بقلم الدكتـور حسـن فتـوخ
مستشار بمحكمة النقض
رئيس قسم التوثيق والدراسات والبحث العلمي

تقديـم:

ترتبط قيمة التقييد بالرسم العقاري بصفة عامة ارتباطا وثيقا بقيمة العمل والتصرف موضوع التقييد ويدور معه وجودا وعدما في الحكم، وفي الصحة والبطلان، كما أن التقييد وإن كان يحفظ الحقوق المقيدة ويضمنها ويقوم حجة على صحتها بين الأطراف، فإن ذلك كله رهين بأن يكون التصرف الذي كان سببا له تصرفا صحيحا.

ومن ثم يمكن القول إن حجية التقييد لا تطهر العقد المقيد بالرسم العقاري من العيوب التي تطاله بين طرفيه.

إذ يمكن لأي منهما أن يطالب بإبطاله، أو ببطلانه بناء على الأسباب القانونية الموجبة لذلك، والتشطيب على التقييد الذي تم بمقتضى العقد المصرح بإبطاله أو بطلانه بين طرفيه.

غير أن هذا النوع من الدعاوى العقارية لا يكون له أي أثر على البيانات الواردة بالرسم العقاري، ولا تسري بأثر رجعي إلا إذا تم تقييدها احتياطيا طبقا لنص المادة 13 من مدونة الحقوق العينية، لأنها دعوى عينية عقارية ترمي إلى إسقاط حق المالك المقيد بالرسم المذكور، في انتظار صدور حكم مكتسب لقوة الشيء المقضي به.

ولعل أهم الإشكالات المطروحة في هذا الصدد تتعلق بتأسيس بطلان التصرف أو إبطاله على سبب إصابة أحد الطرفين بالجنون أو العته أو السفه، لا سيما وأن الطرف الآخر لا علم له بأتميته من عدمها عند التعاقد، الشيء الذي يطرح إشكالية تحديد تاريخ الإصابة بالخلل العقلي أو السفه مثلا من طرف المحكمة بناء على تقرير الخبرة المنجزة في الموضوع، حتى يتأتى ترتيب الآثار القانونية عن ذلك.

وإذا كان التقييد في حد ذاته ليس له تأثير على صحة التصرف، ولا تترتب عليه إزالة العيوب التي تطال السند الذي تم على أساسه، فإنه لا ينشئ لمصلحة صاحب الحق العيني المقيد بالرسم العقاري سندا قانونيا مجردا ومستقلا عن التصرف القانوني الذي استند إليه ذلك التقييد، على اعتبار أن حجية هذا الأخير بين المتعاقدين تقوم على قرينة قانونية بسيطة قابلة لإثبات العكس.

ولعل تناول هذا الموضوع يقتضي منا الوقوف على توجهات محكمة النقض بشأن الدعاوى الناشئة عن التصرفات العقارية كما يلي:

أولا: دعاوى البطلان والإبطال والفسخ

نشير إلى أن محكمة النقض قررت في نازلة تتعلق بإبطال صدقة بسبب التدليس من طرف المتصدق عليه أمام العدلين، عدم جواز التراجع في الصدقة مع جعل عبء إثبات التدليس على مدعيه تبعا للحيثيات الواردة في قرارها الصادر بتاريخ 21 يناير 2015 كما يلي:

” لكن، ردا على الوسيلة أعلاه بفرعيها، فإنه لا يجوز التراجع في الصدقة عملا بقواعد الفقه المعمول بها، سواء قبل دخول قانون 39-08 حيز التنفيذ أو بعده لقول ابن عاصم ” وكل ما يجري بلفظ الصدقة فالاعتصار أبدا لن يلحقه”، وأن رسم الصدقة عدد 313 ص 380 وتاريخ 16/08/2004 يفيد تصدق الطاعنة على ابنها المطلوب في النقض بقطعة أرض غير محفظة مساحتها 1494 م م، وإن إثبات التدليس يقع على مدعيه،

وأن المحكمة بما لها من سلطة في تقييم الأدلة ونتائج البحث الذي قامت به فإنها حين عللت قرارها بأن “البحث الذي باشرته عن طريق المستشار المقرر لم يسفر عن إثبات ما ادعته المستأنفة من وقوع التدليس عليها عند إشهاد العدلين عليها بتصدقها على ابنها المستأنف عليه بمساحة 1491 مم من الأرض التي تملكها، سيما وأن رسم الصدقة تضمن الإشهاد على أتمية المتصدقة”. فإنه لما ذكر، يكون القرار المطعون فيه معللا تعليلا كافيا ومرتكزا على أساس قانوني، والوسيلة بالتالي غير جديرة بالاعتبار”.

