بحث قانوني و دراسة عن مظاهر التعاون الجنائي الدولي

مقدمـــــــــة:

لقد شهد العالم تطورا ملحوظا على المستوى التكنولوجي والصناعي مما تطور معه أشكال ارتكاب الجرائم. حيث لم يعد الحديث عن الجرائم بمعناه التقليدي وإنما أصبحت تكتسي طابعا منظما ودوليا،حيث انعكست نتائجها على المجتمع الدولي بصفة عامة، وهذا ما أدى بهذا الأخير لبذل مجموعة من الجهود للحد من هذا النوع من الإجرام، وذلك من خلال إنشاء (خلق) قانون جنائي دولي، باعتباره قانونا يحكم المجتمع الدولي ويضم الجرائم والعقوبات التي تحمي وجود هذا المجتمع مثاله مثال القانون الجنائي الوطني داخل المجتمع المحلي.
لكن القانون الجنائي الدولي لا تقف غايته عند حد تحقيق التضامن والتعاون بين الدول لمعاقبة للمجرم أينما وجد وأيا كان القانون الذي انتهك، وإنما تمتد لتشتمل إجراءات التحقيق والمحاكمة والتنفيذ العقابي.([1])
من الملاحظ أن التعاون الدولي الجنائي استرعى اهتمام العديد من الدول من بينها المغرب، لكن على المستوى الفقهي لا زال هذا الموضوع لم يأخذ بعد نصيبه من الدراسة على الرغم من أنه أصبح تفعيل نظام التعاون الدولي نظرا لتعقد وتزايد الجرائم الدولية.

وقد عرف التعاون الدولي تطورا بعد الحرب العالمية الثانية حيث نشطت أوربا في تدعيم هذه الدراسات وأخذ بها في المجلس الأوروبي واتحاد البنولوكس([2]) واتحاد الدول الاسكندينافية من خلال اتفاقيات ومعاهدات أبرمت منذ سنة 1947.

ولقد انخرط المغرب في بوثقة هذا التعاون الجنائي الدولي من خلال مصادقته على العديد من المعاهدات الجماعية والثنائية حيث كان أولها بتاريخ 05/10/1957 والمتعلقة بالتعاون القضائي المتبادل وتنمية الأحكام وتسليم المجرمين بين المغرب و فرنسا ([3]) .
وتبرز أهمية الموضوع في واقع ظاهر الجريمة غير الوطنية كما سبق الذكر، حيث حتمت التعاون الدولي لأنه شبه مستحيل مكافحة هذا الصنف من الجرائم دون تعاون دولي حقيقي وفعال على جميع الأصعدة من تشريع وتطوير لآليات الملاحقة القضائية الوطنية والدولية من خلال إحداث مؤسسات متخصصة في هذا المجال كالإنتربول والمحكمة الجنائية الدولية([4]).
إذا كان يعني الوصول إلى تعاون حقيقي في هاته المجالات هو تعاون بين سيادات الدول. فما هي المظاهر التي يتخذها؟
وهذا ما سنتناوله من خلال التصميم معتمدين المنهج التحليلي النقدي:
المبحث الأول: التعاون الجنائي الدولي في المجال التشريعي والقضائي.
المبحث الثاني: التعاون الجنائي الدولي على مستوى المؤسسات الدولية.

المبحث الأول: التعاون الجنائي الدولي في المجال التشريعي والقضائي.

المطلب الأول: على المستوى التشريعي

أولا: التنازع التشريعي الإيجابي: الاختصاص الجنائي.

هذه العلامة المميزة للقانون الجنائي الدولي توجد في قوانين أخرى، مثل القانون الدولي الخاص، والقانون الدولي التجاري، غير أنه في القانون الدولي الخاص أو التجاري يجب أن يحل التنازع الإيجابي بتطبيق قانون واحد على مستوى العلاقة محل النزاع الخاص أو التجاري وإلا أدى الحال إلى حدوث تضارب في الأوضاع القانونية، إذ من المتصور مع اختلاف القانون المدني وقوانين الأحوال الشخصية من دولة لأخرى أن يكون الفرد متزوجا وفقا لقانون دولة، ومطلقا وفقا لقانون دولة أخرى إذا تمتع بجنسية أكثر من دولة واحدة.
أما في القانون الجنائي الدولي، فيلاحظ أن التنازع الإيجابي في الاختصاص الجنائي يحل عن طريق معرفة أي دولة من الدول تضررت من الجريمة أو بقول آخر أي القوانين التي انتهكت أحكامها بصورة أكثر جسامة من غيرها.
وتعد الدولة التي وقع انتهاك أكثر جسامة لقانونها الجنائي هي الدولة المختصة بنظر الجريمة المرتكبة، وعادة تكون هذه الدولة هي الدولة التي وقعت على أرضها هذه الجريمة رغم ما تعرض له هذا الاتجاه من انتقاد ([5]) .
ومن هنا جاء الاتجاه الذي يقر الاختصاص الجنائي لدولة ما حتى ولو لم تكن هي الدولة التي ارتكبت على إقليمها الجريمة في الحالات الآتية:

أولا: حالة القبض على مجرم في حالات جرائم القرصنة الجوية أو البحرية([6]) هنا يسند الاختصاص للدولة التي تم إلقاء القبض على المجرم في إقليمها.
ثانيا: حالة المضرور من الجريمة، هنا يسند الاختصاص لقانون الدولة التي يلحق بأحد رعاياها أو بها الضرر([7]).
ثالثا: حالة المجرم، ويسند الإختصاص لقانون الدولة التي يتبعها المجرم([8])
رابعا: حالة اللجوء ويسند الاختصاص لقانون مكان ملجأ المجرم.
ما يأخذ على هذا الاتجاه أو ازدواجية الاختصاص أنه يصطدم بحقوق الأفراد، إذ أن تطبيق المبدأ قد يؤدي إلى تعدد العقوبات المقضي بها والواردة في قانون كل دولة متصلة بالجريمة المرتكبة وهنا نكون أمام مخالفة لمبدأ عام ألا وهو عدم جواز عقاب المجرم بأكثر من عقوبة واحدة عن جريمة أو عدم جواز محاكمة الإنسان عن فعل واحد أكثر من مرة.
ولتجاوز هذا النقد اقترحت قاعدتين مكملتين، يمكن أن تختار إحداهما لحل النزاع:
الأولى: عدم جواز محاكمة المجرم إذا اثبت أنه قد حكم عليه نهائيا في الخارج عن هذه الجريمة بالبراءة، وأنه حكم عليه بالإدانة ونفد العقوبة المقضى بها، أو سقطت بالتقادم أو بحصوله على عفو عنها([9]).
الثانية: الأخذ بتعدد جهات الاختصاص([10]).
الاقتراح الأخير الذي قال به الفقه هو اللجوء للإتفاقيات الدولية لحل ما قد يثار من جراء تطبيق مبدأ ازدواجية أو تعدد الاختصاص للوصول إلى وحدة الاختصاص العقابي حتى لا تجد الدول نفسها أمام مشكلة تعدد العقوبات عن الفعل الإجرامي الواحد([11]).

