بحث قانوني فريد عن حالات إفشاء السر المهني المقررة للمصلحة العامة

أوجب المشرع على الأمناء على الأسرار الإلتزام بإفشاء سر المهنة في نصوص متعددة تحقيقا للمصلحة العامة، سواء تعلق الأمر بالمحافظة على كيان المجتمع من خلال التبليغ عن الولادات والوفيات وكذلك التبليغ عن الجرائم (المطب الأول) أو تحقيقا لمصلحة العدالة كما في حالة التحقيق أو الإطلاع على الضرائب وأعمال الخبرة وأداء الشهادة أمام القضاء (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الإفشاء بمقتضى النص القانوني

إذا كان الأصل هو الكتمان فإن الاستثناء هو الإفشاء كلما رأى المشرع أن المصلحة الأجدر بالحماية تقتضي الإفشاء كما في حالة التبليغ عن الولادات والوفيات والأمراض وكذا في الجرائم الخطيرة.

الفقرة الأولى: التبليغ عن الجرائم

بعد أن نص المشرع المغربي في الفصل 446 ق .ج على طائفة الأشخاص الملزمين بكتمان السر المهني، أورد استثناء على هذا الإلتزام بالكتمان بقوله:” و ذلك في غير الأحوال التي يجوز فيها القانون أو يوجب عليه فيها التبليغ “.

و يستفاد من هذا النص أن هناك حالات يعفي فيها المشرع الأمناء من الإلتزام بالسر، وهي التي يكونون فيها ملزمين بالتبليغ عن الجريمة .

فما المقصود بهذا الإستثناء؟ لقد اختلفت الآراء حول الإجابة عن هذا السؤال فقد ذهب البعض إلى أن المراد بهذه الإستثناءات الواردة بالفقرة الأولى من الفصل 446 ق.ج.م ، هو الإلتزام العام بالتبليغ، بمقتضى النصوص القانونية، بينما ذهب البعض الآخر إلى أن الأمين على السر ليس ملزما قانونا عما وقع من جرائم ، لأن المشرع المغربي لم يقرر عقوبة عن مخالفة واجب الإبلاغ، بخلاف إفشاء السر، فإنه مقرون بجزاء جنائي، ومن تم فإن تنفيذ ما أمر به المشرع لا يعدو أن يكون أمرا مندوبا لا يرقى إلى مرتبة الإلتزام [1] .

ورغم اختلاف الآراء حول التبليغ عن وقوع الجرائم كسبب لإباحة الإفشاء ، فإن جميع الشراح اتفقوا على جواز إفشاء السر منعا لوقوع الجريمة .

أولا: التبليغ عن وقوع جريمة

نصت الفقرة الأولى من الفصل 446 ق.ج.م على إستثناءات تخص مبدأ الإلتزام بالسر المهني، وهي الحالات التي ينص فيها القانون على الإلتزام بالتبليغ عن الجرائم، وقد كان المشرع المغربي يقصد من جملة هذه الإستثناءات ما نصت عليه المادة 299 من ق.ج.م ، التي تعاقب بالحبس من شهر إلى سنة ، و غرامة من مائتين إلى ألف درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من علم بوقوع جناية أو الشروع فيها ، ولم يشعر بها السلطات فورا، بالإضافة إلى الفصل 42 من ق.م.ج ، التي تخاطب كل سلطة منتصبة أو كل موظف بلغ إلى علمه أثناء ممارسته لمهامه إرتكاب جريمة ، أن يبلغ عنها فورا.

وقد ذهب بعض الفقه إلى أن الفصل 229 ق.ج.م لا يهم الملتزمين بكتمان السر المهني في شيء ، وإلا تردد المريض أو الجريح في الإلتجاء إلى الطبيب،فواجب الطبيب في علاج المرضى و إنقاذ حياتهم ، يعلو فوق مصلحة العدالة، التي يمكنها إكتشاف الحقيقة بطريقة أو بأخرى [2] .

في رأيي يجب ان يخص التبليغ فقط الجنايات دون غيرها ولو كان الأمر يتعلق بالأمين على السر المهني، و ذلك راجع للمصلحة في الإفشاء المتمثلة في الكشف عن جناية ، ووقف إرتكاب جرائم مماثلة ، ذلك أن المصلحة في الإفضاء بالسر تعلو على المصلحة في إفشائه .

ثانيا: التبليغ عن السر منعا لوقوع الجريمة ( التجريم التحوطي)

تبنى المشرع المغربي سياسة التجريم التحوطي بصفة مباشرة و ذلك حرصا منه على وقاية المجتمع من الجريمة قبل وقوعها .

