وضوح التشريعات بوصلة ثبات البيئة الاقتصادية ونمائها

تُعدُّ التشريعات الإطار المتحكم ببيئة الأعمال، فبقدر وضوح ذلك الإطار تتسع دائرة الأعمال داخله والعكس بالعكس، حيث يُشير البنك الدولي إلى أنَّ استقرار القواعد القانونية «Stability» يجعل قرارات الأعمال تتحرك ضمن إطارٍ يمكن التنبؤ به «Predictability»؛ نظراً لاتساق القرارات القضائية «Consistency» وتزداد القدرة على التنبؤ بنتائج حالات المعالجة؛ فتغيرُ التشريعات يجعل المستقبل غير مؤكدٍ، وبالتالي يُعرّض الاستثمارات إلى مخاطر من شأنها تقليل المكاسب والحد من النمو، ويصبح اللجوء للمحاكم منخفض الفائدة. التشريعات السعودية تستمد شرعيتها من المادة 7 من النظام الأساسي للحكم «يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله.

وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة»، ومن هذا المنطلق بدأت الدولة بسن تشريعات الدولة المدنية الحديثة مستحضرةً هذا المعنى حتى بلغت عدد وثائق الأنظمة وفقاً لإحصائية هيئة الخبراء بمجلس الوزراء 919 وثيقة، بخلاف ما تسنُّه السلطات التنفيذية، وما صادقت عليه المملكة من وثائق ومعاهدات دولية. ولا تزال التشريعات تَتَوالى لتقلل من مساحة الاجتهاد في فهم كتاب الله تعالى، وسنة رسوله على الوقائع المتجددة، إلاَّ أنها تقف قاصرةً على استكمال المسيرة لتنظيم المبادئ العامة لأحكام المعاملات المدنية والتجارية والجنائية والأحوال الشخصية، بحيث تُدَّون من الفقه الإسلامي وفقاً لأنسب الأقوال للواقع مع إلزام القضاء باتباعها كبقية أنظمة الدولة، وفقا لما جاءت به المادة 48 من النظام الأساسي للحكم. إنَّ تقنين أحكام الفقه الإسلامي لا يختلف عن تقنين أنظمة الدولة من حيث سلطة الاستمداد الحاكمة، فالتفريق بين المتشابهات -كما ذكرت مجلة الفورن بوليسي- يخلق جدلاً ومساحةً لتفسيرات خاصة، ومفاهيم غامضة.

وقد عَدَّ تقرير المديرية العامة للسياسات الخارجية بدول الاتحاد الأوروبي التقنينَ «Codification» بأنه «إصلاحٌ جذريٌ للنظام القانوني في السعودية ونقلٌ لسيطرة المحاكم على التشريع»، وأضافَ التقريرُ أنَّ الإصلاح التشريعي متطلبٌ لمكانة المملكة كعضوٍ بارزٍ في الاتحاد الخليجي، وعضوٍ في مجموعة العشرين الاقتصادية «G20»، ولكونها قوةً إقليميةً بارزةً، وشريكاً استراتيجياً للاتحاد الأوروبي. ولاستكمال مسيرة التشريع يتعين تأمل وتقييم ممارسات القضاء خلال 90 سنة منذ تَبنى الملك عبدالعزيز رحمه الله فكرة مشروع وضع «مجلة للأحكام الشرعية» تمهيداً لإلزام القضاء به عام 1927م، وحتى تجديد تلك الرغبة في ديسمبر 2014م في عهد الملك عبدالله رحمه الله بتكوين لجنة لمشروع «مدونة الأحكام القضائية في المواضيع الشرعية». فأحكام المحاكم خلال 90 سنة تثبت بلا شك تفاوتاً وتبايناً ليس على مستوى المحكمة الواحدة فحسب بل حتى على مستوى القاضي نفسه، فضلاً عن تواضع تطوير مفهوم «الاجتهاد الحر» كمقابلٍ للتقنين.

