اختصاص النيابة العمومية في الإذن بفتح تحقيق

الاستاذ محمد حافظ بن عطية

تعد النيابة العمومية الجهة الأساسية المختصة بإقامة وإثارة الدعوى العمومية، فتباشرها باسم المجتمع و تتابع سيرها حتى لحظة تطبيق العقوبات عملا باحكام الفصل 20 م إ ج والذي جاء فيه ” النيابة العمومية تثير الدعوى العمومية و تمارسها كما تطلب تطبيق القانون و تتولى تنفيذ الأحكام “.

وعليه فان تحريك الدعوى العمومية و مباشرتها يكون من صلاحيات و اختصاصات النيابة العمومية أما البحث عن الأدلة و جمعها و تمحيصها و التأكد من نسبتها للمتهم من عدمه فهي أعمال تحقيق يختص بها قاضي التحقيق ضرورة ان المشرع التونسي قد تبنى مبدأ الفصل بين سلطتي التحقيق و التتبع فجعل الأولى من اختصاص قاضي التحقيق وجعل الثانية من اختصاص النيابة العمومية (1) .

وقد تبلور تكريس هذا المبدأ بالخصوص على مستوى الجنايات التي تعتبر من الجرائم الخطيرة التي تتطلب أبحاثا مضنية و تفرغا كاملا قد لا يمكن لممثل النيابة العمومية القيام بها، و ذلك خلافا لما هو الشأن بالنسبة للجنح و المخالفات التي يمكن لممثل النيابة العمومية أن يتولى التحقيق فيها بنفسه دون لزوم إحالتها على قاضي التحقيق .

فاعتبارا لما تتميز به النيابة العمومية من كونها الممثلة للهيئة الإجتماعية والساهرة على الصالح العام ، فقد جعلها المشرع الماسكة لسلطة التتبع والموجّهة لها وذلك بأن خصها و ميزها بإمكانية الاذن بفتح بحث تحقيقي ضد كل من يخرق قواعد القانون الجنائي بحيث أدى ذلك إلى القول باختصاص النيابة العمومية في الإذن بإجراء بحــث تحقيقي بما يعد معه القرار الفاتح للبحث و الصادر عن وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه هو الصورة الوحيدة لتعهد حاكم التحقيق .

فتعهد هذا الاخير بالبحث يبقى مبدئيا رهين صدور قرار في إجراء بحث عن سلطة التتبع الممثلة في النيابة العمومية و التي يكون لها وحدها الحق في إثارة الدعوى العمومية المتعلقة بأية جريمة كانت

بيد أن هذا القول لا يمكن أن يؤخذ على إطلاقه ، نظرا لوجود عدة استثناءات أفرزتها النصوص القانونية ، يتعهد بموجبها قاضي التحقيق بالبحث بقطع النظر عن صدور قرار في إجراء بحث من عدمه من وكيل الجمهورية من ذلك صورة الجناية المتلبس بها (1)و صورة إثارة الدعوى العمومية من طرف المتضرر عند قيامه على مسؤوليته الخاصة، أو من بعض الموظفين الذين أناطها القانون بعهدتهم(3) .

وفي هذا الإطار أقتضى الفصل 55 م إ ج أنه ” لوكيل الجمهورية أن يطلب من حاكم التحقيق في قرار افتتاح البحث وفي كل طور من أطوار التحقيق بمقتضى قرار تكميلي إجراء الأعمال التي يراها لازمة لكشف الحقيقة “، بحيث لا يمكن لقاضي التحقيق مبدئيا أن يتعهد بالبحث في قضية ما طالما لم تكلفه النيابة العمومية بمقتضى قرار في إجراء بحث ، يكون صادرا بالضرورة إما عن وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه ، يطلب ضمنه إجراء الأعمال و الأبحاث اللازمة قصد الوصول إلى معرفة الحقيقة وتحديد هوية الجاني أو الجناة إن تعدّدوا وكيفية اقترافهم للجرم المنسوب إليهم .

وبناء على ذلك يمكن القول أن النيابة العمومية تلعب دورا هاما وأساسيا على مستوى انطلاق الأبحاث وتعهيد جهاز التحقيق بالبحث الذي لا يمكن له التعهد به من تلقاء نفسه عملا بمبدإ الفصل بين سلطتي التتبع والتحقيق .

إن إفراد النيابة العمومية دون غيرها بإمكانية فتح بحث تحقيقي وتخصيصها بذلك ، يجعل منها صاحبة حق مطلق يترتب عن عدم احترامه خلل إجرائي ينجر عنه بطلان جميع الأعمال اللاحقة له ولا يتسنّى تصحيحه إلا باسترجاع النيابة لحقّها في اتخاذ القرار في فتح بحث طبق ما يقتضيه القانون .

تكتسي دراسة موضوع اختصاص النيابة العمومية في الاذن بفتح تحقيق اهمية نطرية مدى تبني المشرع التونسي لنظرية الفصل بين سلطة التتبع و سلطة التحقيق بين اختصاص قاضي التحقيق و اختصاص النيابة العمومية .

اما على المستوى العملي فان اهمية الموضوع تكمن في البحث عن اليات و شروط ممارسة النيابة العمومية في الاذن بفتح تحقيق .

لذا سنحاول من هذا المنطلق ابراز مدى تخصص النيابة العمومية في الاذن بفتح تحقيق .

مما يقتضي طرح الاشكالية التالية : ماهي مظاهر و شروط تخصص النيابة العمومية في الاذن بفتح تحقيق ّ؟

و تتجلى ممارسة النيابة العمومية لاختصاصها في الإذن بإجراء بحث تحقيقي في عدة مظاهر (الجزء الاول ) و تخضع لنظام قانوني يتعين على وكيل الجمهورية مراعاته (الجزء الثاني).

الجزء الاول: مظاهر ممارسة حق الإختصاص في الإذن بفتح بحث تحقيقي

يتوقّف تعهد قضاء التحقيق بالدعوى العمومية على إثارتها من قبل ممثل النيابة العمومية الذي يتحتّم عليه التأكد بعد جمع كل المعلومات اللازمة عن وجود أفعال مكوّنة لجريمة نصّ القانون على عقاب مقترفها إذ أن المبدأ هو” لاجريمة بدون نصّ سابق الوضع “.

كما عليه أن يتحقق من وجود شخص معين أو يمكن تعيينه بوصفه فاعلا أصليا أو شريكا، كالتحقق من عدم انقضاء الدعوى العمومية سواء كان ذلك بموت المتهم أو بمرور الزمن أو باتصال القضاء أو بنسخ النص الجزائي أو بالعفو العام أو بالصلح إذا نص القانون على ذلك صراحة أو بالرجوع في الشكاية إذا كانت شرطا لازما للتتبع .(1)

فلا يمكن لقاضي التحقيق مباشرة وظيفته إلا بناء على طلب تتقدم به النيابة العمومية دون سواها يسمى ب”الطلب الفاتح للتحقيق” أو كما يسميه المشرع التونسي بـ ” قرار افتتاح البحث”، وذلك ما أكد عليه الفصل55 م إ ج عندما مكن وكيل الجمهورية من الإذن بإجراء وفتح بحث تحقيقي كلما رأى فائدة في ذلك جاعلا هذه المهمة من اختصاصه المطلق .

يمكن القول إذا إن مظاهر ممارسة حق الاختصاص في الإذن بفتح بحث تحقيقي تتمثل أولا في اختصاص النيابة العمومية ممثلة في وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه باتخاذ القرار القاضي بالتتبع (الفقرة الأولى) وثانيا في اختصاصها بتقدير مدى ملاءمة التتبّع من عدمه (الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولى : اختصاص على مستوى الإنفراد باتخاذ القرار

خصّ المشرع التونسي النيابة العمومية بمهمة تعهيد قاضي التحقيق بالبحث في قضية ما، فلا يمكن لهذا الأخير أن يتعهد إلا بناء على قرار في إجراء بحث يكون صادرا وجوبا عن وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه وذلك سواء كان القرار فاتحا للبحث (أ) أو مستأنفا للتتبّع لظهور أدلة جديدة (ب)

أ – قرار افتتاح البحث

مبدئيا وتطبيقا لأحكام الفصل 55 م إ ج فإنه لا يمكن لقاضي التحقيق أن يتعهد بالبحث بصفة قانونية إلا بناء على قرار افتتاح البحث الذي يصدره وكيل الجمهورية المختص ترابيا والذي يطلب فيه إجراء الأعمال التي يراها لازمة لكشف الحقيقة ، بحيث ليس لقاضي التحقيق أن يمارس سلطاته التحقيقية إلا بموجب طلب افتتاحي من النيابة العمومية تكلّف فيه قاضي التحقيق بمباشرة الأبحاث فيها.

ويجب على النيابة العمومية أن توضح في قرار افتتاح البحث هوية المتهم إن كان معروفا أو ضد كل من سيكشف عنه البحث إن كان مجهولا ، وبيان نوع الجريمة المقترفة والنص القانوني المنطبق عليها واسم قاضي التحقيق الواقع اختياره للبحث في القضية إن تعدّد حكّام التحقيق بالمحكمة ذات النظر.(1)

وتجدر الإشارة إلى أن وكيل الجمهورية ـ كممثل للنيابة العمومية لدى المحكمة الإبتدائية ـ يستمد سلطاته تلك ، مباشرة من القانون . لذا ،لا يمكن لأي أحد من رؤسائه الحلول محلّه في أداء المهام المناطة بعهدته ( بما فيها إصدار قـرار افتتاح البحث ) حتى وإن رفض تطبيق التعليمات التي يتلقّاها عملا بمبدإ التنظيم الهرمي للنيابة العمومية .

