العلاقة بين القضاء و الإعلام

للقاضي عبد الستار غفور بيرقدار

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

المقدمة

لقد عنيت الدساتير الوطنية كافة والمواثيق الدولية بالتأكيد على وجود قضاء مستقل لكونه الضمانة الأساسية لدولة سيادة القانون تحقيقا للعدالة بين الناس فقيام القاضي بأداء مهامه حرا مستقلا في أحكامه وقراراته هو اكبر ضمانة لحماية الحقوق العامة والخاصة , واستقلال القضاء هو الشعار الذي يرتفع على كل المعاني الخالدة التي يسمو بها القضاء فهو عنوان أساسي لحريات الأفراد وحقوقهم

كما يعد حرية الإعلام والصحافة والرأي وحرية التعبير القاعدة في أي نظام ديمقراطي لكونها تكفل تبادل الآراء وتفاعلها ومن خلالها يتم تلقي وتبادل المعلومات والأفكار فهي قيمة عليا لا تنفصل عن الديمقراطية وإنها ركيزة من ركائزها وعلى ضوئها تنمو الشخصية الفردية وتسهم في الحياة العامة وحرية الإعلام هي مسؤولية مجتمعية لا يجوز الانحراف في ممارستها عن مقتضياتها من خلال تجاوز أطرافها عن الحدود المقررة دستوريا وقانونا وذلك حماية لمصلحة المجتمع , كما إنها حق من حقوق الإنسان نصت عليه المواثيق الدولية ودساتير الدول الديمقراطية ومنها دستور جمهورية العراق ذلك في ديباجته وفي المادة (38) منه .

ومن ذلك نجد إننا أمام اعتبارين مهمين يشترط وجودهما في أي نظام ديمقراطي وهما من المقومات الأساسية لقيام النظام الديمقراطي وركنين أساسيين منه حيث إن الديمقراطية لا تتحقق ولا تقوم إلا بهما فهما قادران على دفع قيم العدالة والمساواة إلى الإمام .

العلاقة بين القضاء و الإعلام

إن تحقيق الديمقراطية وقيام دولة القانون رهين بتعاون القضاء والإعلام باعتبارهما قادرين على الدفع بقيم العدالة والحرية والمساواة وإعلائها فكل منهما يتصدى للتجاوزات ويشير إلى مكامن القصور ويقوم على تقويم السلوك فإذا كان القضاء يستند إلى مواد القانون لمعاقبة المتجاوزين المخالفين فان الإعلام من خلال الحرية الملتزمة المتاحة له بأن يؤشر إلى التجاوزات والمتجاوزين ويكشفها أمام الرأي العام وبذلك يعتبر عين القضاء داخل المجتمع , أما القضاء فهو اليد الطولى للإعلام , فالحقوق والواجبات التي هي من حقوق الأفراد يقوم الإعلام بإشاعتها والدعوة إليها وجعلها جزءا من ثقافة المجتمع

لذا فالعلاقة بين القضاء والإعلام هي علاقة تكاملية وان كلا منهما سلطة مستقلة ويعتمد كل منهما على ضمانات دستورية حيث إن الإعلام يعتمد حرية التعبير التي كفلها الدستور والقضاء يمارس مهامه في إطار من الضمانات الدستورية ومنها استقلال القضاء في إحكامه وقراراته .

وثقة المجتمع في قضائه تتعزز بالشفافية والعلانية وتتحصن بذيوع المعلومات وانتشارها وتتأثر سلبا بالتكتم والحيطة ومن ثم يتعين على وسائل الإعلام التناول الموضوعي والمسؤول لما يدور في قاعات المحاكم ليس لان هذه المهمة من متممات رسالة القضاء وعلانية جلساته ولتلبية حاجة الأفراد إلى المعرفة ولكن تماشيا مع واقع وطني ودولي جديد لم تعد معه السرية ممكنة أو مقبولة .

إن الثقة في القضاء عملية مركبة ومعقدة وقابلة للزيادة والنقصان وذلك لارتباطها بعشرات المتغيرات التي يتسم بها العمل القضائي ومن ثم يجب أن يسعى الجميع وعلى رأسهم الإعلام لضمان دعمها وتحصينها .

كما أن القضاء هو الضامن الحقيقي لحرية الإعلام تجاه مجمل التحديات سواء كان مصدر هذه التحديات الأفراد أم السلطات فالقضاء يحمي حرية الإعلام لتمكينه من أداء مهامه وهذه نقطة من نقاط التكامل بين القضاء و الإعلام فلا احد يستطيع أن يمس الإعلام أو حريته مادام القضاء قويا ومستقلا لان هاجس القضاء هو العدل والعدل يقتضي أن يعبر الإعلام عن أرائه بحرية وفي المقابل فأن دور الإعلام الموضوعي هو دعم للقضاء واستقلاله وهو عضده في تحدي التحديات .