ثانيا: الاختصاص العالمي

كما سبقت الإشارة إليه في المقدمة، فإن هدف القانون الجنائي الدولي هو تنظيم مجال التعاون الدولي لمعالجة الإجرام الدولي،
ومن الوسائل المعتمدة لتحقيق هذه الغاية نجد قواعد الاختصاص «مبدأ الإقليمية والمبادئ الثلاث المكملة له وهي مبدأ الشخصية، العينية، ومبدأ العالمية»، هذا الأخير يعتبر أوج ما تم التوصل إليه في مجال التعاون الدولي.
والمقصود بالاختصاص الإقليمي، أن قانون الدولة ينطبق على كل ما يقع في حدود إقليمها بغض النظر عن جنسية الأشخاص، سواء كانوا من مواطني الدولة أم من الأجانب ولا يمتد تطبيق هذا القانون خارج إقليم الدولة ولو بالنسبة لرعاياها الموجودين في الخارج.
أما الاختصاص الشخصي فمعناه أن قانون الدولة يسري على مواطينها جميعا بغض النظر عن مكان إقامتهم سواء كانوا داخل حدود الدولة أو خارجها ودون أن يمتد تطبيقه إلى الأجانب حتى ولو كانوا يقيمون داخل الدولة([12]).
أما الاختصاص العيني فيقصد به تطبيق القانون الجنائي على كل جريمة تمس المصالح الأساسية للدولة كيفما كانت جنسية مرتكبيها وأيا كان الإقليم الذي ارتكبت فيه شريطة ألا ترتكب داخل نفس الدولة. ونظرا للمشاكل التي يخلقها مبدأ الإقليمية على وجه الخصوص أصبح مقبولا إدخال مجموعة من التعديلات عليه لملاءمته والتطور الفقهي ومقتضيات العدالة وقد استخدموا في ذلك 4 وسائل:

التوسع في مفهوم الجرم أو محل وقوعه.
الإقرار بوجود جرائم متفرقة في حال تعدد المجرمين.
تطبيق الإقليمية على الجرائم المتلازمة أو المترابطة في إطار التعاون الدولي.
أصبح في حكم الارض:
طبقة الهواء التي تغطيها أي الإقليم الجوي.
البحر الإقليمي([13]).
المدى الذي يغطي البحر الإقليمي.
السفن والمركبات الهوائية العائدة للدولة.
الأرض الأجنبية التي يحتلها جيش الدولة إذا نالت الجرائم المقترفة من مصالحه أو سلامته.
لكن رغم هذا التوسع في إقليمية القوانين الجنائية فما زال يعتريه القصور الذي يحول دون الوصول إلى الغاية المنشودة ألا وهي تنظيم تعاون دولي تنظيما يؤمن الاقتصاص من كل مجرم حتى لا يفلت من يد العدالة، لذلك تم اقتراح إقرار الاختصاص العالمي([14]).
والمقصود بالإختصاص العالمي هو تطبيق القانون الجنائي الوطني على كل جريمة يقبض على فاعلها فوق إقليم الدولة أيا كانت جنسية الفاعل، وأيا كان مكان ارتكاب الجريمة([15]). وبالتالي يمكن القول أن الاختصاص العالمي جاء لسد الفراغ الذي يظهر حين تطبيق مختلف أنواع الاختصاص الأخرى. والسؤال الذي يطرح في هذا المجال هو هل الاختصاص العالمي اختصاص قائم بذاته أم مجرد اختصاص احتياطي؟
إن الدول التي تنادي بهذا الاتجاه أو الاختصاص لا تستند إلى فكرة حماية مصالحها، ولكن تمارس هذا الاختصاص يقصد حماية الإنسان من وجود جناة بدون عقاب وبذلك يصعب القول بأن الاختصاص العالمي اختصاص احتياطي([16]).

شروط صحة الاختصاص العالمي:
أن يكون مرتكب الجريمة أجنبيا([17]).
أن يتعلق الأمر بجريمة ذات صبغة دولية([18]).
أن يكون الفعل مجرما بمقتضى قواعد القانون الدولي وكذا بمقتضى قوانين دولة إلقاء القبض على الجاني.
استحالة إمكانية تسليم المجرمين.
التواجد الإرادي للجاني فوق إقليم الدولة.

نطاق الاختصاص العالمي
لتفعيل الاختصاص العالمي وتحقيق الغاية المرجوة منه يجب توسيع قاعدة الجرائم ذات الصبغة الدولية مع مراعاة مصلحة المجتمع الدولي برمته.
هذا التوسيع تفرضه ضرورة ما يعيشه العالم اليوم من تطور مستمر في مختلف المجالات بفضل التطور التكنولوجي وما يعرفه من تقدم وبالتالي يتم استعمال التكنولوجيا لتحقيق أغراض إجرامية دنيئة، ترتكب في حق المجتمع الدولي برمته وليس في حق دولة واحدة فحسب.
وهذا ما يبرر فكرة الإطاحة بالحدود الجغرافية، لأنه توجد جرائم يمكن أن ترتكب في الوطن المحلي ولكنها تعد جرائم دولية كما يحدث ذلك عن طريق عرض وبث الأفلام المخلة بالآداب و الإعلام الذي يخدش الحياء ويصل إلى كل مكان([19]).

ثالثا: مقتضيات التشريع الجنائي المغربي

باعتبار الدول هي الفاعل الرئيسي لتحقيق التعاون الدولي كان من الواجب عليها أن تضمن قوانينها قواعد لتنظيم الاختصاص فيما بينها، والمغرب نظم هذا المجال بموجب المادة 10 من القانون الجنائي المغربي التي تنص على أنه «يسري التشريع الجنائي المغربي على كل من يوجد بإقليم المملكة من وطنيين وأجانب وعديمي الجنسية مع مراعاة الاستثناءات المقررة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي. أما المادة 11 فقد حددت إقليم الدولة، حيث تدخل في تكوينه السفن والطائرات المغربية أينما وجدت فيما عدا الحالات التي تكون فيها خاضعة لتشريع أجنبي بمقتضى القانون الدولي»بالإضافة للفصول من 704 إلى 712 من الكتاب السابع من المسطرة الجنائية.
وبتفحص هاته الفصول نجد أن المغرب قد أخذ بإقليمية الإختصاص حيث تختص محاكم المملكة المغربية بالنظر في كل جريمة ترتكب في الأراضي المغربية أيا كانت جنسية مرتكبيها، وكل جريمة يتم داخل المغرب ارتكاب أحد الأفعال التي تشكل عنصرا من عناصر تكوينها، وتعبر كما لو ارتكبت في أراضي المملكة«الفقرة 1 و2 من المادة 704».
كما تم التمديد والتوسيع من الاختصاص الإقليمي فيما يرجع إلى البث في الفعل الرئيسي أي سائر أفعال المشاركة أو الاختفاء، ولو في حالة ارتكابها خارج المملكة من طرف أجانب «الفقرة 3 من المادة 704».
كما شمل التمديد أيضا الأجزاء المنفصلة عن التراب المغربي والتي تعد تابعة له كالسفن «المادة 705» الطائرات «الفقرة 1 من المادة 706».

أما بخصوص الاختصاص الشخصي فنجده مكرسا بموجب المادة 707 و 708 والفقرة الأولى بحيث أن كل فعل له وصف جناية أو جنحة في نظر القانون المغربي ارتكبت خارج المملكة المغربية من طرف مغربي يمكن المتابعة من أجله والحكم فيه بالمغرب.

وما يلاحظ هنا أن المشرع المغربي قد راعى الحالات التي يمكن أن يكون فيها الاختصاص مزدوجا بين المغرب ودولة أخرى حيث وضع في الفقرة الثانية من الفصلين 707 و 708 استثناءا مهما حيث لا يمكن أن يتابع المتهم إلا إذا عاد إلى الأراضي المغربية، ولم يثبت أنه صدر في حقه في الخارج حكم اكتسب قوة الشيء المقضي به، وأنه في حالة الحكم بإدانته قضى العقوبة المحكوم بها عليه أو تقادمت أو حصل على عفو بشأنها كل هذا من أجل الحفاظ على حقوق الأفراد ومسايرة لمبدأ عدم جواز عقاب المجرم بأكثر من عقوبة واحدة عن جريمته أو عدم جواز محاكمة الإنسان عن فعل واحد أكثر مرة.
أما الاختصاص العيني فنجده بالمادة 711 ق.م.ج، حيث تنص على الجرائم التي تشكل جناية أو جنحة ضد أمن الدولة أو تزييف لخاتم الدولة أو تزويرا لنقود أو لأوراق بنكية وطنية متداولة بالمغرب بصفة قانونية أو جناية ضد أعوان أو مقار البعثات الدبلوماسية أو القنصلية أو المكاتب العمومية المغربية. إذا ارتكبت من طرف أجنبي خارج الأراضي المغربية بصفته فاعلا أصليا أو مساهما أو مشاركا.