فلوكيل الجمهورية وحده سلطة إقامة الدعوى العمومية ومباشرتها بغض النظر عن أمر رؤسائه ، و لا يمكن للوكيل العام، ولو عند رفض وكيل الجمهورية الإذعان للأمر الموجه إليه بإثارة الدعوى العمومية ، القيام بذلك عوضا عنه ومن باب أولى وأحرى بالنسبة لوزير العدل الذي وإن كان رئيسا للنيابة العمومية ، فإنه لا يمثل قلم الإدعاء العمومي وإنه من الخطإ اعتبار الإدارة العليا للدعوى العمومية تعود لوزير العدل ، بل أبعد من ذلك فإنه يمكن لوكيل الجمهورية أن يثير الدعوى العمومية ولو كانت مخالفة لطلبات رئيسه .(1)

إذا يخلص مما سبقت الإشارة إليه أن تخصيص النيابة العمومية بإصدار قرار فتح البحث والذي بمقتضاه يتعهد قضاء التحقيق بالبحث في قضية ما، إنما يقصد به النيابة العمومية في معناها الضيق ممثلة في وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه ولا تشمل غيرهما من أعضاء قلم الإدعاء الخاضعين للتسلسل الهرمي للنيابة العمومية .

والسؤال الذي يطرح على ضوء ذلك هو : هل أن مساعدي وكيل الجمهورية يتصرفون باسم رئيسهم بناء على تفويض صريح أو ضمني من طرفه أم أنهم يستمدون ذلك الحق مباشرة من القانون ؟

باعتبار أن مساعدي وكيل الجمهورية ولئن خول لهم القانون صلاحية تمثيل النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية فإن ذلك لا يكون إلا باسم وكيل الجمهورية ذاته وهو رئيسهم المباشر الذي يخضعون لسلطته الرئاسية وينفذون جميع تعليماته وأوامره بدون تحفظ مما يجعلهم امتدادا له و بالتالي فقرار فتح البحث الصادر عن أحد المساعدين لا يبطل ولا يؤثر على صحة تعهد قاضي التحقيق ويكون له القوة النافذة كما لو كان صادرا عن وكيل الجمهورية .

كل ذلك يقيم الدليل الساطع والحجة الدامغة على انفراد النيابة العمومية ممثلة في وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه باتخاذ قرار في افتتاح البحث ، فهل يمكن الجزم بذلك بالنسبة لقرار استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة ؟

ب – قرار استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة

إقتضى الفصل 121م إ ج في فقرته الأولى أنه (( إذا قرر حاكم التحقيق أو دائرة الإتهام أن لا وجه لتتبع متهم فلا يمكن إعادة تتبعه من أجل نفس الفعل إلا إذا ظهرت أدلة جديدة )). تفترض هذه الصورة سبق تعهد قضاء التحقيق ، بالتحقيق في القضية ، إلا أنه لسبب أو لآخر وقع حفظها، في هذه الصورة يمكن للنيابة العمومية بعد صدور قرار الحفظ سواء كان ذلك عن قاضي التحقيق أو دائرة الإتهام الإذن من جديد باستئناف التتبع بناء على ظهور أدلة جديدة من شأنها تقوية الحجج التي كانت غير كافية أو زيادة الإيضاح المؤدي إلى ظهور الحقيقة .

لقد خصّص المشرّع التونسي النيابة العمومية تطبيقا لأحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 121 بحق إصدار قرار استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة حيث جاءت تلك الفقرة ناصّة على أن (( …طلب استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة من خصائص وكيل الجمهورية أو المدعي العمومي دون سواهما ))، و هو ما يثير التساؤل عن سبب إقصاء بقية أطراف الدعوى العمومية من هذا الحق وخاصة القائم بالحق الشخصي ؟.

أن إقصاء المتضرر مقصود باعتبار أن هذا الإجراء ذو صبغة إستثنائية واحتكار النيابة العمومية له يعود إلى كونها تملك لوحدها الدعوى العمومية وتتصرّف فيها حسب المعطيات التي تراها ملائمة ، وإفراد النيابة العمومية بحق استئناف التحقيق لا يستبعد منه أن تكون الأدلة الجديدة مثارة من الطّرف المتضرر الذي من مصلحته السّعي إلى إظهارها لكشف الحقيقة .

ومن الثابت عمليّا أن استئناف التحقيق كثيرا ما يكون بالتماس أو إيعاز من أطراف الدّعوى العمومية وخصوصا من قبل القائم بالحق الشخصي .

وتتولّى النيابة العمومية استئناف التحقيق بنفس الطريقة التي يقع بها فتح التحقيق أي بموجب قرار في استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة .

لكن تجدر الإشارة إلى أنه ، وخلافا لقرار فتح البحث الذي لا يمكن له أن يصدر إلا من طرف وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه ، فإن قرار استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة قد يصدر عن أحد هؤلاء كما قد يصدر عن الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف أو عن أحد مساعديه وهو ما يؤكد وحدة النيابة العمومية واختصاصها بإثارة الدعوى العمومية في كلّ الأطوار التي تمر بها (1).

إن اختصاص النيابة العمومية بالإذن بإجراء وفتح بحث تحقيقي ليس هو المظهر الوحيد لتميّزها بإصدار القرار الفاتح للبحث وإنما يتجلّى ذلك أيضا من خلال اختصاصها بتقدير ملاءمة التتبع من عدمه.

الفقرة الثانية : إختصاص على مستوى تقدير ملاءمة التتبع

خص المشرع التونسي النيابة العمومية سلطة تقدير مدى ملاءمة التتبع من عدمه وذلك في الفصل 30 م إ ج الذي نص على أن (( وكيل الجمهورية يجتهد في تقرير مآل الشكايات والإعلامات التي يتلقّاها أو التي تنتهي إليه ))، بمعنى أن للنيابة العمومية الحرية في إثارة الدعوى العمومية وممارستها من عدمه و هو ما يعرف بمبدإ ملاءمة التتبع .

غير أن المشرع التونسي و لئن اعتمد على هذا المبدإ فإنه لم يجره على إطلاقه فأضفى عليه بعض الحدود التي تفقد في وجودها النيابة العمومية سلطتها التقديرية في التتبع .

أ – مبدأ ملاءمة التتبع

يقتضي التعرض لهذا المبدأ التعريف به وبيان أساسه القانوني (أولا ) ثم بيان العناصر المعتمدة في تقدير ملاءمة التتبع من عـدمه (ثانيا).

أولا : التعريف بالمبدإ و أساسه القانوني

يقصد بــ”مبدإ ملاءمة التتبع ” السماح بإفلات بعض الجرائم ، القابلة للمساءلة القانونية والثابتة بوجه كاف، من أي إجراء من إجراءات التتبع الجزائي، وذلك لبواعث لا شأن لها بالقانون فهذا المبدأ يمنح النيابة العمومية ، وبوصفها السلطة الماسكة لحق التتبع الجزائي، الحرية في تقدير مآل ما يرد عليها من شكايات و إعلامات في خصوص الجرائم التي يقع ارتكابها بدائرة تدخّلها الترابي .

بحيث أن مبدأ ملاءمة التتبع يخفف ويحد من صرامة مبدأ الشرعية الذي هو القاعدة والأصل.

فانطلاقا مما يتجمع لدى وكيل الجمهورية من معلومات وأدلة يتولى هذا الأخير بعد دراستها تقدير مصيرها ، فإما أن تكون متضمنة لأفعال إجرامية هامة فيبادر بإثارة التتبعات أو أن تكون عكس ذلك فيتصرّف فيها بالحفظ . وبالتالي فإن ذلك يعني أن تكون لوكيل الجمهورية الحرية التامة في اختيار التتبع للجرائم أو في تركه .(1)

غير أن تلك الحرية ليست مطلقة فقرار التتبع من عدمه لا يكون إلا بعد إجراء أبحاث عن الجريمة يمكن أن تبرر عدم التتبع بالرغم من قيام العناصر المكونة للجريمة وذلك إما لعدم خطورة العمل الإجرامي أو انعدام مصلحة المجتمع أو ظروف موضوعية خاصة بالمتهم .

ولقد أخذ فقه القضاء التونسي بمبدإ ملاءمة التتبع في عديد المناسبات(2)، كما أخذت به جل التشاريع المقارنة كالقانون الفرنسي والقانون الألماني والقانون المصري .

وإذا ما قررت النيابة العمومية عدم التتبع فإنها تصدر قرارا بالحفظ وهذا القرار هو قرار إداري وقتي لا يكتسب قوة ما اتصل به القضاء ما لم يسقط التتبع الجزائي بمرور الزمن، بحيث إذا ما عثرت النيابة العمومية بعد الحفظ على أدلة جديدة لم يسبق لها الاطلاع عليها أمكنها إثارة الدعوى العمومية من جديد .