لذا فقد بادر القضاء في أداء دوره في حماية حرية الصحافة والإعلام وذلك بتشكيل المحكمة المتخصصة بقضايا النشر والإعلام التي جاءت داعما قويا لحرية الرأي إيمانا من السلطة القضائية في المكانة التي يحتلها الإعلام في الدولة ومكانة الإعلامي في المجتمع رغم المتشككين في بداية تشكيلها من أن هذه المحكمة سوف تكون قيدا على حرية الإعلام إلا أن الواقع العملي اثبت بان هذه المحكمة أصبحت داعما لحرية الإعلام وحاميا له من خلال الأحكام والقرارات التي أصدرتها في قضايا النشر والإعلام حيث تم تطبيق نصوص القانون لمصلحة حرية الإعلام بخبرة وكفاءة عالية , كما كان لانفتاح السلطة القضائية على الإعلام والتعاون معه في نشر الحقيقة وفي إشاعة الثقافة القانونية دور في دعمه بتوفير المعلومة عن طريق الموقع الالكتروني للسلطة القضائية وإنشاء مكاتب للإعلام القضائي في أنحاء العراق كافة للتواصل مع الإعلام بكافة وسائله وإعطاء الصلاحية الكاملة لمسؤولي مكاتب الإعلام في رئاسات الاستئناف لتزويد الإعلام والصحافة بما تريده وفقا للقانون دون الرجوع إلى المركز وهي خطوة متقدمة في تسهيل مهمة الإعلاميين للوصول إلى المعلومة بشفافية كاملة .

ومن الايجابيات المتوقعة للسلطة الرابعة هي نشر الثقافة القانونية والقضائية في المجتمع من خلال نشر إجراءات المحاكمات والتعريف باختصاص المحاكم بأنواعها وتقديم معلومات عن النظام القضائي في العراق والحقوق والواجبات التي يمكن أن يستنتجها المواطن إذا أراد اللجوء إلى القضاء .

من خلال ذلك يمكن أن نؤكد أهمية العلاقة التكاملية في القضاء والإعلام المبنية على احترام متبادل ووفق أسس معتمدة بين القضاء والإعلام والاجتهاد في تنظيمها في أي يلد يسعى إلى الديمقراطية خاصة وان استقلالية الإعلامي والقاضي تشكل ضمانة لسيادة دولة الحق والقانون وتحقيق المصلحة العامة .

ضوابط التغطية الإعلامية

إن مفهوم حرية الإعلام يعني حق الحصول على المعلومة ومن أي مصدر مشروع والحق في نشر الأخبار و الأفكار دون قيود , وضوابط الحرية الإعلامية تعني القيود التي تحفظ الحرية الإعلامية من جهة وتمنع تجاوزها الحدود المشروعة من جهة أخرى ولا تناقض بين حرية الإعلام وبين ضوابطها فالحرية تعني عدم التكميم والضوابط تعني عدم الانفلات اللامسؤول .

ومن المسلم به في القضاء مبدأ العلانية لضمان الشفافية والنزاهة – إلا ما قد يحظر بقرار من المحكمة ولأسباب تتعلق بالمصلحة العامة أو بنص القانون مثل قضايا الأحداث وماله علاقة بحرمة الحياة الخاصة أو الأسرار الشخصية واعتبارات حقوق الإنسان – ولكن من حق القضاء أن يطالب الإعلام بعدم التأثير خلال التغطيات في توجيه الرأي العام ضد تطبيق القانون أو منح هذا أو ذاك تعاطفا أو أدانه لا تجب عليه الإدانة , كما النيل من القضاء ومن رجاله أو من أحكامه أو الادعاء بأنه يمارس ولاية غير منوطة به ليس من حق احد مهما كان موقعه وآيا كان قدره فليس لأحد أن ينتزع من القاضي سلطته أو أن يجلس مقعده مادام يعمل في نطاق الدستور والقانون ومادامت أحكامه وقراراته تخضع لطرق الطعن القانونية وهي ضمانة أكيدة لسيادة القانون , كما وان إصدار الأحكام من وسائل الإعلام قبل صدور الحكم القضائي نفسه يوقع الرأي العام في حيرة شديدة إذا صدر الحكم القضائي مخالفا للاتجاه الذي شحن الإعلام به الرأي العام .

