رقابة الامتناع على دستورية القوانين و موقف القضاء الاردني

اعادة نشر بواسطة محاماة نت

هاني علي الطهراوي

ملخص

يهدف هذا البحث إلى التعريف برقابة الإمتناع كوسيلة يلجأ إليها القضاء لبسط رقابته على دستورية القوانين في الدول التي تخلو دساتيرها من نص يعالج هذه المسألة ، ولهذا الموضوع أهميته لضمان إحترام مبدأ سمو الدستور و إلزام السلطة التشريعية بالتقيد بقواعده و عدم الخروج على أحكامه فيما تسنه من قوانين و قد إعتمدنا أسلوب الراسة المقارنه لموقف القضاء الأمريكي لكونه سباقا في إبتكار هذا النوع من أنواع الرقابة على دستورية القوانين ، كما عرضنا لموقف القضاء الأردني العادي و الإداري ، بتحليل أهم الأحكام الصادرة عنه في هذا المجال و إلى أنه قد سلك هذا الطريق بعد تردد ، ممثلا بأعلى محكمتين. و إنتهينا إلى تقدير الخطوة التي إتخذها المشرع الأردني في قانون محكمة العدل العليا رقم (12) لسنة 1992 بإجازته الطعن مباشرة بدستورية القوانين المؤقتة و بطريق غير مباشر بدستورية القوانين العادية لكنها مع ذلك غير كافية لتحقيق الرقابة المنشودة ، لذا فمن الضروري قيام المشرع الدستوري بالنص على إنشاء محكمة دستورية تختص برقابة دستورية التشريعات كافه ، مهما إختلفت مسمياتها في القانون الأردني.

المقدمة

من المبادىء الدستورية المتفق عليها لدى الفقه والقضاء المقارن، مبدأ سمو الدستور، اي علو قواعده وسيادتها على سائر القواعد القانونية الأخرى( ). ومرد ذلك ان الدستور هو الذي ينشىء السلطات العامة في الدولة، ويجدد اختصاصاتها، ويبين حقوق الأفراد وحرياتهم وضماناتها. لذا يقع على هذه السلطات واجب الالتزام بنصوص الدستور واحكامه فيما يصدر عنها من اعمال، وإلا عدت اعمالها غير مشروعة( ).
وبالتحديد فإن الذي يعنينا في هذا المقام هو السلطة التشريعية و ضرورة احترامها للدستور و تقيدها بقواعده خلال قيامها بإختصاصها الأصيل في سن القوانين. فكيف يمكن التحقق من ذلك؟ وما مصير القانون المخالف للدستور؟ وهل تثور هذه المشكلة في جميع انواع الدساتير؟ يفرق الفقه( ) بين نوعين من الدساتير على اساس الاجراءات المتبعة في تعديلها: الدساتير المرنة، والدساتير الجامدة.
فالدستور المرن: هو الذي يمكن تعديل قواعده بنفس الاجراءات المتبعة لتعديل القوانين العادية، وفي هذه الحالة لا تثور مشكلة الرقابة على دستورية القوانين لأن المشرع يستطيع تعديل الدستور بقانون عادي، ومثال ذلك الدستور الانجليزي( ).

اما الدستور الجامد: فهو الذي يشترط لتعديله اتباع اشكال مغايرة واجراءات مشددة، تختلف عن تلك الاجراءات اللازمة لتعديل القوانين العادية( ). و هذا هو الأسلوب المتبع في معظم دساتير الدول، ومنها الدستور الأمريكي والفرنسي والمصري والأردني.
نخلص من ذلك الى أن مشكلة الرقابة على دستورية القوانين لا تبرز ولا تمارس إلا في الدول ذات الدساتير الجامدة ففي هذا النوع من الدساتير ليس بمقدور القانون العادي تعديل او مخالفة النص الدستوري. وتزداد الخطورة إذا كان مثل هذا القانون يعيق أو يوقف ممارسة الحقوق والحريات التي كفلها الدستور.
لذا يتركز البحث على كيفية إلزام السلطة التشريعية بإحترام الدستور وعدم الخروج على أحكامه فيما تسنه من تشريعات. وهنا يبرز التساؤل عن الوسيلة الناجمة للقيام بهذه المهمة، وما هي السبل التي يمكن اتباعها لكفالة التزام المشرع العادي بأحكام الدستور؟.
للقيام بهذه المهمة لا بد من وجود جهاز او هيئة تتولى فحص القوانين للتأكد من مطابقتها للمبادىء والقواعد الدستورية.
ويبدو الأمر اكثر يسرا في الدول التي تنص دساتيرها على طريقة معينة لممارسة هذه الرقابة، فقد يعهد الدستور بهذه المهمة الى هيئة الرقابة، فقد يعهد الدستور بهذه المهمة الى هيئة سياسية كما هو الحال في فرنسا والمغرب وعدد من دول أوروبا الشرقية.
حيث يتولى المجلس الدستوري في فرنسا فحص دستورية القوانين التي تحال إليه من الجهات الرسمية قبل إصدارها، فإذا قرر عدم دستوريتها ترتب على ذلك عدم اصدارها( ).
ولا شك ان هذا النوع من الرقابة يتأثر بالقوى السياسية القائمة في هذه الدول، ولا يحقق رقابة فعالة( ).
بينما تناط هذه الرقابة في دول أخرى بالسلطة القضائية و غالبا ما يحدد الدستور محكمة معينة تختص بذلك يخولها الحكم بإلغاء القوانين المخالفة للدستور، سواء أكان ذلك عن طريق دعوى أصلية مبتدأة، أم عن طريق الدفع الذي يتقدم به أحد الخصوم في دعوى منظورة أمام القضاء بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة، و هنا توقف المحكمة الفصل في النزاع و تحيل موضوع الدستورية إلى المحكمة المختصة( )، كما هو الحال في الدستور المصري الذي نص في المادة (175) منه على إسناد هذه المهمة إلى المحكمة الدستورية العليا. وتمتاز الرقابة القضائية بما تحققه من ضمانات الحيدة والنزاهة وتوافر الخبرة والتخصص القانوني للقضاة، وبعدهم عن التيارات الحزبية والسياسية( ).

لكن مشكلة الرقابة على دستورية القوانين تثور وتصبح أكثر صعوبة في الدول التي صمتت دساتيرها عن تحديد طريقة معينة لمواجهة هذه المعضلة ومنها أمريكا والأردن.
و هكذا تبدو لنا أهمية هذه الدراسة من خلال معرفتنا للمقصود برقابة الامتناع على دستورية القوانين وكيفية نشأتها، ثم اطلاعنا على موقف القضاء الأردني العادي والاداري وأسلوب مواجهته لهذا التحدي، والمدى الذي وصل إليه من حيث انسجامه مع السبل التي انتهجها القضاء المقارن.
لذا سنقسم دراستنا لهذا الموضوع على النحو الآتي:

المبحث الأول : ماهية رقابة الامتناع.
المبحث الثاني : رقابة القضاء العادي الأردني لدستورية القوانين.
المبحث الثالث : رقابة القضاء الاداري الأردني لدستورية القوانين.
المبحث الرابع : أسلوب الرقابة على دستورية القوانين.

بموجب قانون محكمة العدل العليا رقم (12) لسنة 1992.

المبحث الأول: ماهية رقابة الامتناع
تعتبر رقابة الامتناع من إبداع القضاء في الولايات المتحدة، نظرا لخلو الدستور الأمريكي من نص يخوله الاختصاص بالرقابة على دستورية القوانين الاتحادية. مما يستدعي التعريف بها، وبيان الأسباب الممهدة لنشأتها، و موقف المحكمة الاتحادية العليا في الاقرار بها وإرساء قواعدها.

التعريف برقابة الامتناع:
تفترض هذه الطريقة أن هناك دعوى مقامة لدى القضاء أيا كان موضوعها، فقد يكون النزاع مطروحا أمام محكمة جنائية أو حقوقية أو ادارية، فيدفع أحد الخصوم بعدم دستورية القانون الذي سيفصل في النزاع سندا إليه، مطالبا بعدم تطبيقه. فإذا أقره القاضي على طلبه و حجته فإنه يمتنع عن تطبيق ذلك القانون دون أن يحكم بإلغائه أو بطلانه( ).
وعليه يمكن تعريف رقابة الامتناع بأنها: طريقة دفاعية يلجأ إليها صاحب الشأن المضرر من تطبيق قانون معين، أثناء نظر دعوى أمام القضاء، طالبا استبعاد تطبيق هذا القانون لمخالفته للدستور( ).
ويحدث اللجوء الى هذا الأسلوب في حالة سكوت الدستور عن تنظيم موضع الرقابة على دستورية القوانين، فهو لا يحتاج إلى نص دستوري يقرره( )، لأنه يتصل بطبيعة عمل القاضي حينما يدفع المدعى عليه بعدم دستورية قانون معين، فإن من واجب القاضي أن يتحرى عن صحة هذا الدفع، فإذا تبين له أن القانون متفق مع أحكام الدستور قضى بتطبيقه، أما إذا تأكد من جدية الدفع ومخالفة القانون للقواعد الدستورية، فعليه أن يرجح كفة الدستور بإعتباره التشريع الأعلى مقررا الامتناع عن تطبيق هذا القانون في القضية المطروحة( ).
وبما أن الحكم يقتصر فقط على الامتناع عن تطبيق القانون لتعارضه مع أحكام الدستور، كما أنه ذو حجية نسبية، إذ يقتصر أثره على أطراف الدعوى فقط، فإن هذا القانون يبقى قائما و موجودا، و يمكن للمحاكم الأخرى أن تطبقه إذا لم يدفع بعدم دستوريته أمامها، أو إذا قررت هذه المحاكم دستوريته( ). وعليه فإن من المحتمل أن تتضارب الأحكام الصادرة عن المحاكم بأنواعها، ولكن الملاحظ من الناحية العملية أن صدور الحكم بالامتناع عن تطبيق قانون ما لعدم دستوريته من محكمة عليا يقيد سائر المحاكم على اختلاف درجاتها، ويكون سببا في شل تطبيق ذلك القانون( ).

