مواضعها، وركب بعضها على بعض، ومنه قوله تعالى: ( وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) [: سورة البقرة الآية 259]، ويطلق النشوز على النهوض إلى الشيء بقوة ومنه قوله تعالى : (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) [سورة المجادلة الآية 11]، ويقال للدابة نشزة إذا لم يكد يستقر الراكب عليها ولا السرج على ظهرها، ونشوز الزوجين كراهية كل منهما الآخر، وسوء عشرته له، يقال: نشزت الزوجة بزوجها وعلى زوجها فهي ناشز أبغضته، وترفعت عليه وخرجت عن طاعته واستعصت عليه، ونشز الزوج على امرأته جفاها، وترفع عليها لبغضه إياها، وقد يقضي هذا إلى طلاقها، أو منعها حقها في المبيت أو النفقة مثلاً.
(ب) الخلع مصدر خلع يخلع على وزن منع يمنع، ويطلق لغة على معان، منها: فصل القبيلة لرجل منها لسوء حاله حتى لا تتحمل جريرته، وهو خليع ومخلوع، ويطلق على التواء العرقوب وانتقاله عن محله، ويطلق على خلع الملابس، ويطلق بمعنى النزع إلا أنه أقل منه شدة، ويطلق على فصم عروة النكاح وإنهاء الحياة الزوجية، وكلها تدور على معنى الفصل، وخص في الشرع بفصم عقدة النكاح ومفارقة الرجل زوجته بعوض منها أو من غيرها.

ثانياً:

إذا لم يعاشر الرجل زوجته بالمعروف بأن جفاها أو ترفع عليها، أو قصر فيما وجب لها عليه من نفقة أو بيت مثلاً، أو توقع من نفسه حصول ما يسوؤها فإن لم يكن ذلك عن إساءة منها إليه، فعليه أن يمسك عن ذلك، ويعاشرها بمعروف أو يفارقها بإحسان، ولا يجوز له أن يعضلها أو يضارها ليأخذ منها شيئا أو لتتنازل له عن بعض حقوقها، لقوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [سورة البقرة الآية 229]، وقوله: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة النساء الآية 19].
وللزوجة إذا تحققت من زوجها النشوز أو الإعراض عنها، أو توقعت ذلك منه، ورغبت في البقاء معه لمصلحة تراها، أن تصالح زوجها على التنازل عن بعض حقوقها عليه، أو على مال تدفعه إليه ليبقيها في عصمته، لقوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [سورة النساء الآية 128]، ولقوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [سورة النساء الآية 4]، ولأن سودة تنازلت عن ليلتها لعائشة لتبقى زوجة للنبي – صلى الله عليه وسلم – فأقر ذلك، ولا حرج على الزوج فيما تصالحا عليه إلا أن يكون عن مضارة منه لها.

ثالثاً:

إذا نشزت المرأة فتركت الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها دون أن يكون منه إليها ما يسوؤها وعظها ثم هجرها ثم أدبها، فإن أطاعته عاشرها بالمعروف، وإلا جاز له أن يضارها حتى تفتدي نفسها منه فيطلقها أو يخالعها على عوض، سواء كان نشوزها ترفعا عليه أم امتناعها من فراشه أم قولها له: لا اغتسل لك من جنابة، ولا أطأ لك فراشا، ولا أبر لك قسما، أم كان خروجا من بيته بغير إذنه أم تمكينا لأحد من فراشه، أم زناها إلى غير هذا مما يدل على سوء العشرة، وقال أبو قلابة وابن سيرين لا يحل الخلع حتى يجد على بطنها رجلا.
ومنشأ الخلاف بينهما وبين الجمهور، الخلاف في المراد بالفاحشة في قوله تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [سورة النساء الآية 19] هل المراد بها خصوص الزنا أو كل ما يدل على سوء العشرة وترك الحقوق التي ألزمها الله لزوجها، وقال بكر بن عبد الله وعطاء والمالكية: لا يحل له أن يمسكها ويضيق عليها حتى تفتدي منه وإن أتت بفاحشة من زنا أو بذاء أو نشوز لعموم قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [سورة النساء الآية 20]، وقوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [سورة النساء الآية 4]، وادعوا أن الإذن في العضل إذا أتت بفاحشة منسوخ بهذه النصوص، وأجاب الجمهور عن ذلك بمنع النسخ، لا مكان الجمع بحمل الإذن في العضل والمضارة على ما إذا أتت بفاحشة، وحمل النهي عن المضارة وأخذ العوض على ما إذا لم يحصل منها نشوز.
وقيل: لا يجوز أخذ الزوج العوض منها إلا إذا خافا جميعاً ألا يقيما حدود الله، لكراهية كل منهما الآخر لقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) [سورة البقرة الآية 229] واختيار ابن جرير، واعترض عليه بأنه يلزمه ألا يحل للزوج أخذ الفدية إذا كان سوء العشرة من قبلها فقط، وأجاب عنه بأن الأمر ليس كما ظن، فإن سوء عشرتها يقتضي كراهيته إياها وذلك يقتضي الخوف ألا يقيما حدود الله.