كما إن التناول الإعلامي للقضايا بصورة مبالغ فيها قد يكون سببا رئيسيا لمنع تحقيق العدالة حيث يتحول القاضي الذي ينظر في قضية ما من حاكم إلى مدان في نظر الرأي العام الشئ الذي يضع على عاتق الإعلام مسؤولية توخي الحذر من اختيار الطريقة المثلى للتعامل مع القضاء على خلاف تعامله مع جهة أخرى لان مثل هذه التحليلات قد تؤدي إلى التشكيك في القضاء والقضاة ونزاهتهم وعملهم وقد يشكل عليهم ضغطا كبيرا عند خلوهم للمداولة خاصة وان تناول الإعلام للقضايا بصورة مبالغ فيها قد يكون سببا رئيسيا لمنع تحقيق العدالة وبالتالي يجب التفريق بين الحديث عن الواقعة والحديث عن حكمها , فهناك فرق كبير بين نشر أي معلومات حول أية قضية كخبر إعلامي مجرد في وسائل الإعلام وبين النشر لحمل القضاء على حكم معين فالأول حق ينص عليه القانون كون المحاكمات علنية ما لم يقرر سريتها والثاني هو تضليل للقضاء وللرأي العام يعاقب القانون عليه .

وإذا كان لابد من التزام الحذر من طرف الإعلاميين حتى لا يأخذوا دور القضاة وهم يمارسون عملهم المهني حتى لا يقعوا في مطبات هي في غير صالح العدالة لذا لا بد للإعلامي التمسك بميثاق الاتحاد الدولي للصحافة الذي يؤكد إن على الصحفي إلا ينقل سوى الوقائع التي يعرف مصدرها ولا يحذف المعلومات ولا يزور الوثائق كما ينص الميثاق كذلك على ما يسميه أخطاء مهنية جسيمة من قبيل الانتحال , التشويه بسوء نية ,الافتراء ,النميمة , التشهير , الاتهامات غير القائمة على أي أساس , قبول مكافأة على نشر خبر أو حذفه كما يحث الميثاق على تصحيح كل معلومة منشورة ظهر إنها ضارة وغير صحيحة .

إن تحديد العلاقة في إطار حرية الإعلام بعيدا عن دائرة الشبهات ودون النيل من هيبة القضاء يحتاج إلى اطر واضحة لاستمرارية عمل سلطة الإعلام و تفعيله وذلك عبر الطرح الإعلامي الهادف والايجابي المتوازن فهذا التفاعل سيكون خير حافز في ترسيخ مفاهيم العدالة وإذكاء روح الحياد في العمل الإعلامي وحتى يؤدي الإعلام دوره الفاعل المنتظر منه لإيصال الحقيقة للمتلقي في الوقت المناسب وكشف الممارسات الخاطئة والتصدي لها فنحن بحاجة إلى ضبط العلاقة بين الإعلام والقضاء وذلك في حدود عدم الوقوع في دائرة التشكيك في موضوعية القضاء أو هيبة القضاة ودون الاشتغال بتوجيه الرأي العام لخدمة أغراض غير مشروعة أو مسيسة .

لذا نرى من الضروري إشاعة ثقافة قانونية وقضائية لدى الإعلاميين من اجل الارتقاء بالطرح الإعلامي للشؤون القضائية في إطار إعلام قضائي متخصص ومؤهل بعيدا عن الإثارة الإعلامية .

كما نأمل بإقامة دورات مهنية مكثفة للإعلاميين المتخصصين في الشأن القضائي من اجل أن يجودوا في مزاولة عملهم كما إن الأمر يحتاج إلى مراجعة لوضع حدود واضحة للمباح والمحظور في إطار حرية الرأي والإعلام ولقواعد ممارسة الحق في المعرفة وتحقيق مبدأ العلانية والرقابة الشعبية على المحاكمات دون تجاوز ينال من مكانة القضاء وكرامة القضاة وهما من ضمانات العدالة وهذه ضمن مسؤولية كليات الإعلام ونقابة الصحفيين والمؤسسات الإعلامية الأخرى.

وفي المقابل التزام السلطة القضائية بمد جسور التواصل مع المؤسسات الإعلامية وشرح الإشكالات المطروحة وتنوير الرأي العام دون المساس بالسرية التي تقتضيها القضايا في بعض مراحلها وعلى المسؤولين عن الإعلام في السلطة القضائية ان يكونوا على دراية بالمجال الإعلامي دوره البناء وحتى يؤدوا مهمتهم على وجه أكمل .

والله من وراء القصد مع فائق التقدير