وقد نص المشرع المغربي صراحة على هذا الإلتزام في الفصل 8-218 ق.ج.م ، التي تعاقب كل من علم بمخطط أو أفعال تهدف إلى إرتكاب أعمال إرهابية ، ولم يبلغ عنها فورا السلطات القضائية أو الإدارية أو العسكرية بمجرد علمه بها.

و الفصل 431 من ق.ج.م الذي يعاقب كل من يمسك عمدا عن تقديم مساعدة لشخص في خطر رغم إستطاعته ذلك، و دون أن يعرض نفسه أو غيره لأي خطر.

هذا بالإضافة إلى بعض القوانين الخاصة التي تنص صراحة على وجوب التبليغ عن بعض الجرائم ، كجرائم تبييض الأموال( المادة 13 من القانون المتعلق بمكافحة غسيل الأموال رقم 05- 43) ، و جريمة تمويل الإرهاب ( الفصل 595.4 ق.م.ج ) .

وفي مقابل هذه النصوص التشريعية تردد الفقه المغربي بخصوص مدى إلتزام الأمين على السر بالتبليغ عن الجرائم قبل إرتكابها.

فقد ذهب جانب منه إلى إعتبار أن نص الفصل 446 ق.ج.م من جهة، والفصول 218.8 و 431 من جهة أخرى ، تصل إلى حد التناقض ، ومع ذلك فإن الامين يكون ملزما بالتدخل لمنع وقوع جريمة، و التبليغ عنها، ما عدا في حالة إذا لم يعلم بالجريمة إلا بعد وقوعها [3] .

أما جانب من الفقه فقد ميز في هذا الصدد بين حالتين:

– حالة ما إذا فرض القانون إلتزاما بالتبليغ على الأمين، فإن هذا الالتزام له الأولوية على الالتزام بالمحافظة على الأسرار.

– أما إذا كان الأمين على السر يملك مجرد الحق في التبليغ الحق في التبليغ فإن هذا الأمر متروك لمحض إختياره و تقديره، فإذا ما قام بالتبليغ فإنه يكون قد استعمل حقا مقررا للتمتع بالإباحة [4]

الفقرة الثانية: التبليغ عن الولادات والوفيات وبعض الأمراض

إذا كان المشرع في الفصل 446 ق.ج.م ألزم الجراحين وملاحظي الصحة والصيادلة والمولدات وغيرهم من الأشخاص ممن يعتبرون من الأمناء على الأسرار بكتمان السر الطبي، فإنه استثنى من ذلك حالات معينة أجاز فيها إفشاء السر دون أن يترتب عليه أي جزاء جنائي، هاته الحالات تتمثل في التبليغ عن الولادات والوفيات (أولا) والتبليغ عن بعض الأمراض التي تشكل خطرا على المجتمع كالأمراض المعدية والوبائية والتبليغ عن الأشخاص المصابين بأمراض عقلية (ثانيا).

أولا: التبليغ عن الولادات والوفيات

أوجب القانون على الأطباء وغيرهم من الأشخاص المبادرة إلى التبليغ عن الولادات والوفيات التي تصل إلى علمهم إلى السلطات المختصة، فالمادة 31 من القانون رقم 37.93 المتعلق بالحالة المدنية نصت على أنه يعاقب بغرامة مالية من 300 إلى 1200 درهم كل من وجب عليه التصريح بولادة أو وفاة طبقا لأحكام المادة 16 والمادة 24[5] ولم يقم بهذا الإجراء داخل الأجل القانوني ، نفس المبدأ نصت عليه المادة 468 من ق.ج.م [6] .

بخصوص التبليغ عن الوفيات يعتبر عنصرا لازما لتحرير رسم الوفاة، والهدف منه التعرف على أسباب الوفاة فيما إذا كانت طبيعة أو نتيجة فعل جرمي، والعدالة تقتضي التحقق من ذلك قبل السماح بدفن الجثة واندثار معالمها مما يعرقل مهمة التحقيق بالإضافة إلى ضرورة الحفاظ على الصحة العامة التي تتطلب معرفته سبب الوفاة لمنع انتقال العدوى في الأمراض المعدية، ولحد الانتشار منها.

هذا وإذا توفي شخص داخل أحد المستشفيات أو المؤسسات الصحية المدنية أو العسكرية أو السجنية أو غيرها من المؤسسات يجب على المديرين والمتصرفين في شؤونها أو من ينوب عنهم أن يصرحوا بالوفاة لدى ضابط الحالة المدنية المختص داخل أجل ثلاثة أيام من تاريخ الوفاة (م 26 ق.ج.م).