لكن ما هي العناصر المعتمدة في تقدير ملاءمة التتبع من عدمه ؟

ثانيا : العناصر المعتمدة في تقدير ملاءمة التتبع من عدمه

لم يضبط القانون التونسي المعايير الواجب اعتمادها في تقدير مدى ملاءمة التتبع من عدمه، و لاستخلاص هذه المعايير يجب الاخذ بعين الاعتبار ان سلطة التتبع تصون المصالح العامة للمجتمع الذي تمثله وأنها لا تتصرف إلا بغرض الحفاظ على هذه المصالح.

لذلك فانه عند فحص ملاءمة تحريك الإجراءات من عدمه تتناول النيابة العمومية بالدرجة الأولى الفائدة الاجتماعية و العملية للعقاب ذاته ، وتحدد إلى أي مدى تخلّ الجريمة بالنظام العام وتبتّ فيما إذا كان العقاب على الجريمة من شأنه أن يصلح الخلل الإجتماعي الرّاجع إليها (1) و يكون كلّ ذلك في إطار السلطة التقديرية الراجعة إليها ..

وانطلاقا من هذا الأساس يتبين أن هناك فئتين من العناصر التي يقوم عليها قرار الملاءمة أو عدمها ، فهناك فئة ذات طابع عام تتعلق بجسامة الخلل الإجتماعي وفئة أخرى ذات طابع فردي تتعلق بشخصية الجاني .

كما ينبغي على النيابة العمومية أن تأخذ بعين الإعتبار حالة الجاني بعد ارتكابه الجريمة ومدى شعوره بالندم من عدمه ومدى استعداده لإصلاح ما بنفسه وتقويم سلوكه .(1)

ولئن خص المشرع النيابة العمومية ممثلة في وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه بسلطة تقدير ملاءمة التتبع ، فإنه لم يتركها على إطلاقها إذ فرض عليها جملة من الحدود تكون فيها النيابة العمومية إما ملزمة بإثارة التتبع أو بعدم إثارته .

ب – حدود مبدإ ملاءمة التتبع

إن تخصيص النيابة العمومية بسلطة تقدير ملاءمة التتبع من عدمه قد يؤدّي بها أحيانا إلى التعسف في استعمال هذا الحق فتقرر تتبع الجرائم البسيطة والتافهة وترك جرائم أخرى قد تكون على قدر من الخطورة ، لهذه الأسباب ضبط المشرع حدود حرية التتبّع من عدمـه .

أولا : حدود حرية عدم التتبع

يلزم وكيل الجمهورية في بعض الأحيان بإثارة الدعوى العمومية رغم اقتناعه بعدم وجاهة التتبع ونزوعه إلى اتخاذ قرار بالحفظ . ولعلّ من أبرز الحالات التي يجبر فيها وكيل الجمهورية على التتبع رغما عن إرادته ، هي تلقيه لتعليمات صادرة من وزير العدل أو الوكيل العام لدى محكمة الإستئناف الراجع لها بالنظر تطالبه بإجراء التتبعات اللازمة، حيث اقتضى القانون عدد 80 لسنة 1987 المؤرخ في 29 ديسمبر 1987 الذي ألغى الوكالة العامة للجمهورية (( …ولوزير الدولة المكلف بالعدل أن يبلغ إلى الوكيل العام ذي النظر الجرائم التي يحصل له العلم بها وأن يأذنه بإجراء التتبعات سواء بنفسه أو بواسطة من يكلفه من أعضاء قلم الإدعاء العام …)) .

وإذا سلمنا بأنه يمكن لوزير العدل الإذن بالتتبع والقيام بالدعوى العمومية فهل يمكن له أيضا أن يأذن بعدم التتبع أو بعدم القيام بالدعوى العمومية ؟.

ليس من حق وزير العدل أن يأذن بذلك نظرا لغياب الشرعية لهذا الإذن خاصة و أن الدعوى العمومية ليست ملكا إلا للمجتمع و إنما أسند لوكيل الجمهورية حق إثارتها نيابة عنه ولصالحه . أما تعليمات الوزير فهي تكتسي الصبغة العامة فتكون في شكل إسداء إرشادات عامة تتعلق مثلا بقانون جديد وتوضيح بعض بنوده في مجال التطبيق أو تأويل بعض القوانين لتوحيد إجراءات النيابة العمومية وغالبا ما تكون في شكل مناشير(3) .

كما يجبر وكيل الجمهورية على إثارة الدعوى العمومية رغم اقتناعه بعدم وجاهتها في صورة قيام المتضرر بإثارة الدعوى على مسؤوليته الشخصية عملا بأحكام الفصل 36 م إ ج ، إلا أنه يحتفظ بحريته في المطالبة بالحفظ لدى قلم التحقيق أو بعدم سماع الدعوى العمومية لدى المحكمة .

ثانيا : حدود حرية التتبع

تنعدم حرية النيابة العمومية في إثارة الدعوى العمومية والتتبع و الاذن باجراء بحث تحقيقي وذلك إذا ما انقرضت الدعوى لسبب من أسباب انقضاء الدعوى العمومية الواقع تعدادها بالفصل4 م إ ج الذي نص على : (( تنقضي الدعوى العمومية :

أولا : بموت المتهم

ثانيا : بمرور الزمن

ثالثا: بالعفو العام

رابعا: بنسخ النص الجزائي

خامسا : باتصال القضاء

سادسا : بالصلح إذا نص القانون على ذلك صراحة

سابعا : بالرجوع في الشكاية إذا كانت شرطا لازما للتتبع))

ففي كل هذه الحالات تكون النيابة العمومية ملزمة بالإمتناع عن تحريك الدعوى العمومية ويتعين عليها أن تتخذ قرارا في الحفظ .

كما تنعدم حرية النيابة العمومية في إثارة الدعوى العامة في صورة وجود مانع من موانع تحريكها، و الموانع هي ما يرد على الدعوى العمومية من قيود تحول دون إمكانية إثارة الدعوى العمومية ويمكن حصرها في ثلاث حالات :

*الحالة الأولى : إصابة المتهم بعاهة عقلية :

تتخذ هذه الإصابة شكل جنون فيكون لها تأثير على الدعوى العمومية ، وفي هذا الصدد نص الفصل77 م إ ج على أنه (( إذا اعترى ذا الشبهة عته بعد ارتكاب الجريمة يؤخر عرضه للمحاكمة أو يؤخّر الحكم عليه )) ، فالعته الذي يصيب مرتكب الجريمة بعد ارتكابها يوقف إجراءات الدعوى العمومية أو يحول دون تحريكها أصلا .

*الحالة الثانية : توقف الدعوى العمومية على شكاية :

تعتبر الشكاية قيدا هاما يحد من حرية النيابة العمومية في إثارة الدعوى العامة ، ومن الجرائم الموجبة لرفع الشكاية يمكن أن نذكر مثلا :

ـ حالة الإعتداء بالعنف بين الأقارب وتحديدا اعتداء الفروع بالعنف على الأصول وهي الجريمة المنصوص عليها بالفصل 218 م ج ، فإذا أسقط السلف المعتدى عليه حقه فإن إسقاطه يوقف التتبعات فتكون النيابة العمومية ملزمة بالحفظ .

ـ حالة السرقة بين الأصول والفروع وهي الجريمة المنصوص عليها بالفصل 266 م ج .

ـ حالة الفصل 53 م أ ش إذ تتوقف جريمة عدم دفع النفقة على وجوب تقديم شكاية من المحكوم له بها .

ـ حالة الزنا إذ نص الفصل 236 م ج على أنه (( لا يسوغ التتبع إلا بطلب من الزوج أو الزوجة اللذين لهما وحدهما الحق في إيقاف التتبع أو إيقاف تنفيذ العقاب )) .

إلا أنه وخروجا عن ذلك قرر فقه القضاء أنه يمكن للنيابة العمومية ، ودون توقف على امتناع الزوج عن إثارة التتبع ، أن تثير الدعوى العمومية من تلقاء نفسها إذا ثبت لها سوء سلوك الزوجة الخائنة وتواطؤ زوجها معها في ذلك (1).

ففي كل هذه الحالات يقتصر دور المتضرر على تقديم الشكاية وتسترجع النيابة العمومية بعدها حريتها في متابعة إجراءات الدعوى وفي اتخاذ ما تراه من قرارات .

*الحالة الثالثة : توقف الدعوى العمومية على إذن :

لا وجود لنص صلب مجلة الإجراءات الجزائية يتعرض لوجوب حصول النيابة العمومية على إذن لإثارة الدعوى العمومية أو إحالة أي شخص على المحاكمة من أجل ما ارتكبه من جرائم .

إلا أن نصوصا خاصة تعرضت لوجوب الحصول على إذن لإجراء تتبعات ضد بعض الأشخاص نظرا لانتمائهم إلى بعض السلطات أو الهيئات، من ذلك ما ورد بالفصل 27 من الدستور التونسي من عدم إمكانية إجراء تتبع أو إيقاف أحد النواب طيلة نيابته في تهمة جنائية أو جناحية ما لم يرفع عنه مجلس النواب الحصانة البرلمانية ، ما عدا حالة التلبس بالجريمة فإنه من الممكن إيقافه ويعلم مجلس النواب حالا على أن ينتهي كل إيقاف إذا طلب المجلس ذلك .

