بحث قانوني حول إستقلال القضاء في ضوء التنظيم القضائي الجديد في المملكة العربية السعودية

مقال حول: بحث قانوني حول إستقلال القضاء في ضوء التنظيم القضائي الجديد في المملكة العربية السعودية

بحث قانوني ودراسة شاملة عن إستقلال القضاء في ضوء التنظيم القضائي الجديد في السعودية

الدكتور / فهد بن عبد الله السلمى

الاستاذ المساعد بقسم الفقه / كليه الشريعه والدراسات الاسلاميه

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيرا ،
أما بعد :
فإن من نعم الله على العباد أن شرع لهم شريعة صالحة لكل زمان ومكان ، قاعدتها جلب المصالح بشتى أنواعها ومختلف صورها ، ودرء المفاسد بجميع أنواعها وكافة أشكالها ، وإن من جوانب هذه الشريعة المباركة الجانب القضائي في الإسلام الذي تعتبر أحكام القرآن الكريم والسنة المطهرة مورداً معيناً ومصدراً غنياً لمقومات بنائه وركائز أسسه تمدُّ البشرية بكل الحلول الناجعة والطرق الحكيمة لمواجهة كل مستحكم واجتياز كل عقبة لعلاج المشكلات مهما كانت ، وحل الصعاب مهما عظمت وفق قواعد ثابتة وكليات متينة تواكب كل عصر وتسع كل جديد ، ولهذا فالقضاء في الشريعة الإسلامية يرتكز على أصول جامعة وقواعد كلية ذات عمق في تحصيل مصالح العباد ودرء الشرور والفساد لتحفظ لهم الحقوق وتجلب لهم الأمن وتنشر العدل في شتى صور حياتهم ومناشطها المختلفة ، ومن هنا فقد أحببت المساهمة في عرض ما تتضمنه أحكام الشريعة الغراء في الجانب القضائي ، من ثروة متنوعة من الأصول والقواعد التي تحقق مقاصد البشر من حفظ حقوقهم ورفع مظالمهم وإنصاف مظلومهم وقضاء حاجتهم من خلال موضوع استقلال القضاء في ضوء التنظيم القضائي الجديد في المملكة العربية السعودية .
وقد اشتملت خطة البحث على المحاور التالية :
مقدمة.
تمهيد في بيان أهمية الموضوع ، وبيان المراد منه ، وذلك في مطلبين:
المطلب الأول: المراد باستقلال القضاء .
المطلب الثاني: أهمية الموضوع .
المبحث الأول: استقلال القضاء في صدر الإسلام .
المبحث الثاني: استقلال القضاء في المملكة العربية السعودية ، وفيه مطلبان:
المطلب الأول : لمحة عن تاريخ القضاء وتطوره في المملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله .

المطلب الثاني : استقلال القضاء في المملكة العربية السعودية من خلال نظام القضاء .
المبحث الثالث: ضمانات استقلال القضاء أو ما يتحقق به استقلال القضاء : وفيه مطلبان:
المطلب الأول : الضمانات الذاتية .
المطلب الثاني : الضمانات الوظيفية ، وفيه مسائل:
المسألة الأولى : عدم التدخل في أعمال القضاء :
المسألة الثانية: توفير المناخ الملائم للقضاء وذلك بوضع قواعد خاصة لنقل القضاة وندبهم وإعارتهم وترقيتهم وتأديبهم ومرتباتهم من خلال مجلس أعلى للقضاء .
المسألة الثالثة: تقرير الأرزاق ( المرتبات ) الكافية للقضاة .
المسألة الرابعة: حصانة القضاة من العزل .
المسألة الخامسة: عدم تقريرميزة أومعاملة خاصة لأحد القضاة دون غيره.
الخاتمة .

وختاماً أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل ، وأن يوفقني لخير القول والعمل ، ويعصمني من الخطأ والزلل ، وأن يعينني على إخراج هذا الموضوع على الوجه المناسب إنه جواد كريم . كما أسأله سبحانه التوفيق والسداد للجميع وأن يمن على المسلمين في جميع البقاع بتطبيق الشرع المطهر ، وتحكيم شريعة رب العالمين في كل شؤون الحياة .
ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر الجزيل لسعادة عميد كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية أ.د. أحمد هندي على دعوته لي للمشاركة في مؤتمر ” الاتجاهات التشريعية الحديثة في التنظيم القضائي ” الذي تنظمه كلية الحقوق في الفترة من 24-25/3/1431هـ 10-11/3/2010م
كما أشكر جامعة القصيم بدءً بقسم الفقه رئيساً وأعضاءً ، ومثنياً بمجلس الكلية الموقر ، ومنوهاً بجهود معالي مدير الجامعة الأستاذ الدكتور خالد بن عبدالرحمن الحمودي وحرصه الدائم على تذليل الصعاب لتمثيل الجامعة في المحافل الدولية من خلال المؤتمرات والندوات العلمية.
وإليك أخي القارئ الكريم مسائل البحث الموسوم بـ :