ويتضح مما سبق أن الطبيب الذي بلغ السلطات العامة بالمواليد والوفيات لا يعد كاشفا للسر ومرتكبا لجريمة إفشاء الأسرار المعاقب عليها في الفصل 446 من ق.ج.م لأن في هذه الحالة يؤدي واجبا فرضه عليه القانون وذلك خدمة للمصلحة العامة.

ثانيا: التبليغ عن بعض الأمراض

أوجب المشرع على أصحاب المهن الطبية إبلاغ السلطات الإدارية بكل الحالات التي يقع عليها الحجر الصحي من أمراض معدية وبائية بالإضافة إلى التبليغ عن المصابين بالأمراض العقلية، والغرض من ذلك هو حماية المجتمع ومراقبة ومعالجة هؤلاء الأشخاص.

+ بالنسبة للتبليغ عن الأمراض المعدية والوبائية والأمراض ذات الصبغة الاجتماعية فالأمر بالتبليغ عنها منصوص عليه في قرار وزير الصحة العمومية المؤرخ في 27يونيو1967، في مادته الأولى[7] هاته الأمراض هي:

§ الأمراض الجاري عليها الحجر الصحي: الطاعون، الكوليرا، الحمى الصفراء، الجدري، التيفوس الوبائي عن القمل والحمى العائدة عن القمل.

§ الأمراض ذات الصبغة الاجتماعية: السل الرئوي، الزهري الابتدائي والثانوي، حمى المستنقعات.

§ الأمراض المعدية والوبائية: حمى التيفويد، الحمى القريبة من التيفويد، أمراض السيلان، الكزاز، التيتانوس، الذباح، الدفتيريا، الشلل ، الالتهاب المخي، والأمراض الوبائية الناتجة عن الإصابة بجرثومة دبرو سيلا.

كما نصت المادة الثانية من القرار أنه يجب التصريح بحالات الأمراض الأخرى المعروفة أو غير المعروفة أسبابها والمتجلية في شكل وبائي”.

+ بالنسبة للتبليغ عن المصابين بأمراض عقلية[8].

أوجب المشرع على الطبيب المبادرة إلى إبلاغ السلطات العامة بالمصابين بالأمراض العقلية، وهكذا نصت المادة 17 من القانون المتعلق بالوقاية من الأمراض العقلية ومعالجتها”، يتخذ الباشا أو القائد في حالة خطر قريب الوقوع، أثبته طبيب في شهادة أو يفشيه للعموم التدابير اللازمة بشرط أن يخبر بذلك العامل في ظرف أربعة وعشرين ساعة، ويأمر العامل في ظرف ثمان وأربعين ساعة بوضع المريض تلقائيا تحت الملاحظة الطبية أو ينهي التدابير المؤقتة التي أمرت باتخاذها السلطة المحلية.

ولا يمكن الإقامة بمصحة عمومية أو مؤسسة خصوصية للأمراض العقلية، إلا بعد الإطلاع على شهادة يسلمها طبيب مؤهل تتضمن بصورة مفصلة وواضحة أحوال المريض الشاذة وتقضي بضرورة إقامته في المستشفى وتحرر شهادة بعدما يفحص المريض وعند الحاجة بعد الاطلاع على نتائج البحث الجاري بمسعى من الطبيب لإثبات صحة طلب الإقامة بالمستشفى.

مما سبق يتضح أن الطبيب الذي يبلغ السلطات العامة بالحالات المشار إليها لا يعاقب بمقتضى أحكام المادة 446 ق.ج.م، لأنه يكون قد أدى واجبا فرضه القانون تحقيقا للمصلحة العامة، والتبليغ يجب أن يقع لدى الجهات المختصة دون غيرها وإلا كان الطبيب مسؤولا جنائيا عن إفشاء السر المهني الطبي.

المطلب الثاني: الإفشاء لمصلحة العدالة

فرض المشرع السرية على إجراء البحث والتحقيق بمقتضى المادة 15 من ق.م.ج والتي نصت على أن كل شخص يساهم في إجراء هذه المسطرة ملزم بكتمان السر المهني ضمن الشروط وتحت طائلة العقوبات المقررة في القانون الجنائي.

وتعتبر السرية إجراءا ضروريا لضمان استجماع الأدلة، وذلك لأن المتهم الذي يعرف ما يتخذ من إجراءات البحث والتحقيق قد يعمل على إفسادها كما أن إجراء التحقيق في حضور الجمهور من شأنه أن يشل تصرفات المحقق في استخلاص الأدلة[9].