ويمكن لأحد أطراف العقد دون غيرهم المطالبة أمام المحكمة المختصة محليا ونوعيا إما ببطلان العقد المقيد بالرسم العقاري أو إبطاله، أو فسخه مع ما يترتب عن ذلك قانونا من إبطال للتقييد المتعلق بالعقد المذكور عملا بمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري والفقرة الأولى من المادة 2 من مدونة الحقوق العينية.

غير أن تحديد المركز القانوني الناتج عن التقييدات المؤقتة بالنسبة للمستفيد منها في مواجهة الطرف المتعاقد معه يفرض علينا بيان مدى الحجية التي يتمتع بها الحق المراد المحافظة عليه بالرسم العقاري.

ذلك أن النتيجة المباشرة للتقييد الاحتياطي أيا كان نوعه تتجلى في الاستفادة من مزية الأثر الرجعي في حفظ الحق منذ تاريخ إجرائه في حالة الاعتراف القضائي بالحق، أو عند التقييد النهائي، وذلك دون اعتبار لأية حجية للتقييدات اللاحقة له طالما أن المفعول القانوني لهذه الأخيرة يتوقف على مآل التقييد الاحتياطي السابق لها. أما في حالة العكس فإن التقييد الاحتياطي لن تكون له إلا القيمة القانونية للتصرف المستند عليه.

فإذا ثبتت زورية الوعد بالبيع موضوع دعوى إتمام إجراءات البيع المقيدة احتياطيا في الرسم العقاري فإن حجيته تزول طبعا في مواجهة المتعاقد المنسوب إليه البيع بصدور حكم يقضي برفض الطلب. إذ اعتبرت محكمة النقض في هذا الإطار أن ثبوت زورية الوعد بالبيع المدلى به من طرف الموعود له بالبيع، يجعل المحكمة في غنى عن البحث في التدليس والغش الذي يدعيه هذا الأخير.

وفي نازلة أخرى تتعلق بدعوى الفسخ اعتبرت محكمة النقض في أحد قراراتها بتاريخ 13 يناير 2015 ما يلي:

” قوة الشيء المقضي به تمنع من العودة للبحث مجددا في مدى صحة تصرف حسم بشأنه حكم بات بين نفس الخصوم، والقرار المطعون فيه لما اعتمد ذلك وعن صواب حين علل ” بأن مسألة عدم تنفيذ المستأنف عليهم لالتزامهم أصبحت محسومة بمقتضى الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء عدد 6823 بتاريخ 14/11/96 في الملف عدد 1984/95 المؤيد بالقرار الاستئنافي عدد 5859 الصادر في الملف 5816/97 الذي وإن قضى بعدم قبول دعوى المستأنف عليهم الرامية إلى إتمام البيع فإنه في أسبابه التي أدت إلى هذا المنطوق اعتبر أن البيع تام ومستجمع لكافة أركانه وفضلا عن هذا فنفس الحكم قضى برفض الطلب المضاد الرامي إلى فسخ البيع” فإنه نتيجة لما ذكر كله كان القرار معللا تعليلا كافيا ، والسبب بالتالي غير جدير بالاعتبار”.

ثانيا: دعوى إتمام إجراءات البيع

إن عدم أداء الثمن من طرف المشتري أو عرض ما تبقى منه على البائع، يجعل دعوى إتمام إجراءات البيع غير مرتكزة على أي أساس، ويكون بالتالي التقييد الاحتياطي المستند على مقالها غير منتج لمفعوله القانوني.

ذلك أن محكمة النقض اعتبرت في أحد قراراتها ما يلي:
” لا يجوز لأحد أن يباشر الدعوى الناتجة عن الالتزام إلا إذا أثبت أنه أدى أو عرض أن يؤدي ما كان ملتزما به. أو بعبارة أخرى، فإنه يجوز لكل متعاقد الامتناع عن الوفاء بالتزامه إلا إذا وفى المتعاقد معه بالتزامه المقابل، ما لم يوجد شرط بسبق أحدهما بالوفاء طبقا لمقتضى الفصلين 234 و235 من قانون الالتزامات والعقود.