وبالتالي أخذت بعين الاعتبار طبيعة الجريمة في تحديد المختص بالمتابعة واعتبرت هذه الجرائم كما لو أنها ارتكبت داخل المغرب.

أما الاختصاص العالمي فرغم أن العديد من الدول قد نصت عليه في تشريعاتها([20])، إلا أن المغرب لا يزال لم يضمن تشريعه هاته الآلية الناجعة من أجل الحد من الإفلات من العقاب.
وهذا التكريس للاختصاص العالمي يعتبر مظهرا أو مؤشرا لما تقوم به بعض الدول في مجال التعاون الدولي على المستوى التشريعي، رغم أنه توجد عدة إشكاليات تثار على هذا المستوى أولها مدى كفاءة الجهاز القضائي الذي سيتابع المتهم على أرضها. وثانيها يتعلق بالتعاون بين الدول في المجال القضائي لا سواء على صعيد الإنابات القضائية، أو مؤسسة تسليم المجرمين أو حجة الأحكام الصادرة عن المحاكم الأجنبية ومفعولها وهذا ما سنتطرق له في المطلب الثاني.

المطلب الثاني: على المستوى القضائي

أولا: الإنابات القضائية:

من بين ما يستلزم لقيام تعاون دولي في المجال القضائي نشوء اتصالات مباشرة بين السلطات القضائية في مختلف البلدان، ولا يوجد أي بديل عن هاته الاتصالات المباشرة إذا أريد تحقيق العدالة والبحث في الجرائم وإماطة اللثام عن أدلتها وتحكم على فاعليتها، وبذلك فالإتقان في التحقيق والعدالة في الحكم والسرعة في إحقاق الحق كلها مزايا ضرورية في مثل هذا العصر ولا يمكن أن نصل إليها لا بتفعيل مؤسسة الإنابات القضائية([21]).
و المشرع المغربي قد نص عليها في قانون المسطرة الجنائية في الباب الثاني من القسم الثالث المعنون بالعلاقات القضائية مع السلطات الأجنبية.
وينتج عن الإنابات القضائية نتائج وآثار:
أولها: أن الدولة التي توجه إنابة قضائية لا تتخلى بذلك عن سلطاتها للقاضي الأجنبي الذي يقوم بتنفيذها، ولا تنبيه في الحقيقة عنها في ممارسة اختصاصاتها، رغم أن تنفيذ الإنابة القضائية يجري وفق الصيغ والأشكال والقواعد المنصوص عليها في تشريعات الدولة التي تقوم بالتنفيذ، ولا يجوز أن يجري وفق الصيغ والأشكال والقواعد المنصوص عليها في تشريعات الدولة التي وجهت الإنابة.
ثانيها: ويتجلى في كفالة أفضل الشروط الموضوعية لحسن التنفيذ، وبالتالي يكون من الأفضل لتنفيذ الإنابة القضائية أن تأمر الدولة المطلوب إليها التنفيذ أن تطلب الأشخاص المقيمين في أراضيها للمثول أمام محاكم الدولة الطالبة التي تدعوهم للإدلاء بشهاداتهم حضوريا وبصورة شفاهية، وبذلك نكون قد نقلنا من الصعيد الوطني إلى الصعيد الدولي واجب المثول أمام القضاء تلبية لمذكرات الدعوة بالحضور([22]).

لكن ماذا لو عكست المسألة بحيث يمكن انتداب القاضي الذي يضع يده على الدعوى للانتقال إلى الدولة الأجنبية التي يقيم فيها الشهود والاستماع إلى أقوالهم وضبط شهاداتهم عوضا عن إجبارهم على الحضور من بلادهم إلى الدول التي يقيم فيها هذا القاضي للإدلاء بشهاداتهم ولمثل هذا الحل فائدتان:

الأولى: أنه يتيح للقاضي المنتدب أن يقوم بتحقيق أشمل وأدق وأجدى مما لو كان هذا التحقيق قد أنيب به قاضي أجنبي يجهل كل ملابسات الدعوى وظروف القضية، وليس في وسعه أن يجيب على الأسئلة الموجهة إليه بالقدر الأوفى طالما أنه لم يحط بالقضية إحاطة شاملة.
الثانية: التحقيق الذي يقوم به القاضي المنتدب يطبق فيه قوانينه الوطنية في الحدود التي لا تتعارض مع أحكام القانون العام لهذه الدولة الأجنبية، ولا شك في أن تضييق تلك القواعد يجعل إجراءات القاضي المنتدب أكثر جدوى وأعم فائدة وأعمق أثر للوصول عند الفصل في الدعوى إلى قرار عادل.

ثانيا: الاعتراف بالأحكام الأجنبية:

حسب القاعدة الكلاسيكية أن كل دولة لا تعترف إلا بأحكام قانونها الجنائي ولا تعتد إلا بالأحكام الجنائية الصادرة عن محاكمها الوطنية([23]).
ولهاته القاعدة ما يبررها، فهي من ناحية تعبير عن سيادة الدولة، ومن ناحية أخرى فإن قواعد القانون الجنائي تتعلق في جملتها بالنظام العام، وهذا ما يحول دون إمكانية تطبيق قانون أجنبي وبالتالي الحكم المبني على هذا القانون.
لكن مع استفحال ظاهرة الإجرام الدولي وضرورة تعاون الدول فيما بينها لمكافحة الجرائم عبر الوطنية، وحتى لا يفلت الجناة من العقاب لمجرد أنهم أقاموا في دولة غير تلك التي صدر ضدهم فيها حكم جنائي بالإدانة، صار ممكنا الاعتراف بحجية الأحكام الأجنبية استنادا على معاهدات تبرم بين الدول([24]).
وحجية الأحكام الأجنبية تنقسم إلى نوعين، حجية سلبية وأخرى إيجابية:

أ-الججية السلبية الأمر المقضي به.

هذا النوع من نفاذ الأحكام الأجنبية هو الذي يقره التعامل القضائي أكثر من سواه على الصعيد الدولي، بل أصبح منصوصا عليه في القوانين الوضعية العديد من الدول.
والمقصود به اكتساب الحكم الجنائي لما يسمى قوة الشيء المقضي به، أي أن الحكم أصبح عنوانا للحقيقة، فتنقضي به الدعوى العمومية، ويمتنع بالتالي إعادة محاكمة نفس الشخص عن نفس الفعل الإجرامي مرة ثانية.
لكن يبقى من حق القاضي الذي يضع يده على القضية أن يتثبت من وجود أمر مقضي به فعلا ، و هذا ما يستوجب منح القاضي سلطة الرقابة في خدمة الصالح العام وما يقتضيه واجب التعاون الدولي.
وسلطة الرقابة التي يباشرها القاضي تخوله:
أن يتأكد من أن هذا الحكم الأجنبي قد صدر بصورة موافقة للأصول والقانون.
أن يتأكد من أن هذا الحكم قد أحدث آثاره القانونية.
أن يتأكد من أن هذا الحكم قد اكتسبت الدرجة النهائية.
ازدواج التجريم فعلا وفي الواقع في الجريمة ذاتها التي تولد عنها الحكم.
يجب أن لا يمس النظام العام الوطني عن طريق الاعتراف بالحكم الجنائي الأجنبي والمقصود بالنظام العام هنا المصالح الأساسية للدولة([25]).