وإذا كان الأصل هو اعتبار إجراءات التحقيق ونتائجه من الأسرار التي يلتزم القائمون به أو المشتركون فيه بكتمانها فإن هناك حالات ترتفع فيها السرية وذلك لمصلحة التحقيق (فقرة أولى) ومن أجل الإطلاع على بعض الأمور المتعلقة بالضريبة (فقرة ثانية) ثم أعمال الخبرة (فقرة ثالثة) وإذا تعلق الأمر بالشهادة أمام القضاء (فقرة رابعة).

الفقرة الأولى: مصلحة التحقيق

تقتضي مصلحة التحقيق رفع السرية عن بعض إجراءاته، فضابط الشرطة القضائية حينما يعرضون على النيابة العامة ماعلموا به من جنايات و جنح و يوجهون له المحاضر التي يحررونها، فلا يعتبرون في حالة إفشاء لسرية هذه الإستدلالات و الأبحاث، كما أن الملف الخاص بالتحقيق يتم وضعه رهن إشارة محامي المتهم أو الطرف المدني قبل كل إستنطاق أو إستماع ، بيوم واحد على الأقل ( المادة 139 ق.م.ج)

ولكي يتمكن المحامي من القيام بواجبه الأكمل ويصبح حضوره أثناء الاستجواب مجديا ومفيدا في الدفاع فإنه يجب على المحقق السماح له بالإطلاع على التحقيق في اليوم السابق على الاستجواب أو المواجهة حتى يكون ملما بجميع الوقائع المنسوبة إلى المتهم والأدلة والقرائن وكل ما تم من إجراءات أو مستندات لكن يستطيع متابعة التحقيق وإبداء الملاحظات وتحديد خطة دفاعه [10]

والمقرر قانونا أن التبليغ عن الجرائم حق يبيحه القانون لسائر الأفراد وواجب أيضا و الحكمة من ذلك هي مساعدة رجال السلطة العامة على كشف الجرائم وتعقب مرتكبيها، ويعتبر التبليغ عن جرائم الأمن الداخلي والخارجي أهم حالات التبليغ نظرا لأثرها الخطير على كيان الدولة، الأمر الذي دعا المشرع إلى النص عليها في الفصل 209 ق.ج.م[11]، إذ يعفى الموظفون من الإلتزام بالسر المهني ،عندما يكونون ملزمين بالإبلاغ عن الجرائم والأفعال التي تضر بالدفاع الوطني، فلا يجب أن يكون الإلتزام بالسر عقبة في طريق السلطة القضائية وتحقيق العدالة[12].

فضابط الشرطة القضائية ينحصر عمله في التتبث من الجرائم والبحث عن مرتكبيها ، وجمع الأدلة، وتنفيذ أوامر قاضي التحقيق وتلقي أوامر النيابة العامة التي تصدر إليهم أوامر مباشرة الإجراءات الضرورية، وتسليم المحاضر، فكل هذه الأمور تعتبر من اختصاصات ضباط الشرطة القضائية وتعتبر استثناء من واجب السرية المفروض على ضابط الشرطة القضائية، فإجراءات البحث والتحري هاته تقتضي رفع السرية[13].

وتكريسا لمبدأ سرية المراسلات فقد نص المشرع المغربي في ق.م.ج على منع التقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد وتسجيلها وأخذ نسخ منها في م 108، لكن في سبيل الكشف عن الحقيقة وتحقيق العدالة، نص استثناء من السرية على أنه يمكن لقاضي التحقيق إذا اقتضت ضرورة البحث أن يأمر بالتقاط المكالمات وكافة الاتصالات المرسلة بواسطة وسائل الاتصال المختلفة.

الفقرة الثانية: حق الإطلاع في المسائل الضريبية

عرف الفقهاء حق الإطلاع المخول للإدارة الضريبية بأنه سلطة منحها المشرع إياها بغية التحقق من أعمال أحكام التشريعات الضريبية، فالغاية منه هو تمكين تلك الإدارة من التعرف على وعاء للضريبة وعناصره المختلفة ابتغاء تحقيق عدالتها، ومنع التهرب منها، لما يتجه للإدارة من الإطلاع على الأوراق ومطابقتها على الواقع والمستندات، ويعتبر حق الإطلاع مساسا بحق التاجر أو الشركة في الاحتفاظ بسرية بعض المستندات والأوراق المتعلقة بأعماله، على أن منح الدولة هذا الحق الذي تباشره بواسطة موظفيها لا يجيز كشف الستار عن مختلف أوجه نشاط التاجر أو الشركة لما يترتب على ذلك من تأثير ضار على أعماله[14].

