الغبن في القانون والشريعة

الغبن لغةً: يقال: غبنه في البيع والشراء ونحوه، غبنا أي نقصه في الثمن أو غيره والغبن في البيع والشراء: النقص وعند الفقهاء: هو كون أحد البدلين في عقد المعاوضة لايكافئ الآخر في قيمته، كما لو اشترى سلعة بألفين وقيمتها في السوق ألف.

وفي القانون: يعرفه بعضهم أنه: «عدم التعادل بين ما يعطيه العاقد وما يأخذه بمعنى أن يكون ثمة اختلال واضح بين مقدار ما يقدمه أحدهما للآخر ومقدار ما يأخذه منه »

وهناك الغبن اليسير الذي لاتخلو منه معاملة والذي يحدث في التعامل بين الأفراد وهو أمر شائع الحدوث ولا يمكن التنزه عنه إلا بشق الأنفس ، لذلك يجرى العرف على التسامح فيه كأثر طبيعي لخضوع التعامل بين الإفراد لما تسفر عنه مساوماتهم. أما الغبن الفاحش فهو الذي تدخل المشرع لتنظيمه، لأنه خطر من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية.

تنظيم الغبن في التشريعات العربية تتفق اغلب التشريعات العربية على عدم الاعتداد بالغبن المجرد، إلا إذا كان المغبون بحاجة إلى الحماية، التي يختلف مداها من تشريع لآخر، كما إذا وقع الغبن في بيع عقار القاصر وإلا فلا يكن للغبن تأثير في التصرفات القانونية إلا إذا صحبه أمر غير مشروع، كالتغرير أو استغلال ضعف أحد المتعاقدين وذلك على الوجه الآتي:

 ربط الغبن بالتغرير: يسود هذا النظر في بعض التشريعات كالقانون المدني الأردني، وقانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة والقانون المدني العراقي وغيرها وهي التشريعات المستمدة من الشريعة.

 ربط الغبن بالاستغلال: في التشريعات التي تأثرت بالفقه الغربي، فلم تعتد بالغبن إلا إذا جاء نتيجة استغلال إحدى نواحي الضعف لدى المتعاقد، كالطيش أو الهوى أو النفوذ الأدبي أو الحاجة الملجئة، ومن هذه القانون المدني المصري والسوري والجزائري والكويتي وغيرهما.

فأغلب القوانين لا يعتد بالغبن وحده ولو كان فادحا إلا في حالات خاصة وردت على سبيل الحصر ، كالغبن في بيع عقار مملوك لناقص الأهلية إذا زاد الغبن عن خمس قيمة العقار (م425 مدني مصري. والمادة 99/ب مدني بحريني) ، والغبن في أجر الوكيل إذا كانت الوكالة بأجر (م709 مدني مصري والمادة 653 مدني بحريني) ، والغبن في عقد القسمة إذا جاوز الغبن خمس القيمة (م845 مدني مصري ، والمادة 792/أ مدني بحريني) والقانون الفرنسي لا يعتد بالغبن إلا في حالة واحدة وهي بيع العقار أيا كان مالكه سواء كان ناقص الأهلية أو كامل الأهلية.ولا يكفي الغبن وحده للتأثير على رضاء العاقد المغبون ، وإنما يلزم أن يحدث هذا الغبن الفاحش نتيجة استغلال العاقد الآخر أو الغير للظروف النفسية التي يمر بها العاقد المغبون. فاتجهت التشريعات الحديثة إلى استكمال نظرية الغبن بنظرية الاستغلال ، مثل التقنين المدني المصري ، والتقنين المدنـي البحريني ، بحيث تكون قابلية العقد للإبطال لا لمجرد الغبن وحده والمتمثل فقط في الاختلال الفادح بين التزامات طرفي العقد ، ولكن لأن حدوث هذا الاختلال المؤدي إلى الغبن كان راجعا إلى استغلال العاقد للظروف النفسية الخاصة لدى العاقد الآخر المغبون.فالاستغلال كعيب من عيوب الإرادة هو استثمار الظروف النفسية للعاقد الآخر لإيقاعه في غبن فاحش.