الأسباب الممهدة لنشأة رقابة الامتناع:
كانت البداية لظهور هذه الطريقة في الولايات المتحدة الأمريكية، فهي المهد الذي نشأت وترعرعت في ربوعه الرقابة على دستورية القوانين( ) وقد مهد لذلك عدد من العوامل الرئيسية، من أهمها:

أولا: الشكل الاتحادي للدولة
من المعلوم أن الولايات المتحدة تتكون من مجموعة ولايات كان عددها عند نشأة الاتحاد ووضع الدستور الاتحادي ثلاث عشرة ولاية، وأخذ هذا العدد بالتزايد حتى تجاوز الخمسين ولاية في الوقت الراهن، لهذا نص الدستور الاتحادي على توزيع السلطات والاختصاصات بين الدولة الاتحادية والولايات، فلكل منها دستورها وسلطاتها العامة التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويصبح هذا التوزيع الدستوري مجردا من قيمته وغايته في إقامة التوازن بين طرفي المعادلة إذا خالفت أيا من السلطات العامة اختصاصاتها سواء في الدولة الاتحادية أو الولايات. ومقتضى ذلك ضرورة قيام جهة معينة، للتأكد من اتفاق أعمال هذه السلطات مع النصوص الدستورية الاتحادية وخاصة في المجال التشريعي.
والملاحظ أن الدستور الاتحادي قد وضع حلا جزئيا لهذه المعضلة وذلك فيما يتعلق بعدم تعارض دساتير الولايات و قوانينها مع دستور الاتحاد أو قوانينه، وسطر هذا الحل في المادة السادسة منه: ” يكون هذا الدستور و قوانين الولايات المتحدة التي ستوضع بموجبه و جميع المعاهدات المبرمة أو التي ستبرم بموافقة الولايات المتحدة، القانون الأعلى للبلاد، ويلتزم بها القضاة في كل ولاية بصرف النظر عما يرد خلاف ذلك في دستور أو قوانين أية ولاية “( ).
ولكن من الزاوية الأخرى فإن هذا الدستور لم ينص على الحل الذي يمكن اتباعه إذا تجاوزت السلطات الاتحادية حدود اختصاصاتها التي رسمها الدستور واعتدت على الاختصاصات المقررة لسلطات الولايات.
ويعلق الفقيه الفرنسي موريس دوفرجيه على ذلك بقوله:
لقد توسعت وتطورت فكرة الدستورية أولا في الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب بنيتها الاتحادية، لذا حاولت الولايات الأعضاء في الدولة الاتحادية أن تحمي نفسها من تجاوزات الكونجرس على استقلاليتها، ومن هنا نشأت قاعدة أن أعمال الكونجرس ومن ضمنها القوانين يجب أن تخضع وتمتثل للدستور( ).

ثانيا: بعض الأحكام الصادرة عن محاكم الولايات قبل قيام الدولة الاتحادية
كالحكم الصادر عن محكمة ولاية نيوجرسي في قضية هولمز سنة 1780
(Holmes V.Walton) ويتلخص بعدم دستورية قانون ينص على تكوين هيئة محلفين من ستة اعضاء مما يخالف قاعدة دستورية عرفية مستقرة بتشكيلها من اثني عشر عضوا( ).
والحكم الصادر عن محمكة ولاية رود أيلاند في قضية تريفت سنة 1786 (Trivet V.Weedeen) ، والمتعلق برفض المحكمة تطبيق قانون يجعل من بعض أنواع النقود عملة إلزامية، لأنه يخالف دستور الولاية( ).
وأخيرا الحكم الصادر عن المحكمة العليا لولاية كارولينا الشمالية في قضية بيرد سنة 1787 (Bayard V. Singleton) حيث قضت بعدم دستورية قانون يجيز شراء ملكية عقارات مصادرة بخلاف ما يقضي به الدستور ( ).
ويعلق بعض الفقه على هذه الأحكام بقوله:
كان رفض بعض المحاكم تطبيق القانون بحجة مخالفته لدستور الولاية، مثارا لسخط أهاليها، فلم يجددوا انتخاب القضاة، فتهيبت المحاكم وكفت عن التصدي لهذه المسألة إلى أن أنشئت المحكمة الاتحادية العليا( ).

موقف المحكمة الاتحادية العليا وآثاره:
يمكن القول بأن الأسباب الآنفة الذكر قد ساهمت في تهيئة المناخ المناسب لنشأة مبدأ الرقابة على دستورية القوانين وذيوعه، إثر الحكم الشهير الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العليا برئاسة القاضي مارشال Marshal.
ونظرا لأهمية هذا الحكم وأثره البالغ في وضع الأسس لرقابة الامتناع، سنخصه بشيء من التفصيل:

– قضية ماربوري ضد مايسون سنة 1803( ). (1803) Marbury V. Madison تتلخص وقائع هذه القضية بقيام الاتحاديين في نهاية فترة الرئيس آدمز Adams ، بإصدار عدد من القرارات تتعلق بتعيين قضاة لبعض المحاكم. إلا أن الوزير المعني لم يتمكن من تسليم بعض هذه القرارات لأصحابها، بسبب الظروف والملابسات الصعبة التي واكبت انتهاء مدة ولاية الرئيس الذي لم يتمكن من تصديق تلك القرارات إلا في الساعات الأخيرة لولايته. ومنها تعيين ماربوري Marbury و ثلاثة آخرين، وعلى أثر فوز الرئيس توماس جيفرسون Thomas Jefferson و هو من الجمهوريين، عين ماديسون Madsion وزيرا في حكومته، فرفض تسليم ماربوري وزملائه قرارات تعيينهم محتجا بالسلطة التقديرية التي تتمتع بها الادارة.
لجأ ماربوري إلى المحكمة العليا مطالبا إياها بإصدار أمر قضائي للوزير ماديسون يقضي بتسليمه قرار تعيينه. وفي هذا المأزق الحرج تجلت براعة المحكمة برئاسة القاضي مارشال حيث قضيت لماربوري بأحقيته في التعيين لكنها لم تصدر أمرا للوزير ماديسون لتسليمه نسخة من القرار، لعدم دستورية القانون الذي يخولها سلطة اصدار الأوامر، وهكذا امتنعت المحكمة عن تطبيق مضمون هذا القانون. ومما جاء في حيثيات هذا الحكم:
“كل من يضع دستورا مكتوبا جامدا إنما يهدف ولا شك أن يجعله القانون الأسمى للأمة وحيث يتنازع التطبيق في قضية ما القانون والدستور يكون من واجب المحكمة أن تقرر أيهما الذي يسري، وطالما أن الدستور أسمى من أي قانون عادي فهو الذي يجب أن يطبق”.
وتبدو أهمية هذا الحكم في إقراره للقضاء بحقه في رقابة دستورية القوانين، وقد استندت المحكمة العليا في تبرير ذلك الى مبدأين أساسين( ):
الأول: سمو الدستور الجامد على القوانين ،
الثاني: طبيعة وجوهر وظيفة القضاء. أما بالنسبة للمبدأ الأول فتقرره المحكمة أضافة إلى ما ورد في الفقرة السابقة من حكمها، بقولها:
وآية ذلك أن الدستور هو القانون الأساسي المنظم للسلطات الثلاث والتي يجب عليها أن تمارس اختصاصاتها في الحدود التي أقرها الشعب صاحب السيادة، فإذا تجاوزت السلطة التشريعية حدود اختصاصها الدستوري وسنت قانونا مخالفا للدستور، فإن مقتضى مبدأ تدرج القواعد القانونية يوجب تغليب القانون الدستوري واتباع حكمه، وإهمال القانون العادي المخالف له وطرحه جانبا.
وتبرر المحكمة المبدأ الثاني أي قيام القضاء بهذه الرقابة استنادا لوظيفته بقولها:
ان رفض السلطة القضائية تطبيق قانون مخالف للدستور لا يمثل اعتداء على اختصاص السلطة التشريعية، لأن الأمر لا يخرج عن ممارسة السلطة القضائية لوظيفتها واختصاصها بحل المعضلة القانونية الناجمة عن تعارض القوانين الدستورية والعادية في النزاع المطروح عليها.
ورغم أن قضاء المحاكم الأمريكية هو مجرد قضاء امتناع إلا أن أثره يزداد قوة من الناحية الواقعية استنادا الى نظام السوابق القضائية حيث تتقيد كل محكمة بالحكم الذي تصدره كما تتقيد به المحكمة التي في درجتها والمحاكم الأدنى منها درجة. لذا فإن الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية العليا بإعتبارها أعلى محكمة والقاضي بعدم دستورية قانون يلزمها، كما تتقيد به سائر المحاكم الاتحادية و محاكم الولايات.
وقد توسعت المحكمة الاتحادية العليا و أسرفت في رقابتها لدستورية القوانين. ولعل من أبرز العوامل التي شجعتها على هذه المغالاة صياغة الدستور الأمريكي حيث كان في بداية عهده قاصرا عن استيعاب كثير من الأحكام الجوهرية، وكانت المحكمة تدرك ما فيه من نقص فأحلت تقديرها محل تقدير المشروع الدستوري وابتدعت شتى المعايير وتذرعت بما اعتبرته روح الدستور لتستبعد تطبيق القوانين التي لا تراها بحسب تقديرها ملائمة لظروف ومصالح المجتمع. مما حمل العديد من الفقهاء على نقد هذا التوسع ووصف هذه المحكمة بأوصاف لاذعة مثل حكومة القضاة( ) government by judges، والتشريع المقنع covert legislation أو المجلس التشريعي الثالث( ).
وقد بلغ تمادي المحكمة ذروته عندما وقفت في وجه القوانين الاصلاحية التي سنها الكونغرس تنفيذا لبرنامج الانعاش الاقتصادي الذي وضعه الرئيس فرانكلين روزفلت حيث قضت بعدم دستورية العديد من هذه القوانين بحجة مخالفتها لروح الدستور الاتحادي المتمسك بالمذهب الفردي في المجال الاقتصادي.
وهذا حدا بالرئيس روزفلت ومن بعده الرئيس ترومان الى التشكيك في مسلك المحكمة الاتحادية العليا ومحاولة الحد من سلطاتها. ونتيجة لهذه الضغوط وللظروف التي أحاطت بالمحكمة في هذه الفترة أصبح قضاؤها أكثر اعتدالا وواقعية( ).
وما زال القضاء الأمريكي يدافع بقوة عن مبدأ سمو الدستور وحماية نصوصه من تجاوزات السلطتين التنفيذية والتشريعية كما حدث في قضية الولايات المتحدة ضد نيكسون (1974)
United States v. Richard Nixon ( ).
ومن باب الانصاف فإن هذه المحكمة قد وضعت الأساس لمبدأ الرقابة على دستورية القوانين بطريق الامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، ثم مضت قدما في اشادة صرحه واعلاء بنيانه الى ان انتشر وذاع صيته، وبدأ القضاء المقارن يقتبس من معينها ويسير على نهجها، فبعد أن كان القضاء في كثير من الدول يرفض أو يتهيب من ممارسة سلطته في الرقابة على دستورية القوانين، بدأ تدريجيا يحذو حذو القضاء الأمريكي ويقر لنفسه هذا الحق، متأثرا بالحجج القوية التي استندت إليها المحكمة الاتحادية العليا.
ففي سنة 1890 أصدرت محكمة النرويج العليا حكما يؤيد هذا الاتجاه، وفي رومانيا طرح هذا الموضوع أمام محكمة افلوف (Iflov) في قضية شركة ترام بوخارست حيث دفعت الشركة بعدم دستورية القانون الصادر سنة 1911 الذي تذرعت به الحكومة في تلك الدعوى، وطالبت الحكومة بوجوب تطبيقه محتجة بأنه ليس للمحاكم أن تبحث في دستورية القوانين. فقضت المحكمة في حكمها الصادر سنة 1912 بحقها في ذلك مرتكزة الى الأسانيد الدامغة التي ذكرتها في معرض تسبيبها لحكمها، وتكاد تكون ذات الحجج التي استند اليها القضاء الأمريكي( ). وعلى هذا الطريق سار القضاء المصري في ظل دستور سنة 1923 نظرا لعدم وجود أي نصوص دستورية أو تشريعية تنظم حق القضاء في مراقبة دستورية القوانين( ).وقد حسمت محكمة القضاء الاداري تردد القضاء المصري في هذا المجال في حكمها الشهير الصادر بتاريخ 10 فبراير 1948، مقررة حق المحاكم في بحث دستورية القوانين، وصاغت أسانيدها بعبارات دقيقة محكمة مما جعل هذا الحكم من الأحكام الكبرى الشهيرة في تاريخ القضاء المصري، ومما جاء في حيثياته( ):
ومن حيث أنه ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم من التصدي لبحث دستورية القوانين سواء من ناحية الشكل أو الموضوع.
وقد قدمت هذه المحكمة تسبيبا رائعا لهذا الحكم يستند الى المفهوم السليم لمبدأ الفصل بين السلطات وضرورة احترام كل منها للمبادىء التي قررها الدستور حال قيامها بوظائفها، وإلى تحديد وظيفة المحاكم إزاء تعارض قانون عادي مع الدستور، بقولها:
فهي أي المحاكم تملك الفصل عند تعارض القوانين في أيها الواجب التطبيق إذ لايعدو أن يكون هذا التعارض صعوبة قانونية مما يتولد عن المنازعة فتشملها سلطة المحكمة في التقدير لأن قاضي الأصل هو قاضي الفرع.
ولا ريب بأن العبارات والحجج التي صاغتها محكمة القضاء الاداري تتطابق مع تلك الأدلة التي قررتها المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة الامريكية.
فما هو الموقف الذي اتخذه القضاء الأردني بشقيه العادي والاداري من رقابة الامتناع؟
وما مدى تأثره بموقف القضاء المقارن؟ هذا ما سنتولى الاجابة عنه في المباحث التالية.