استقلال القضاء في ضوء التنظيم القضائي الجديد في المملكة العربية السعودية .

تمهيد في بيان المراد باستقلال القضاء ، وأهمية الموضوع ، وذلك في مطلبين:

المطلب الأول: المراد باستقلال القضاء:

يقصد باستقلال القضاء : الحرية في البحث عن الحق وألا يخاف القاضي في الله لومة لائم ، فلا يخضع القضاة أثناء ممارسة عملهم لسلطان أي جهة أخرى ، بل يكون عملهم خالصا لإقرار الحق والعدل بين الناس دون محاباة وتحيز ، وإيصال الحقوق لأصحابها دون تمييز أو تفريق بين الناس ، خاضعا لما يمليه الشرع والضمير دون أي اعتبارات أخرى ، قال تعالى ﴿يا داودُ إنَّا جَعَلْناك خَلِيفةً في الأرض﴾
ويتبع ذلك بالضرورة الحيلولة دون تدخل أي جهة أو سلطة أو ضغط من حاكم ، أو تدخل ذوي النفوذ في أعمال القضاء لتوجيهها وجهة معينة ، أو لعرقلة مسيرته الطبيعية ، أو شل آثار ما يصدر عنه من أحكام ، كما يقتضي أن يوفر للقضاة أكبر قدر من الاستقرار بما يهيء لهم المناخ المناسب الذي يمكنهم من أداء رسالتهم الجليلة على أحسن حال ( ).
ولقد نص ابن فرحون على ضرورة استقلال القضاء ، حيث جاء في كتابه التبصرة ( ) عند الحديث عن الوعيد الذي جاء في تولي القضاء : ” إن التهديد والتخويف هو في حق من علم من نفسه الضعف وعدم الاستقلال بما يجب عليه “. وكرر هذا المعنى الطرابلسي في معين الحكام ( ) وسنبين بإذن الله ما يتحقق به هذا الاستقلال في مبحث ضمانات استقلال القضاء .

المطلب الثاني: أهمية الموضوع :

إن استقلال القضاء ونزاهته وحياديته وعدالته وعدم المحاباة فيه لهي القواعد والأسس التي يقوم عليها القضاء الإسلامي وهدفه الأسمى الذي وجد من أجله ، وإذا قيدت حرية القاضي ولم يتمتع بالحرية والاستقلال في إظهار الحق ودمغ الباطل فإنه من العسير على القاضي أن يتحمل حماية حقوق الأفراد والجماعات عندما تكون هذه الحقوق موضعا للنزاع والمشاحنة ، فالقضاء المبني على أسس قواعدها الاستقلال والحرية والحيدة هو الذي يحقق للمجتمع العدل والحرية ، ويشعر كل مواطن بالطمأنينة على جميع حقوقه بما فيها النفس والعرض والمال بل إن أفراد الأمة قويهم وضعيفهم يشعرون أنهم سواسية في الحق والعدل ،، قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾
وقد حرص الإسلام عبر العصور المتتابعة على تهيئة مناخ الاستقلال والحرية في ساحة القضاء ، فمنع الحاكم من التدخل في القضاء مادام القضاة ملتزمين بمبادئ الدين وتعاليم الكتاب والسنة ( ).