كما أنه وتطبيقا للفصل 22 من القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14 جويلية 1967 المتعلق بالقانون الأساسي للقضاة ، فإنه لا يمكن أن يكون القاضي محل تتبع من أجل جناية أو جنحة ارتكبها طالما لم ترفع عنه الحصانة القضائية من طرف المجلس الأعلى للقضاء .

كذلك الأمر بالنسبة للجناية أو الجنحة المرتكبة من طرف أعوان السلك الديبلوماسي الذين يتمتعون بحصانة ديبلوماسية بحيث لا يجوز اتخاذ أي إجراء نحوهم أو توجيه أي استدعاء إليهم سواء تعلقت التتبعات بعملهم الرسمي أو لم تتعلق به ، على أن هذا لا يمنع من الشروع في إجراءات واعمال التحقيق من توجهات على العين ، وسماع الشهود وانتداب خبراء، لكن على شرط أن لا يكون في هذه الإجراءات أي مساس بأشخاص الأعوان المعنيين أو مساكنهم أو مراسلاته .

ويتعين على وكلاء الجمهورية في هذه الأحوال إعلام الوكيل العام بالموضوع وموافاته بأوراق التحقيق قبل إتمامها، لإبلاغها لوزير العدل لكون تلك الحصانة تهم النظام العام بحيث لا يمكن للمتمتع بها أن يعدل عنها (1).

وتجدر الإشارة إلى أن الإذن بالتتبع شخصي لا يتمتع به إلا الحائز للصفة دون غيره من المتهمين الذين لا تتعطل ضدهم إثارة الدعوى العمومية .

ويخلص من كل ما سبق أن النيابة العمومية هي الجهة الأساسية المختصة بإقامة الدعوى العمومية والماسكة لزمام التتبع والمختصة مطلقا بتقدير مدى ملاءمة التتبع من عدمه ووجوب فتح بحث تحقيقي أو الإكتفاء بإحالة القضية على المحكمة المختصة .

غير أنها إذا قررت الإذن بإجراء وفتح بحث تحقيقي، وذلك بإحالة ملف القضية على حاكم التحقيق قصد إجراء الأبحاث اللازمة بغية الوصول إلى الحقيقة ومعرفة الجناة، فإنه يتعين حتما على ممثل النيابة العمومية التقيد بالنظام القانوني الذي أرساه المشرع للغرض ودعم أركانه كل من الفقه وفقه القضاء .

الجزء الثاني : النظام القانوني لممارسة حق الإختصاص في الإذن بفتح بحث تحقيقي.

ليس لقاضي التحقيق أن يتعهد بقضية ما قصد التحقيق فيها إلا بموجب طلب افتتاحي تصدره في هذا الشأن النيابة العمومية ، وقد اقتضى الفصل55 م إ ج أن (( لوكيل الجمهورية أن يطلب من حاكم التحقيق في قرار افتتاح بحث وفي كل طور من أطوار التحقيق بمقتضى قرار تكميلي إجراء الأعمال التي يراها لازمة لكشف الحقيقة .)).

وهذا الأمر ييسر على المتهم وعلى محاميه معرفة بداية الاتهام ومن ثم ، بداية المطالبة بالشكلية الإجرائية وحقوق الدفاع والضمانات القانونية (1) التي لا يسوغ المطالبة بها إلا لدى قلم التحقيق .

إذن يرجع اختصاص فتح بحث تحقيقي إلى النيابة العمومية دون سواها وتصبح طرفا في القضية بمجرد إصدارها قرار افتتاح البحث وتعامل من ذلك التاريخ كبقية أطراف الدعوى العمومية .

و بالرغم من الأهمية التي يكتسيها قرار افتتاح البحث باعتبار أن الإجراءات اللاحقة له هي التي ستؤسس أعمال التحقيق، زيادة على كونه الأداة التي بواسطتها تثير النيابة العمومية الدعوى العمومية، فإن المشرع لم يتول ضبط نظامه القانوني (فقرة اولى) وهو ما سعى الفقه وفقه القضاء إلى تداركه بضبط شروطه و تحديد آثاره (فقرة ثانية) .

الفقرة الأولى : شروط ممارسة حق الإختصاص في الإذن بفتح بحث تحقيقي

تنقسم هذه الشروط إلى شروط شكلية (أ) وأخرى موضوعية (ب) يتعين على النيابة العمومية احترامها عند إصدارها قرار افتتاح البحث وذلك حتى يكتسي تعهد قاضي التحقيق بالبحث الصبغة القانونية 2.

أ – الشروط الشكلية

تنقسم هذه الشروط بدورها إلى شروط خاصة بقرار افتتاح البحث (اولا) و شروط خاصة بقرار استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة (ثانيا) .

أولا : الشروط الشكلية الخاصة بقرار افتتاح البحث

رغم الأهمية التي يكتسيها قرار افتتاح البحث، فإن مجلة الإجراءات الجزائية لم تتعرض إلى الشروط الشكلية الواجب توفرها فيه ، إذ اكتفى المشرع التونسي بالفصل 51 منها على التنصيص على أن القضية تعهد بصفة لا رجوع فيها لقاضي التحقيق بمقتضى قرار في إجراء بحث .

وقد علق الأستاذ رشيد فرح على ذلك بقوله ” إن ذلك القرار هو قرار كتابي مؤرخ وممضى من قبل وكيل الجمهورية أو مساعده يتضمن عرضا للأفعال موضوع التتـبع أمــا ذكر الأشخاص الوارد تتبعهم أو تفصيل الأدلة المذكورة بـه فهي تعد بيانات اختيارية “. (1)

وهو ما أقره أيضا الفقه الفرنسي و ساندته محكمة التعقيب الفرنسية التي أكدت أن قرار افتتاح البحث يجب أن يكون مكتوبا ، مؤرخا ، وممضى من قبل وكيل الجمهورية ومتضمنا عرضا للأفعال موضوع التتبع دون وجوب أن يكون معللا .(1)

وتأسيسا على ذلك يمكن حوصلة الشروط الشكلية لقرار افتتاح البحث فيما يلي:

* يجب أن يكون القرار مكتوبا :

من خصائص التحقيق الإبتدائي وجوب إثباته بالكتابة لكي تبقى إجراءاته حجة يتعامل الآمرون والمؤتمرون بمقتضاها، وتكون أساسا صالحا لما يبنى عليها من النتائج (2) فلا يصح قرار افتتاح البحث الشفوي ولا ينتج أية آثار قانونية ولو أقر به وكيل الجمهورية وكذلك الندب التليفوني ولو كان ثابتا في دفتر الإرشادات التليفونية مادام ليس له أصل موقّع عليه من الطرف الذي أصدره .(3)

ولا يمنع القانون التونسي من استعمال المطبوعات الجاهزة مسبّقا ( formules préimprimées ) طالما أن إمضاء وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه هو الذي يضفي الصبغة الرسمية على جميع التنصيصات الواردة بتلك المطبوعات (4).

هذا وقد اعتبر الأستاذ محمد المنصف بوقرة أن الكتابة شرط لصحة القرار (5) وبالتالي يترتب عن غيابه البطلان .

إلا أن محكمة التعقيب الفرنسية، وخلافا لهذا الموقف، ترى أن غياب الأثر الكتابي لقرار افتتاح البحث لا يترتب عنه البطلان إذا أمكن الجزم بوجوده من خلال بعض الوثائق الأخرى التي يمكن أن يتضمنها ملف القضية، من ذلك مثلا محاضر البحث التي حررها مأمورو الضابطة العدلية (1) .

لكن يبقى هذا الموقف مجرد اتجاه فقه قضائي ليس بالإمكان مجاراته نظرا لوضوح موقف المشرع التونسي في خصوص هذه المسألة ، وهو عدم إمكانية تعهد قاضي التحقيق من تلقاء نفسه ( عدا حالة التلبس بالجناية ) و لزوم صدور قرار افتتاح البحث من قبل النيابة العمومية .

* يجب أن يكون القرار ممضى :

إضافة إلى شرط الكتابة ، يجب أن يكون قرار افتتاح البحث ممضى من طرف وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه وإلا بطل القرار وبطلت بالتالي الإجراءات اللاحقة له، ذلك أن الإمضاء هو الذي يضفي على قرار افتتاح البحث وجوده القانوني (2).

وقد استقر فقه القضاء الفرنسي على اعتبار البطلان الناجم عن فقدان الإمضاء بطلانا مطلقا لا يمكن تلافيه أو تصحيحــه .ويعتد بإمضاء وكيل الجمهورية ولو لم يكن مقروءا إذ المهم أن يشكل إمضاؤه علامة مميزة له ، ومجرد وجود الإمضاء في حد ذاته يقوم قرينة على كونه صادرا عن أحد أعضاء النيابة العمومية حتى يثبت خلافه .(3)

* يجب أن يكون القرار مؤرخا :

يعد التاريخ من التنصيصات الوجوبية أيضا التي يترتب عنها بطلان قرار افتتاح البحث وجميع الإجراءات التالية له ، وهو بطلان يتعين على دائرة الاتهام إثارته من تلقاء نفسها (4)، ذلك أن افتقار قرار افتتاح البحث للتاريخ يجعل من الصعب معرفة إن كانت الأعمال التي قام بها قاضي التحقيق لاحقة لتعهده أم سابقة له (5)، كما أن التاريخ الوارد به هو الذي يبين ما إذا كانت الدعوى العمومية قد انقرضت بمرور الزمن أم لا أو أنه قد تم قطع مدة التقادم فهو إذن يضفي الشرعية على أعمال قاضي التحقيق .