المبحث الثاني: رقابة القضاء العادي الأردني لدستورية القوانين
لم يتعرض الدستور الأردني النافذ المفعول حاليا والصادر بتاريخ 8/1/1952 لموضوع الرقابة على دستورية القوانين، وكذلك كان موقف الدستورين السابقين القانون الأساسي لسنة 1928، ودستور سنة 1947، فقد خلت جميعها من أي نص بهذا الشأن، ولا هي منحت القضاء هذا الحق، ولا هي منعته من ذلك.
لذا ذهبت غالبية الفقه الأردني( ) إلى المناداة بضرورة قيام المحاكم على اختلاف درجاتها وأنواعها بهذه المهمة، وأداء دورها في الرقابة على الدستورية. ويبدو أن الاتجاه الذي كان سائدا لدى القضاء الأردني في ظل الدستورين السابقين هو عدم جواز تعرض المحاكم النظامية للبحث في دستورية القوانين ( ). ومن أقدم الأحكام التي طرقت هذا الموضوع واتخذت منه موقفا سلبيا ذلك الحكم الصادر عن محكمة استئناف عمان في القضية رقم 59 لسنة 1935 فقد جاء فيه:
من مقتضى مبدأ الفصل بين السلطات، منع السلطة القضائية من التعرض لدستورية القوانين، لأن السلطة القضائية قائمة لتطبيق القوانين التي تقرها السلطة التشريعية، وليس لها الحق بنقد هذه القوانين أو اهمالها( ).
وظاهر من عبارات الحكم أن المحكمة قد استندت الى مبدأ الفصل بين السلطات لتبرير موقفها المنكر للاقرار بحق القضاء في رقابة دستورية القوانين، وهي تفسر هذا المبدأ على أساس أن مهمة ووظيفة السلطة القضائية تنحصر في تطبيق القوانين فقط، ولا يجوز لها توجيه النقد لهذه القوانين أو إهمال تطبيقها، وإلا فإن تجاوزها لهذه الوظيفة يعتبر اعتداء وتدخلا في أعمال السلطة التشريعية. وهي نفس الحجة التي استند اليها الفقه المعارض لهذا النوع من الرقابة بادىء الأمر وخاصة في فرنسا( ).
وبمطالعة الأحكام الأولى الصادرة في فترة نفاذ الدستور الحالي لسنة 1952، نلاحظ أن محاكم البداية والاستئناف ذهبت إلى انكار حقها في مناقشة دستورية القوانين.
فقد عرضت محكمة بداية القدس لهذا الموضوع بمناسبة دفع أثير أمامها في القضية رقم 123/1952( ) يتعلق بمخالفة نص تشريع، في المنشور العسكري رقم 4 لسنة 1949، لأحكام الدستور، لتجاوزه الغايات المخصصة له و خروجه عن مقتضيات المحافظة على الأمن.
فقضت بأنه ” ليس من صلاحية المحكمة النظر في دستورية التشريعات أو القوانين “. وعندما استؤنف الحكم لدى محكمة استئناف القدس أكدت بوضوح على النتيجة التي توصلت إليها محكمة البداية، ومما ورد في حكمها( ):
والذي نراه بصدد هذه القضية، أن المادة السادسة من قانون الادارة العامة رقم 48/49 قد تضمنت الاقرار بشرعية جميع القوانين والأنظمة والأوامر التي أصدرها جلالة الملك أو الحاكم العسكري أو الحاكم الاداري، واعتبارها نافذة المفعول إطلاقا دون اي استثناء، ولهذا لا يجوز التعرض لشرعية هذه القوانين والأنظمة والأوامر طالما اقرها مجلس الأمة وصدقها جلالة الملك، وليس من حق محكمتنا مناقشة دستورية القوانين.
وبإستقراء العبارات التي تضمنها قرار المحكمة يتبين لنا أنها ترفض التعرض لشرعية القوانين والأنظمة والأوامر العسكرية، أو البحث في دستوريتها، لمجرد إقرارها من مجلس الأمة وتصديق الملك عليها. أي أنها تستند الى استيفائها للاجراءات الشكلية فقط. مع العلم بأن استكمال هذه الاجراءات أمر لا بد منه وإلا فلا وجود لمثل هذه التشريعات أصلا( )، وبهذا التبرير تغفل المحكمة النظر في مضمون القانون وفحوى التشريع، مع ان فحص ما اشتمل عليه القانون من أحكام والتأكد من مطابقتها أو مخالفتها لقواعد الدستور، هو جوهر الرقابة القضائية على دستورية التشريع أو القانون( ).
وفي المقابل فإن محكمة بداية عمان قد خرجت عن هذا الاتجاه وأقرت بحقها في رقابة الدستورية في القضية رقم 37/1953 وان كان موضوع الطعن متعلقا بصدور نظام يفرض رسوما جمركية بأثر رجعي، حيث نص في مادته الأولى على سريانه في الشهرين السابقين على نشره. ومما جاء في حيثيات حكمها( ):
في البلاد ذات الدستور المثبوت بالكتابة، أي الدستور الجامد يتحتم على المشرع أن يحترم القانون الدستوري، فإذا أخل نص تشريعي بنص دستوري فإن المحاكم المكلفة بتطبيق القوانين مضطرة الى الاختيار بين النصين، ومن واجبها أن تراعي النص الدستوري وأن تهمل ما عداه.
ولا ريب بأن ما ورد في ثنايا هذا الحكم يعتبر حجة قوية لا سبيل الى انكارها فهو يستند الى مبدأ سمو الدستور، فعندما يتعارض نص في قانون عادي مع نص دستوري فإن المحاكم مضطرة الى المفاضلة بينهما وعليها الالتزام بالنص الدستوري وإهمال القانون الأدنى والامتناع عن تطبيقه. وهذه الحجة الدامغة تتطابق تماما مع مسلك القضاء المقارن وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. أما محكمة التمييز وهي أعلى محكمة تقف على رأس القضاء العادي فقد أقرت بحق القضاء في رقابة دستورية التشريعات، في حكمها الصادر في القضية رقم 74/58، رغم أن الطعن كان متعلقا بعدم دستورية احد الأنظمة اللوائح، لأنه يحدد اختصاص محكمة الاستئناف كمرجع مباشر لمحاكمة موظفي الصنف الأول. ومما ورد في هذا الحكم الهام( ):
إن الدستور هو المصدر القانوني لسلطات الدولة، وقد وزع الاختصاصات التشريعية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأوجب أن يكون تنفيذ بعض المسائل بقانون يصدر عن السلطة التشريعية، والبعض الآخر بنظام يصدر عن السلطة التنفيذية، وان تنظيم المسائل المتعلقة بتعيين درجات المحاكم واختصاصاتها لا يكون إلا بقانون، فقد نصت المادة (100) من الدستور على أن تعيين أنواع المحاكم ودرجاتها وأقسامها واختصاصاتها وكيفية ادارتها يكون بقانون.
وخلصت المحكمة الى القول:
بأنه يجب على كل سلطة من السلطتين التشريعية والتنفيذية أن تمارس اختصاصاتها في الحدود المعينة لها من غير افتئات على اختصاصات السلطة الأخرى، فإذا خرجت إحدى السلطتين عن هذا المبدأ وتناولت بالتشريع موضوعات يعود الحق فيها للسلطة الأخرى فإن تشريعها يكون مخالفا للدستور.
وهنا نجد ان محكمة التمييز علاوة على إقرارها بسمو الدستور و إعتباره الأساس والمصدر القانوني لسلطات الدولة فأنها تحتج أيضا بمبدأ الفصل بين السلطات و ضرورة إلتزام كل سلطة بإختصاصاتها التي بينها و حددها الدستور و إن تجاوز هذه الحدود يعتبر إعتداء على إختصاصات سلطه أخرى و خروجا على القواعد الدستورية و بالتالي فإن تشريعها يكون مخالفا للدستور.
وهنا نجد أن محكمة التمييز علاوة على إقرارها بسمو الدستور واعتباره الأساس والمصدر القانوني لسلطات الدولة، فإنها تحتج أيضا بمبدأ الفصل بين السطات وضرورة التزام كل سلطة بإختصاصاتها التي بينها وحددها الدستور، وأن تجاوز هذه الحدود يعتبر اعتداء على اختصاصات سلطة أخرى وخروجا على القواعد الدستورية وبالتالي ط فإن تشريعها يكون مخالفا للدستور “.
ويذهب بعض الفقه الأردني( ) الى القول:

بأن هذا الحكم لا يتعلق أصلا برقابة مشروعية دستورية القوانين وإنما بمبدأ مشروعية القرارات الادارية، إلا إذا أشارت المحكمة عرضا لهذا الحق وهي بصدد مشروعية النظام الصادر عن الهيئة التنفيذية.
وإذا كنا نتفق مع هذا الفقه بأن الحكم يتعلق أصلا بدستورية الأنظمة، إلا أن المحكمة قد أحسنت صنعا حينما شملت بحكمها أعمال السلطتين التنفيذية والتشريعية بقولها: ” فإذا خرجت إحدى السلطتين عن هذا المبدأ فإن تشريعها يكون مخالفا للدستور “.
وعليه لا نرى غضاضة في اشارة المحاكم أو بسطها رقابتها على الدستورية خلال نظرها طعونا بقرارات ادارية فردية أو تنظيمية، بل هو مسلك يحمد عليه القضاء إذ ينم عن توجه ايجابي خاصة إذا كان النظر في مشروعية القرار الاداري يستلزم أولا البحث في دستورية التشريع الواجب تطبيقه على النزاع سواء كان هذا التشريع قانونا أو نظاما. وهو ما فعلته المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة الامريكية في حكمها الصادر سنة 1803 والذي اقرت فيه بحقها في رقابة دستورية القوانين، حيث كان موضوع الطعن أصلا متعلقا بقرار اداري فردي.
لذلك فإننا نقدر ونثمن لمحكمة التمييز هذا الموقف الذي جمعت فيه بين الاحتجاج بمبدأ سمو الدستور ومبدأ الفصل بين السلطات.
ورغم أن هذه المحكمة هي أعلى محكمة نظامية مما يعني أن تقتفي المحاكم الأخرى أثرها، إلا أنه من المؤسف أن محاكم البداية والاستئناف عادت للتأكيد على موقفها الرافض والمنكر لحقها في رقابة دستورية القوانين في قضية شهيرة عرفت بإسم قضية قناة الغور الشرقية.
وتتلخص وقائع هذه القضية في أن المادة (2) فقرة 9/2 من قانون الغور الشرقية رقم (31) لسنة 1962 أناطت بمجلس سلطة القناة تسوية الحقوق المدنية المتنازع عليها بين المالكين والمستأجرين للأراضي الواقعة في منطقة القناة، وأضفت الصفة القطعية على قرارات هذا المجلس بجعلها غير قابلة للطعن فيها لدى أي مرجع آخر. وفي القضية رقم 91/66 طعن أحد المتضررين بعدم دستورية النص القانوني المذكور أمام محكمة البداية مطالبا إياها بالامتناع عن تطبيقه لتعارضه مع نص المادة (102) من الدستور، محتجا بأن مجلس السلطة مرجع اداري وانه لا يجوز حرمان أصحاب العلاقة من حقهم الدستوري في اللجوء الى القضاء لمراجعة القرارات الصادرة عن المجلس.
ومع ذلك قررت محكمة البداية في حكمها الصادر بتاريخ 26/9/1966:
” ان المحاكم النظامية لا تملك صلاحية بسط رقابتها على دستورية القوانين، وبالتالي فهي لا تستطيع أن تتعرض لدستورية المادة الثانية من قانون قناة الغور الشرقية “. وقد كررت محكمة الاستئناف العبارات السابقة الواردة في ثنايا حكم محكمة البداية.
وعندما طعن في الحكم لدى محكمة التمييز نلاحظ انها قد تعرضت صراحة للبحث في موضوع الدستورية رغم تفسيرها لنص المادة (102) من الدستور( )بصورة تتيح لها القضاء بدستورية النص القانوني المذكور، ومما جاء في حيثيات حكمها الصادر سنة 1967( ):
أما قول المميز بأن ما ورد في القانون المذكور من حيث اناطة حق الفصل في النزاع، بمجلس السلطة بصورة قطعية يخالف الدستور، فقول لا يستند الى اساس صحيح، ذلك لأن النصوص المتعلقة بهذه المسألة لا تخالف أحكام الدستور.
ورغم اننا لا نتفق مع التفسير الذي ذهبت اليه محكمة التمييز على اطلاقه، لأن الأصل هو اجازة الطعن بقرارات مجلس السلطة، بخلاف ما نص عليه قانون قناة الغور من اضفاء الصفة القطعية عليها مما يؤدي بالتالي الى سحب ولاية القضاء وحرمان المتضررين من مراجعة هذه القرارات عملا بمبدأ تعدد درجات التقاضي.
إن ما يهمنا من هذا الحكم أن محكمة التمييز قد أعطت لنفسها الحق في نظر دستورية القوانين، فهي تناقش دفع المميز وتحلل النص القانوني المطعون به لتقضي بدستوريته “ان نصوص القانون المتعلقة بهذه المسألة لا تخالف أحكام الدستور “.
وبهذا فإنها تؤكد على ما سبق وان قررته في حكمها الأول الصادر سنة 1958 بأن في حكمها الأول الصادر سنة 1958 بأن للمحاكم الحق في رقابة دستورية التشريعات.
وقد مضت هذه المحكمة قدما في ترسيخ حق القضاء بالامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، وعدم العمل بأي قاعدة عامة تتعارض مع احكامه. وكان ذلك بمناسبة نزاع عرض عليها سنة 1975 اي بعد ثماني سنوات من اعلان الأحكام العرفية لسنة 1967، وصدور تعليمات الادارة العرفية في ذلك التاريخ والتي خولت لجنة الأمن الاقتصادي معالجة بعض القضايا، واستنادا الى هذه التعليمات أصدرت اللجنة قرارا يمنع المحاكم من نظر الطعون في القضايا التي تدخل في نطاق اختصاصها، فطعن بدستوريته على أساس انه يتضمن قاعدة عامة وهو الأمر الذي يخرج دائرة اختصاص هذه اللجنة.
ومما جاء في حكم التمييز الصادر في القضية رقم 100/75( ): ان لجنة الأمن الاقتصادي حينما تمارس اختصاصها انما تصدر قرارا اداريا يفصل في المسألة المعروضة عليها، ولا تملك ان تضع قاعدة عامة مجردة تعدل فيها القوانين المعمول بها، كما ان التشريعات العرفية محصورة بالتعليمات التي تصدرها السلطة المختصة وفقا لأحكام المادة (125) من الدستور “.
وأضافت المحكمة:
فإذا أصدرت لجنةالأمن الاقتصادي قاعدة عامة تعدل فيها القوانين النافذة، أو تعدل اختصاص المحاكم، فإنها تكون قد تجاوزت اختصاصاتها بمباشرتها التشريع الذي هو من اختصاص السلطات التشريعية المبينة في الدستور، ويكون قرارها مشوبا بعيب جسيم ومنعدما، ولا أثر قانوني له، وللمحاكم ان تشل آثاره، ولا تعمل به، استنادا لصلاحيتها في مراقبة دستورية القوانين ومن باب أولى القرارات العرفية.
وتعقيبا على موقف محكمة التمييز نستطيع القول بأن هذا الحكم قد اكتسب اهمية خاصة ليس فقط لاقرار المحكمة بحقها في رقابة دستورية القوانين والامتناع عن تطبيق التشريع المخالف للدستور، بل لأنها قد ذهبت الى ما هو ابعد من ذلك حينما عممت هذا الحق وقضت بأن لجميع المحاكم ان تبسط رقابتها في هذا الميدان. ” وللمحاكم ان تشل آثاره ولا تعمل به، استنادا لصلاحيتها في مراقبة دستورية القوانين، ومن باب أولى القرارات العرفية “.
ونكاد نلمس أثر هذا الحكم في الموقف الذي اتخذته محكمة البداية في القضية رقم (11) لسنة 1977، حيث طعن بعدم دستورية نص في قانون الأحداث يوجب اجراء محاكمتهم سرا.
ومما ورد في حيثيات حكمها ” ان المادة (10) من قانون الأحداث رقم 24 لسنة 1968 تخالف الفقرة الثانية من المادة (101) من الدستور، وعليه تقرر المحكمة المباشرة بإجراء المحاكمة علنا ” ويفهم من ذلك امتناع محكمة البداية عن تطبيق النص القانوني المذكور لتعارضه مع نص المادة (101) من الدستور، وقد أحسنت بهذا الاجتهاد.

ولدى استئناف الحكم اصرت محكمة الاستئناف على انفرادها بموقفها السلبي وقضت بعدم الاختصاص في مناقشة دستورية القوانين. إلا أن محكمة التمييز ايدت الحكم الصادر عن محكمة البداية وأقرت بوجهة نظرها، بقولها:
بما أن الدستور قد أناط بالمحكمة صلاحية اجراء المحاكمة علنا، فإن ما ورد في المادة العاشرة من قانون اصلاح الأحداث من حيث إلزام المحكمة بإجراء المحاكمة سرا في جميع دعاوى الأحداث يخالف احكام المادة (101) من الدستور، وفي هذه الحالة تسود أحكام الدستور ويعمل بها دون القانون( ).
وظاهر من فحوى العبارات الواردة في حكمي البداية والتمييز ان كلتيهما تحتج بمبدأ سمو الدستور وسيادة قواعده على ما سواها من القوانين.
لذلك فإنني لا أشاطر بعض الفقه الأردني رأيه حينما يجزم بعدم صدور اي حكم في موضوع الرقابة على الدستورية من اي محكمة من المحاكم النظامية باستثناء محكمتي التمييز والعدل العليا( ).
فعلاوة على حكم بداية عمان في هذه القضية، نذكر بحكمها الأول الصادر سنة 1953 والذي تضمن نفس العبارات الواردة في أحد فقرات حكم المحكمة الاتحادية العليا في قضية ماربوري، حينما قررت اي بداية عمان بأن ” كل من يضع دستورا مكتوبا انما يهدف ان يجعله القانون الأسمى.. “( ). ومع ذلك فإننا نقر بأن محكمة البداية لم تثبت على نهج معين بل إن الغالبية العظمى من احكامها كانت في الاتجاه السلبي، والاستثناء هو اقرارها بهذا الحق في حكمين فقط اتسم اقدمها بالصراحة والوضوح بينما يستشف من عبارات الحكم الثاني انه ورد على استحياء. أما محكمة الاستئناف فقد أصرت في احكامها على انكار حقها بممارسة هذه الرقابة بصورة حاسمة.

نخلص من ذلك الى ان القضاء العادي، باستثناء محكمة التمييز، قد تردد برهة من الزمن وأنكر على نفسه القيام بدوره ومهمته في رقابة دستورية القوانين، مما أدى الى تضارب الأحكام الصادرة عن المحاكم في هذا المجال.
بينما اطرد قضاء محكمة التمييز على الاقرار بحقها في التعرض لدستورية القوانين والامتناع عن تطبيق المخالف منها لأحكام الدستور. وهي تستند تارة الى مبدأ الفصل بين السلطات بما يتضمنه من ضرورة التزام كل سلطة بحدود اختصاصاتها، فإن تجاوزتها كان عملها غير دستوري، وتارة أخرى تحتج بمبدأ سمو الدستور وسيادته على سائر القوانين والأنظمة.
ومن جهة أخرى نلاحظ أن الأحكام الصادرة عن محاكم القضاء العادي بهذا الصدد قد توقفت منذ عام 1977 والذي صدر فيه حسب اعتقادنا آخر حكم لمحكمة التمييز في موضوع الرقابة على الدستورية.
هذا وقد أصدرت محكمة صلح/ جزاء عمان حكما هاما بتاريخ 18 رمضان 1420 هـ الموافق 26/12/1999، تضمن الامتناع عن تطبيق نص في قانون العقوبات الأردني لعدم دستوريته، ومما ورد في حيثياته( ):
ان الفقرة الخامسة من المادة (389) من قانون العقوبات الأردني( )، تتعارض مع المادة (7) من الدستور الأردني التي نصت على أن الحرية الشخصية مصونة وهي تشمل حرية الشخص في التنقل داخل اقليم بلاده، أما الفقرة الخامسة من المادة المشار إليها في قانون العقوبات فإنها تحد من الحرية الشخصية وتعيق تنقل الشخص بحرية وتعرضه للملاحقة والمساءلة لمجرد الاشتباه بأن وجوده كان لغاية غير مشروعة أو غير لائقة.
كما تضمن الحكم استنتاجا وتسبيبا في غاية الأهمية عندما قرر:
ان البحث في دستورية القانون هو من النظام العام تملك المحكمة اثارته من تلقاء نفسها، ذلك لأن تطبيق القاعدة القانونية الأعلى عند تعارضها مع قاعدة أخرى تدنوها مرتبة يدخل ضمن اختصاص المحكمة، على اعتبار ان المادة (103) من الدستور قد أوجبت على المحاكم ان تمارس اختصاصها في القضاء الحقوقي والجزائي وفق أحكام القوانين النافذة المفعول، في ضوء ذلك فإنه ينبغي تطبيق قواعد الدستور عند تعارض القانون العادي معها. لأن الدستور هو أعلى وأسمى القوانين، الأمر الذي وجدت المحكمة من خلاله أنه يتوجب عليها (الامتناع) عن تطبيق الفقرة الخامسة من المادة (389) من قانون العقوبات لمخالفتها لأحكام الدستور.
وترجع أهمية هذا الحكم لكونه الأول من نوعه الذي يصدر عن محاكم الصلح، وإقراره الصريح برقابة الامتناع، وبحق المحاكم في التعرض لدستورية القوانين من تلقاء نفسها بإعتبار ذلك من النظام العام، محتجة بأن ” تطبيق القاعدة القانونية الأعلى عند تعارضها مع قاعدة تدنوها مرتبة يدخل ضمن اختصاص المحكمة “.