تنص المادة 214 من المدونة العامة للضرائب الصادرة في القانون المالي لسنة2007[15]على حق الاطلاع وتبادل المعلومات، الذي بموجبه يجوز لإدارة الضرائب – كي تتمكن من الحصول على جميع المعلومات التي من شأنها أن تفيدها في ربط ومراقبة الضرائب والواجبات والرسوم المستحقة على الغير- أن تطلب الاطلاع على الوثائق المحاسبية ومطابقتها للواقع والمستندات المصرح بها من قبل الملزمين بالضريبة، دون إمكانية الاعتراض على ذلك بحجة كتمان السر المهني .

هذه الاعتبارات تسمو على الاعتبار الذي يقوم عليه السر المهني الذي تسيطر عليه المصلحة الخاصة والحق في الخصوصية. وعليه فلا يمكن التذرع وراء هذه الاعتبارات الفردية لإخفاء تهرب ضريبي أو أعمال غير مشروعة من شأنها أن تسبب الاغتناء غير المشروع على حساب المصلحة العامة.

ويمكن لإدارة الضرائب أيضا، أن تطلب الاطلاع على السجلات والوثائق التي توجب مسكها القوانين الجاري بها العمل فيما يتعلق بالأشخاص الطبيعيين أو المعنويين الذين يزاولون نشاطا خاضعا للضريبة. وفي جميع الحالات لا يمكن أن يشمل الاطلاع مجموع الملف إذا تعلق الأمر بمهنة حرة تستلزم مزاولتها الحفاظ على السر المهني، وتقديم خدمات ذات طابع قانوني أو ضريبي أو محاسبي[16].

وتقدم المعلومات كتابة، كما يتم تسليم الوثائق مقابل وصل على شكل وثيقة مسلمة لمأموري إدارة الضرائب[17]، وعليه فلا يمكن للأشخاص الخاضعين للضريبة الامتناع عن تقديم الوثائق المطالب بها من طرف الإدارة، فإذا تم الامتناع أو تمت مخالفة إجراءات حق الاطلاع بصفة عامة، فإن القانون يعاقب المخالف وفقا للإجراءات وبالغرامة التهديدية اليومية.

وتبعا لذلك فإنه يحق لموظفي إدارة الضرائب المحددين حصرا، الاطلاع على سجلات الملزمين تحققا من صحة استيفاء الضريبة. وإذا ما تولد لديهم شك حول صحة هذه السجلات، فإن حق الاطلاع الممنوح لهم يمكنهم من الرجوع إلى كافة دفاتر ومستندات الملزمين التي قد تمكن من كشف المخالفات الضريبية.

وهذا الحق يمارس في مقر مهنة الملزم ، أو في مراكز الوكالات والفروع الخاصة بالبنك، إذا تعلق الأمر بالسر المهني البنكي، على أن يتم الاطلاع على الوثائق المطلوبة من عقود، ومحررات وملفات وكشوفات حسابية محفوظة في أماكن وجودها[18]، دون أن يحق لأعوان إدارة الضرائب نقلها إلى أماكن أخرى، غير أنه يحق لهم أن ينسخوا ما يرونه ضروريا في أدائهم لمهامهم، أو أن يأخذوا عنها الخلاصات الضرورية[19].

لكن من الناحية الواقعية، فإنه قلما تمارس إدارة الضرائب حق الاطلاع هذا، إلا في حالات نادرة، عندما يقع شك في إقرار أحد الملزمين. وهنا تمارسه بكثير من الحرص والتحفظ لأن موظفي إدارة الضرائب هم أنفسهم مقيدون بالسر المهني[20].

وهذا الحق يمارس بكيفية دقيقة في بعض التشريعات المقارنة؛ فمثلا في الولايات المتحدة الأمريكية وجد هذا الحق لتفصح البنوك على المعلومات الخاصة بزبنائها والتي تسهل حصول إدارة الضرائب على المعلومات التي تراها ضرورية للسيطرة على حالات التهرب الضريبي وتسهيل إعمال القانون الجبائي وتنفيذه.

وعليه، يلتزم المهني بتقديم التقارير إلى إدارة الدخل الداخلي حول المعاملات النقدية أو التحويلات الداخلية الكبيرة المتضمنة لأي إيداع أو سحب أو تحويل نقدي أجنبي أو أي دفع أو تحويل خارجي، دون الالتزام بأي مبرر يقتضيه السر المهني[21].

الفقرة الثالثة: أعمال الخبرة

يقصد بالخبرة استعانة القاضي أو الخصوم بأشخاص مختصين في مسائل يفترض عدم إلمام القاضي بها، للتغلب على الصعوبات الفنية أو العلمية، التي تتعلق بوقائع النزاع، وذلك بالقيام بأبحاث فنية وعلمية واستخلاص النتائج منها في شكل رأي غير ملزم[22].