رابعاً:

اتفق العلماء على بعث حكمين إذا وقع الشقاق بين الزوجين ولم يعلم الناشز منهما أو كان كل منهما ناشزا فأبى الزوج أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان وأبت الزوجة أن تؤدي الحقوق التي ألزمها الله – عز وجل – بها لزوجها، واتفقوا على أن أحد الحكمين يكون من أهل الزوج والآخر من أهلها إن أمكن وإلا فمن غيرهما حسب ما تقتضيه المصلحة، واتفقوا على أن الحكمين ينفذ ما رأياه في الصلح بينهما وعلى أنهما إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، واختلفوا بعد ذلك في مسائل:
الأولى: اختلافهم في المخاطب ببعث الحكمين في قوله تعالى: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) [سورة النساء الآية 35]، فقيل السلطان أو نائبه؛ لأنه هو الذي إليه الفصل في الخصومات والأخذ على يد الظالم، وقيل المخطاب بذلك الزوجان، لأن الشأن شأنهما، وكل منهما أدرى بمن يحرص على استيفاء حقه والدفاع عنه، وقيل أولياء الزوجين، ويمكن أن يقال: إن الأمر ببعث الحكمين مطلق فإن قام به الزوجان فبها، وإلا بعث أولياؤهما من يقوم بالواجب، فإن لم يتم البعث من قبل أوليائهما تعين على السلطان أو نائبه بعثهما.

الثانية: اختلافهم في الحكمين، هل هما وكيلان أو بمنزلة القضاة. فقيل: هما وكيلان ينفذ قولهما فيما وكلا فيه فقط، لأن الطلاق بيد الزوج لا يملكه غيره إلا بتوكيل منه ولأن التعويض عن الطلاق لا يكون إلا برضا الزوجة وطيب نفسها، ولحديث علي، وفيه ” فقال الرجل: أما الفرقة فلا فقال علي: والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة ” فاعتبر بذلك إذنه كما أذنت، وقيل هما حاكمان فينفذ قولهما إذ هما بمنزلة السلطان، والسلطان يطلق بالضرر إذا تبين كما في مسالة العنين، ولحديث علي فإنه قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما، إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما. ولتسمية الله المبعوثين حكمين، والحكم كالقاضي ينفذ ما حكم به من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض رضي الزوجان بذلك أم كرها.
وقال بعض العلماء إذا بعث السلطان أو نائبه حكمين فليس لهما إلا النظر لمعرفة المسيء منهما والنصح لهما والإصلاح بينهما، فإن تم الصلح فبها، وإلا رفعا الأمر للسلطان أو نائبه، وكانا بمنزلة الشاهدين، أما الحكم فإلى السلطان أو نائبه دونهما.
الثالثة: هل الخلع طلاق أو فسخ، وهل ينفذ طلاق الحكمين إذا طلقا ثلاثا دون تفويض في ذلك من الزوج، وهل للزوج الرجعة بعد الخلع ما دامت المخالعة في العدة، وهل يجوز الخلع دون السلطان أو لا يكون إلا عن طريقه، وهل الخلع خاص بين الزوجين أو عام فيها وفي غيرها؟ في كل هذه المسائل خلاف.