ب-الحجية الإيجابية للأمر المقضي به

يتمثل هذا النوع في القوة التنفيذية التي يتمتع بها الحكم الجنائي وتشمل القوة التنفيذية للحكم الجنائي ما تضمنه من عقوبات أصلية أو تكميلية، أو تدابير احترازية. كما أن حجية الحكم الجنائي في شقها الإيجابي تتحدد أيضا بالآثار المترتبة عليه كمراقبة الشخص المحكوم عليه واعتبار الحكم سابقة في العود([26]).
ومن الملاحظات التي تتوضح عند التمسك بحجية الشيء المقضي به الإيجابية:
أن الجريمة تمس المجتمع العالمي كله لا مجتمع الدولة التي تضررت منها.
أن دول العالم تؤكد فاعلية أحكامها القضائية.
لكن وجهت عدة انتقادات للأخذ بحجية الشيء المقضي به الإيجابية، حيث اعتبرت مؤسسة تسليم المجرمين بديلا كافيا يغني عنه، بل وتحقق فوائد عقابية أكثر من تنفيذ الحكم الأجنبي([27]).
ولكن هذا الرأي يتجاهل أمرا هاما وهو أن تسليم المجرمين يتعلق بالروابط والاتفاقيات بين الدول.
وهذه الاتفاقيات الدولية ترفض في أحيان كثيرة الموافقة على تسليم المجرمين، ولتلافي ذلك يجب أن تعطى حجية إيجابية للحكم الجنائي الأجنبي لتحقيق فاعلية لعالمية العقوبة وبالتالي للوصول لتعاون دولي حقيقي في الميدان الجنائي([28]).

ثالثا: تسليم المجرمين

من أهم مظاهر التعاون الدولي تسليم المجرمين ويقصد بتسليم المجرمين أو الاسترداد، مطالبة دولة لأخرى بتسليمها شخصا متهما بارتكاب جريمة، أو صدر حكم بالعقوبة ضده، وغاية التسليم هو تمكين الدولة من محاكمته أو من تنفيذ العقوبة في حقه من منطلق أنها، -أي الدولة- هي صاحبة الاختصاص باتخاذ الإجراءات الناشئة عن الجريمة أو تنفيذ العقوبة الصادرة ضد الشخص المطلوب تسليمه([29]).
ولقد عرفت مؤسسة تسليم المجرمين منذ القدم([30])، ولكن ليس بالمفهوم الحالي، ولم تعرف تبلورا حقيقيا إلا في بداية القرن الماضي، حيث لجأت إلى إبرام اتفاقيات ثنائية ومتعددة مستهدفة تنظيم هذا المجال فيما بينها، وقد صاحب ذلك صياغة وصدور قوانين وطنية تنظم التسليم وتمنحه إطارا محكما([31]).
وبدوره المغرب وضع إطارا قانونيا لتنظيم هاته المؤسسة، وذلك بمقتضى الفصول من 718 إلى 745 من قانون المسطرة الجنائية، إضافة إلى ما تعاهد عليه بموجب الاتفاقيات الدولية([32]). وبذلك يتجلى الحجم الذي تحتله مؤسسة تسليم المجرمين في إطار التعاون الدولي الجنائي، ولتسليط الضوء عليها يجب التحدث عن شروط التسليم.

شروط التسليم
أول ما يمكن الإشارة إليه هو أن مؤسسة تسليم المجرمين تقوم على عدة شروط منصوص عليها إما ضمن الاتفاقيات الدولية أو ضمن المسطرة الجنائية باعتبارها مصدرا قانونيا رئيسيا و ليس مكملا، «لأنه يطبق كلما انعدمت الاتفاقية أو برزت إلى الوجود صعوبات على مستوى تطبيق الاتفاق»([33])

1- الشروط الموضوعية:

هذه الشروط تتعلق بالأشخاص المراد تسليمهم والعقوبات الصادرة في حقهم.
فبالنسبة للشروط التي تتعلق بالأشخاص المراد تسليمهم هنا التسليم يكون في حق المجرم الرئيسي والمساهم والشريك لكن هاته القاعدة ترد عليها 3 استثناءات:
1-عدم تسليم الدولة لمواطنيها «م 721 فقرة 1»([34])
2-إذا كان القضاء المغربي هو المختص استنادا لمبدأ إقليمية القوانين الجنائية «م 721 ف 6»
3-حينما يكون الشخص المطلوب تسليمه قد تمت محاكمته من قبل على نفس الجرم وتمت إدانته من أجل ذلك أو نفذ العقوبة التي قد صدرت ضده «م 721 ف 7و8»([35]).
أما الجرائم المرتكبة والتي من أجلها يتم طلب التسليم فهي:
1-جميع الأفعال التي يعاقب عليها قانون الدولة الطالبة بعقوبات جنائية.
2-الأفعال التي يعاقب عليها قانون الدولة الطالبة بعقوبات جنحية سالبة للحرية، إذا كان الحد الأقصى للعقوبة المقررة بمقتضى ذلك لا يقل عن سنة واحدة أو إذا تعلق الأمر بشخص محكوم عليه عندما تكون مدة العقوبة المحكوم بها من إحدى محاكم الدولة الطالبة تعادل أو تفوق أربعة أشهر.
3-الأفعال المكونة لمحاولة الجريمة أو المشاركة فيها، بشرط أن يكون معاقبا عليها حسب قانون الدولة الطالبة وحسب القانون المغربي. وما يثير الإشكال هو إمكانية التسليم بالنسبة للجرائم السياسية والعسكرية([36]).
فبالنسبة للجرائم السياسية: فهي تمس النظام العام لدولة محددة ولا تتجاوزه للنظام العالمي الدولي، وبالتالي يرجع لكل دولة الدفاع عن مؤسساتها، ولا يحق لدولة أخرى التدخل في شؤونها الداخلية، وهنا يجب التمييز بين الجرائم السياسية والجرائم الملحقة بالجرائم السياسية فالأولى تشكل اعتداء على الدولة وبذلك فهي سياسية بطبيعتها وهدفها سياسي، هاته الجرائم لا تسليم بشأنها، أما النوع الثاني فهو يمس الغير لكن بواسطة المس بالدولة، أي أنها تمس الحريات والحقوق الفردية عن طريق المس بالنظام العام وهاته الجرائم يجوز التسليم بشأنها([37])، أما الجرائم العسكرية فقد جرت العادة على عدم التسليم بشأنها، لكن بتفحصنا للاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب نجدها تختص على إمكانية تسليم المجرمين العسكريين.
الشروط المتعلقة بطلب التسليم من أجل تنفيذ العقوبة ويتعلق الأمر هنا بالشروط التي تضعها القوانين الوطنية والاتفاقيات الثنائية في حالة طلب تسليم المجرم من أجل تنفيذ عقوبة وهناك اتجاهين في هذا المجال:
الأول: يقضي بعدم الموافقة على تسليم الشخص المطلوب إلا إذا أرفق بالطلب الأوراق القضائية المتمثلة على الأدلة الكافية لاتهام الشخص الهارب أو لتبرير الحكم الصادر عليه([38]).
الثاني: ويتطلب مذكرة يتم إرسالها بطريقة قانونية وليس من شأن الجهات الموكلة إليها البث في طلب التسليم فحص الاتهامات أو الأحكام الجنائية المرفقة بهذا الطلب([39])، حيث تقتصر الغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى على النظر في سلامة مسطرة طلب التسليم وتحقق الشروط المنصوص عليها في الاتفاقيات التي أبرمها المغرب مع دول أخرى([40]) .

2: الشروط الشكلية

إن اعتبار تسليم المجرمين وسيلة من وسائل التعاون الدولي، تتطلب تأطيرها قانونيا لتحقق فعاليتها وسنتحدث عن الشروط الشكلية من خلال مرحلتين الأولى إدارية والأخرى قضائية.

