المفهوم المتطور لفكرة حياد القاضي

القاضي جعفر كاظم المالكي
يقصد بفكرة حياد القاضي هو أن يقف موقفا سلبيا من كلا الخصمين في ما يتعلق بإثبات الدعوى, فالقاضي لا يمكنه أن يؤسس قناعته إلا على عناصر الإثبات التي أدلى بها الأطراف ولا يمكنه التدخل تلقائيا في البحث عن الحقيقة من دون دليل قدم من قبلهما اثناء نظر الدعوى.

حيث نصت المادة 2 من قانون الاثبات على ((الزام القاضي بتحري الوقائع لاستكمال قناعته)) لأن سير الخصومة يخضع لضوابط وقواعد معينة تحدد سلفا دور كل من القاضي والأطراف في إثارة وتسيير وإنهاء الخصومة و يتركز النزاع المدني أساسا على حقوق الخصوم وبالتالي وجب على هؤلاء إثبات ادعاءاتهم بالطرق القانونية كما يجب عليهم أن يوفروا للقاضي مادة النزاع وخاصة في ما يتعلق بجوانبه المادية وهو ما يسمى مبدأ ((ملكية الدعوى للخصوم أو للمتقاضين)) .

فمبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين يفرض على القاضي أن يبت في النزاع في حدود الإطار الذي حدده الأطراف أي بالاعتماد على الوقائع التي يستندون إليها في طلباتهم ودفوعهم وهو ما يقع تفسيره عادة من خلال مبدأ حياد القاضي.

فالقاضي يفصل بين المتقاضين على ضوء ما يدلون به من حجج وما يتمسكون به من دفوع دون حاجة إلى البحث عن أدلة أخرى أو السعي لإتمام ما كان ناقصا منها مقتصرا على الاكتفاء بما احتوته أوراق الدعوى من عناصر تجسيما لمبدأ حياد القاضي في النزاع المدني والذي يعتبر من المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها نظام الإثبات في الدعوى المدنية.

لقد حصل تغيير كبير في النظرة إلى دور القاضي في نطاق الدعوى المدنية هو أخرجه عن دوره السلبي الذي كان يرسمه له فقه الاثبات التقليدي، الى الدور الايجابي للقاضي في النزاع المدني أساسا في الحد من سلطة الأطراف على عناصر الدعوى المدنية خاصة في ما يتعلق بضبط الجوانب المادية للنزاع وجوانبه القانونية .

وقد برز هذا الاتجاه في المادة 17/ أولا من قانون الاثبات التي نصت ((للمحكمة ان تقرر من تلقاء نفسها, او بناء على طلـب الخصم, اتخاذ أي إجراء من إجراءات الإثبات تراه لازماً لكشف الحقيقية)) والذي يمكّن المحكمة من الخروج من السلبية والقيام بدور مهم في البحث عن الحقيقة التي أصبح من أبرز اهتمامات المشرع فلم يعد دور القاضي يقتصر على الحقائق النسبية التي يقدمها المتقاضين بل أصبح يبحث بنفسه عن الحقيقة الموضوعية.

وهناك جملة من الوسائل المباشرة وغير المباشرة تمكن القاضي من الوقوف على الحقيقة،والتي يمكن حصرها في:

الدور الاستقرائي للقاضي ودوره في تحديد وقائع النزاع , فالأعمال الاستقرائية كما تدل تسميتها تهدف أساسا إلى الكشف عن الحقيقة، و ليس للمحكمة أن تعتمد في قضائها على واقعة لم تعرض عليها ولم تتعهد بها في نطاق إطار النزاع الذي حدده الأطراف إلا أنه يوجد استثناء لهذا المبدأ يتعلق بالوقائع الموجودة ضمن عناصر القضية المطروحة على المحكمة.

فمثل هذه الوقائع يمكن للمحكمة إثارتها واعتمادها رغم أن الأطراف لم يتمسكوا بها صراحة.

وبالتالي فقد أصبح الدور الموكول للقاضي، يقتضي منه تحقيق المعادلة بين التزام الحياد بمفهومه الإيجابي والاجتهاد في سبيل استجلاء الحقيقة.