خامساً:

اختلف العلماء في مقدار ما يؤخذ من العوض في الخلع فقيل: لا يأخذ الزوج أكثر مما أعطاها لقوله – صلى الله عليه وسلم – لمن أرادت فراق زوجها (( تردين إليه ما أخذت منه، قالت نعم وزيادة، فقال – صلى الله عليه وسلم – أما الزيادة فلا))، ويمكن أن يخصص عموم نصوص الافتداء بهذا الحديث، لما فيها من الاحتمال. وقيل: يجوز بأكثر مما أعطاها لعموم قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229]، ولما رواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري في مخالعة الأنصاري لأخته أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لها: ((تردين عليه حديقته ويطلقك “، قالت نعم وأزيده، قال: ردي عليه حديقته وزيديه))78.
ويمكن أن يقال إن هذا الحديث مقابل لحديث منع الزيادة على ما أعطاها، وعلى هذا يتم الاستدلال بعموم الآية على جواز أخذه ما تراضيا عليه أو حكم به حاكم ولو كان أزيد مما دفع لها أو يقال: في كل من الحديثين مقال، فيتم الاستدلال بعموم الآية على ما ذكر.

سادسا:

لم نقف على تحديد مدة تضرب للناشز، عقوبة لها وتأديبا أو زجرا لها عن النشوز عسى أن ترجع عن تقصريها في حقوق زوجها وتطيعه في أداء ما وجب عليها له شرعا، ويظهر أن ضرب مدة للنشوز وتحديدها من باب التعزير، وهو مما يختلف باختلاف الظروف والأحوال، وما يترتب عليه من أضرار قد تربو على سوء عشرتها للزوج وقد تنقص عنه، وما يرجى من جدوى التعزير وصلاح الأحوال به، وما يخشى من سوء عاقبة الزيادة في التعزير من توتر العلاقات بين أسر المجتمع، وما قد يحدث عن شدته للنواشز من الانحدار إلى ما لا تحمد مغبته.

سابعا:

ذهب بعض العلماء إلى أن حكم ولي الأمر أو نائبه بما يراه من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض نافذ سواء رضي الزوج بالطلاق أم أبى، ورضيت الزوجة بدفع العوض أم كرهت رعاية لمصلحة الأسرة خاصة ومصلحة المجتمع الإسلامي عامة، ورأوا أن هذا نظير التفريق بالعنة والإيلاء والعسر بالنفقة وطول الغيبة، وغير ذلك مما يلجأ فيه إلى التفريق لدفع المضرة والقضاء على مادة الفساد وذرائعه.
وذهب آخرون على أنه لا يجوز التفريق إلا برضا الزوج؛ لأن الطلاق جعل بيده شرعا فلا يكون إلا منه أو بتوكيله، ولا يجوز أخذ عوض من الزوجة عن الفراق إلا برضاها وعن طيب نفس منها، لعموم قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [سورة البقرة الآية 188]، ولحديث: ((إن أموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا))79، ولحديث: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه))80.
ويمكن أن يقال: إن هذه النصوص عامة دخلها التخصيص والاستثناء منها بالأدلة التفصيلية فليكن التفريق بالطلاق أو الفسخ من غير رضا الزوج، وكذا أخذ العوض من الزوجة مستثنى من عموم هذه
النصوص كذلك بما ذكر من أدلة الرأي الأول، جمعا بين الأدلة بدلا من ضرب بعضها ببعض ومن وقوف المسلمين منها موقف الحيرة أو الاختلاف.
هذا ما تيسر إيراده، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو اللجنة: عبد الله بن سليمان بن منيع.
عضو: عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان.
نائب الرئيس: عبد الرزاق عفيفي.
رئيس اللجنة: إبراهيم بن محمد آل الشيخ.
ملخص قرار هيئة كبار العلماء المتعلق بمسالة النشوز والخلع
بعد اطلاع المجلس على ما أعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها وبعد تداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي:
أن يبدأ القاضي بنصح الزوجة وترغيبها في الانقياد لزوجها وطاعته وتخويفها من إثم النشوز وعقوبته وأنها إن أصرت فلا نفقة لها عليه ولا كسوة ولا سكنى، ونحو ذلك من الأمور التي يرى أنها تكون دافعة الزوجة إلى العودة لزوجها، ورادعة لها من الاستمرار في نشوزها، فإن استمرت على نفرتها وعدم الاستجابة عرض عليهما الصلح، فإن لم يقبلا ذلك نصح الزوج بمفارقتها وبين له أن عودتها إليه أمر بعيد، ولعل الخير في غيرها ونحو ذلك مما يدفع الزوج إلى مفارقتها، فإن أصر على إمساكها وامتنع من مفارقتها واستمر الشقاق بينهما بعث القاضي حكمين عدلين ممن يعرف حالة الزوجين من أهلهما حيث أمكن ذلك، فإن لم يتيسر فمن غير أهلهما ممن يصلح لهذا الشأن، فإن تيسر الصلح بين الزوجين على أيديهما فبها وإلا أفهم القاضي الزوج أنه يجب عليه مخالعتها على أن تسلمه الزوجة ما أصدقها، فإن أبى أن يطلق حكم القاضي بما رآه الحكمان من التفريق بعوض أو بغير عوض، فإن لم يتفق الحكمان أو لم يوجدا وتعذرت العشرة بالمعروف بين الزوجين نظر القاضي في أمرهما وفسخ النكاح حسبما يراه شرعا بعوض أو بغير عوض، والأصل في ذلك الكتاب والسنة والأثر والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [سورة النساء الآية 114]، ويدخل في هذا العموم الزوجان في حالة النشوز والقاضي إذا تولى النظر في دعواهما، وقوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنّ[سورة النساء الآية 34]، والوعظ كما يكون من الزوج لزوجته الناشز يكون من القاضي لما فيه من تحقيق المصلحة.
وقوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [سورة النساء الآية 128]، فكما أن الإصلاح مشروع إذا كان النشوز من الزوج فهو
مشروع إذا كان من الزوجة أو منهما.

وقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [سورة النساء الآية 35]، وهذه الآية عامة في مشروعية الأخذ بما يريانه من جمع أو تفريق بعوض أو بغير عوض.
وقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [سورة البقرة الآية 229].
وأما السنة فما روى البخاري في الصحيح عن عكرمة عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: ((جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر في الإسلام فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أفتردين عليه حديقته؟ قالت نعم، فردت عليه فأمره ففارقها))81.
وقوله – صلى الله عليه وسلم – ((لا ضرر ولا ضرار))82 فهذا يدل بعمومه على مشروعية الخلع عند عدم الوئام بين الزوجين وخشية الضرر.