فالغبن مسألة مادية تعتمد على تحقق الاختلال الفادح بين الأداءين في العقد ، ويجرى تقدير وجوده بناء على معيار موضوعي مجرد بحيث يمكن القول بأن ثمة غبنا في العقد بمجرد التثبت من انتفاء التعادل بين مقدار ما أعطاه أحد العاقدين للآخر ومقدار ما أخذه منه ، بصرف النظر عما إذا كان هذا الغبن قد وقع بسبب استغلال من أحد العاقدين للآخر أو كان قد تحقق بصورة تلقائية كأثر للمساومة بشأن العقد دون قصد الاستغلال.هذا بخلاف الاستغلال فهو مسألة نفسية يعتمد تقديره على معيار ذاتي أو شخصي ، فيراعي فيه القاضي الظروف النفسية للعاقد المغبون لحظة إبرامه للعقد الذي أختل فيه أداؤه للعاقد الآخر اختلالا فادحا ، أما إذا انتفى الاستغلال فلا يكون الرضاء معيبا ولو وجد الغبن ، لأن الغبن بمجرده لا يعيب الرضاء. تنص المادة 129 من التقنين المدني المصري على هذا العيب بقولها: ” 1- إذا كانت التزامات أحد العاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا العاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات العاقد الآخر ، وتبين أن العاقد الآخر لم يبرم العقد إلا لأن العاقد الآخر قد استغل فيه طيشا بينا أو هوى جامحاً ، جاز للقاضي بناء على طلب العاقد المغبون أن يبطل العقد أو أن ينقص التزامات هذا العاقد”.” 2- ويجب أن ترفع الدعوى بذلك خلال سنة من تاريخ العقد ، وإلا كانت غير مقبولة “. مما يبين معه أنه لا يكفي الغبن وحده في ظل أحكام التقنين المدني المصري إلا إذا كان ناتجا عن توافر طيش بَيِّن أو هوى جامح لدى العاقد المغبون ، يستغله فيه العاقد الآخر لإيقاعه في الغبن.

تطور فكرة الغبن :

كانت النزعة في القانون الروماني تسيطر على هذا القانون، فكان المبدأ العام عدم تأثير الغبن في العقود. غير أنه تدخل، على سبيل الاستثناء، لحماية القاصر إذا لحقه غبن، ولحماية بائع العقار إذا لم يحصل على نصف قيمته.

أما القانون الكنسي فقد توسع في تطبيقات الغبن، لحماية الضعيف من الاستغلال، فحرم الربا[ر] في عقود القرض، وفرض مبدأ الثمن العدل، والأجر العدل، وعدّ الانحراف عنهما نوعاً من الغبن.

ونظمت الشريعة الإسلامية الغبن في التعاقد، فأبطلت العقود الربوية، واعتدت بالغبن حين يقع من مال من يحتاج إلى الحماية، كالمحجور والوقف وبيت المال. وفي ذلك يتضح في الفقه اتجاهين:

آ ـ يرى أولهما عدم الاعتداد بالغبن إلا إذا صحبه تغرير (تدليس ).

ب ـ ويعتد الآخر بالغبن، ولو دون تغرير، إذا كان فاحشاً وصحبه غلط في القيمة.

مجال إعمال الغبن :

الغبن المجرد ذو طابع مادي، فلا يتحقق إلا في عقود المعاوضات المحددة كالبيع، حيث تكون الأداءات المتقابلة معروفة على وجه التحديد. غير أن ارتباط الغبن بالتغرير أو بالاستغلال أخرجه من طابعه المادي إلى طابع شخصي، فامتد مجال إعماله إلى العقود الاحتمالية كالتأمين، وإلى عقود التبرع كالهبة، ومع ذلك هناك بعض الاختلاف عند التطبيق.