المبحث الثالث: رقابة القضاء الاداري الأردني لدستورية القوانين
محكمة العدل العليا هي المحكمة الادارية الوحيدة في الأردن، وقد نصت المادة (100) من الدستور الحالي لسنة 1952 على انشائها بقولها: “تعين أنواع المحاكم ودرجاتها وأقسامهاواختصاصاتها بقانون خاص، على أن ينص هذا القانون على انشاء محكمة عدل عليا”.
وعندما صدر قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 26 لسنة 1952 لم ينص على انشاء هذه المحكمة بصورة مستقلة، بل نصت المادة (19) منه على أن “تنعقد محكمة التمييز، بصفتها محكمة عدل عليا، من رئيس وأربعة قضاة على الأقل، للنظر في الطعون الادارية التي حددها القانون المذكور على سبيل الحصر، ومن بينها ما نصت عليه الفقرة (3) من المادة (10) بقولها: ” تختص محكمة العدل العليا في إبطال أي اجراء صادر بموجب نظام يخالف الدستور أو القانون بناء على شكوى المتضرر “.
يفهم من هذا النص أن المحكمة تختص برقابة دستورية الأنظمة (اللوائح) اذا طعن أو دفع أمامها بذلك لالغاء اي اجراء او قرار صادر بموجب نظام يخالف الدستور، مع ان الأنظمة ليست الا قرارات ادارية تنظيمية من حيث طبيعتها القانونية.
نخلص من ذلك الى خلو الدستور الأردني وقانون تشكيل المحاكم النظامية الصادر سنة 1952 ايضا من اي نص يخول محكمة العدل العليا الاختصاص برقابة دستورية القوانين.
وكذلك كان شأن قانون تشكيل المحاكم النظامية الصادر في ظل دستور سنة 1947.
ورغم ذلك كان لهذه المحكمة موقفها من الرقابة على دستورية القوانين، ويمكن التمييز بين مرحلتين مختلفتين:
المرحلة الأولى: الموقف السلبي لمحكمة العدل العليا
تعرضت محكمة العدل العليا لموضوع دستورية القوانين لأول مرة في القضية رقم 6/51، عندما دفع بمخالفة قانون العقوبات المؤقت للدستور لأنه يرتب أثرا رجعيا بفرضه عقوبات على أفعال ارتكبت قبل صدوره. حيث قررت:
ان صلاحية هذه المحكمة بصفتها محكمة عدل عليا قد حددت في الفقرة (3) من المادة (11) من قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 71 لسنة 1951، فهذه الفقرة لم تخول محكمة العدل العليا حق مناقشة دستورية القوانين سواء أكانت قوانين مؤقتة أو غير مؤقتة، ولهذا لا تبقى ثمة فائدة عملية من أن تبحث المحكمة فيما اذا كان القانون رقم 60 لسنة 1951 الذي حوكم المستدعي بموجبه مخالفا لأحكام الدستور أم لا( ).
ويمكن توجيه النقد لهذا الحكم فقد استندت المحكمة في تبرير رفضها لرقابة دستورية القوانين الى قانون تشكيل المحاكم النظامية وأنه لم ينص على اختصاصها بذلك. فلماذا لم تستند هذه المحكمة إلى موقف القضاء المقارن الذي خول لنفسه حق مناقشة دستورية القوانين؟ ألم يكن بإمكانها الاحتجاج بمبدأ سمو الدستور؟ أليس بمقدورها أن تفصل في هذا الموضوع استنادا الى وظيفة القضاء وحقه في المفاضلة بين قانونين متعارضين أعمالا لمبدأ تدرج القواعد القانونية؟.
وقد عادت هذه المحكمة لتأكيد موقفها السلبي في القضية رقم 41/63 بمناسبة طعن تقدمت به إحدى الشركات تأسيسا على مخالفة القانون المؤقت رقم 13 لسنة 1963 لنص المادة (94) من الدستور، ومما ورد في حكمها( ):
بالرجوع الى الدستور نجد أن المادة (94) منه تنص على أنه: عندما يكون مجلس الأمة غير منعقد أو منحلا، يحق لمجلس الوزراء بموافقة الملك أن يضع قوانين مؤقتة في الأمور التي تستوجب اتخاذ تدابير ضرورية غير قابلة للتأجيل، شريطة أن لا تخالف أحكام الدستور.
من هذا النص يتضح أنه في الأوقات التي يكون فيها مجلس الأمة غير منعقد أو منحلا يختفي مبدأ الفصل بين السلطات مؤقتا وتجمع السلطة التنفيذية الى جانب مهام الادارة، وظيفة التشريع.
إن هذه المادة قد اشترطت لبقاء القوانين المؤقتة تصديق مجلس الأمة عليها، الأمر الذي يدل على أن هذا المجلس هو وحده المختص بمراقبة هذه القوانين من مختلف وجهات النظر، أي: الشرعية والملاءمة، وأن رقابة القضاء مستبعدة بقوة الدستور “.
وبتحليل عبارات هذا الحكم نلمس وللأسف أن المحكمة قد غالت في موقفها السلبي وفي تخليها عن ممارسة دورها ووظيفتها في هذا المجال، ويمكننا ابداء الملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: إن قول المحكمة بأن ” مجلس الأمة وحده هو المختص بمراقبة هذه القوانين من جميع النواحي “، هو قول تنقصه الدقة ويفتقر الى الصواب، فالرقابة البرلمانية لا تكفي وحدها، كما أنها لا تنفي الرقابة القضائية، إذ أن لكل من الرقابيتين طبيعتها ومجالها الخاص به.
ويعلق أستاذنا الدكتور محمود حافظ على ذلك بقوله( ):
ينص الدستور الأردني على رقابة مجلس الأمة بتقريره ضرورة عرض القوانين المؤقتة عليه للبت في شأنها وتقرير مصيرها، ولكن رقابة مجلس الأمة وحدها لا تكفي لضمان التزام السلطة التنفيذية بأحكام الدستور، لأن هذه الرقابة متسمة بطابع سياسي، لذلك يجب أن تخضع القوانين المؤقتة لرقابة القضاء.
الملاحظة الثانية: لم تكتف المحكمة بتقرير عدم اختصاصها وحدها بالرقابة على دستورية القوانين، بل ذهبت الى تعميم هذا الحكم، والى الاحتجاج بأن الدستور قد استبعد هذه الرقابة بصورة عامة بقولها ” وان رقابة القضاء مستبعدة بقوة الدستور “. ونتساءل أين هو النص الدستوري الذي استبعد رقابة القضاء وحظر عليه القيام بهذه المهمة؟ كل ما في الأمر أن الدستور الأردني قد صمت عن ذكر أي نص يتعلق بهذا الموضوع، فلم يمنح القضاء ولم يمنعه من القيام بهذا الواجب.

الملاحظة الثالثة: أن المحكمة التي أصدرت هذا الحكم هي نفسها محكمة التمييز ولكنها تنظر الدعاوى الادارية بصفتها محكمة عدل عليا، وقد سبق لمحكمة التمييز الاقرار بحقها في رقابة دستورية التشريعات القوانين والأنظمة في حكمها الصادر سنة 1958( ) مما يستدعي القول بتناقض أحكامها لا لشيء إلا لتغير صفتها، أي: الاسم الذي يطلق عليها.

المرحلة الثانية: الموقف الايجابي لمحكمة العدل العليا
منذ عام 1966 بدأت رياح التغيير تهب على موقف المحكمة نحو إقرارها بحقها في مباشرة هذه الرقابة، وقد ظهرت الملامح الأولى لهذا التوجه الايجابي في القضية رقم 111/66 عندما طعن بدستورية أحد أنطمة الدفاع وبقانون الدفاع الذي صدر النظام سندا إليه. فأجابت المحكمة بقولها( ):
” لا يعتبر نظام الدفاع رقم (7) لسنة 1941وقانون الدفاع لسنة 1935 الذي صدر النظام بمقتضاه مخالفين لأحكام الدستور “.
وهكذا نجد أن المحكمة قد ناقشت الدفع المقدم في هذه الدعوى لتقضي بدستورية قانون الدفاع ومن ثم دستورية نظام الدفاع الصادر بموجبه وانهما غير مخالفين لأحكام الدستور.
أما التطور الواضح في موقف هذه المحكمة فقد ظهر بجلاء في حكمها الصادر في القضية رقم 35/67 حينما طعن أحد المرشحين لانتخابات مجلس النواب بصحة ترشيح ونيابة عضو آخر لأنه لم يكمل السن القانوني الذي اشترطه قانون الانتخاب المؤقت في المادة (17) منه، فدفع الخصم بعدم دستورية النص القانوني لتعارضه مع الحكم المنصوص عليه في المادة (70) من الدستور، فقضت المحكمة بما يلي( ):
أما ما ورد في الفقرة (ج) من المادة (17) من قانون الانتخاب المؤقت لمجلس النواب رقم 24 لسنة 1960 من انه يشترط في المرشح أن يكون قد أتم الثلاثين من عمره في أول كانون ثاني من السنة التي يجري فيها الانتخاب، فهو مخالف للدستور، إذ أن المادة (70) من الدستور تشترط أن يكون المرشح قد أتم الثلاثين من عمره وقت الترشيح. وبما أن قانون الانتخاب المشار إليه هو قانون مؤقت وقد نصت المادة (94) من الدستور على انه يجب أن لا تخالف القوانين المؤقتة أحكام الدستور، فإن الاشتراط الوارد في الفقرة (ج) سالفة الذكر لايعمل به “.
بإمعان النظر في عبارات هذا الحكم نجد أن المحكمة تعتد برقابة الامتناع وتطبقها في صورتها المثلى فهي تبحث في مضمون النصين القانوني والدستوري، وتقارن بينهما لتقرر بأن ما ورد في النص القانوني مخالف للدستور، وتضيف في نهاية حكمها: ولا يعمل به. ومما يلفت النظر ان هذا الموقف الايجابي هو عكس موقفها السابق في القضية رقم 41/63 الذي قررت فيه عدم اختصاصها بمناقشة دستورية القوانين مع أن الطعن في القضيتين كان متعلقا بقوانين مؤقتة، ولا شك بأن التحول الايجابي لهذه المحكمة جدير بالثناء عليه.