* تعيين قاضي التحقيق :

يجب أن يتضمن قرار افتتاح البحث اسم قاضي التحقيق الواقع اختياره للبحث في القضية إن كان بالمحكمة عدة قضاة تحقيق ، وذلك عملا بأحكام الفصل 49 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي جاء فيه (( إذا كان بالمحكمة عدة حكّام تحقيق فإن وكيل الجمهورية يعين لكل قضية الحاكم المكلف بالبحث فيها )) .

و يترتب عن عدم التنصيص على اسم قاضي التحقيق صلب قرار افتتاح البحث بطلان الإجراءات اللاحقة له، أما بالنسبة للمحاكم الإبتدائية التي لا يوجد فيها إلا قاضي تحقيق واحد فالأمر لا يستدعي ذلك وما على النيابة العمومية إلا تعهيده دون سواه وبدون اختيار.

ثانيا : الشروط الشكلية الخاصة بقراراستئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة

ورد بالفصل 121 م إ ج في فقرته الأولى أنه (( إذا قرر حاكم التحقيق أو دائرة الإتهام أن لا وجه لتتبع متهم فلا يمكن إعادة تتبعه من أجل نفس الفعل إلا إذا ظهرت أدلة جديدة )).

كما اقتضت الفقرة الأخيرة من نفس الفصل أن (( طلب استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة من خصائص وكيل الجمهورية أو المدعي العمومي دون سواهما )) .

يستنتج من خلال هذا الفصل أن قرار استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة يخضع، إضافة إلى الشروط الواجب توفرها في قرار افتتاح البحث والسابق تعدادها، إلى شرط شكلي خاص بهذه الصورة ويتمثل في حفظ القضية من قبل قاضي التحقيق أو دائرة الإتهام .

وهو ما يدعو إلى التساؤل عن حالات الحفظ التي يجوز معها استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة ؟.

يميز الفقهاء ومن بينهم Bouzot et Penotel في تطرّقهم لهذه الإمكانية بين الحفظ القانوني والحفظ الفعلي قاصرين استئناف التحقيق في صورة الحفظ الواقعي الذي يتأسس إما على غياب أدلة الإدانة أو عدم كفاية الحجة وهي جميعها أسباب تبرر الحفظ عملا بقاعدة ” الشك يؤول دائما لصالح المتهم”.

أما الحفظ المبني على أسباب قانونية كصدور عفو عام أو موت المتهم أو غياب الجريمة لعدم توفر القصد، فلا يجوز فيه استئناف التحقيق لأن الأدلة الجديدة ليس من شأنها تغيير واقع قانوني ثابت.

إلا أن هذا التمييز يبقى نسبيا إذ يمكن حتى في الحالة التي يكون فيها الحفظ مؤسسا على أسباب قانونية ، استئناف التحقيق ومثال ذلك ظهور أفعال يستخلص منها وجود القصد الجنائي وبالتالي اكتمال أركان الجريمة أو اكتشاف وجود إجراء قاطع لمدة التقادم يمكن معه إثارة الدعوى العمومية (.

غير أن الفرق الأساسي بين فتح التحقيق واستئنافه ، يظهر في تخصيص النيابة العمومية دون غيرها بحق طلب استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة .

وتجدر الإشارة إلى أن استئناف التحقيق يتم أمام السلطة التي أصدرت قرارا بأن لاوجه للتتبع وهي بحسب الأحوال إما قاضي التحقيق أو دائرة الإتهام.

والتحقيق المستأنف هو تتمة للتحقيق الأول الذي ختم بصفة مؤقتة عن طريق قرار الحفظ، وتبعا لذلك يمكن القول إن تعهد دائرة الإتهام بالتحقيق بعد استئنافه يعد خرقا لمبدإ الإستقراء على درجتين باعتبارها ستنظر في أدلة جديدة لم تعرض سابقا على سلطة تحقيق من درجة أولى (2).

إضافة إلى كل هذه الشروط الشكلية تخضع النيابة العمومية عند إصدارها سواء لقرار افتتاح البحث أو لقرار استئناف التحقيق لعدة شروط موضوعية من الواجب أخذها بعين الإعتبار .

ب – الشروط الموضوعية

هناك شروط خاصة بقرار افتتاح البحث (اولا) و أخرى خاصة بقرار استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة (ثانيا).

أولا : الشروط الموضوعية الخاصة بقرار افتتاح البحث
يخضع قرار افتتاح البحث التحقيقي لجملة من الشروط الموضوعية وهي تتمثل في :

* التنصيص على الأفعال موضوع التتبع :

يجب أن يشتمل قرار افتتاح البحث التحقيقي التنصيص على الأفعال المقترفة موضوع التتبع وذلك تطبيقا للفصل51 م إ ج ذلك أنه من الضروري أن يكون قاضي التحقيق المتعهد بالبحث عالما بالواقعة أو الوقائع الإجرامية التي سيباشر في شأنها أبحاثه الإستقرائية .

بيد أنه وعلى مستوى التطبيق، لا يتضمن قرار افتتاح البحث التنصيص على الأفعال موضوع التتبع ويقع الإكتفاء فيه بذكر التكييف القانوني للأفعال المنسوبة للمظنون فيه ، والذي اعتمدته النيابة العمومية عند فتحها للبحث .

ولقد أقر فقه القضاء هذا الإتجاه التطبيقي الذي سلكته النيابة العمومية مع اشتراط أن يتضمن قرار افتتاح البحث الإشارة إلى الوثائق التي اعتمدتها في ذلك التكييف وأن ترفق هذه الوثائق بالقرار(1).

وتوصل فقه القضاء على ضوء ذلك إلى إقرار بطلان قرار افتتاح البحث وأيضا الإجراءات اللاحقة له إذا وقــع التغافل عن إرفاق تلك الوثائق بقرار افتتاح البحث (2) على أنه لابد من التأكيد على أن التحقيق يجب أن يكون في حدود الأفعال المبينة بقرار إجراء البحث وليس لقاضي التحقيق أن يتولى بحث غيرها من الأفعال الجديدة التي أنتجتها عملية التحقيق إلا إذا كانت ظرفا مشددا للجريمة المحالة عليه .

أما إذا اكتشف جريمة أخرى غير التي جاء بها قرار افتتاح البحث ، فإنه لا يمكن توجيهها على المتهم واستنطاقه من أجلها إطلاقا إلا بعد عرض الأمر على النيابة العمومية بقرار اطلاع يعرضه عليها لإبداء رأيها في خصوص موافقتها على ذلك ، فإن فعلت يمكنه تتبع الفاعل من أجلها وإلا أصبح عاجزا لا يحرك ساكنا (3).

وإذا كان القانون قد قيّد قاضي التحقيق بالنسبة للوقائع واشترط عليه عدم إجراء تحقيقات في وقائع ظهرت أو تبدّت أثناء قيامه بعمله إلا بعد طلب إضافي من النيابة العمومية، فإنه قد أعطاه حرية وحقا في اتهام من يرى أن الأدلة ووسائل الإثبات تقتضي اتهامه ولو لم تقع الإشارة إليهم في الطلب الإفتتاحي أو عوملوا في بداية الأمر كشهود،كما له أن يتجاوز عن متهم اتهمته النيابة إلى متهم آخر اكتشفه التحقيق .

و هنا نقول حسنا فعل القانون عندما حدّد أعمال قاضي التحقيق ومجالها بالأفعال لا بالأشخاص ، ذلك أن النيابة العمومية لا تستطيع وهي في بداية الطريق، تحديد جميع الأشخاص الفاعلين والمساهمين والمحرضين لكي تستطيع أن تطلب من قاضي التحقيق التحقيق في واقعة معينة كالسرقة مثلا أو القتل أو الإختلاس أو غيرها … ولو اختلف التكييف بينهما (1) .

* تحديد الوصف القانوني الملائم :

يجب على ممثل النيابة العمومية عند إصداره قرار افتتاح البحث أن يتولى التكييف القانوني للجريمة وذلك بإعطائها الوصف القانوني الملائم وتحديد النصوص القانونية المنطبقة عليها .

وفي هذا الإطار جاء في قرار جناحي صادر بتاريخ 28 جوان 1949 أنه (( من الواجب على قلم الإدعاء وقاضي الإحالة أن يعينا بتدقيق التهمة الموجهة على المظنون فيه والنص القانوني المنطبق عليها )) .(2)

لكن على أهميته يبقى هذا التحديد ذا صبغة توجيهية بالنسبة لقاضي التحقيق الذي له حرية الإجتهاد لتقدير الوصف القانوني الملائم للأفعال بشرط التعليل الذي يخضع إلى رقابة محكمة التعقيب التي جاء في أحد قراراتها ما يلي (( وحيث إن الرأي الذي بنى عليه السيد حاكم التحقيق قراره في اعتبار الجريمة تندرج تحت أحكام الفقرة الأولى من الفصل 297 بناءاعلى تفاهة المسروق وانتفاء الخطارة لا يحول دون إكساء الأفعال وصفها الحقيقي التي فرضتها الفقرة الثانية من الفصل 297 من ق ج )) .(1)

وبإمكان النيابة العمومية أن تمنح الأفعال أوصافا نوعية وتصنيفية كأن تعتبر الجريمة من جرائم الإعتداء على الأشخاص فيحمل على قاضي التحقيق حصر الفعل الإجرامي في نطاق جريمة معينة كما يرى الفقيه J. Pradel أنه إذا كانت الأفعال تحتمل وصفين قانونيين أحدهما يتطلّب التشديد والآخر التخفيف فإن النيابة العمومية تعتمد الوصف الأرفق للمظنون فيه .