*المرحلة الإدارية([41]):
وهي المنصوص عليها في الفصل 726 ق.م.ج، حيث يقدم طلب التسليم كتابة وبالطريق الديبلوماسي ويجب أن يتضمن على وجه الإلزام الوثائق التالية:
+الأصل أو بنظير إما لحكم بعقوبة قابلة للتنفيذ، وإما الأمر بإلقاء القبض أو سند إجرائي آخر قابل للتنفيذ وصادر عن سلطة قضائية وفق الكيفيات المقررة في قانون الدولة المطالبة.
+ملخص الأفعال التي طلب من أجلها التسليم وكذا تاريخ ومحل ارتكابها وتكيفها القانوني، وتضاف إليه في نفس الوقت نسخة من النصوص القانونية المطبقة على الفعل الجرمي.
+بيان دقيق حسب الإمكان لأوصاف الشخص المراد تسليمه وجميع المعلومات الأخرى التي من شأنها التعريف بهويته وبجنسيته.
+تعهد بالالتزام بمقتضيات المادة 723 ق.م.ج.
ويقدم الملف بكافة وثائقه إلى وزير العدل الذي يتأكد صحة الطلب ويتخذ في شأنه ما يلزم قانونا م 727 ق.م.ج

* المرحلة القضائية:
أول ما يتم التأكد منه هو كفاية المعلومات المقدمة لتمكين السلطات المغربية من اتخاذ القرار وفي حالة عدم كفايتها تطلب إفادتها بالمعلومات التكميلية الضرورية.
وتتولى السلطات القضائية في حالة الاستعجال وبطلب مباشر من السلطات القضائية للدولة الطالبة أو بناء على إشعار مصالح المنظمة الدولية للشرطة الجنائية «الأنتربول » أن تأمر باعتقال شخص أجنبي بمجرد توصله بإشعار واستنطاقه قبل أن تبعث بملف القضية م 729 ق.م.ج.
وينقل الشخص المعتقل في أقرب وقت إلى المؤسسة السجنية الواقعة بمقر المجلس الأعلى م 731 ق.م.ج.
ثم يوجه وكيل الملك فورا الطلب والمستندات المدلى بها إلى الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى الذي يحيلها إلى الغرفة الجنائية بنفس المجلس م 732 ق.م.ج.
أما بخصوص الوسائل الموازية لتسليم المجرمين، فهناك طريقتين، حيث يمكن أن ينتج التسليم عن تدبير أمني داخلي تتخذه الدولة التي يقيم فيها المجرم، وذلك بصفة انفرادية ودون أن تكون الدولة الأخرى الراغبة في إلقاء القبض على المجرم قد قامت، بأي عمل لإثارة التسليم فيسمى تلقائيا، كما يمكن أن يتم تسليما مقنعا.
تبث هاته الغرفة في طلب التسليم بقرار معلل خلال خمسة أيام من إحالته إليها على قرار تقرير أحد المستشارين وبعد إدلاء النيابة العامة بمستنتجاتها والاستماع على الشخص المعنى الذي يمكن أن يكون مؤازرا بمحامي.
كما يمكن للغرفة الجنائية عند الاقتضاء أن تأمر بإجراء تحقيق تكميلي م 732 ق.م.ج.

المبحث الثاني: التعاون الجنائي الدولي على مستوى المؤسسات الدولية.

في هذا المجال، تعتبر كل من مؤسستي منظمة الشرطة الدولية (الانتربول) (المطلب الأول) والمحكمة الجنائية الدولية (المطلب الثاني) مظهرا من مظاهر التعاون الجنائي الدولي.

المطلب الأول: منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الأنتربول).

ترجع البدايات الأولية للتعاون الدولي في المجال الشرطي الى سنة 1904 حيث نجد ملامح هذا التعاون ضمنا في الاتفاقية الدولية الخاصة بمكافحة الرقيق الأبيض والمبرمة في 18 مايو سنة 1904، حيث نصت مادتها الأولى على «تتعهد كل الحكومات المتعاقدة بأن تنشئ أو تعين سلطة تركيز لدينا المعلومات الخاصة باستخدام النساء والفتيات بغرض الدعارة ولهذه السلطة الحق في أن تخاطب مباشرة الإدارة المماثلة لها في كل الدول الأطراف المتعاقدة([42])».
وتنحصر أغراض هذه المنظمة حسب ما جاء في المادة الثانية من دستورها في تأكيد وتشجيع المعونة المتبادلة في أوسع نطاق ممكن من سلطات الشرطة الجنائية في حدود القوانين القائمة في البلاد المختلفة وبروح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ثم أخذ التعاون الشرطي بأخذ صورة المؤتمرات الدولية([43]). وأسفر أخرها والمنعقد في فيينا إلى إنشاء اللجنة الدولية للشرطة الجنائية والتي لم يكتب لها الاستمرار وذلك بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
وفي بروكسيل سنة1946 و بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية دعا «لوفاج» أحد رؤساء الشرطة في بلجيكا. لمؤتمر دولي عقد ببلجيكا في الفترة من 6-9 يونيو 1946 وحضره مندوبي سبعة عشر دولة، وانتهى المؤتمر المذكور إلى إحياء اللجنة الدولية للشرطة الجنائية ونقل مقرها إلى باريس وشكلت لها لجنة تنفيذية خمسة أعضاء برئاسة «لوفاج» وأطلق على اللجنة المذكورة اسم المنظمة الدولية للشرطة الجنائية.
وهذا يدعونا للتساؤل عن ماهية الطبقة القانونية لهذه المنضمة )أولا( واختصاصاتها (ثانيا) وأسلوب عملها (ثالثا).

أولا: الطبيعة القانونية لمنظمة الشرطة الجنائية الدولية.

يعتبر الأنتربول حسب طبيعتها القانونية منظمة دولية حكومية من طبيعة اجتماعية خالصة، وبالتالي فهي شخص من أشخاص القانون الدولي العام، يقوم على عناصر معينة يجب توافرها([44]) :
عنصر الكيان المتميز الدائم.
عنصر الإرادة الذاتية.
الاستناد إلى اتفاقية دولية تنشأ المنظمة وتحد نظامها القانوني وتبين أهدافها واختصاصاتها والأجهزة المختلفة المنوط بها تحقيق هذه الأهداف والقواعد التي تحكم سير العمل بها.
عدم انتقاص المنظمة من سيادة الدول المشتركة في عضويتها باعتبارها في الواقع مجرد وسيلة من وسائل التعاون الاختياري بين مجموعة معينة من الدول في مجال أو مجالات محددة يتفق عليها سلفا. وهذا ما نجده متوفر في هاته المنظمة.
فعنصر الكيان الدائم يتضح جليا من كيانها الدائم المتمثل في الأجهزة التي يقوم عليها. ومما يؤكد هذا العنصر هو إطلاق اسم «منظمة»على الأنتربول والذي يعبر من انصراف إرادة منشئيها إلى ختمها بطابع الدوام شأنها في ذلك شأن أي منظمة دولية حكومية.
أما عنصر الإرادة الذاتية، فإنه وبدون شك للمنظمة إرادتها المتميزة عن إرادات الدول الأعضاء. وبالتالي الشخصية القانونية الدولية بالقدر اللازم لقيام الأنتربول بمهامه. وللشخصية القانونية الدولية لمنظمة الشرطة الجنائية الدولية مظاهر واضحة([45]).