ويعتبر حكم العدل العليا في القضية الشهيرة رقم 44/67 من أبرز ما صدر عنها في هذا المجال( )، ونظرا لأهمية هذا الحكم الذي يعد من أمهات احكام القضاء الاداري الأردني، سنحاول إلقاء الضوء على وقائعه التي تتلخص بما يلي:
أعلنت الأحكام العرفية سندا للمادة (125) من الدستور( ) التي تنص على انه ” عند اعلان الأحكام العرفية للملك أن يصدر بمقتضى ارادة ملكية اية تعليمات( ) قد تقضي الضرورة بها لأغراض الدفاع عن المملكة، بقطع النظر عن اي قانون معمول به “. يتضح من النص الدستوري أن التعليمات العرفية تشريع استثنائي يجب العمل بأحكامها اذا تعارضت مع احكام اي قانون عادي، بقطع النظر عن اي قانون معمول به( ). وقد نصت المادة (20) من تعليمات الادارة العرفية لسنة 1967، على تحصين القرارات الصادرة بمقتضاها، أي أنها منعت محكمة العدل العليا وعطلت اختصاصها فيما يتعلق بهذه الطعون.
وكان من بينها قرار يمنع أصحاب السيارات الخصوصية من استعمالها لغايات السياحة، فطعنوا بهذا القرار لأنه لا يتعلق بأغراض الدفاع عن المملكة، لكن ممثل الحكومة طالب برد الدعوى لعدم اختصاص المحكمة بنظرها كما تنص المادة (20) من التعليمات العرفية.
فدفع وكيل المستدعين بعدم دستورية هذه المادة.
وبعد أن نظرت المحكمة في البينات المقدمة وفي دفوع الطرفين قضت بمايلي:
وحيث أثار الطرفان مسألة الدستورية فإننا نرى أن الرد عليها يقتضي البحث في الأمور التالية:
– اختصاص القضاء برقابة دستورية القوانين، ومدى هذه الرقابة؟
– حدود سلطة المشرع في إصدار التشريعات؟
ثم استعرضت المحكمة نصوص الدستور المتعلقة بالسلطات العامة واختصاصاتها، وقررت:
ويفهم من هذه النصوص المواد (24-27) من الدستور أن الدستور قد وزع السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، على هيئات ثلاث، فصل فيما بينها بصورة جعل استعمال السلطات لوظائفها ينتظمه دائما تعاون متبادل، على اساس احترام كل منها للمبادىء التي قررها الدستور.
فإذا وضعت السلطة التشريعية تشريعا غير دستوري، لم تستطع أن تجبر السلطة القضائية على تطبيقه دون الدستور، وإلا كان في هذا اعتداء من السلطة التشريعية على السلطة القضائية، وكلتاهما مستقلة عن الأخرى، وكلتاهما خاضعة للدستور.
ومن الواضح أن تشريعا يصدر من جهة عير مختصة، أو دون مراعاة لنص الدستور أو روحه، فإن على المحكمة أن لا تطبقه فيما يعرض عليها من القضايا، على اعتبار ان المحكمة تلتزم في تطبيقها للتشريعات المتفاوتة في القوة، بتطبيق التشريع الأعلى عند تعارضه مع تشريع أدنى.
والمحكمة بهذا لا تعتدي على السلطة التشريعية، ما دامت لا تضع بنفسها قانونا ولا تقضي بإلغاء قانون، ولا تأمر بوقف تنفيذه.
وغاية الأمر أنها تفاضل بين قانونين قد تعارضا فتفصل في هذه المسألة وتقرر أيهما أولى بالتطبيق. وإذا كان القانون العادي قد استبعد تطبيقه فمرد ذلك في الحقيقة والواقع الى سيادة الدستور العليا على سائر القوانين، تلك السيادة التي يجب أن يلتزم بها كل من القاضي والمشرع على حد سواء.
وبعد أن بينت المحكمة الأسس التي تسند إليها في إقرارها لرقابتها على دستورية القوانين، انتقلت من التعميم الى التخصيص أي لتحديد موقفها من الموضوع المباشر للطعن، بقولها:
ان الغايات المخصصة لتشريعات الأحكام العرفية هي صيانة الأمن وتأمين أغراض الدفاع عن المملكة، ولا يصح أن تجاوزها الى غيرها من الغايات حتى ولو كانت تهدف الى المصلحة العامة.

وتعلل المحكمة ذلك بقولها:
لقد منحت المادة (125) من الدستور المشرع سلطة مقيدة ومحددة بأغراض الدفاع عن المملكة، ولم تمنحه سلطة مطلقة تخوله منع المحكمة من رؤية القضايا التي لا تتعلق بهذه الأغراض.
لهذا فإن نص المادة (20) من التعليمات العرفية، الذي منع محكمة العدل العليا من نظر الطعون بكافة القرارات هو نص غير دستوري، ولا يعمل به..( ).
بقراءة متأنية لعبارات هذا الحكم نلاحظ:
1. أن المحكمة وبمنتهى الصراحة تحدد موقفها من موضوع الرقابة على الدستورية بقولها “وحيث أثار الطرفان مسألة الدستورية، نرى أن الرد عليها يقتضي البحث في: اختصاص القضاء برقابة دستورية القوانين، ومدى هذه الرقابة “؟.
2. استناد المحكمة الى مبدأ الفصل بين السلطات وان الدستور قد وزع الاختصاصات على هيئات ثلاث، على أساس احترام كل منها للمبادىء الدستورية.
3. استنادها ايضا الى وظيفة القضاء بقولها ” وغاية الأمر أنها تفاضل بين قانونين قد تعارضا فتفصل في هذه المسألة وتقرر أيهما أولى بالتطبيق “.
4. احتجاج المحكمة بمبدأ سيادة الدستور ” فمرد ذلك في الحقيقة والواقع الى سيادة الدستور العليا على سائر القوانين “.
5. تحدد المحكمة مدى هذه الرقابة وانها تنحصر في الامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، بقولها:
من الواضح أن تشريعا يصدر من جهة غير مختصة، أو دون مراعاة لنص الدستور أو روحه، فإن على المحكمة أن لا تطبقه فيما يعرض عليها من القضايا ” وقولها ” ان نص المادة. هو نص غير دستوري ولا يعمل به. لهذه الأسباب وبناء على هذا التحليل نقول بان هذا الحكم يعتبر من روائع الأحكام الصادرة عن القضاء الأردني، وعن هذه المحكمة بالذات. وهكذا استقر قضاء محكمة العدل العليا على حقها في بسط رقابتها على دستورية التشريعات بما فيها القوانين المؤقتة والقوانين العادية وتعليمات تشريعات الادارة العرفية( ).و قد تتابعت أحكامها في هذا الاتجاه كقاعدة عامة. ( ).

بعض الأحكام التي تمثل استثناء من القاعدة العامة:
إذا كانت محكمة العدل العليا قد استقرت على هذا النهج الايجابي، إلا هناك بعض الأحكام القليلة جدا التي خرجت عن هذا الاتجاه، نعرض لها رغم ندرتها من باب الأمانة العلمية هادفين الى التقويم الدقيق آملين أن يتلافى القضاء الأردني أي تناقض في أحكامه مستقبلا. وكما نعتقد فإن هذا الخروج عن القاعدة العامة ينحصر في حكمين فقط هما:

أولا: الحكم الصادر في القضية رقم 40/74 ومما جاء فيه( ):
” ان مناقشة القانون المؤقت في كونه مخالفا للدستور أو غير مخالف له، هو دخول في الموضوع لا تختص محكمة العدل العليا بالنظر فيه “.
ونتفق مع وجهة نظر منصور العواملة في تعليقه على هذا الحكم بقوله( ):
وهذا عود على حكميها الصادرين عامي 1951، 1963، وكانا في الاتجاه السلبي مما يجعلنا في حيرة من أمر محكمتنا الموقرة أهي مختصة برقابة مشروعية القوانين أم غير مختصة؟ ولا يخفف من هذه الحيرة إلا كثرة الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة وعن قضائنا بوجه عام بفرض الرقابة على مشروعية القوانين.

ثانيا: الحكم الصادر في القضية رقم 237/91 و مما ورد في حيثياته( ):
وبعد الاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا، نجد أن المستدعي يطعن بالقرار الصادر عن رئيس الوزراء المتضمن الأمر بتشكيل محكمة أمن الدولة وتعيين القضاة العسكريين وهو يطلب إلغاء القرار المذكور للأسباب المبينة في لائحة الدعوى وهي:
1- إن القرار صادر بناء على قانون غير دستوري،…
وعن السبب الأول فإن قانون محكمة العدل العليا رقم 11/89 خلا من اي نص يخول هذه المحكمة حق مناقشة دستورية القوانين. لذا لا يجوز للمحكمة النظر في صحة أعمال السلطة التشريعية من جهة انطباق القوانين على الدستور. وبالتالي فإن محكمتنا غير مختصة بالنظر في هذا السبب من أسباب الطعن.

تعقيب:
لقد صدر هذا الحكم في فترة حديثة نسبيا، في ظل استقرار المحكمة على نهج إيجابي معين، وبعد إقرار قانون محكمة العدل العليا المؤقت رقم 11 لسنة 1989 الذي أصبحت بموجبه محكمة قضاء اداري مستقلة تماما، لذا يبدو موقف المحكمة وما خلصت إليه في هذا الحكم عرضة للنقد وللباحث أن يتساءل عن السبب الكامن وراء هذا التراجع، وإنكار المحكمة لحقها في رقابة دستورية القوانين؟ بل وحتى مجرد مناقشة هذا الموضوع بقولها بصريح العبارة:
إن قانون المحكمة قد خلا من أي نص يخولها حق مناقشة دستورية القوانين، لذا لايجوز للمحكمة النظر في صحة أعمال السلطة التشريعية من جهة انطباق القوانين على الدستور( ).
و لايعذر للمحكمة تعللها بخلو قانونها من أي نص يخولها حق مناقشة دستورية القوانين، لأن رقابة الامتناع تمارس في مثل هذه الحالة، أي في ظل خلو الدستور، وقانون تشكيل المحاكم أو قانون المحكمة، من أي نص بهذا الشأن.
والأهم من ذلك أن محكمة العدل العليا قد مارست هذه الرقابة وقضت بحقها في مناقشة دستورية القوانين في العديد من الأحكام السابقة ولفترة زمنية طويلة، رغم عدم وجود أي نص قانوني بهذا الخصوص.
ورغم ذلك، فإننا نعتقد بأن هذين الحكمين هما مجرد استثناء من القاعدة التي درجت عليها المحكمة في بسط رقابتها على دستورية القوانين. ويشفع لها ما أظهرت من جرأة وشجاعة في دفاعها عن الحقوق والحريات العامة التي برزت من خلال أحكامها العديدة الصادرة عنها في هذا المجال.