فالمادة 213 من القانون اللبناني تستبعد عقود التبرعات من مجال الطعن بالغبن. أما التشريعات العربية الأخرى فمنها ما نص صراحة على الاعتداد بالغبن الاستغلالي في عقود التبرع، كما في عقود المعاوضة (المادة 125من القانون المدني العراقي والمادة 160 من القانون المدني الكويتي)، ومنها مالم يتعرض لحكم التبرعات، غير أن جمهور الشراح يعدّ المتبرع أولى بالرعاية من غيره.وهكذا أمكن الطعن بالغبن في جميع أنواع العقود، إلا إذا نص القانون على غير ذلك، كالتعاقد بطريق المزايدة أو المناقصة التي تتم وفق الإجراءات القانونية.

حدود الغبن :

تسود التشريعات العربية، في تحديد درجة الغبن، نظريتان: الأولى شخصية تضع معياراً مرناً، والأخرى موضوعية تحدد نسبة معينة.

ـ النظرية الشخصية: يكفى أن ينطوي العقد، عند إبرامه، على عدم تناسب باهظ بين ما يلتزم العاقد بأدائه وما يعود عليه من نفع مادي أو أدبي، وفقاً لظروف كل حالة على حدة.

ـ النظرية الموضوعية: تحدد هذه النظرية درجة الغبن بمعيار مادي، يتمثل في نسبة خاصة أو رقم مرصود، كالثلث أو الربع أو الخمس، من دون النظر إلى ظروف كل حالة.

والواقع أن التشريعات العربية تجمع بين النظريتين، فهي تضع، كمبدأ عام، معياراً مادياً لتحديد درجة الغبن المجرد، يدور حول خمس القيمة. وتضع معياراً مرناً لتحديد درجة الغبن الاستغلالي أو التدليسي، تعبر عنه بالغبن الفاحش أو بعدم التناسب الباهظ.

الآثار المترتبة على الغبن :

ـ جزاء الغبن: لم تتفق التشريعات العربية على جزاء موحد، لأن بعضها يتبنى نظرية الجزاء في الفقه الإسلامي، بينما يتبنى بعضهم الآخر النظرية الغربية.

أـ فالقانون المدني الأردني والإماراتي والسوداني يجعل جزاء الغبن مع التغرير فسخ العقد، استناداً إلى حق المتعاقد في خيار الغبن. أما إذا أصاب الغبن مال المحجور عليه للدين أو المريض مرض الموت، وكان دينهما مستغرقاً لمالهما، فإن العقد يكون موقوفاً على رفع الغبن أو إجازته من الدائنين، وإلا بطل. والتزم القانون العراقي بنظرية العقد الموقوف جزاء على الغبن التدليسي والغبن الاستغلالي. وتبنى المشرع التونسي والمغربي نظرية الفسخ.

ب ـ أما غالبية التشريعات العربية، الجزائري والسوري والقطري والكويتي واللبناني والليبي والمصري، فقد ربطت جزاء الغبن الاستغلالي بما هدفت إليه من تحقيق حماية المتعاقد الضعيف، فأعطت القاضي سلطة تقديرية لإعادة التوازن بين البدلين أو إبطال العقد.

ـ المهلة القانونية: تعددت الحلول التشريعية المتعلقة بتحديد المهلة التي يجب رفع دعوى الطعن بالغبن فيها.

أ ـ ففي التشريع الأردني والإماراتي والسوداني، لا توجد مدة محددة، بل ينص القانون على سقوط حق الفسخ ولزوم العقد بموت من له الحق في الفسخ، وبالتصرف في المعقود عليه تصرفاً يتضمن الإجازة، وبهلاكه واستهلاكه وتعيبه وزيادته.

ب ـ وفي القانون المدني العراقي، تحدد المادة 125 مدة سنة من وقت العقد، للطعن بالغبن الاستغلالي. أما الغبن مع التغرير فيخضع للقاعدة العامة للعقد الموقوف، التي توجب استعمال خيار الإجازة أو النقض في ثلاثة أشهر من وقت انكشاف التغرير، وإلا اعتبر العقد نافذاً.

ج ـ أما غالبية التشريعات العربية (الجزائري والسوري والقطري والكويتي والليبي والمصري)، فقد حددت، كمبدأ عام، مهلة سنة، تبدأ من تاريخ إبرام العقد، ويسقط حق الإبطال أو التعديل إذا لم ترفع الدعوى في هذه السنة.