المبحث الأول
استقلال القضاء في صدر الإسلام

يعتبر الخليفة الراشد عمر الفاروق رضي الله عنه هو أول من فصل القضاء عن ولاية العامة , وعين للقضاء من يقوم عليه إلى جوار الوالي , وفي ذلك التاريخ بدأت فكرة استقلال القضاء عن ولاية الحكم عامة , وتحمل لنا كتب التاريخ والفقه العديد من الروايات والقصص التي تؤكد مدى ما كان يتمتع به القضاء عبر التاريخ الإسلامي من منزلة رفيعة ومكانة سامية واستقلال , فالخلفاء الراشدون أنفسهم كانوا يحتكمون إلى القضاة ويمثلون أمامهم , ويقضى عليهم , فينفذون القضاء بطواعية واختيار , وأحجم الخلفاء عن التدخل في أعمال القضاة . وضربوا المثل الأعلى لمن بعدهم وقرروا أن الناس مهما علت مقاماتهم أو سمت منازلهم فهم أمام شرع الله متساوون لا امتياز لأحد على أحد. ولهذا فالقاضي في الإسلام يعتمد في قضائه على التشريع الإلهي ، فإذا كان الناس أمام التشريع الإلهي سواء ، فهم أمام تنفيذ ما يختص منه بالقضاء سواء كذلك ، لا تفريق بينهم بسبب الأصل أو ***** أو اللون أو الدين وليس في دار الإسلام فرد لا تطوله يد القضاء ، ولعل ذلك من أبرز صفات القضاء في الإسلام ، ومما تميز به على النظم الأخرى فالمساواة في القضاء الإسلامي غاية تسعى العدالة إلى تحقيقها وهي قيمة وهدف ليتحقق بذلك العدل الشامل الذي تصلح به حال الدنيا وهذا مقتضى ما تدل عليه عمومات الشريعة المحكمة من تقرير قاعدة العـدل المطلق الشامـل قال تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾( ) ، وقال سبحانه : ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾( )، وفي السنة أحاديث كثيرة تنص على وجوب قاعدة العدل الشامل ومنها ما هو في خصوص القضاء ومن ذلك ما رواه بريدة بن الحصيب عن النبي قال : ( القضاة ثلاثة ، واحد في الجنة واثنان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ،ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار )( )
وفي رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة يقول : آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك ( ) .
قال ابن القيم : (وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصـول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تعقله والتفقه فيه)( )،

المساواة أمام القضاء تأكيد لاستقلاله :