إنَّ أعلاماً كالشيخ صالح الحصين، ومحمد بن جبير، ووهبة الزحيلي -وغيرهم من الفقهاء الموسوعيين الذي رحلوا عن عالمنا- لا يتولون قضائنا اليوم كمجتهدين، وإنما سيتولاه الجيل الذي استقبل العام الدراسي الجديد. فبينَ جيل فقهاء رَحَلَ وجيلٍ قادم، جيلٌ حاليٌّ يضم نخباً من الفقهاء، وطلبة العلم النجباء، والقضاة المعتَّقين الذين بأيدهم اليوم الاضطلاع بمسؤولياتهم تجاه الشريعة بتدوين أحكام الفقه الإسلامي بثوبٍ قشيبٍ من خيوط الواقع المعاصر بصياغةٍ عصريةٍ تحفظ للشريعة بريقها، وتجعلها قادرة على مواجهة تحديات الألفية القادمة، فلا إصلاحَ قضائيٌ حقيقيٌ بدون إصلاحٍ تشريعي جذري.

فلك أن تَتَخيل مستقبل الاجتهاد غير المقنن وسط تزاحم القضايا، وسطوة الإعلام على عدم التفريق بين فهم القاضي من الشريعة وبين الشريعة ذاتها، وبخاصة عند صدور الأحكام الجزائية، كما أنَّ مجتمع الأعمال الكبيرة يحجم عن اختيار القانون السعودي كقانون للتعاقد، مما جعل القضايا الوطنية تهاجر للمحاكم الأجنبية. إنَّ التقنين هو أحد ركائز الإصلاح التشريعي، حيث يعمل على تجميع الأحكام القانونية المبعثرة بين مختلف القوانين والأحكام القضائية والعرف، وإصدارها في مجموعة واحدة لكل فرع من فروع القانون كالمدني والتجاري والجزائي وغيرها. إنَّ فكرة التقنين ليست من مستحدثات الحضارةِ الحديثةِ، بل مرتبطةٌ بتكوين الدول حيث إنَّ أشهر المجموعات القانونية التي عرفتها البشرية: تقنين حمورابي البابلي الصادر عام 2000 ق.م.، ويليه شهرةً القانون الروماني المسمى بالألواح الاثنى عشر الصادر عام 449 ق.م.، وتعد الفتاوى الهندية أول تقنين رسمي للفقه الإسلامي على المذهب الحنفي أصدرها الإمبراطور المغولي المسلم محمد أوزبك عام 1680م، ويُعدُّ قانون نابليون «Code Napoléon» المعتمد عام 1805م بدايةَ مفهوم عصر المجموعات القانونية ذات الصبغة المدنية، حيث اطُلق عليه «إنجيل الثورة L’Évangile de la révolution»، والذي اقتفت أثره محاولات عدة كالقانون المدني النمساوي عام 1811م، وقد نشطت حركة التقنين أوروبا رغم الخلاف الشديد بتبنيه كما حصل في ألمانيا التي خضعت له بعد ثلاثة قرون من الجدل بشأنه.

وفي المقابل فإن الدولة العثمانية سايرت نمط القوانين الحديثة بإقرار مجلة الأحكام العدلية عام 1876م المستمدة من المذهب الحنفي في المعاملات من مدني وتجاري، ومرافعات سَرَت على معظم دول العالم الإسلامي وتأثرت بها قوانينها حتى اليوم. كما أنها نَشطّت محاولات تقنين الشريعة حتى في سطوة حكم القوى الاستعمارية؛ نظراً لصعوبة الرجوع إلى كتب الفقه القديمة، وعدم وضوح وعلانية القاعدة الشرعية في كل مسألة، حيث نشر المستشرق الفرنسي «سيسوناس» عام 1898م تقنيناً مدنياً إسلامياً على نمط التقنين الفرنسي، وفقاً لمذهب مالك مستخلصًا من مختصر خليل وشروحه ألزَّم الحاكم الفرنسي المواطنينَ المسلمينَ بالجزائر بالعمل به عام 1905م، وبالمقابل وضع المستعمر البريطاني عام 1907م تقنيناً إسلامياً لمحاكم أفريقيا الغربية، كما أصدرت الحكومة الروسية عام 1909م تقنينًا من مجلة الأحكام العدلية لمسلمي تركستان، يتضمن قانون الأسرة وأحكام المواريث.