المبحث الرابع: أسلوب الرقابة على دستورية القوانين
بموجب قانون محكمة العدل العليا رقم (12) لسنة 1992 تنص المادة (94) من الدستور الأردني على ضرورة عرض القوانين المؤقتة على مجلس الأمة في اول اجتماع يعقده، وإعمالا لهذا النص عرض القانون المؤقت لمحكمة العدل العليا رقم (11) لسنة 1989 على المجلس، وبعد دراسة مستفيضة تمخضت عن إجراء العديد من التعديلات الهامة، أقر قانون المحكمة رقم (12) لسنة 1992( ). ويعتبر هذا القانون بمثابة نقلة نوعية فيما يتعلق بإختصاصات المحكمة في العديد من المجالات( ).
ونرى أن هذا القانون قد استحدث أسلوبين مختلفين مختلفان في مجال الرقابة على دستورية القوانين:

الأسلوب الأول- الطعن غير المباشر بدستورية القوانين العادية:
نصت المادة (9/أ) من هذا القانون على اختصاصات محكمة العدل العليا بقولها:
” تختص المحكمة دون غيرها بالنظر في الطعون المقدمة من ذوي المصلحة والمتعلقة بما يلي:
1- الطعون التي يقدمها أي متضرر بطلب إلغاء أي قرار أو إجراء صادر بموجب أي قانون يخالف الدستور، أو أي نظام يخالف الدستور أو القانون “.
نستنتج من هذا النص أن للمحكمة الحق بنظر دستورية القوانين، ” والمقصود هنا القوانين العادية الصادرة عن السلطة التشريعية تمييزا لها عن القوانين المؤقتة ” ولكن ذلك لا يكون بدعوى مباشرة تستهدف فقط الطعن بعدم دستورية القانون، كما هو الحال في الدول التي تنص دساتيرها على إجازة مثل هذا الطعن بدعوى مبتدأة، بل إن ممارسة المحكمة لهذه الرقابة يتطلب توافر الشروط التالية:
1- توافر شرط المصلحة بالنسبة للطاعن بالطعون التي يقدمها أي متضرر.
2- أن يكون الطعن موجها أصلا لقرار أو إجراء إداري يطلب الطاعن إلغاؤه.
3- أن يستند الطاعن في طلبه إلغاء القرار الاداري، الى صدوره استنادا لقانون يخالف الدستور.
فإذا توافرت هذه الشروط حق للمحكمة بل أصبح واجبا عليها أن تبحث فيما إذا كان القانون الذي صدر القرار الاداري سندا إليه دستوريا أم غير دستوري.
وما نطمح إليه أن يتنبه المعنيون لفحوى هذا النص فهناك فارق كبير بين نص المادة (9/أ/6) الوارد في قانون المحكمة لسنة 1992، والنصوص المشابهة في القوانين السابقة سواء قانون تشكيل المحاكم النظامية لسنة 1952 أو قانون المحكمة المؤقت لسنة 1989 فمضمون النصوص القديمة يتلخص في إجازة الطعن لالغاء قرار صادر بموجب نظام يخالف الدستور أو القانون، أي أن التشريعات السابقة كانت تخول المحكمة حق النظر بدستورية الأنظمة فقط إذا دفع أمامها بذلك بينما جاء القانون الجديد ينص صراحة على اختصاص المحكمة بالنظر في دستورية القوانين ولكن بالشروط التي سبقت الاشارة إليها. وجدير بالذكر أننا لم نعثر على طعن أو حكم استنادا الى هذا النص حتى تاريخ اعداد هذا البحث.

الأسلوب الثاني- الطعن المباشر بدستورية القوانين المؤقتة:
نصت المادة (9/أ/7) من قانون محكمة العدل العليا لسنة 1992 على اختصاصها:
“بالطعون التي يقدمها أي متضرر بطلب وقف العمل بأحكام اي قانون مؤقت مخالف للدستور”.
ان دلالة النص واضحة على إجازة الطعن بدعوى أصلية للمطالبة بوقف العمل بأي قانون مؤقت لعدم دستوريته. والشرط الوحيد أن يكون المدعي متضررا من هذا القانون المؤقت.
واستنادا الى هذا النص أصدرت المحكمة أشهر أحكامها في مجال الرقابة على دستورية القوانين المؤقتة. ففي نهاية عام 1997 حل مجلس النواب بإرادة ملكية، وفي فترة غيبته أصدرت السلطة التنفيذية قانون المطبوعات والنشر المؤقت رقم (27) لسنة 1997 الذي تضمن تنظيما لكيفية ترخيص الصح، وشروطا لما ينشر فيها، وعقوبات على ما قد يحدث من مخالفات أو تجاوزات. فطعن عدد من أصحاب المصلحة به. وفيما يلي بيان ذلك:
حكم العدل العليا الصادر بتاريخ 26/1/1998 في قضية قانون المطبوعات والنشر المؤقت:
نظرا لأهمية هذا الحكم، ولكونه الحكم الوحيد الصادر عن هذه المحكمة منذ تاريخ سريان قانونها الجديد رقم (12) لسنة 1992 في مجال الرقابة على دستورية القوانين المؤقتة وحتى تاريخ اعداد هذا البحث، سنعرض لوقائع الدعوى وحيثيات الحكم بشيء من التفصيل.
أما المستدعون فهم: عدد من الصحف الأسبوعية (صحيفة المجد، السبيل، البلاد، الحدث، وصوت المرأة).
المستدعى ضده: مجلس الوزراء.
قدم وكيل المستدعين هذه الدعوى بتاريخ 8/7/1997 للطعن بقانون المطبوعات والنشر المؤقت رقم (27) لسنة 1997، ووقف العمل بأحكامه، طالبا الحكم بعدم دستوريته للأسباب التالية:
1- القانون المطعون به ينطوي على مخالفة صريحة لأحكام الدستور.
2- مخالفة هذا القانون للشروط الشكلية والموضوعية اللازمة لاصدار القوانين المؤقتة.
3- المستدعى ضده مجلس الوزراء أساء استعمال سلطته التقديرية والصلاحيات الممنوحة له بموجب أحكام الدستور.

أما اللائحة الجوابية المقدمة من النيابة العامة الادارية فخلاصتها طلب رد الدعوى. وقد قررت الهيئة التي تنظر الدعوى إحالتها الى ” الهيئة العامة ” لانطوائها على نقاط قانونية مستحدثة. وبعد أن استعرضت المحكمة نص المادة (94) من الدستور( ) قررت ما يلي:
“يستفاد من هذه المادة أن الدستور الأردني منح السلطة التنفيذية صلاحية اصدار القوانين المؤقتة إذا توافرت الشروط التالية:
1- أن يكون مجلس الأمة غير منعقد أو منحلا.
2- وجود حالة ضرورة، أي وجود أمور تستوجب اتخاذ تدابير ضرورية لا تحتمل التأخير.
3- أن لا تخالف القوانين المؤقتة الدستور.
وفيما يتعلق بالشرط الأول فقد تبين أن مجلس الأمة كان غير منعقد عند اصدار القانون المؤقت. أما فيما يتعلق بالشرط الثاني فإن حالة الضرورة المنصوص عليها في المادة (94) من الدستور تتمثل في نشوء خطر جسيم يتعذر مواجهته بالطرق القانونية العادية كالحرب والكوارث والفتن الداخلية، وطبيعة هذا الخطر أنه داهم ذو صفة استثنائية فهذه المادة يجب أن تفسر تفسيرا ضيقا لأن التشريع أصلا يعود لمجلس الأمة والملك عملا بأحكام المادة (22) من الدستور، واستثناء من هذه القاعدة منحت السلطة التنفيذية حق التشريع بإصدار القوانين المؤقتة في أحوال استثنائية.
وحالة الضرورة بالمعنى الذي نصت عليه المادة (94) من الدستور غير متوفرة، لأن معالجة أوضاع الصحافة ليست خطرا جسيما داهما ولا وضعا طارئا. وتضيف المحكمة:
” يتبين مما تقدم أن حالة الاستعجال لم تكن قائمة عند وضع القانون المؤقت لأن الطلب من الصحف توفيق أوضاعها لتلائم نصوص هذا القانون خلال ثلاثة اشهر، ومن ثم ثلاثة اشهر اخرى أي بعد ستة اشهر، ينفي وجود حالة استعجال، مما يعني أن إصدار القانون المؤقت كان يمكن تأجيله حتى انعقاد مجلس الأمة “.
وترد المحكمة على الدفع المقدم من النيابة العامة الادارية بعدم اختصاصها بالرقابة على تقدير حالة الضرورة والاستعجال بمايلي:
” أما القول بأنه لا رقابة لمحكمة العدل العليا على حالة الضرورة والاستعجال، بداعي ان تقدير ذلك يعود للسلطة التنفيذية، فقول غير سديد، لأن المادة (9/أ/7) من قانون المحكمة أناطت بها صلاحية النظر بالطعون التي يقدمها أي متضرر بطلب وقف العمل باحكام اي قانون مؤقت مخالف للدستور.
فهذا النص أخضع القانون المؤقت للرقابة القضائية من حيث مخالفته للدستور، وعلى القضاء من حيث مخالفته للدستور، وعلى القضاء أن يراقب توافر الشروط المار ذكرها في حدود الموضوع( )، وبما ان سلطة اصدار القوانين المؤقتة قد شرعت لمجابهة ظرف طارىء، فلا يجوز استعمالها وسيلة لتنظيم موضوعات يختص بها التشريع العادي.
وعليه ضوء ما تقدم تجد المحكمة أن القانون المؤقت رقم (27/97) هو قانون مخالف للدستور، فتقرر المحكمة بالأكثرية وقف العمل به “( ).
تعقيبنا على هذا الحكم:
1. يكشف هذا الحكم عن مدى الدور الهام الذي يمكن أن تؤديه محكمة العدل العليا في مجال حماية الحقوق والحريات التي كفلها الدستور وفي مقدمتها حرية الرأي، ذلك أن القانون المؤقت للمطبوعات والنشر المشار إليه تضمن العديد من القيود بما فيها فرض العقوبات السالبة للحرية في حالة مخالفة احكامه.

2. أكدت المحكمة على حقها في ممارسة رقابتها على توافر الشروط والضوابط اللازمة لاصدار القوانين المؤقتة والتي نصت عليها المادة (94) من الدستور الأردني. فبالاضافة الى غيبة مجلس الأمة لكونه غير منعقد أو منحلا، فإن أهم هذه الشروط يتمثل في قيام حالة ضرورة في الأمور التي تستوجب اتخاذ تدابير ضرورية… لا تحتمل التأخير. وقد أظهرت المحكمة قدرة وبراعة خاصة في مجال رقابتها لهذا الشرط يبرر منح السلطة التنفيذية سلطة اصدار القوانين المؤقتة. وعليه قضت المحكمة بعدم دستورية القانون المؤقت لعدم توافر هذا الشرط.

3. لهذا الأسلوب الرقابي طبيعته الخاصة، للرقابة على دستورية القوانين. فهو لا يندرج تحت ذلك النوع المسمى رقابة الالغاء فهذه الرقابة لا تمارس إلا بموجب نص دستوري ينيط هذه المهمة الى محكمة دستورية خاصة أو الى أعلى محكمة نظامية. بينما خلا الدستور الأردني من اي نص بهذا الشأن، كما أن محكمة العدل العليا لا تقضي بإلغاء القانون المؤقت المخالف للدستور بل بوقف تنفيذه، تاركة للسلطة التشريعية المختصة إعادة النظر بهذا القانون بتعديله أو إلغائه. ومع ذلك فإن النتيجة ستكون متقاربة في كلتا الرقابتين.

4. ومن ناحية أخرى فإن هذا الأسلوب يختلف عن رقابة الامتناع ايضا، لأن المحاكم، في الدول التي تأخذ بمثل هذا النوع من الرقابة، تمتنع عن تطبيق القانون المخالف للدستور في حالة عدم وجود نص دستوري أو قانوني يخولها الاختصاص بنظر الدستورية. بينما تمارس محكمة العدل العليا هذا الاختصاص بموجب نص القانون (المادة 9/أ/7 من قانونها)، كما أنها لا تقضي بالامتناع عن تطبيق القانون المؤقت المخالف للدستور كما كانت تفعل سابقا، أي قبل صدور قانونها الجديد، بل تقضي بوقف نفاذه.