نذكر فيما يلي صوراً تبرز مظاهر المساواة أمام القضاء الإسلامي وهو مايؤكد استقلال القضاء وحيادية القاضي عند نظر القضية :-
حادثة المرأة من بني مخزوم التي سرقت حلياً وقطيفة، فبعث قومها أسامة بن زيد بن حارثة ليشفع فيها، فرده الرسول  قائلاً: ( يا أسامة أتشفع في حد مـن حدود الله؟ وأيم الله لـو أن فاطمـة بنت محمـد سرقت لقطعـت يدها )( ) .
حادثة تنفيذ عمر بن الخطاب  حـد الشرب في قدامة بن مظعون الجمحـي ( ) . ، وكان صهر عمر بن الخطاب على أخته ، وقيل هو خال أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها بنت عمر وأخيها عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكان أميراً على البحرين ( ).
حادثة جبلة بن الأيهم الذي داس على ردائه أعرابي وهو يطوف حول الكعبة، فكبر ذلك عليه وهو أمير في قومه، فلطم الأعرابي المسلم، فشكا الأعرابي إلى عمر بن الخطاب  فقضى بلطم الأمير على الملأ ( ).
4 – حادثة اليهودي الذي خاصم علي بن أبي طالب ابن عم النبي وزوج ابنته : فعن الشعبي قال : خرج علي بن أبي طالب إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعاً قال : فعرف علي الدرع فقال: هذه درعي بيني وبينك قاضي المسلمين قال : وكان قاضي المسلمين شريح كان علي استقضاه قال : فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس القضاء وأجلس علياً في مجلسه وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني فقال له علي : أما يا شريح لو كان خصمي مسلماً لقعدت معه مجلس الخصم ولكني سمعت رسول الله يقول : لا تصافحوهم ولا تبدؤوهم بالسلام ولا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا عليهم وألجؤوهم إلى مضايق الطرق وصغروهم كما صغرهم الله ، اقض بيني وبينه يا شريح فقال شريح ما تقول يا أمير المؤمنين ؟ قال : فقال علي هذه درعي ذهبت مني منذ زمان قال: فقال شريح : ما تقول يا نصراني ؟ قال فقال النصراني : ما أكذب أمير المؤمنين الدرع هي درعي قال فقال شريح : ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة فقال علي رضى الله عنه : صدق شريح قال فقال النصراني : أما أنا أشهد أن هذه أحكام الأنبياء أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه هي والله يا أمير المؤمنين درعك اتبعتك من الجيش وقد زالت عن جملك الأورق فأخذتها فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قال : فقال علي رضى الله عنه : أما إذا أسلمت فهي لك وحملـه على فرس عتيق قال : فقال الشعبي : لقـد رأيته يقاتل المشركين ، فوهبها علي رضى الله عنه له ، وفرض له ألفين ، وأصيب معـه يوم صفين ( ).
ومن مظاهر استقلال القضاء في عهد الدولة العباسية، حادثة الحكم ضد الخليفة المنصور، فقد ادعى عليه جماعة حقاً لهم أمام القاضي محمد بن عمران الطلحي، فأرسل القاضي إلى الخليفة يستدعيه، فاستجاب الخليفة وحضر مجلس القضاء، وأجلسه القاضي مع الخصوم، وبعد سماع أقوال طرفي القضية حكم القاضي ضد الخليفة، وبعد انصراف الناس وعودة الخليفة إلى دار الخلافة استدعى القاضي الطلحي ، فذهب وهو يخشى غضب السلطان، ولما مثل بين يديه قال له المنصور: جزاك الله عن دينك ونبيك وعن حسبك وعن خليفتك أحسن الجزاء ( ) .
والناظر بدراسة دقيقه للجزئيات الفقهية في القواعد التي قررها فقهاء الإسلام لسير النظر في القضايا المعروضة على القاضي الشرعي يجدها تنطلق من قاعدة تحقيق المساواة واستقلال القضاء والحرص على أن يكون هذا المبدأ أساساً من أسس القضاء في الإسلام من وجوه متعددة ، وأن على القاضي أن يكون حيادياً فلا ينحاز لأحد دون أحد، وأن يعتبر طرفي الخصومة على قدم المساواة، وأن يتجرد عن كل مصلحة له أو علاقة مع أحدهما؛ ولذلك نعرض بعض الصور التي توضح لنا عناية الشريعة بذلك في الأحكام التالية المقررة عند مجتهدي الشريعة :-
1- يجب على القاضي أن يساوي بين الخصوم في مجلس القضاء في كل شيء، بالجلوس والسلام والنظر والمخاطبة ، قال ابن القيم رحمه الله إذا عدل الحاكم في هذا بين الخصمين فهو عنوان عدله في الحكومة فمتى خص أحد الخصمين بالدخول عليه أو القيام له أو بصدر المجلس والإقبال عليه والبشاشة له والنظر إليه كان عنوان حيفه وظلمه ..وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مفسدتان إحداهما : طمعه في أن تكون الحكومة له فيقوى قلبه وجنانه ، والثانية أن الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه وتنكسر محجته )( ) .
2- يمنع القاضي من النظر في دعوى أقاربه ، لتأمين حياده تجاه الخصوم. قال الفقهاء: ولا ينفذ حكمه لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له كوالده وولده وزوجته ولا على عدوه ( )
3- الشريعة حرمت على القاضي مسارة أحد الخصمين دون الآخر، أو تلقينه حجته، أو تعليمه كيف يدعي إلا أن يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى ليتضح للقاضي تحرير الدعوى( ) .
أن الشريعة حرمت على القاضي أن يضيف أحد الخصمين أو يستضيفه لئلا يكون إعانة على خصمه وكسر قلبه ، وهكذا حرمت الشريعة على القاضي أن يقبل الهدية ممن لم يكن يهديه قبل ولايته أو ممن كانت له حكومة مطلقاً؛ لأن قبولها ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته. كل ذلك لقاعدة سد الذرائع المعتبرة في الشريعة ( ) .
إن الشريعة منعت القاضي من الحكم بعلمه وهو الراجح من قولي العلماء منعاً لاتهامه وتحيزه، والطعن في حياده ( ) .
أن الفقهاء ذكروا أنه يكره للقاضي أن يبيع أو يشتري بنفسه، ولكن يجعل له وكيلاً لا يعرف به خشية المحاباة وحفاظاً على الحياد المطلوب ( ) .
فمن الأمثلة السالفة وغيرها مما لم نذكره يظهر لنا صورة القاضي في ظلال التشريع الإسلامي، وهي صورة نسبية لا يمكن أن توصف بالتقييد والجمود ، ولا يوصف بالقاضي المطلق؛ لأن القاضي إنسان مهما حاول التجرد والنـزاهة فلا يعطى الحرية المطلقة؛ لأن الشريعة أقامت الحدود وأقرت الحقوق وألزمت كل فرد بالوقوف عند حده، وعدم مجاوزة حقه، قال الله تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا ﴾ ( ) .
هذا وإذا تقرر لنا هذا المبدأ كقاعدة من قواعد القضاء في الإسلام فإن نظام القضاء في المملكة العربية السعودية وهو الذي يعتمد الشريعة الإسلامية مصدره وعمدته نجده يعتبر مبدأ استقلال القضاء وحياديته والمساواة بين الخصوم ، مبدأً أساساً في أنظمته كلها ( ) .