والخبير هو شخص له كفاءة فنية في ناحية معينة يؤخذ رأيه على سبيل الاستشارة وقد أعطى المشرع مرحلة جمع الاستدلالات ضابط الشرطة القضائية حق الاستعانة بخبير سواء في الأحوال العادية أو في حالة التلبس[23]، لكن ضابط الشرطة القضائية لا يمكنه إجبار الخبير على الحضور أو تحليفه باليمين، كما أن لقاضي التحقيق، وقضاة الحكم الحرية المطلقة في الاستعانة بخبير وهي مسألة تقديرية لكل منهم أن يقررها من تلقاء نفسه أو بناء على طلب الخصوم.

ويقدم الخبير رأيه مكتوبا في تقرير يتضمن بيانا بالأعمال التي قام بها والرأي الذي انتهى إليه، ويخضعهم أي الخبير الاستشاري لتقدير قاضي التحقيق وقاضي الحكم كغيره من الأدلة فله أن يأخذ به أو أن يرجع عليه دليلا آخر[24].

وتشمل الخبرة من الناحية الجنائية البحث في الجريمة من حيث سببها الجنائي وكيفية ارتكابها والبحث عن فاعل الجريمة بالاستعانة بالطبيب الشرعي، هذا ويعتبر الخبراء من طائفة الأشخاص الذين تبيح لهم مهنتهم العلم بوقائع سرية باعتبارهم من المتصلين بالتحقيق والمساهمين في إكمال إجراءات التحقيق والمحاكمة، فإذا كان الخبير مكلفا بتقديم تقرير عما وصل إليه من معلومات تتعلق بالمسألة محل البث فهل يعد ما يفضي به إلى السلطات القضائية من بيانات إفشاء للسر المهني؟

هنا ثار نقاش فقهي بين مجموعة من فقهاء القانون في إيطاليا وفرنسا، وبلجيكا[25].

ويشترط لإعفاء الخبير من السر المهني شرطان:

أولهما: أن يقدم تقريره إلى الجهة التي انتدبته وحدها، فلا يجوز للخبير أن يفشي محتويات هذا التقرير إلى غير الجهة التي انتدبته.

ثانيها: أن يعمل الخبير في حدود المهمة التي كلف بها، وتحدد مأمورية الخبير بقدر ما تتطلبه الضرورة من رجوع إلى ذوي الخبرة لإعطاء رأيهم فالخبير مقيد بالحديث في الموضوع الذي حددته المأمورية أما خارج هذا الموضوع فإنه يبقى ملزما بالسر المهني حتى بالنسبة للقاضي الذي انتدبه[26].

لكن يثار تساؤل إمكانية الاستماع للخبير كشاهد.

وطبقا للمادة 209 ق.م.ج فإنه يجوز في الجلسة الاستماع إلى الخبراء بصفة شهود طبقا للشروط المنصوص عليها في المواد 335 و 345 و 346 ق.م.ج، وأوضحت المادتان 345-346 كيفية الاستماع إلى الخبير في الجلسة، فكلما تعلق الأمر بالاستماع إلى الخبير في الجلسة فإنه يتعين عليه أن يؤدي اليمين وأن يدلي بالبيانات المتوفرة لديه كشاهد إذا لم تسمح له المحكمة بالإدلاء بمذكرة في الموضوع.

وهذا وتنطبق على الخبير إذا استمع إليه كشاهد جميع المقتضيات المتعلقة بالشهادة والمنصوص عليها في المواد من 324 إلى 344 ق.م.ج[27].

الفقرة الرابعة: الشهادة أمام القضاء

تعتبر الشهادة من أهم الأدلة التي يستعين بها القاضي للحكم في الدعوى، ويلزم كل شاهد يستدعي من قبل السلطة القضائية لمعاونتها في الإثبات بالإدلاء بكافة المعلومات عن لمسائل التي يطلب منها إيضاحها .

ونظرا لأهمية دور الشاهد في الدعوى الجنائية نص المشرع على إلزامه بالحضور تحت طائلة التعرض للعقوبات المنصوص عليها في المادة 128[28]، فالأصل في أداء الشهادة هو أنها واجب يفرضه القانون على كل شخص قصد الوصول لى معرفة الحقيقة في المنازعات وفي ثبوت التهمة ، ويتعرض للعقاب من يتخلف عن الحضور أو أداء الشهادة ما لم يبين الأسباب التي دعته إلى الامتناع عن الإدلاء بها.

وإذا كان الالتزام بأداء الشهادة التزاما عاما أي أنه مفروض على كافة الأشخاص بدون استثناء فإن المشرع في الفقرة الكافية من الفصل 446 فيخبر الأطباء والجراحين وغيرهم ممن ذكروا في الفصل وجعلهم أحرار في الإدلاء بشهادتهم أمام القضاء، دون أن يكونوا موضوع مساءلة جنائية إلا إذا تعلق الأمر بقضية إجهاض.