وبذلك فإن المحكمة حين قضت على البائع بإتمام إجراءات البيع دون أن يكون المشتري أدى أو عرض أداء ما تبقى بذمته من ثمن المبيع فإنها خالفت هذه القاعدة ولم تبن قرارها على أساس قانوني وعرضته للنقض”.

ومن جهة أخرى، فإذا وقع بيع عقار بعد تحفيظه وأشير في عقد البيع إلى رقم المطلب بدل رقم الرسم العقاري الذي أصبح العقار المبيع يحمله بعد تحفيظه، فإن ذلك يعد مجرد خلط بين رقم المطلب ورقم الرسم العقاري لا يعفي البائعة من وجوب تنفيذ التزامها بتسليم المبيع ونقل ملكيته إلى المشتري وذلك بالعمل على تصحيح الخطأ المادي الوارد بعقد البيع،

وتضمينه رقم الرسم العقاري للعقار المبيع، الشيء الذي يترتب عنه تباعا إنتاج التقييد الاحتياطي لمقال الدعوى المرفوعة ضد المالك أثره القانوني في حفظ الحق بأثر رجعي منذ تاريخ إجرائه بالرسم العقاري.

ومن ثم فقد اعتبرت محكمة النقض أن ” القرار المطعون فيه معللا تعليلا كافيا لما أشار إلى أن البيع ثابت بموجب عقد عدلي، وأن مجرد نفيه من طرف البائعة لا أثر له على صحة العقد ووجوده، وأوضح أن البيع وقع بعد التحفيظ، وخلص إلى إلزامها بتنفيذ التزامها تجاه المشتري “.

ثالثا: دعوى التحجير وأثرها على صحة التصرفات العقارية:

يترتب عن ثبوت الخلل العقلي لدى الطرف المفوت بطلان عقود التفويت المبرمة من قبل هذا الأخير، وبالتالي إبطال التقييد الوارد بالرسم العقاري، وإرجاع المتعاقدين إلى الحالة التي كانوا عليها قبل التعاقد، الشيء الذي يطرح إشكالية التاريخ المعتمد من طرف القضاء للتصريح بالبطلان، فهل يعتد بتاريخ ثبوت الخلل، أم من تاريخ الحكم بالتحجير ؟ أو بعبارة أخرى فهل يكتسي الحكم بالتحجير طبيعة إنشائية أم كاشفة ؟

وجوابا عن ذلك، فإن التاريخ الواجب اعتباره لترتيب جزاء البطلان المنصوص عليه في الفصل 306 من ق.ل.ع، هو تاريخ الإصابة بالخلل العقلي أو السفه أو العته عملا بمقتضيات المادة 220 من مدونة الأسرة.

ومن ثم فإن الحكم الصادر بالحجر أو برفعه يعتبر كاشفا لحالة الشخص العقلية وليس منشئا لها، طالما أن فقدان العقل والسفه والعته يكون لصيقا بالشخص المعني بها، وأن المحكمة تقتصر على معاينة الخلل والتأكد من تاريخ ثبوته بناء على رأي أهل الخبرة وذوي الاختصاص في هذا المجال، لترتيب أثر البطلان على التصرفات المنجزة بعد التاريخ المذكور حسب ما استقر عليه قضاء محكمة النقض في هذا الاتجاه.

وبديهي، أن حجية التقييد الاحتياطي تسري بالنسبة للمستفيد منه في مواجهة ممن تلقى الحق منه فقط دون غيره، على اعتبار أن المشتري لعقار محفظ لا يستطيع تقييده بالرسم العقاري إذا كان البائع له غير مسجل لعقد شرائه، الشيء الذي يستلزم وجوب تقييد البيوعات السابقة عملا بمبدأ تتابع التسجيلات الذي يمنع انقطاع التسجيل، حتى يتأتى له تحويل تقييده الاحتياطي إلى تقييد نهائي للحق في مواجهة خلفه المباشر.

وهو ما أكده محكمة النقض حينما اعتبرت أن كل حق عقاري يراد تقييده بالرسم العقاري، يجب أن يكون مفوتا مباشرة من صاحب حق سبق تقييده بالرسم المذكور، بحيث إذا كان حق عقاري محل تفويتات متعددة ومتوالية، فإن آخر تفويت لا يمكن تقييده قبل ما سبقه من تفويتات.