المبحث الثاني: استقلال القضاء في المملكة العربية السعودية ، وفيه مطلبان:

المطلب الأول : لمحة عن تاريخ القضاء وتطوره في المملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله :

يحسن بنا قبل الحديث عن استقلال القضاء أن نشير بإيجاز إلى تاريخ القضاء في المملكة العربية السعودية والأطوار التي مر بها منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله فقد أصدر الملك عبدالعزيز تعليمات إبان إعلانه التشكيلات المؤقتة لرئاسة القضاء في عام 1344 هـ عرفت هذه التعليمات باسم “مواد إصلاحية مؤقتة للمحاكم الشرعية”, وقد أوضح حينها في خطابه المنشور في جريدة أم القرى رقم32 في 16/1/1344هـ على تحديد مصادر الأحكام القضائية فقال إن أحكام الإسلام هي الركيزة الأساس للحكم, وستظل السراج المنير التي يهتدي بهديها السائرون ويستضيئ بنورها المدلجون وإن الإسلام دين جاء لما فيه صلاح الناس في الدنيا والآخرة, وأن من أراد سعادة الدارين من الأفراد والجماعات فما عليه إلا أن يفهم حقيقة الإسلام وأحكامه, ويسعى للعمل بها حتى يكون في هناء وسعادة ورفاه ).
– في عام 1345 هـ أمر الملك عبد العزيز ببقاء العمل بالمذهب الحنفي (القانون العثماني) بالحجاز فقد قال: (إن أحكام القانون العثماني مازالت جارية إلى الآن, لأننا لم نصدر إرادتنا بإلغائها, ووضع أحكام جديدة مكانها, ولذا نوافق على اقتراحكم بشأن استمرار أحكام ذلك القانون…)
– في عام 1346 هـ صدر نظام “أوضاع المحاكم الشرعية وتشكيلاتها” وهو أول نظام إداري للقضاء في الحجاز ,وهو ناسخ للتعليمات العثمانية. كما أكد الملك عبد العزيز على التزام المحاكم بأحكام الشرع دون أن تكون مقيدة بمذهب مخصوص بل تقضي على حسب ما يظهر لها من أي المذاهب كان ولا فرق بين مذهب وآخر.
– في عام 1346 هـ صدر أمر ملكي يلزم القضاة بالحكم بمقتضى المذهب الحنبلي في العموم وفي حال الخروج عن المذهب فيذكر الدليل و المستند.
– وفي 7/2/1346هـ أعلن الملك عبد العزيز – رحمه الله – : “بأن النظر في شؤون المحكمة الشرعية وترتيبها على الوجه المطابق للشرع على شرط أن يكون من وراء ذلك نجاز الأمور ومحافظة حقوق الناس على مقتضى الوجه الشرعي، أما المذهب الذي تقضي به، فليس مقيداً بمذهب مخصوص بل تقضي على حسب ما يظهر لها من أي المذاهب كان ولا فرق بين مذهب وآخر … ” .
ومع إفساح الملك عبد العزيز – رحمه الله – النظر للقضاة لإعمال ما ترجح من الأقوال من عموم المذاهب فقد رسم – رحمه الله – قاعدة عامة للأحكام بأن تجري في العموم على وفق المفتي به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – وفي حال الخروج إلى قول آخر في مذهب غيره فيذكر دليله ومستنده. كما حدد – رحمه الله – المصادر المعتمدة في الفقه الحنبلي والتي تُراعى كمرجع للأحكام وهي :
شرح منتهى الإرادات 00 المتن للفتوحي (ت 972هـ) ، والشرح للبهوتي (ت 1051هـ) .
شرح الإقناع . المتن للحجاوي (ت 948هـ) والشرح للبهوتي . فما اتفق عليه الشرحان أو انفرد به أحدهما فعليه العمل وما اختلفا فيه فيقدم ما في المنتهي .
شرح زاد المستقنع المسمى بالروض المربع 00 المتن للحجاوي والشرح للبهوتي .
شرح دليل الطالب المسمى منار السبيل 00 المتن لمرعي الحنبلي (ت 1032هـ) والشرح لابن ضويّان (ت 1353هـ) . المغني للموفق ابن قدامة (ت 620هـ) والشرح الكبير لابن قدامة (ت 682هـ) .
وقد اعتمد الملك عبد العزيز – رحمه الله – مراجع الفقه الحنبلي لغلبته في البلاد ، وسهولة مراجعة كتبه، ووضوح الاستدلالات فيها .
والإلزام بالمذهب الحنبلي خاص بأبواب المعاملات ويستثنى منها ما يتعلق بالمساقات وإجارة النخيل والإرث والأوقاف فيحكم فيها بمذهب أهل البلد التي تكون فيها الدعوى.
– في عام 1350 هـ صدر نظام “سير المحاكمات الشرعية” الذي يوضح سير المحاكمات ويخول رئاسة القضاء تدقيق الأحكام وتمييزها.
– في عام 1355هـ صدر نظام “المرافعات”، ويعتبر أكثر تفصيلاً من سابقه. وقد أعيد إصداره عام 1372هـ بمسمى”تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية”.
– في عام 1357هـ صدر نظام “تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي”, تضمن أن القضاء مؤسسة رسمية في عموم البلاد.
– في عام 1372 هـ صدر نظام “تنظيم الأعمال الإدارية في الدوائر الشرعية”.
– وصدر في نفس السنة نظام “تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي” المعدَّل، والذي يعد مكملاً لما تضمنه نظام تنظيم الأعمال الإدارية والأنظمة السابقة له.
– في 1381هـ صدرت تعليمات هيئة التمييز، ثم عدلت بلائحة “تعليمات تمييز الأحكام الشرعية” الصادرة بموافقة صاحب الجلالة رئيس مجلس الوزراء رقم 24836 في 29/10/1386هـ.
– وفي عام 1395هـ صدر نظام “القضاء”.
– وفي عام 1402هـ صدر نظام “ديوان المظالم”.
– وفي 1/4/1410هـ صدر قرار مجلس الوزراء رقم 60 المتضمن الموافقة على لائحة “تمييز الأحكام الشرعية” مع استمرار العمل بلائحة “تعليمات تمييز الأحكام الشرعية” الصادرة في 1386هـ.
– وفي عام 1421 هـ صدر نظام “المرافعات الشرعية”.
– وفي عام 1422 هـ صدر نظام “الإجراءات الجزائية”.
– وفي عام 1422 هـ صدر نظام “المحاماة”.
وفي عام 1428هـ صدر نظام “القضاء” المعدَّل ، ونظام “ديوان المظالم” المعدَّل ( ).
وستكون تطبيقات بحثنا على هذا النظام الأخير الصادر بالمرسوم الملكي ذي الرقم (م/78) والتاريخ 19/9/1428هـ