5. كذلك فإن الحكم الصادر في رقابة الامتناع حجية نسبية، لأنه لا يلزم المحاكم الأخرى، بل وكما يرى بعض الفقه، لا يلزم المحكمة التي اصدرته( )، إذ تقتصر حجيته على الخصوم في الدعوى، وهذا يعني بقاء القانون غير الدستوري واحتمال تطبيقه في قضية أخرى.

أما الحكم الصادر عن محكمة العدل العليا فيحوز حجية مطلقة قبل الكافة وتلتزم به المحاكم الأردنية على اختلاف أنواعها ودرجاتها. لهذا يمكننا القول بأن محكمة العدل العليا بدأت تمارس نوعا مستحدثا ومميزا من أنواع الرقابة على دستورية القوانين العادية والمؤقتة( ).

الخاتمة
قد ينص الدستور على تحديد الجهة التي تتولى الرقابة على دستورية القوانين، وهي إما أن تكون هيئة سياسية أو قضائية. أما في حالة خلو الدستور من نص يحكم هذه المعضلة فإن للقضاء الحق بممارسة هذه الرقابة والامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، إذا دفع أمامه بذلك في قضية منظورة لديه.
وقد كان القضاء الأمريكي سباقا في هذا المجال حيث تصدت المحكمة الاتحادية العليا لهذه المسألة نظرا لخلو الدستور الأمريكي من نص بهذا الشأن، فأقرت بحق القضاء في بسط رقابته على دستورية القوانين إعمالا لمبدأ سمو الدستور، واستنادا لوظيفة القضاء وواجبه بالفصل فيما يعرض عليه من منازعات، فإذا تعارض نص قانوني مع آخر دستوري فإن على القاضي أن يعمل حكم النص الدستوري وأن يمتنع عن تطبيق القانون المخالفة له( ).
وفي هذه الحالة فإن المحكمة لا تقضي ببطلان أو إلغاء القانون غير الدستوري بل تمتنع فقط عن تطبيقه مما يعني بقاء القانون وإمكان تطبيقه من قبل المحاكم الأخرى. وهكذا فإن الحكم الصادر بالامتناع عن تطبيق قانون ما، له حجية نسبية إذ يقتصر على قضية يعينها وعلى أطراف هذه الدعوى فقط.
وفي العديد من الدول التي صمتت دساتيرها عن حل هذا الموضوع، نجد ان القضاء قد أقر بحقه في رقابة دستورية القوانين. كما فعل القضاء المصري( ) في الفترة التي سبقت اقرار المشرع بذلك.
وبما أن الدستور الأردني النافذ حاليا الصادر سنة 1952 والدساتير السابقة عليه قد خلت من اي نص بهذا الخصوص، فقد أنكر القضاء العادي على نفسه الحق ببسط رقابته على دستورية القوانين باستثناء محكمة التمييز التي أقرت بحقها بل بحق المحاكم كافة( ) بممارسة هذا الاختصاص والامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، وهو موقف يحمد لها، وكان المأمول من المحاكم الأخرى متابعة هذه المحكمة في قضائها إلا أنها لم تفعل. لذا تناقضت الأحكام الصادرة عن محاكم القضاء العادي في هذا المجال.
أما بالنسبة لموقف القضاء الاداري ممثلا بمحكمة العدل العليا فقد مر قضاؤها بمرحلتين مختلفتين: مرحلة سلبية رفضت فيها المحكمة بسط رقابتها على الدستورية، بحجة ان النص الوارد في قانون تشكيل المحاكم النظامية قد حدد اختصاصاتها على سبيل الحصر وليس من بينها الاختصاص برقابة دستورية القوانين. وهو موقف منتقد فهذه المحكمة هي نفسها محكمة التمييز التي سبق لها الاقرار بهذا الحق ولكنها تنعقد بصفتها محكمة عدل عليا للنظر في الطعون الادارية. أي أن الأحكام الصادرة عن نفس المحكمة اختلفت وتناقضت لمجرد تغير صفتها.
أما المرحلة الثانية والتي أسميناها المرحلة الايجابية فقد تمثلت بعدول محكمة العدل العليا عن موقفها السابق والاقرار بحقها في رقابة دستورية القوانين والتشريعات سواء كانت قوانين مؤقتة أم عادية أو تشريعات عرفية( ).
ولا ريب بأن هذا الموقف الايجابي جدير بالثناء عليه، خاصة وأن المحكمة حاولت القيام برقابة التشريعات المقيدة للحريات العامة والتي رأت أنها لا تلتزم بأحكام الدستور وغاياته.
ونظرا لنداءات الفقه المستمرة ومطالبته المشرع و القضاء بممارسة دورهما في هذا المجال، لاحظنا أن القضاء الأردني بشقيه العادي والاداري ممثلا بأعلى محكمتين:
التمييز، والعدل العليا، قد أقر بعد تردد بحقه في بسط رقابته على الدستورية والامتناع عن تطبيق التشريع المخالف للدستور.
كذلك فقد استجاب المشرع الأردني جزئيا لهذا الدعوات بإصدار قانون محكمة العدل العليا رقم (12) لسنة 1992 الذي نص على اختصاصها بالنظر في ” الطعون التي يقدمها اي متضرر لالغاء اي قرار او اجراء صادر بموجب اي قانون يخالف الدستور “( ) ويفهم من هذا النص جواز الطعن بدستورية القوانين العادية بطريق غير مباشر. كما اجاز هذا القانون الطعن في القوانين المؤقتة بطريق مباشر، أي بدعوى مبتدأة ” الطعون التي يقدمها اي متضرر بطلب وقف العمل بأحكام اي قانون مؤقت مخالف للدستور “( ).
ومع تقديرنا لهذا التطور الايجابي قضاء وتشريعا، إلا أننا نشارك الفقه الأردني( ) تطلعاته وطموحاته بإجراء تعديل دستوري يسمح بإنشاء محكمة دستورية تختص بهذه الرقابة اسوة بما فعله المشرع الدستوري في العديد من الدول. خاصة وأن الميثاق الوطني الأردني الذي عبر عن رأي معظم المدارس الفكرية والسياسية في الأردن، قد تضمن النص على ضرورة إنشاء محكمة دستورية( ). وإلى أن يتحقق هذا التعديل الدستوري، فإننا نرى أن للمحاكم( ) على اختلاف أنواعها ودرجاتها ألحق في الامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور( ) فيما يعرض عليها من منازعات تأسيا بموقف القضاء المقارن واستنادا الى الحجج السابق ذكرها.

المراجع

1. ابو زيد ، محمد عبد الحميد مبادىء القانون الدستوري دار النهضة العربية القاهرة .
2. ابو المجد احمد كمال ، الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة و الاقليم المصري ، مكتبة دار النهضة العربية ، القاهرة 1960 .
3. ادلر مورتمر ، الدستور الامريكي “افكاره ومثله ” ترجمة صادق ابراهيم عودة مركز الكتب الاردني 1989 .
4. بدوي، ثروت : النظام الدستوري العربي ط1 دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1961.
5. بسيوني، عبد الغني ، النظم السياسية والقانون الدستوري الدار الجامعية الاسكندرية 1992.
6. الجرف ، طعيمة ، القانون الدستوري و مبادىء النظام الدستوري في الجمهورية العربية المتحدة، مكتبة، النهضة ، القاهرة ، 1964.
7. الجريدة الرسمية ، وزارة المالية ، عمان
8. حافظ ، محمود محمد ، القضاء الاداري في الاردن ، منشورات الجامعة الاردنية ، عمان 1987 .
9. الحياري ، عادل ، القانون الدستوري والنظام الدستوري الاردني ، ط1 مطابع غانم عبده، عمان 1972 .
10. الخطيب ، نعمان ، النظم السياسية والقانون الدستوري ، ط1 ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، عمان ، 1999.
11. خليل محسن ، القانون الدستوري والنظم السياسية ، جامعة الاسكندرية ، الاسكندرية 1987 .
12. الدستور الاردني 1952 .
13. دوفرجية موريس ، المؤسسات السياسية والقانون الدستوري ، الانظمة السياسية الكبرى، ترجمة جورج سعد ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، الطبعة الاولى ، بيروت، 1992 .
14. ذهني ، عبد السلام مجلس الدولة ودستورية القوانين ، مجلة مجلس الدولة ، السنة الاولى ، يناير 1950 .
15. رباط ادمون الوسيط في القانون الدستوري العام ، الجزء الثاني ، دار العلم للملايين ، بيروت 1971 .
16. السيد علي ، رقابة القضاء لدستورية القوانين – اساس هذا الحق و مداه كما قررته محكمة القضاء الاداري ، مجلة مجلس الدولة ، السنة الاولى ، يناير 1950
17. الشيني ، احمد زكي ، عدم اختصاص المحكمة الدستورية بالدفع بعدم دستورية القوانين لمخالفتها للشريعة الاسلامية ، مجلة المحاماة ، العددان ( 1-2) 1986 .
18. صبري ، السيد ، القانون الدستوري ، القاهرة ، طبعة سنة 1949 .
19. الطماوي ، سليمان محمد ، النظم السياسية والقانون الدستوري ، دار النشر بدون ، القاهرة 1988 .
20. عبد العال محمد حسنيين ، القانون الدستوري ، دار النهضة العربية القاهرة 1992 .
21. عبد الفتاح ، محمد شكري ، الرقابة على دستورية القوانين تحمي الشعوب من انحراف سلطاتها التشريعية ، مجلة المحاماة العددان (1-2) 1987 .
22. عبد الوهاب ، محمد رفعت ، القانون الدستوري منشأة المعارف ، الاسكندرية 1990 .
23. عصفور ، سعد ، المبادىء الاساسية في القانون الدستوري والنظم السياسية ، مكتبة المعارف ، الاسكندرية 1980.
24. العواملة ، منصور ، الوسيط في النظم السياسية ط2 ، المجلد الثاني الكتاب الاول المبادىء العامة للانظمة السياسية المركز العربي للخدمات الطلابية ، عمان 1998 .
25. الغزال ، اسماعيل ، القانون الدستوري والنظم السياسية ط3، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع بيروت 1987 .
26. الغزوي ، محمد ، الوجيز في التنظيم السياسي والدستوري للمملكة الاردنية الهاشمية ، ط2 ، مكتبة دار الثقافة للنشر ، عمان 1992 .
27. متولي ، عبد الحميد ، القانون الدستوري والانظمة السياسية ط6 ، مكتبة المعارف الاسكندرية 1989 .
28. مجلة نقابة المحامين ، عمان ، الاردن .
29. مجموعة القوانين والانظمة و التعليمات ، مديرية التوثيق والمطبوعات ، عمان ، 1994 .
30. مجموعة المبادىء القانونية لمحكمة العدل العليا ، ، جمع المحامي حنا نده ، جمعية عمال المطابع التعاونية ، عمان ، 1972 .
31. المصري ، محمد محمود الشواربي عبد الحميد ، دستورية القوانين ، منشأة المعارف ، الاسكندرية ، 1986 .
32. الميثاق الوطني الاردني 1991 .
33. ندة ، حنا ابراهيم ، القضاء الإداري في الاردن ط1 ، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان.

لتحميل البحث كاملا مع التوثيق و المراجع من هنا

http://www.4shared.com/office/L-JbeNc4/________.html