رابعا: المنع المؤقت من التفويت وأثره على صحة التصرفات العقارية

غني عن البيان، أن البائع لا يمكنه المطالبة بإبطال العقد المبرم بينه وبين المشتري استنادا إلى شرط في عقد شرائه مقرر لمصلحة سلفه، وبالتبعية إبطال التقييد الجاري بشأنه وأمر المحافظ بالتشطيب على اسم المشتري وتقييد اسم البائع كمالك للرسم العقاري.

أو بعبارة أخرى فإن قيام متلقي الحق من الدولة ببيع العقار قبل مضي خمس سنوات المشترطة في العقد الرابط بينه وبينها والمقيدة للتصرف، لا يخوله إطلاقا الحق في المطالبة بإبطال العقد المبرم بينه وبين المشتري منه، طالما أن الحق المذكور مقرر لمصلحة غيره.

وقد كرست محكمة النقض هذا التوجه معتبرة أن ” الشروط الواردة في عقد البيع المبرم بين طالب النقض والدولة المغربية تنظم العلاقة بين هذه الأخيرة والمستفيد من البيع الذي التزم بمراعاة البنود التي ينص عليها عقد البيع وهي علاقة شخصية ومباشرة، ولذلك فإن البطلان الناتج عن المخالفة لبنود العقد والذي هو حق للبائع يعتبر بطلانا نسبيا لا يهم علاقة المشتري طالب النقض مع الغير.

ومن تم فإن البيع المبرم بين طالب النقض والمطلوب في النقض يبقى قائما وصحيحا بين المتعاقدين ما دامت الإدارة التي يعنيها أمر المخالفة لم تستعمل حقها في بطلان البيع في مواجهة طالب النقض…”.

وتأسيسا على هذا الموقف القضائي، فإنه لا يحق للمحافظ العقاري أن يرفض تقييد عقد المشتري بعلة أن البائع ليس من حقه إجراء البيع قبل مرور خمس سنوات، وبالتالي ليس للبائع نفسه التمسك ببطلان هذا البيع، وذلك عملا بالقاعدة الفقهية القائلة أن ” من سعى لنقض ما تم من جهته، فسعيه مردود عليه “، وإنما يحق للدولة في هذه الحالة أن تعمد إلى إقامة الدعوى لإبطال ذلك العقد استنادا للشرط المدرج في عقد البيع، على اعتبار أن هذا الأخير مقرر لمصلحتها وحدها دون غيرها.

خامسا: مدى أحقية الكفيل العيني في مقاضاة المدين الأصلي للتحلل من الكفالة

من الثابت طبقا للقواعد العامة، أن أحقية الكفيل في مقاضاة المدين الأصلي للحصول على إبراء ذمته، لا تخوله إياه مقاضاته للتحلل من الكفالة.

إلا أن المحكمة الابتدائية بالخميسات ذهبت خلاف ذلك حينما قضت ببراءة ذمة الكفيل العيني من التزام الكفالة والحكم على الدائن المرتهن بتسليمه نظير الرسم العقاري تحت غرامة تهديدية، فألغته محكمة الاستئناف بالرباط وبعد التصدي قضت برفض الطلب، وسايرتها في ذلك محكمة النقض معتبرة أن ” المحكمة بتعليلها لقرارها أن الفصل 1141 من ق.ل.ع يخول للكفيل مقاضاة المدين الأصلي للحصول على إبراء ذمته، أي ذمة المدين من التزامه. أي التزام المدين بأداء الدين المكفول من طرف الكفيل إذا كان في حالة مطل في تنفيذ التزامه.

ولا يخول للكفيل مقاضاة المدين للتحرر من الكفالة كما قضى به الحكم المستأنف. فأسباب انتهاء الكفالة منصوص عليها بالفصول 1150 وما يليه من ق.ل.ع وهي نفس الأسباب التي تنقضي بها الالتزامات الأخرى كالوفاء والإبراء من الدين موضوع الكفالة الغير المتوفرة في النازلة.

وأن الحكم المستأنف لما قضى ببراءة ذمة المدعي من الالتزام بالكفالة يكون قد وضع حدا لهذه بالإرادة المنفردة للكفيل في غياب طرف رئيسي في الكفالة وهو الشركة المقرضة…” تكون قد أوضحت مدلول الفصل 1241 ق.ل.ع وفسرته تفسيرا مطابقا لمدلوله وغير مشوب بأي خطأ”.