* تعيين الشخص أو الأشخاص المظنون فيهم :

يميز الفقه في نطاق الدعوى العمومية بين مرحلة التحقيق ومرحلة الحكم، معتبرا أن الدعوى العمومية في نطاق هذه المرحلة هي دعوى شخصية أي أنها موجهة ضد شخص معين قادر على تحمل المسؤولية الجزائية ومستهدف إلى العقاب لكونه فاعلا أصليا أو شريكا في الجرم المقترف .

أما في مرحلة التحقيق، فإن للدعوى العمومية صبغة موضوعية إذ تهدف إلى زجر مرتكب الجريمة إن كان معلوما والكشف عنه إن كان مجهولا وعليه يمكن فتح بحث تحقيقي ضد شخص مجهول إلى أن يتم الكشف عنه، وذاك ما أقره المشرع التونسي صلب الفصل 31 م إ ج الذي نص على أنه (( لوكيل الجمهورية إزاء شكاية لم تبلغ حد الكفاية من التعليل أو التبرير أن يطلب إجراء بحث ـ مؤقتا ـ ضد مجهول بواسطة حاكم التحقيق إلى أن توجه تهم أو تصدر عند الإقتضاء طلبات ضد شخص معين )) .

ثانيا : الشروط الموضوعية الخاصة بقراراستئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة

إن الشرط الأساسي لاستئناف التحقيق بعد سبق الحفظ من قاضي التحقيق أو دائرة الإتهام هو ظهور أدلة جديدة لم يتسن عرضها على قلم التحقيق قبل ذلك، لكن ما المقصود بالأدلة الجديدة ؟.

وردت الإجابة ضمن نص الفصل 121 م إ ج الذي جاء في فقرته2 ما يلي (( وتعد من الأدلة الجديدة تصريحات الشهود والأوراق والمحاضر التي لم يتسن عرضها على حاكم التحقيق أو دائرة الإتهام ، ويكون من شأنها إما تقوية الأدلة التي سبق اعتبارها غير كافية وإما إدخال تطورات جديدة على الأفعال بما يساعد على كشف الحقيقة )).

ومن المسلم به أن الحالات الواردة في هذا النص جاءت على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، وأن الأدلة الجديدة تشمل كل ما من شأنه إثبات وجود الجريمة أو ارتكاب المتهم لها بطريقة أتم مما فعلته الأدلة الأولى التي فصلت فيها سلطة التحقيق . فيمكن أن تنتج الأدلة الجديدة من أقوال بدرت من المتهم بعد صدور أمر الحفظ و من جريمة أخرى من نوع واحد ارتكبها المتهم في ظروف مماثلة ومن بعض ظروف دلّت على أن المتهم الذي اعتبره قاضي التحقيق مجنونا وقت ارتكاب الجريمة كان في الحقيقة متمتعا بإدراكه .(1)

وبصفة عامة يرجع تقدير قيمة الأدلة الجديدة واعتبارها إن كانت فعلا جديدة ومن شأنها تقوية الأدلة ، التي اعتبرت غير كافية ، أو إدخال تطورات جديدة على الأفعال بما يساعد على كشف الحقيقة ، إلى قاضي التحقيق وذلك تحت مراقبة محكـمة التعقيب .

فهل يشترط أن تكون تلك الأدلة قد اكتشفت بعد صدور قرار الحفظ أم يمكن أن تكون موجودة أثناء التحقيق ولكن كان من غير الممكن الإطلاع عليها ؟.

ينص الفصل 121 فقرة 2 على أن الأدلة الجديدة هي (( التي لم يتسن عرضها على حاكم التحقيق أو دائرة الإتهام )) وهو ما يتطابق مع عبارات الفصل189 من قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي حيث جاء به :

“ … N’ayant pu être soumis à l’éxamen du juge d’instruction “ .

وبناء على ذلك يرى شرّاح القانون عموما أن الدليل الجديد يجب أن يكون قد اكتشف بعد أمر الحفظ، أما الأدلة التي تكون موجودة أثناء التحقيق الأول ولكن قاضي التحقيق أغفلها سهوا منه أو لأي سبب آخر، فلا يصح الرجوع إليها واعتبارها كأدلة جديدة .

وخلافا لذلك يرى بعض الفقهاء أنه ليس من المتحتم ، لاعتبار الدليل من الأدلة الجديدة ، أن يكون قد وجد بعد صدور أمر الحفظ وإنما، العبرة في الدليل الذي يبرر إقامة الدعوى مجددا ، هي كونه مجهولا لقاضي التحقيق أكثر من كونه جديدا، فعل واقعة و لو كانت سابقة على أمر الحفظ تصلح لأن تكون أساسا للرجوع إلى الدعوى على شرط أن تكون قد اكتشفت أي لم تكن عرضت على قاضي التحقيق من قبل(2).

يبدو أن هذا الرأي الثاني هو الذي اعتمده المشرع التونسي الذي يعتبر من الأدلة الجديدة ، تصريحات الشهود والأوراق والمحاضر التي لم يتسن عرضها على حاكم التحقيق أو دائرة الإتهام و هو ما يفهم منه أن الدليل يعتبر جديدا حتى ولو كان موجودا أثناء التحقيق ولكن لسبب أو لآخر بقي مجهولا لدى من تولى التحقيق ، إلى أن وقع اكتشافه بعد صدور قرار الحفظ 3.

و إذا ما استوفى الإذن بإجراء بحث تحقيقي جميع شروطه القانونية تولدت عنه جملة من الآثار

الفقرة الثانية : آثار ممارسة حق الإختصاص في الإذن بفتح بحث تحقيقي

إن ممارسة النيابة العمومية لحقها في الإذن بإجراء بحث تحقيقي تنجر عنه جملة من الآثار تكون فاعلة لا في مواجهتها هي فحسب (أ) بل أيضا في مواجهة قاضي التحقيق (ب) .

أ- في مواجهة النيابة العمومية

تتمتع النيابة العمومية ممثلة في وكيل الجمهورية أو أحد مساعديه بسلطة تقديرية واسعة في مسألة إثارة الدعوى العمومية من عدمها ، وإذا ما قررت إثارتها فإن لها أن تتصرف فيها بإحدى الطريقتين ، إما عن طريق الإحالة المباشرة على المحكمة المختصة أو بالإحالة على التحقيق في الجنايات وجوبا وفي غيرها إذا رأت النيابة لزومه ، وذلك بإصدار قرار افتتاح بحث تأذن فيه حاكم التحقيق بإجراء الأبحاث اللازمة قصد الوصول إلى الحقيقة .

ويترتب عن اعتماد الطريقة الثانية تعهيد قاضي التحقيق بالبحث في القضية ، وسواء كان التعهد مؤسسا على قرار افتتاح البحث أو قرار استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة، فإنه يتميز في كلتا الحالتين بصبغته النهائية التي تمنع وكيل الجمهورية من سحب ملف القضية من قاضي التحقيق ، ذلك أن هذا الأخير و بمقتضى قرار إجراء البحث الصادر عن النيابة العمومية يتعهد بالقضية بصفة لارجوع فيها تطبيقا للفصل 51 م إ ج الذي جاء مؤكدا على أنه (( تعهد القضية بصفة لا رجوع فيها لحاكم التحقيق بمقتضى قرار في إجراء البحث …)) وهو ما يعرف بمبدإ عدم رجعية التعهد .

فلا يمكن للنيابة العمومية التي اختارت فتح بحث تحقيقي في جريمة ما أن تقوم بعد ذلك بسحب القضية من قاضي التحقيق المتعهد وإحالتها مباشرة على المحكمة، كما لا يمكنها في صورة ثبوت اختصاص قاضي تحقيق بالنظر في نفس القضية أن تسحبها من القاضي الأول السابق تعهيده بها ليتولى التحقيق فيها زميله .(1)

كما لا يمكن لوكيل الجمهورية أثناء تعهد قاضي التحقيق أن يحاول الحد من اختصاصات هذا الأخير في هذا المجال، وكل قرار يتخذه في هذا الشأن يبقى دون فاعلية تذكر، ذلك أن قاضي التحقيق عندما يتعهد بالنظر في أفعال ما إنما يكون ذلك بمقتضى القانون ، وذلك ما أقرته محكمة التعقيب الفرنسية في قرارها الصادر في 24 مارس 1977(2).