وأما الأثر فما رواه عبد الرازق عن معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن ابن عباس قال بعثت أنا ومعاوية حكمين قال معمر بلغني أن عثمان بعثهما وقال إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا. ورواه النسائي أيضاً.
وما رواه الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة قال جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وقال للحكمين هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما فقالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي، وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
ورواه النسائي في السنن الكبرى ورواه الشافعي والبيهقي وقال ابن حجر: إسناده صحيح، وما أخرجه الطبري في تفسيره عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في الحكمين أنه قال: فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز.
وأما المعنى: فإن بقاءها ناشزا مع طول المدة أمر غير محمود شرعا لأنه ينافي المودة والإخاء وما أمر الله من الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان مع ما يترتب على الإمساك من المضار والمفاسد والظلم والإثم وما ينشأ عنه من القطيعة بين الأسر وتوليد العداوة والبغضاء، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
1- سنن أبو داود النكاح (2059)، مسند أحمد بن حنبل (1/432).
2- قوله: (وهذا كأنه مقلوب إلخ) أي: من شزن كفرح نشط، ونشزت من صاحبه نشزنا صرعة كما في القاموس.
3- لسان العرب (5/ 417 – 418).
4- أحكام القرآن ( 2 /230)، المطبعة البهية المصرية سنة 1347هـ…
5- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5 / 170 – 171 )، الطبعة الثانية مطبعة دار الكتب المصرية سنة ( 1356هـ 1937م ) .
6-كشاف القناع ( 5/164 – 165).
7- انظر جامع البيان (9 / 267 – 278).
8- سنن الترمذي تفسير القرآن (3040).
9- أحكام القرآن ( 2 /345 – 346) المطبعة البهية بمصر.
10-سنن الترمذي تفسير القرآن (3040).
11- سنن أبو داود السنة (4602)، مسند أحمد بن حنبل (6/338).
12- تفسير القرطبي (5 /403) وما بعده..
13- صحيح البخاري الطلاق (5273)، سنن النسائي الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
14- جامع البيان (4/ 549) وما بعدها..
15- صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).
16- مسند أحمد بن حنبل (5/73).
17-صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، مسند أحمد بن حنبل (3/321)، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).
18- تفسير ابن جرير الطبري ( 8 / 110) وما بعدها.
19- أحكام القرآن للجصاص (1 / 109 – 111).
20- أحكام القرآن لابن العربي (1 / 151 – 154).
21- أحكام القرآن (5 /99 – 101).
22- تفسير ابن جرير الطبري ج8 ص110 -132 تحقيق محمود وأحمد شاكر..
23- أحكام القرآن للجصاص ج2 ص109 -111 وأحكام القرآن لابن العربي ج1 ص151 -154 وتفسير القرطبي ج5 ص99 -100.
24- تحفة الفقهاء ج2 ص301.
25- الموجود في المطبوع المنقول عنه (إذا لم يتعد أمر فيها الله) وهو ظاهر الخطأ.
26- المقدمات لابن رشد (2/252 -254).
27- المهذب (2/70) مطبعة الحلبي.
28- مختصر الفتاوى المصرية ص446.
29- أحكام القرآن (1 /175 – 176) الطبعة الأولى.
30- تفسير ابن جرير الطبري (4 /549 وما بعدها).
31- بدائع الصنائع (2/334).
32- الأم (5/194) الطبعة الأولى..
33- صحيح البخاري الأدب (6065)، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2559)، سنن الترمذي البر والصلة (1935)، سنن أبو داود الأدب (4910)، مسند أحمد بن حنبل (3/199)، موطأ مالك الجامع (1683).
34- صحيح مسلم كتاب الحج (1218)، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905)، سنن ابن ماجه المناسك (3074)، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850).
35- سنن أبو داود النكاح (2142)، سنن ابن ماجه النكاح (1850).
36- صحيح البخاري النكاح (5204)، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2855)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3343)، سنن ابن ماجه النكاح (1983)، مسند أحمد بن حنبل (4/17)، سنن الدارمي النكاح (2220).