ثانيا: الأهداف والاختصاصات

1-الاهداف:

يعتبر الهدف الأساسي للمنظمة حسب المادة الثانية من الدستور المنظم لها هو «أ- تأكيد وتشجيع التعاون المتبادل في أوسع نطاق ممكن بين السلطات الشرطة الجنائية في حدود القوانين القائمة في البلاد المختلفة، وبروح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
ب-إقامة وتنمية النظم التي من شانها أن تسلم على نحو فعال في منع ومكافحة جرائم القانون العام».
ومنه يتضح لنا أن هاته المادة حرصت على:
تأكيد وتشجيع التعاون الدولي بين سلطات الشرطة في مختلف البلاد نتيجة لما ألم بالجماعة الدولية من تطورات في كافة المجالات خاصة في مجال المواصلات والتي كان لها أثر في سهولة انتقال المجرمين من عدة دول في زمن قصير بعد اقترافهم لجرائمهم في البلاد المختلفة، الأمر الذي يتطلب تعاون أجهزة الشرطة في البلاد المختلفة لمكافحة مثل هذه الاعمال.
إن هذا التعاون المستهدف لتحقيق الأهداف سالفة الذكر، تعاون يتم حتى في إطار القوانين القائمة في كل بلد، ومناطه منع ومكافحة جرائم القانون العام، وهي تلك الطائفة من الجرائم المعروفة عالميا بانتهاك القانون الطبيعي لأي مجتمع، ومثالها القتل والسرقة والنصب والاتجار في المخدرات، والاتجار في الرقيق، وتزييف العملة. ومن هنا جاء نص المادة الثانية من دستور الأنتربول مقررا أن التعاون بين أجهزة الشرطة يكون بروح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي يدور حول الاعتراف بحقوق الإنسان وكرامته وكفالة حقه في الحياة والحرية وسلامة شخصية وعدم استرقائه واستباده..
إن هذا التعاون لمكافحة الجرائم والذي يتم في إطار الأنتربول يبتعد كل البعد عن الأمور ذات الطبيعة السياسية والعسكرية والدينية والعنصرية.
وتحقيقا للأهداف المذكورة فإن المنظمة تقع عليها واجبات تنحصر فيما يلي:
احترام سيادة الدول الأعضاء في إطار القوانين الوطنية لتلك الدول.
استبعاد الجرائم ذات الصفة السياسية أو الدينية أو العسكرية من نطاق التعاون داخل إطار منظمة الأنتربول. فالتعاون داخل إطار المنظمة لا يكون إلا بالنسبة لجرائم الصفة الدولية، مثل تزييف العملات والاتجار في المخدرات، والاتجار في الرقيق، أو الجرائم العادية مثل القتل والسرقة.
تلتزم الدول الأعضاء بأن تنشئ لديها مكاتب مركزية وطنية للشرطة الجنائية الدولية تطبيقا لنص المادة 32 من دستور المنظمة، على أن يتم التعاون الدول الأعضاء، من خلال تلك المكاتب.
يتعين على الدول الأعضاء أن تساهم في النفقات المالية للمنظمة.
ولاشك أن الدور الذي تقوم به منظمة الأنتربول على النحو السابق أيضا يمثل مظهرا هاما من مظاهر التعاون الدولي في مجال مكافحة الجرائم الدولية.

2-الاختصاصات:

لم ينص دستور منظمة الأنتربول في أي من مواده لبنيات وظائف واختصاصات الأنتربول، وإنما يمكن أن تكتسب هذه الوظائف والاختصاصات من خلال وظائف واختصاصات الأجهزة المكونة لبنيات المنظمة. وبصفة عامة يمكن إجمال تلك الوظائف فيما يلي:
تجميع البيانات والمعلومات المتعلقة بالجريمة والمجرم، حيث تتسلمها المنظمة من المكاتب المركزية الوطنية للشرطة الجنائية في الدول الأعضاء، وتلك البيانات والمعلومات تقوم بتجميعها وتنظيمها لديها. هذه البيانات تتكون من وثائق ذات أهمية كبيرة في مكافحة الجرائم على المستوى الدولي.
التعاون مع الدول في ضبط المجرمين الهاربين. وتجدر الإشارة إلى أن منظمة الانتربول، ليست سلطة دولية عليا فوق الدول أعضاءها –تخول عمالها حق التدخل للقبض على المجرمين الهاربين في أي دولة من الدول أعضاء تلك المنظمة. فالتعاون الشرطي في إطار علاقات الدول أعضاء الأنتربول-يحكمه مبدأ احترام السيادة الوطنية للدول- وإنما ينحصر دورها في هذا المجال. وفي مساعدة أجهزة الشرطة في تلك الدول عن طرق إمدادها بالمعلومات المتوفرة لديها. لضبط المجرمين الهاربين والموجودين في أقاليمها.
ولا تقف اختصاصات الأنتربول عند هاتين الوظيفتين، ولكن تقوم أيضا بدور ملموس في المجالات الآتية:
أ-في مجال مكافحة الجرائم الماسة بأمن وسلامة وسائل النقل الجوي. فإن منظمة الأنتربول تتعاون مع منظمة الطيران المدني في دراسة أفضل الوسائل لمكافحة هذه الجرائم، واقتراح طرق ووسائل الوقاية منها.
ب-وفي مجال مكافحة جرائم الاتجار في المخدرات. تقوم منظمة الأنتربول بإصدار نشرات وإحصائيات شهرية، تتناول فيها الدول التي تنتشر فيها هذه التجارة. والأماكن التي تصنع فيها المخدرات بقصد الاتجار بها، مع كشف الحيل والطرق التي يلجا إليها المهربون.
أضف إلى ذلك أن الأنتربول يشارك في الجهود المبذولة على الصعيد الدولي. والتي تستهدف التصدي لظاهرة الاجرام الدولية وتنقسم هذه المشاركة عن طريق الدعوة إلى النداوات أو تنظيم المؤتمرات لبحث مشاكل الجريمة وأسبابها وأفضل الوسائل لمكافحتها. كما أنها تصدر مجلة علمية متخصصة لزيادة الوعي بين رجال الشرطة وعمل دوريات لهم لرفع مستوى أدائهم.

ثالثا: صور التدخل
تتخذ صور تدخل المنظمة الدولية للشرطة الجنائية في مجال مكافحة الجرائم الدولية عدة مجالات:
مجال تسليم المجرمين.
مجال مكافحة الإخلال بأمن وسلامة الطيران المدني الدولي.
مجال مكافحة المخدرات.
مجال مكافحة الآداب العامة.
5-مجال مكافحة جرائم تزييف العملة.
في مجال مكافحة الجرائم الأخرى([46])
إلا أننا سنقتصر على دراسة الثلاث مجالات الأخيرة.

1-مجال مكافحة المخدرات.
يعتبر القسم المختص في مكافحة المخدرات([47]) وذلك من خلال ما يصدره من نشرات وإحصائيات شهرية يناول فيها الدول التي تنتشر فيها هذه التجارة والوسائل والطرق التي يتبعها ممارسها، وأماكن المصانع السرية التي تصنع فيها المخدرات بقصد الاتجار فيها الأمر الذي يكون له أهمية في مكافحة هذا النوع من التجارة غير المشروعة.

2-مجال مكافحة جرائم الآداب العامة.
وعلى هذا المستوى تقوم المنظمة بدور هام وفعال في مكافحة جرائم الاتجار بالرقيق الأبيض، ومكافحة القوادة، والاتجار في مطبوعات الفحش والدعارة. وذلك عن طريق تجميع المعلومات والبيانات المتعلقة بالأشخاص ممارسي هذا النوع من التجارة وتبادل تلك المعلومات ونشرها من خلال المكاتب المركزية الوطنية للشرطة الجنائية الدولية في الدول أعضاء الأنتربول، الأمر الذي سيسهل مكافحة تلك الفئة من الجرائم.