وبالتالي فإن النيابة العمومية تفقد سيطرتها على القضية وتصبح طرفا فيها رغم أنها طرف متميز ويحمل على قاضي التحقيق واجب التوفيق بين حقوق النيابة العمومية بوصفها تمثل الحق العام وحقوق المظنون فيه وما يجب أن يتمتع به من ضمانات، وليس لقاضي التحقيق بلوغ هاته الموازنة إذا لم يكن تعهده بالنزاع نهائيا، لذلك فإن مبدأ عدم رجعية التعهد يشكل ضمانة أساسية لاستقلالية قاضي التحقيق ولحسن سير القضاء ، وقد أكدت محكمة التعقيب على هذا المبدإ الإجرائي في عديد القرارات من ذلك مثلا قرار صادر في8 مارس 1967جاء فيه (( لا تملك النيابة حق الرجوع في الدعوى بعد أن تثيرها ولا يسوغ لها قانونا العدول عن الطعن الذي تقوم به ضد الأحكام والقرارات لأن قيامها بتلك الطعون إنما هو بالنيابة عن المجتمع ولصالح القضاء )).

بيد أنه وخروجا عن مبدإ عدم رجعية التعهد أقر المشرع التونسي إمكانية سحب القضية من قاضي التحقيق المتعهد بها وإحالتها على قاضي تحقيق آخر ليتولى مواصلة البحث فيها وذلك في صورة وحيدة وهي الإستجلاب ، مراعاة لمصلحة الأمن العام أو لدفع شبهة جائزة، اعتمادا على الفصل 294 م إ ج الذي جاء فيه (( لمحكمة التعقيب بناء على طلب من وكيل الدولة العام أن تأذن في الجنايات والجنح والمخالفات سحب القضية من أية محكمة تحقيق أو قضاء وبإحالتها على محكمة أخرى من الدرجة نفسها وذلك مراعاة لمصلحة الأمن العام أو لدفع شبهة جائزة )) .

وذلك ما حصل مثلا في القضية التحقيقية عــ 2/153ـدد المنشورة بمكتب التحقيق الثاني بالمحكمة الإبتدائية بالمنستير إذ أصدرت محكمة التعقيب بتاريخ 31 جويلية 2000 قرارا تحت عــ0230/2000ـدد ( إستجلاب) يقضي ” بقبول مطلب التعقيب شكلا و أصلا و سحب القضية التحقيقية عـ153ـدد المنشورة لدى المحكمة الإبتدائية بالمنستير و إحالتها على مكتب تحقيق آخر لدى المحكمة الإبتدائية بصفاقس “، معللة قرارها بضمان حسن سير العدالة و جعل المتقاضين في حالة اطمئنان عند مثولهم أمام القضاء مع انتهاء الشعور لديهم بالخوف من أية شبهة كانت .

كما اتخذت محكمة التعقيب التونسية قرارا مشابها في شأن القضية التحقيقية عـــ 2/1058ـدد و التي كانت منشورة بمكتب التحقيق الثاني بالمحكمة الإبتدائية بالمهدية و قد تم استجلابها بموجب القرار التعقيبي عــ214 ـدد المؤرخ في 25 جوان 1999 و إحالتها على مكتب التحقيق العاشر بالمحكمة الإبتدائية بتونس .(1)

(ب) في مواجهة قاضي التحقيق

إن قاضي التحقيق المتعهد بمقتضى قرار في إجراء بحث يلزمه في كل الأحوال التحقيق في القضية المعروضة عليه والبت في طلبات النيابة العمومية المبينة به، ولا يمكنه رفض التحقيق بدعوى أن الأفعال المبينة صلب قرار افتتاح البحث ثابتة بما فيه الكفاية وأن التحقيق فيها يكون تبعا لذلك غير ذي جدوى .(1)

و أول ما ينظر فيه قاضي التحقيق هو مدى اختصاصه من عدمه فإن رأى نفسه مختصا من حيث النوع والشخص والمكان وجبت عليه المبادرة باتخاذ الإجراءات اللازمة للبحث عن الحقيقة والوصول إليها بالطرق المشروعة المخولة له قانونا، ومادامت إجراءاته كذلك فإنه لا يرفع يده عن القضية إلا بعد انتهاء التحقيق .

أما إذا تبين له أن القضية ليست من أنظاره فإنه يصدر قرارا بالتخلي لعدم الإختصاص، ذلك أن الإختصاص ، باعتباره سلطة وأهلية المحكمة ( تحقيق أو قضاء) للنظر في الدعوى الجنائية ، يعد أساس تعهد قاضي التحقيق .

ولا شك أن قواعد الإختصاص في المادة الجزائية ذات طبيعة آمرة تتعلق بالنظام العام ومخالفتها أو التنازل عنها سواء من الأطراف أو النيابة العمومية غير ممكن (2)، إذ يجب على كل محكمة أن تثير عدم اختصاصها للنظر في القضية من تلقاء نفسها وحتى في صورة عدم تمسك الأطراف بهذا الدفع وذلك في كل درجة من درجات التقاضي .

ويتحدد اختصاص قاضي التحقيق بالرجوع إلى معيار موضوعي أو حكمي أو ترابي، فالإختصاص الموضوعي يقصد به أن قاضي التحقيق يتعهد وجوبيا في الجنايات واختياريا في الجنح والمخالفات ما لم ينص القانون على خلاف ذلك (4) أما الإختصاص الترابي و الحكمي فإنهما يتحددان كما في القواعد العامة للإختصاص وفق معايير مضبوطة ومحددة .

وعلى هذا الأساس إذا ما تراءى لقاضي التحقيق من موضوع التهمة أو من أشخاص المظنون فيهم أو من مكان اقتراف الجريمة أو من مكان إقامة مرتكبها أو مـن المكان الذي وجد فيه المظنون فيه أنهـا خارجة عن أنظاره فإنه يصدر قرارا بالتخـلي لعدم الإخـتصاص الحكمي في الحالتين الأولتين ، أو التخلي لعدم الإختصاص الترابي في الثلاث حالات الأخيرة.5

غير أنه إذا كانت الجريمة من أنظار محكمة إستثنائية فإن قاضي التحقيق يجري في شأنها أعمال التحقيق المتأكدة وبمجرد إتمام ذلك يقرر التخلي عنها (1).

ولقد وضع المشرع بين يدي قاضي التحقيق المتعهد بصفة قانونية والمختص حكميا وترابيا، صلاحيات إجرائية واسعة من شأنها أن تعينه على اكتشاف الحقيقة وهو ما نستشفه من منطوق الفصل 50م إ ج الذي جاء فيه (( حاكم التحقيق مكلف بالتحقيق في القضايا الجزائية والبحث بدون توان عن القضية ومعاينة جميع الأمور التي يمكن أن تستند عليها المحكمة لتأييد حكمها )) .

على أنه لا بد من التأكيد على أن التحقيق يجب أن يكون في حدود الأفعال المبينة بقرار إجراء البحث وليس لقاضي التحقيق أن يتولى بحث غيرها من الأفعال الجديدة التي أنتجتها عملية التحقيق إلا إذا كانت ظرفا مشددا للجريمة المحالة عليه.

أما إذا اكتشف جريمة أخرى غير التي جاء بها قرار افتتاح البحث فإنه لا يمكنه توجيهها على المتهم واستنطاقه من أجلها إطلاقا إلا بعد عرض الأمر على النيابة العمومية بقرار اطلاع يعرضه عليها لإبداء رأيها في خصوص موافقتها على ذلك (2)، و هو ما يعرف بمبدإ عينية التعهد ( Saisine « in rem ») الذي أقره المشرع التونسي صلب الفصل 51 م إ ج الذي به (( تعهد القضية بصفة لا رجوع فيها لحاكم التحقيق بمقتضى قرار في إجراء بحث ويلزمه تحقيق الأفعال المبينة به ولا يتولى بحث غيرها من الأفعال الجديدة التي أنتجتها عملية التحقيق إلا إذا كانت ظروفا مشددة للجريمة المحالة عليه )) 3

وإذا كان قاضي التحقيق مقيدا بالأفعال المبينة صلب قرار افتتاح البحث فإنه لا يكون كذلك إزاء الوصف القانوني الذي اعتمده وكيل الجمهورية لتلك الأفعال، ذلك أن بإمكانه إعطاء الفعلة المنسوبة للمظنون فيه الوصف القانوني الذي يراه مناسبا طالما أن وصف النيابة العمومية يكون وقتيا وذا طابع إرشـــادي بحت ( Provisoire et purement indicative) (1).

أما بالنسبة للأشخاص فإن قاضي التحقيق يتمتع بقدر كبير من الحرية في توجيه الإتهام ضد كل من ثبت تورطه في الجريمة المحالة عليه، فإذا ما اكتشف أن هذه الجريمة قد اقترفت من طرف أشخاص آخرين من غير الذين وجهت ضدهم التهمة فإن بإمكانه استنطاقهم في نفس الجريمة .

الخاتمة

يتميز نظام القضاء في تونس ، الذي يأخذ بمبدإ الفصل بين جهتي التتبع و التحقيق ، بأن زمام التحقيق في الجرائم يوجد في يد قاضي التحقيق، لا تشاركه فيه ” مبدئيا ” أية جهة أخرى، و مع ذلك يبقى تعهده بالبحث رهين صدور قرار في إجراء بحث عن سلطة التتبع و الاتهام الممثلة في النيابة العمومية و التي يكون لها وحدها الحق في إثارة الدعوى العمومية المتعلقة بأية جريمة كانت وبالتالي فان الأمر يطرح مدى توفر الإرادة لدى أعضاء النيابة العمومية في إثارة الدعوى العمومية و كذلك في الأذن بفتح تحقيق خصوصا في ظل ضوابط دقيقة من شانه ان تقيد النيابة العمومية وتجبرها على الأذن بفتح تحقيق .