ربما لم يَدُرْ في خَلَد أحدٍ أنَّ مجلة الأحكام العدلية سيكونُ لها الأثر البارز في حفظ الحكم بالشريعة خلال فترات ضعف الأمة الإسلامية، فضلاً أنْ تكون أحد المصادر القانونية الدولية التي تُستقى منها الأحكام في دول أخرى. إنَّ رؤية التدوين والتقنين لا تصدر إلاَّ من قرار «سيادي» يستشرف آفاق المستقبل ومصالح الأمة، وليس أدَّل على ذلك من قرار أبي بكر الصديق الذي وافق فيه على اقتراح الفاروق رضي الله عنهما بجمع القرآن خوفاً عليه من الضياع، ثم قرار عثمان رضي الله عنه بجمعه على حرفٍ واحدٍ خشيةَ الاختلاف فيه، ويقابل ذلك قرار عمر بن عبدالعزيز بتدوين السنةِ حفظاً لها من الضياع.

ويخطأ من يفهم أنَّ الإمام مالك رفض فكرة التقنين، بل إنه استجاب لما يراه مُلبياً لطلب الخليفة المنصور بدرء اختلاف الأحكام والفتاوى بين عواصم العالم الإسلامي بتأليف مدونةٍ تكون مرجعاً عندما قال له المنصور: «يا أبا عبد الله ضعْ الفقه ودوّن منه كتبًا لتحمل الناس إن شاء الله على عملك وكتبك»، فكتب الإمام مالك الموطأ عام 774م، وطلب من الخليفة ألاَّ يُلزم به، نظراً لأنَّ أغلب السنة النبوية موزعةٌ في الأقاليم الإسلامية، حسب مناطق إقامة الصحابة بها.

وقد حضيت المدونة الكبرى لمسائل الأمام مالك باهتمام واسع في شمال أفريقيا والأندلس، فكانت المدونة أحد معالم القانون الإسلامي العريق وأحد ركائز مدونة نابليون. فالفقه الإسلامي يشتمل على أصولٍ، وقواعدَ، وفروعٍ تتظافرُ مجتمعةً لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وتقنين الفقه هو مسارٌ خاصٌ لخدمة العدالة والقضاء. ويخطأ من يفهم أن القانون الأنجلوسكوني «Anglo-Saxon law» متحررٌ من الإطار الإلزاميِّ أو وضوح التشريعات، وإنما اختلفت منهجيته وجذوره عن القانون اللاتيني «Civil Law»، ومع ذلك يشير الباحثون إلى تآكل القانون العام «Common Law» إلى التقنين حسب إحصائيات مجلس اللوردات في بريطانيا والكونجرس الأمريكي حيث يسعيان لتحديدٍ أوضح لمعالم التشريعات عبر إصدار قوانين تسحب البساط من السوابق القضائية شيئاً فشيئاً. وتؤكد ورقةٌ قدمت للبرلمان الاسترالي على ضرورة تقنين السوابق القضائية في قانون خاص بالعقود؛ نظراً لتشعبها، ولسهولة التعرف على مبادئها من غير القانونين.

إنَّ تقنين الشريعة هو بنيةٌ معرفيةٌ متكاملةٌ تعتمد على جُهد العلماء، وقرارٍ سياسي لوليِّ الأمر مراعاةً لمصالح البلاد والعباد. يقول الشاطبي: «إنا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معه حيثما دار، فنرى الشيء الواحد يُمنع في حالٍ لا تكون فيه مصلحةٌ، فإذا كانَ فيه مصلحةٌ جازَ»؛ لأن الشريعةَ كما ذكر ابن القيم «مبنَاها وأساسُها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد». فمن تمام نضج الفقه معرفةُ ظروف الواقع، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أفتى بعض أصحابه ولم يراعِ الواقع والظروف وفقاً للقواعد والأصول: «قتلوه، قتلهم الله ألاَّ سألوا إذا لم يعلموا؛ إنما شفاءُ العيِّ السؤال»، وقد قَالَ مجتمع الأعمال كلمته، وأعربَ الاقتصاد عن رغبته، وظهرَ حال المجتمع وحاجته، فمتى تَقَرُّ أعين الحقوقين بإقرار التقنين؟.
الهبوب

إعادة نشر بواسطة محاماة نت