3-مجال مكافحة جرائم تزييف العملة
تلعب المنظمة دور ديناميكي في مكافحة جرائم تزييف العملة، وذلك من خلال جميع المعلومات عن العملات المزيفة، وإرسال عينات منها لمعامل الأنتربول وقسم خبراء التزييف والتزوير التابع للمنظمة والموجود بلاهاي، لمعرفة كيفية التزييف ووسائله والدول التي تنتشر فيها هذه الظاهرة.
وترسل هذه المعلومات للمكاتب المركزية الوطنية في الدول الأعضاء، كذلك تصدر الأمانة العامة للأنتربول محله التزييف. بها كافة المعلومات المتعلقة بتزييف العملة. وللمكاتب الوطنية للشرطة الجنائية الدولية دورها في مكافحة تلك الجرائم، وذلك عن طريق قيامها بأخطار البنوك. والمعارف بأوصاف ومميزات وأرقام العملات والشيكات السياحية المزيفة لتحذيرها من صرفها والتعامل معها.

المطلب الثاني: المحكمة الجنائية الدولية.

في مساء 17 يوليوز سنة 1998 تمت الاستجابة لمطلب إنشاء محكمة جنائية دولية([48]) حيث تبنى مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في روما نظامها الأساسي والذي يعقد لها الاختصاص على الأشخاص الذين يرتكبون جرائم دولية، ودخل حيز النفاذ كمعاهدة جماعية ملزمة للأطراف وفقا لنص المادة 126 من الميثاق في الأول من يوليوز عام 2002([49]).

أولا: إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة.

لقد عرفت فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة كدعامة أساسية في حلقة التعاون الجنائي الدولي. عدة نقاشات وذلك بين مؤيد ومعارض ولكل فريقين حججه وأدلة يستند عليها.

أ-الاتجاه المعارض لإنشاء المحكمة:

يستند أصحاب الرأي المعارض لإنشاء محكمة جنائية على حجج عديدة منها أن وجود هذه المحكمة يتنافى ومبدأ إقليمية القانون الجنائي وبالتالي فإن المحكمة هي انتقاص من مبدأ السيادة الوطنية للدول.
وهذه الحجة إذا كانت مبنية على مبدأ هام من مبادئ القانون الدولي، إلا أن مبدأ إقليمية القانون الجنائي ليس بالمبدأ المطلق الذي لا يقبل الاستناد في التطبيق، فقد تبين لنا أن الدول تؤسس إختصاصها الجنائي بما يتيح لها ممارسة استثناءات عديدة في هذا الموضوع. فهناك دول تمنح لنفسها الحق في محاكمة رعاياها في حالة ارتكابهم جريمة في الخارج. وهناك دول أخرى تمد نطاق قوانين الجنائية لحماية مصالحها الحيوية في الخارج، يصرف النظر عن مكان وجنسية مرتكب الجريمة، وأكثر الدول تجرى العمل بها على عدم تسليم مواطنيها الذين يرتكبون تكون خارج إقليمها. فإذا كانت الدول قد اعترفت بهذه الاستثناءات المتعددة لمبدأ الاختصاص الجنائي الإقليمي، فمن الممكن كذلك أن تعترف بصلاحية محكمة دولية جنائية كاستثناء آخر لقاعدة الإقليمية، خاصة إذا كان هذا الاستثناء يحقق المصلحة الدولية المشتركة ويعمل على تثبيت دعائم التعاون الدولي([50]) .
إن مصادقة الدول على الاتفاقيات والمعاهدات التي تحظر الجرائم الدولية والتي تضفي على بعض الأفعال صفة الجرائم الدولية ليس له إلا معنى واحد هو أن تلك الدول اعترفت بمسؤوليات دولية للأفراد. تتعدى الواجبات والالتزامات المحلية المفروضة عليهم من قبل الدول ذاتها ومن طبيعة الانتهاكات الجسيمة للأفعال المحظورة في تلك الاتفاقيات أن تقع تحت الاختصاص الدولي الجنائي.

أما الحجة الثانية تتجلى في أن التوصل إلى اتفاق بين الحكومات لإنشاء محكمة جنائية دولية يكاد يكون مستحيلا. حيث تقف الخلافات السياسية، وبعض المسائل والأمور الفنية الأخرى عائق يمنع من الاعتراف لتلك المحكمة بالاختصاص الجنائي الدولي. خاصة وان الدول ليست مجبرة على قبول صلاحيات تلك المحكمة للنظر في مسائل تعتبر من صميم السلطان الداخلي للدول استنادا لنص الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة.

ورغم صحة القول بأن إنشاء محكمة جنائية دولية هي مسألة فنية دقيقة. إلا أنها لا تعتبر أكثر تعقيدا عما كانت عليه إنشاء أجهزة دولية مشابهة، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. أما الاحتجاج بنص الفقرة السابعة من المادة الثانية فإن المحكمة سوف يناط بها اختصاص النظر في الجرائم الدولية وبالتالي فإنه بحكم طبيعتها فإنها تعتبر مسائل دولية وخارجة عن نطاق السلطان الداخلي للدول، هذا بالإضافة إلى إمكانية تحديد اختصاص المحكمة بوضوح، وذلك عن طريق النص في نظامها الأساسي بمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب أفعال تمثل انتهاكا لأحكام القانون الدولي فقط. أما الجرائم الأخرى التي ليست لها هذه الصفة. فإنها تعتبر خارج نطاق صلاحيات الحكمة المقترحة. وبالتالي تظل داخله في اختصاص المحاكم الوطنية.

أما الثالثة والتي يتضمنها الرأي المعارض للإنشاء محكمة جنائية دولية، هو أن هذه المحكمة تشكل خطرا على الحريات الأساسية للأفراد واستنادا إلى ذلك فقد قيل بأن الو.م أ-مثلا-لا يمكن أن تعترف بصلاحية المحكمة الدولية لمحاكمة الأمركيين عن جرائم غير منصوص عليها في القانون الأمريكي. كما أنه من الصعب أن تتنازع المحاكم الأمريكية من بعض صلاحيتها الدولية لمحاكمة أشخاص متهمين بارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون الأمريكي، ففي كلا الحالتين فإن الأمر سوف يتعارض مع الدستور الأمريكي والمنطق الذي بني عليه هذا الرأي يهدم القانون الجنائي الدولي من أساسه. ذلك القانون الذي يؤكد على أن الكل يرتكب فعلا يمثل جريمة دولية يتعين أن يتحمل تبعة المسؤولية الشخصية عن هذاالفعل، بصرف النظر عن جنسيته أو مكان ارتكاب جريمة أو عدم تجريم هذا الفعل في قانون دولته([51]).

ومع ذلك فإن الضمانات القانونية لحماية حقوق المتهمين والحرص على محاكمتهم محاكمة عادلة. يمكن النص عليها في النظام الأساسي للمحكمة، بما يتفق مع النظم القضائية المتقدمة. وبما لا يسمح بتجاهل الحقوق الأساسية والدستورية لرعايا الدول المتهمين أثناء محاكمتهم أمام المحكمة.
هذه كانت الحجج التي يقوم بها أصحاب الرأي المعارض لفكرة إنشاء محكمة دولية جنائية دائمة، وهذه الحجج كما رأينا غير مبنية على اعتبارات موضوعية أساسية. كما أنها ليست من القوة بحيث يمكن أن تحول دون إنشاء هذه المحكمة، فضلا عن ذلك، فإن هناك من الآراء المؤيدة لإنشاء المحكمة ما يعتبر مقنعا ومنطقيا. ويتفق مع فكرة التعاون الدولي والقانون الدولي.

ب-الآراء المؤيدة لإنشاء المحكمة.