37- صحيح البخاري الحدود (6850)، صحيح مسلم الحدود (1708)، سنن الترمذي الحدود (1463)، سنن أبو داود الحدود (4491)، سنن ابن ماجه الحدود (2601)، مسند أحمد بن حنبل (4/45)، سنن الدارمي الحدود (2314).
38-المغني والشرح الكبير (8/162 – 163) الطبعة الأولى.
39-سنن النسائي الطلاق (3462)، سنن أبو داود كتاب الطلاق (2227)، مسند أحمد بن حنبل (6/434)، موطأ مالك كتاب الطلاق (1198)، سنن الدارمي الطلاق (2271).
40- صحيح البخاري الطلاق (5277)، سنن النسائي الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
41- صحيح البخاري الطلاق (5273)، سنن النسائي الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
42- المغني والشرح الكبير(6/ 173 – 174) الطبعة الأولى.
43- صحيح البخاري الطلاق (5273)، سنن النسائي الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
44- الفروع ( 5/ 343).
45- الدار السنية (6/ 367).
46- صحيح البخاري الطلاق (5273)، سنن النسائي الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
47- نيل الأوطار(6/ 263).
48- صحيح البخاري الطلاق (5273)، سنن النسائي الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
49- سنن النسائي: الطلاق (3462)، سنن أبو داود: كتاب الطلاق (2227)، مسند أحمد بن حنبل (6/434)، موطأ مالك: كتاب الطلاق (1198)، سنن الدارمي: الطلاق (2271).
50- مسند أحمد بن حنبل (5/73).
51- صحيح البخاري: الطلاق (5273)، سنن النسائي: الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه: الطلاق (2056).
52- صحيح البخاري: الطلاق (5309)، سنن أبو داود: الطلاق (2251).
53-صحيح البخاري: الطلاق (5312)، صحيح مسلم: اللعان (1493)، سنن أبو داود: الطلاق (2257)، مسند أحمد بن حنبل (2/11).
54- مسند أحمد بن حنبل (5/73).
55- أحكام القرآن (1/462 – 468) المطبعة البهية.
56- فتح الباري (9 /230 – 331).
57- عمد القارئ (20 /260) وما بعدها.
58- صحيح البخاري: الطلاق (5273)، سنن النسائي: الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه: الطلاق (2056).
59- قال المنذري (3/ 144 ، حديث 2137) وذكر أنه روي مرسلا وأخرجه الترمذي مسنداً، وقال: حسن غريب.
60- صحيح البخاري: الطلاق (5273)، سنن النسائي: الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه: الطلاق (2056).
61- سنن النسائي: الطلاق (3497).
62- سنن الترمذي: الطلاق (1185)، سنن أبو داود: الطلاق (2229).
63- صحيح البخاري: الطلاق (5273)، سنن النسائي: الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه: الطلاق (2056).
64- صحيح البخاري الطلاق (5273)، سنن النسائي الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه الطلاق (2056).
65- زاد المعاد (4/63 – 67) مطبعة السنة المحمدية.
66- جامع البيان لأحكام القرآن (8 /318 – 330).
67- قوله درء الخ. الدرؤ الاعوجاج والاختلاف ومثله التدارؤ (المصححة).
68- مسند أحمد بن حنبل (5/73).
69- صحيح البخاري: الحيل (6967)، صحيح مسلم: الأقضية (1713)، سنن النسائي: آداب القضاة (5401)، سنن أبو داود: الأقضية (3583)، سنن ابن ماجه: الأحكام (2317)، موطأ مالك: الأقضية (1424).
70- أحكام القرآن (2 /230 – 235) المطبعة البهية عام 1347 هـ.
71- أحكام القرآن (1/ 176 وما بعدها).
72- بداية المجتهد (2 /98 / 99) الطبعة الثالثة 1379 هـ /1960م..
73- الأم (115 -117).
74- المهذب (2/70).
75- الإنصاف (8 /380 -381) الطبعة الأولى.
76-سنن أبو داود: الطلاق (2228).
77- زاد المعاد (4 /63) وما بعدها
78- صحيح البخاري: الطلاق (5273)، سنن النسائي: الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه: الطلاق (2056).
79- صحيح البخاري: الفتن (7078)، صحيح مسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679)، مسند أحمد بن حنبل (5/39)، سنن الدارمي المناسك (1916).
80- مسند أحمد بن حنبل (5/73).
81- صحيح البخاري: الطلاق (5277)، سنن النسائي: الطلاق (3463)، سنن ابن ماجه: الطلاق (2056).
82- سنن ابن ماجه: الأحكام (2340)، مسند أحمد بن حنبل (5/327).