فالطبيب الذي يستدعي الإدلاء بشهادته أمام القضاء في موضوع مساءلة جنائية بقضية إجهاض لا يعتبر مفشيا للسر المهني الطبي ولا يتعرض للعقوبة إن هو كشف واقعة الإجهاض ما دام المشرع قد أجاز له ذلك متى طلب منه.

هذا وتجدر الإشارة إلى أن المنع لا يسري على الأطباء والجراحين وغيرهم من ذوي المهن الطبية وعلى الوقائع التي علموا بها بحكم مهنتهم أو وظيفتهم والتي لها طابع السر المهني وعلى هذا الأساس فالطبيب لا يعتبر مفشيا لسر المهني ولا يتعرض للعقوبة إذا دعي للشهادة موضوع سرقة مثلا.

[1] الحبيب بيهي : شرح قانون المسطرة الجنائية الجديد – الجزء الأول – مطبعة المعارف الجديدة REMALD، الطبعة الأولى ،2004 ص 128.

[2] -Jean Larguier et Anne Marie Larguier: Op.cit pp : 204-205

[3] خالد خالص ” السر المهني للمحامي” مرجع سابق ص 62

[4] سعيد الفكهاني” التعليق على القانون الجنائي المغربي في ضوء الفقه و القضاء” مطبعة الدار العربية للموسوعات ، الطبعة الأولى، السنة 1992 – 1993 الجزء الثالث ، ص : 171

[5] المادة 16 من قانون الحالة المدنية المغربي: يقوم بالتصريح بالولادة لدى ضابط الحالة المدنية لمحل وقوعها أقرباء المولود حسب الترتيب:

– الأب أو الأم

– وصي الأب

– الأخ

– إبن الأخ

– المادة 24 من قانون الحالة المدنية المغربي : يصرح بالوفاة لدى ضابط الحالة المدنية لمحل وقوعها الأشخاص المبينون أسفله مع مراعاة الترتيب.

– الولد

– الزوج

– الأب أو الأم أو وصي الأب أو المقدم على الهالك قبل وفاته.

– الكافل بالنسبة لمكفوله

– الأخ

– الجد

[6] المادة 468 ق.ج.م : الأب، وعند عدم وجوده الطبيب أو الجراح أو ملاحظة الصحة أو الحليمة أو المولدة أو أي شخص حضر الولادة أو وقعت بمحله يعاقب بالحبس من شهر إلى شهرين وبغرامة لا تقل عن مائتي درهم إذا لم يقم بالتصريح بالازدياد داخل الأج القانوني، وذلك في الحالات التي يكون فيها التصريح واجبا”.

[7] المادة 1 من قرار وزير الصحة المؤرخ في 27يونيو1967.

“إن الأمراض الجاري عليها الحجر الصحي والأمراض المعدية أو الوبائية الموضوعة قائمتها بقرار وزير الصحة العمومية يجب التصريح بها على الفور من طرف أصحاب المهن الطبية الذين أثبتوا وجودها إلى السلطة الإدارية”

[8] الظهير الشريف رقم 1.58.2.95 منشور بالجريدة الرسمية عدد 2429 بتاريخ 1959/05/15

[9] مرسلي والعيبود، مرجع سابق ص 77.

[10] إلياس عاصم، مرجع سابق، ص 143.

[11] الفصل 209 ق.ج.م :يؤاخذ بجريمة عدم التبليغ عن المس بسلامة الدولة ويعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات وغرامته من ألف عشرة آلاف درهم، كل شخص كان على علم بخطط وأفعال تهدف إلى ارتكاب أعمال معاقب عليها بعقوبة جنائية بمقتضى نصوص الجنايات والجنح ضد أمن من الدولة، ورغم ذلك لم يبلغ عنها فورا السلطات القضائية والعسكرية والإدارية بمجرد علمه بها.”

[12] مرسلي والعيبود، مرجع سابق ص 77.

[13] خير مثال على ذلك المادة 134 ق.م.ج فعلى قاضي التحقيق أن يبين للمتهم الأفعال المنسوبة إليه، كما تقتضي اعتبارات العدالة رفع السرية عن بعض إجراءات التحقيق.

[14] أحمد كامل سلامة، مرجع سابق ص 490.

[15] – ظهير شريف رقم 1.06.232 صادر بتاريخ 31 دجنبر 2006 بتنفيذ قانون المالية رقم 43.06 للسنة المالية 2007 منشور بالجريدة الرسمية عدد 5487 بتاريخ فاتح يناير 2007، ص 104.