لكن ورغم تخصيص النيابة العمومية بالإذن بإجراء بحث تحقيقي، فإن ذلك لم يمنع المشرع التونسي من إيجاد بعض الحدود لهذا الاختصاص سيما و انه لم يعد حق إثارة الدعوى العمومية مقتصرا على النيابة العمومية بوصفها ممثلة المجتمع ، بل إنه تعداها إلى بعض الأشخاص الآخرين من بينهم خاصة المتضرر من الجريمة الذي مكنه المشرع من القيام على المسؤولية الخاصة و لكن وفق ظوابط و شروط مسبقة .

–1 ” النيابة العمومية و سلطاتها في إنهاء الدعوى العمومية بدون محاكمة “، محمود سمير عبد الفتاح : ، الدار الجامعية ، بيروت طبعة 1991 .، ص. 6 .

–1 الفصل 35 م إ ج على أن حالة التلبس بالجريمة لا تؤثر فقط على اختصاصات قاضي التحقيق و إنما تؤثر أيضا على اختصاصات وكيل الجمهورية الذي تكون له في جميع صور الجنايات و الجنح المتلبس بها مع سلطة التتبع جميع ما لقاضي التحقيق من السلط اعتمادا على الفصلين 34 و 35 م إ ج يمكن لقاضي التحقيق في صورة الجناية المتلبّس بها ” أن يجري رأسا و بنفسه ” وبدون تدخل من النيابة العمومية جميع الأعمال المخوّلة لوكلاء الجمهورية طبق القانون .

لكن هذا لا يعني أنه بإمكانه ممارسة جميع صلاحياته كقاضي تحقيق و التصرّف في الدعوى الجزائية كما يتراءى له ، و إنما عليه أن ينهي نتيجة أعماله الأوّلية إلى ممثل النيابة العمومية الذي يقرر في شأنها ما يراه صالحا .

الفصل 2 م إ ج للنيابة العمومية دور رئيسي على مستوى تلك الأعمال، بل وحتى في ، فإن مباشرتها تتم دائما بواسطة النيابة العمومية التي تسترجع صلاحياتها كاملة بصفتها مدعية

.

1– الفصل4 م إ ج .

1– الطاهر المنتصر : ” دور النيابة العمومية لدى قاضي التحقيق “، مجلة القضاءو التشريع، عـ2ـدد ، فيفري ، 1985.، ص . 45 .

1 ـ” وكيل الجمهورية ” ، مرجع سابق ص6. .

-1و يخضع استئناف التحقيق لظهور أدلة جديدة لمجموعة من الشروط والإجراءات سيقع التعرض لها في موضع لاحق .

-1 كمال بوكثير: “وكيل الجمهورية “،رسالة للإحراز على شهادة ختم الدروس بالمعهد الأعلى للقضاء ، السنة القضائية 1995 –1996 . ص . 18 .
-2 من ذلك مثلا القرار التعقيبي الجزائي عدد 6281 المؤرخ في 1981/10/17 ، ن . م . ت .لسنة 1982، ص . 168 .

1ـ ” النيابة العمومية و سلطاتـها في إنهاء الدعوى العمومية بدون محاكمة ” ، مرجع سابق، ص . 158-157.

1 ـ ” النيابة العمومية و سلطاتـها في إنهاء الدعوى العمومية بدون محاكمة “، مرجع سابق ، ص . 162-161.

-3 “وكيل الجمهورية “، مرجع سابق ، ص . 23 .

1 ـ حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالقاهرة بتاريخ 9 مارس 1941 : (( إن جريمة الزنا هي في الحقيقة والواقع جريمة في حق الزوج المثلوب شرفه فإذا ثبت أن الزوج كان يسمح لزوجته بالزنا فلأنه اتخذ من هذا الزواج حرفة يبتغي من ورائها العيش مما تكسبه زوجته من البغاء فإن مثل هذا الزوج لا يعتبر زوجا حقيقة بل هو زوج شكلا … أما زوجته فتعتبر في حكم غير المتزوجة ولا يقبل منه كزوج أن يبلغ عنها أو يطلب محاكمتها أو محاكمة أحد شركائها …)) ذكر هذا الحكم بدروس القانون الجنائي الخاص بكلية الحقوق بسوسة .

1 ـ ” وكيل الجمهورية ” ، مرجع سابق ، ص. 21 .

1 ـ محمد محدة : ” ضمانات المتهم أثناء التحقيق “، دار الهدى عين مليلة الجزائر، الطبعة الأولى 1992-1991 ، ص .
2- انظر الملحق .

-1“وكيل الجمهورية “، مرجع سابق ، ص . 26 .

1- Cass.Crim. , 13-11-1986, J.C.P.P., Art. 79-84, 3, 1995, P. 5 .

-2 د . إدوارد غالي الدهبي ، ” الإجراءات الجنائية “، الناشر مكتبة غريب ، 1990 ، ص . 410 .

3 ـ محمود نجيب حسني : ” شرح قانون الإجراءات الجنائية “، دار النهضة العربية 33 شارع عبد الخالق ثروت القاهرة .، ص .
4- Cass.Crim. , 12-2-1927, J.C.P.P. Art. 79-84, 3, 1995, P. 5..

-5 “وكيل الجمهورية ” ، مرجع سابق ، ص . 26 .

1- J.C.P.P., Art. 79-84, 3, 1995, P. 5 .

Cass.Crim. , 4-12-1952 , J.C.P.P. , P. 5 . 2-

Cass.Crim. , 12-6-1990 , J.C.P.P. , P. 5 . 3-

Cass.Crim. , 23-8-1971, Bull.Crim. , n˚ 115. 4-

Cass .Crim. , 23-4-1971 , J.C.P.P. , P. 5. 5-

1- Cass.Crim . 29-5-1957, J.C.P.P., Art. 79-84, 3, 1995, P. 5 .

Cass. Crim . , 6-7-1955, J.C.P.P., Art. 79-84, 3, 1995, P. 5. 2-

3 ـ “دور النيابة العمومية لدى قاضي التحقيق”، مرجع سابق ، ص . 46 .

1 ـ “ضمانات المتهم أثناء التحقيق ” ، مرجع سابق ، ص . 25 .

2 ـ قرار تعقيبي جناحي عدد 2939 ، مؤرخ في 26-6-1949 ، م . ق .ت . ماي ،1963 .

-1ق .ت . ج . عدد 206 ، مؤرخ في 1965-11-20 ، ن . م. ت. .

1 ـ جندي عبد الملك ، ” الموسوعة الجنائية “، الجزء الثاني ، دار العلم للجميع ، بيروت – لبنان ، ص. 318 .

–2 -” الموسوعة الجنائية “، مرجع سابق ، ص 319. .

3-: يراجع في هذا الصدد ” طلبات النيابة العمومية لدى التحقيق “، رشاد الوسلاتي دورة دراسية بقفصة تحت عنوان ” القضاء الجنائي “، يومي 13 و 14 فيفري 1992

1 ـ طارق بنور: ” إستقلالية قاضي التحقيق “، ملتقى دولي حول التحقيق ، أيام7 و8 و9 ماي 1992، بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس .

2- Cass. Crim., 24/03/1977, J.C.P.P., Bull. Crim. Nº112, P. 8.

-1و هو ما حصل أيضا في القضييتين عدد 5707 و عدد 7291 المنشورتين بمكتب التحقيق الثاني بالمحكمة الابتدائية ببنزرت ، وقد أصدرت محكمة التعقيب بتاريخ 29 نوفمبر 1984 قرارا تحت عدد 109 يقضي بـ ” قبول مطلب استجلاب القضيتين المذكورتين وإحالتهما على قلم التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس معللة قرارها بضمان حسن سير القضاء وتوفير الطمأنينة للمتقاضيين على حقوقهم ولاتقاء كل شبهة وإبعادها عن كل التأثيرات من أية جهة كانت “.ورد بدراسة ” دور النيابة العمومية لدى قاضي التحقيق” ، مرجع سابق ، ص 46. .

1- Cass.Crim., 18-11-1897 , Bull. Crim. , N 366 , J.C.P.P. , P. 8 .

2ـ قرار تعقيبي جزائي عدد 6409 ، مؤرخ في 1982/1/13 ، نشرية محكمة التعقيب ، 1982 ، ص . 33 .

-4 الفصل 47 م إ ج .

5 – انظر الملحق .

1ـ الفقرة 2 من الفصل 52 م. إ . ج .

2 ـ” دور النيابة العمومية لدى قاضي التحقيق “، مرجع سابق، ص. 46 .

3-: يراجع في هذا الصدد ” طلبات النيابة العمومية لدى التحقيق ” رشاد الوسلاتي ، دورة دراسية بقفصة تحت عنوان ” القضاء الجنائي “، يومي 13 و 14 فيفري 1992

1- Cass.Crim. , 13 mars 1984 , Bull.Crim Nº 107 .