تنصب الآراء المؤيدة لإنشاء محكمة جنائية دائمة “إلى القول بأن أي نظام قانوني جنائي، لابد وان يستهدف بالدرجة الأولى التأكيد على أن منتهكي أحكام هذا النظام يتحملون مسؤولية الجرائم التي يرتكبونها بعد محاكمة عادلة. وقد جاء النص على هذا المبدأ ضمن المبادئ المستخلصة من الأحكام التي أصدرتها المحكمة العسكرية الدولية بنورمبرج، على أساس «أن كل شخص يرتكب أو يشترك في ارتكاب –فعلا يعد جريمة طبقا للقانون الدولي يكون مسؤولا ومستحقا للعقاب». وهذا المبدأ يمثل تحولا جدريا في نظام القانون الدولي. ومن ثم فمن الواجب وضعه موضع التنفيذ عن طريق إنشاء قضاء جنائي دولي يكون مختصا بالمحكمة والعقاب علم الجرائم الدولية.

وتضيف الآراء المؤيدة حجةأخرى مفادها أن النظام الدولي تطور في ظل منظمة الأمم المتحدة تطورا جذريا يقوم على معايير واضحة ومؤسسة تأسيسا جيدا. غير أن تطبيق تلك المعايير ما زال يواجه عجزا بسبب غياب الآليات الدولية المناسبة، ومن ثم فما زال المجتمع الدولي يعاني من ارتكاب جرائم عديدة وقت الحرب ووقت السلم على السواء، ولكي يمكن تدارك الخلل في النظام الدولي، فمن الواجب إنشاء محكمة دولية جنائية تختص بمحاكمة الجرائم الدولية أو ذات الصفة الدولية([52]).

والحجة الأخرى لإنشاء محكمة وهي أن ترك المحاكم الوطنية لمحاكمة المتهمين بجرائم دولية يمكن أن يؤدي إلى صدور أحكام متناقضة، وعقوبات مختلفة في قضايا متشابهة الأمر الذي يقف حائلا دون تطور التعاون الجنائي الدولي، ويحد من فعاليته دون إيجاد سوابق وأحكام قضائية مستقرة يمكن الرجوع إليها.

ويستند أيضا أصحاب هذا الإتجاه على حجة أخرى وهي ضرورة إنشاء محكمة دولية جنائية دائمة لان البديل –في حالة عدم وجود هذه المحكمة – أن يظل محاكمة الجرائم الدولية. خاصة جرائم العدوان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ممكنة فقط في حالة انتصار من جانب والهزيمة من الجانب الآخر. ففي هذه الحالة فقط تستطيع الدول المنتصرة تشكيل محاكم خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب([53]).

أما الحجة الأخيرة تقوم على أساس أن وجود المحكمة الجنائية الدولية سوف يساعد على تطبيق أحكام القانون الدولي بفاعلية ودون تغير، مما يضفي على هذه الأحكام واجب الاحترام والالتزام. وهذا بدوره يمكن أن يساهم في تعليل ارتكاب الجرائم الدولية. وتهيئة الظروف لخلق المجتمع الدولي الآمن القائم على التعاون.
وبالفعل، رغم ما قيل حول مدى إنشاء محكمة جنائية دولية، فقد أنشأت عقب مؤتمر روما الذي أسس لنظامها الأساسي 1998 الذي يعقد لها الاختصاص على الأشخاص الذين يرتكبون جرائم دولية.ودخل حيز النفاذ كمعاهدة جماعية ملزمة للأطراف وفقا لنص المادة 126 من هذا الميثاق في الأول من يوليوز 2002.

ثانيا:مدى فاعلية المحكمة الجنائية الدولية.

استنادا إلى الفقرة 10 من ديباجة اتفاق روما والمادة الأولى منه فإن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مكمل للولايات الجنائية الوطنية([54]) أي أن الأولوية في انعقاد الاختصاص للنظر في الجرائم الدولية يكون للقضاء الجنائي الدولي ولا تحل المحكمة الجنائية الدولية بصفة مطلقة محل القضاء الوطني في هذا الخصوص والدليل على ذلك الفقرة السادسة من الديباجة التي تؤكد على أن من واجب كل دولة أن تمارس ولايتها القضائية على أولئك المسؤولين عن ارتكاب جرائم دولية([55]).
لكن هاته القاعدة ليست مطلقة، حيث يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تمارس اختصاصها في الجرائم في حالتين:
الأولى: عدم رغبة القضاء الجنائي الوطني في مقاضاة المسؤولين في الجرائم.
الثانية: عجز النظام الجنائي عن القيام بدوره في محاكمة المتهمين.
وهذا ما نصت عليه المادة 17 من النظام الأساسي للمحكمة الذي يعطي لها سلطة تقدير توافر هاتين الحالتين مع مراعاة واحد أو أكثر من الأمور التالية:

تبين أن الإجراءات التي اتخذها القضاء الوطني كانت تهدف إلى حماية الشخص المعني من المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة.

إذا حدث تأخير لا مبرر له في الإجراءات يستنتج منه عدم اتجاه النية إلى تقديم الشخص المعني للعدالة.
إذا لم تباشر الإجراءات أو لم يتم مباشرتها بشكل مستقل أو نزيه أو كانت مباشرتها على نحو تتعارض معه نية تقديم الشخص المعني للعدالة([56]).

إلا أن هذا الاختصاص التكميلي يعرقل من تطور التعاون الجنائي الدولي وبالتالي يجب اعتماد اختصاص وحيد للمحكمة الجنائية الدولية والشامل لكل دول العالم لاسيما أن نكون دائما اما جريمة وإن كانت قد تبدو في بعض الأحيان أو غالبيتها جريمة داخلية أو وطنية، وهي في حقيقتها جريمة دولية. وفي هذا المقام نشير إلى جهود فقهاء القانون الدولي في سبيل تمهيد الطريق أمام الاختصاص القضائي الجنائي الدولي لاسيما بعدما أوضحوا أن هناك جرائم دولية أو جرائم متجاوزة للحدود الإقليمية للدولة بطبيعتها أو جرائم يجهل معرفة مكان ارتكابها أو جرائم يتنازع الاختصاص القضائي حولها بين دولتين أو أكثر، وجرائم تتنازع الأحكام الجنائية حولها([57]).

وزيادة على ذلك يجب توسيع نطاق اختصاص المحكمة الموضوعي ليشمل عدة جرائم كالإرهاب والاتجار بالمخدرات واتفاقيات مناهضة التعذيب إضافة إلى تمكين المحكمة من ممارسة اختصاصها على جريمة العدوان([58]).

ومما يزيد من عرقلة وتفعيل التعاون الجنائي الدولي موقف بعض الدول من هاته المحكمة وممثلة في عدم مصادقة العديد من الدول على نظامها الأساسي([59]).
وما يستوجب تكريس مبدأ التضامن الدولي في إطار ترسيخ فكرة الجماعات الدولية حتى لا يفسح المجال للتهرب من تعاون الدول في تعقب واعتقال وتسليم مرتكبي الجرائم الدولية مع ضرورة حث الدول على إصلاح أنظمتها القضائية الجنائية وجعلها ملائمة لاحترام حقوق الإنسان وتوفير عدالة جنائية بمقاييس عالمية.

خاتمـــــــــــــــــــة :

وفي الختام نشيد بما وصل إليه التعاون الجنائي الدولي في مختلف المجالات المذكورة، لكنه من اللازم تبني تصور جديد لهذا التعاون يتماشى مع ما وصل إليه الإجرام من تطور وخطوة على المجتمع الدولي مثل جرائم الإرهاب، جرائم تبييض الأموال، جرائم المعلوميات (السيبيرية) …, ولن يتبلور هذا التصور إلا بتحيين الاتفاقيات الدولية سواء الجماعية أو الثانوية وإضافة الصفة الإلزامية عليها كل هذا رهين بالإرادة السياسية الأخلاقية للمجتمع الدولي.