[16] – عبد القادر تيعلاتي: النزاع الضريبي في التشريع المغربي، مطبعة دار النشر الجسور، وجدة 2000، ص 71.

[17] – مأموري إدارة الضرائب المحلفين الذين لهم على الأقل رتبة مفتش مساعد.

[18] – خصوصا وأن القانون رقم 9.88 المتعلق بالقواعد المحاسبية يوجب على الأبناك باعتبارها تمارس نشاطا تجاريا، مسك محاسبة منتظمة، ويجب عليها أن تحتفظ بهذه الوثائق المحاسبية مدة عشر سنوات ابتداء من تاريخها، طبقا للمادة 211 من المدونة العامة للضرائب الصادرة عملا بالقانون المالي لسنة 2007.

[19] – نوفل الريحاني، مرجع سابق، ص 107.

[20] – حسب المادة 246 من المدونة العامة للضرائب الصادرة في القانون المالي لسنة 2007 التي تنص على أنه:” يلزم بكتمان السر المهني وفق أحكام التشريع الجبائي الجاري به العمل كل شخص يشارك بمناسبة مزاولة مهامه أو اختصاصاته، في تحديد الضرائب والواجبات والرسوم ومراقبتها واستيفائها أو المنازعات المتعلقة بها وكذا اللجان الضريبية المنصوص عليها في المواد 50 و 225و 226 من نفس القانون…”.

[21] – سعيد عبد اللطيف ، مرجع سابق ص 249 و 250.

[22] عادل جبري محمد حبيب مرجع سابق ص 206.

[23] م 64 ق.م.ج إذا تعين القيام بمعاينات لا تقبل التأخير فلضابط الشرطة القضائية أن يستعين بأي شخص مؤهل لذلك على أن يعطي رأيه بما يمليه عليه شرفه وضميره.

[24] أحمد كامل سلامة، مرجع سابق ص 529.

[25] في إيطاليا: ثار خلاف ول الإجابة عن السؤال السابق، فذهب بعض الأطباء العقليين إلى أن الخبير ملزم بالمحافظة على السر لأن المتهم يتمتع أصلا بحق السكوت وعدم الإفضاء إلى السلطات القضائية بالمعلومات التي تضر بمركزه في الدعوى، فيجب أن لا يحرم من تلك الوسيلة الدفاعية بالسماح للخبير بالإقضاء بما توصل إليه من معلومات أثناء مباشرته لعمله عن طريق كسب ثقة المتهم.

وقد بدأ بعض الفقهاء في فرنسا ومن بينهم Vienne بحجة أن الخبير تسري عليه نفس التزامات الطبيب الخاص الذي يباشر عمله بقصد العلاج.

ذهب رأي آخر في إيطاليا إلى القول بضرورة التمييز بين عمل الطبيب المعالج والطبيب القضائي فالأول يلجأ إليه المريض مختارا وطوعا بقصد العلاج، ولذلك أوجب عليه المشرع المحافظة على السر المهني حتى لا يحجم المريض عن الذهاب إليه، خشية افتضاحهم فهو مساعد للقضاء ومن ثم يلتزم بإفادة القاضي على كل ما يصل علمه وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالخبرة العقلية.

وقد انضم لهذا الرأي عدد من فقهاء القانون في فرنسا من بينهم، بروواردل وجارسون قولا منهم بأن الطبيب الخبير المكلف بقرار المحكمة لا يمكنه أن يخفي على القاضي ما يلاحظه أو يدلي به الفرد إليه، ومن ثم يجب عليه أن يقدم تقريره كاملا لأنه إن سكت عن جزء من النتائج التي توصل إليها فإن معاونته تصبح غير مقيدة للقاضي.

وقد أخذ بهذا الرأي في بلجيكا الأستاذ ورلومونت قولا منه بأنه بين الخبير المعني من قبل المحكمة والمتهم هذا التداول الذي يحدث بين المريض وطبيبه الذي اختاره، فالطبيب الشرعي لم يعين لعلاج المتهم ولكن لإعطاء المحكمة معلومات فنية عن حالته ودرجة مسؤوليته.

[26] أحمد كامل سلامة، مرجع سابق ص 522-523.

[27] أحمد نهيد : النظام القانوني للخبرة القضائية بين المقتضيات المدنية والجنائية على ضوء العمل القضائي، مجلة الملف العدد الرابع،

شتنبر 2004، ص 56.

[28] المادة 128: “إذا لم يحضر الشاهد …. جاز لقاضي التحقيق بناء على ملتمسات النيابة العامة أن يجبره على الحضور وأن يصدر في حقه أمر بأداء غرامة تتراوح بين 1200 و 12000 درهم”.