المطلب الثاني: استقلال القضاء في المملكة العربية السعودية من خلال نظام القضاء .

بعد هذه الإطلالة السريعة على تاريخ القضاء وتطوره في المملكة العربية السعودية ، ولأن استقلال القضاء ركيزة أساسية لحياده وبُعده عن المؤثرات المخلة بمسيرته وبقدر ما تكون العناية بترسيخ هذا المبدأ وتطبيقه تتحقق بشكل أدق وأكمل غايته المقصودة منه وهي إقامة العدل والقسط بين الناس في سائر الحكومات والخصومات كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾( ) ، فقد نص نظام القضاء بالمملكة العربية السعودية على تقرير مبدأ استقلال القضاء وذلك حسب الآتي : ـ
جـاء في المـادة الأولى من نظام القضـاء ما نصه القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية وليس لأحد التدخل في القضاء ) ( ) .
كما تضمنت المادة السادسة والعشرون من النظام المشار إليه ما نصه :ـ ( في غير القضايا التي يقتضي النظر فيها الوقوف على محل النزاع ، لا يجوز أن تعقد المحاكم جلساتها في غير مقرها ، ومع ذلك يجوز عند الضرورة أن تعقد المحاكم العامة والمحاكم الجزئية جلساتها في غير مقرها ولو خارج دائرة اختصاصها بقرار من المجلس الأعلى للقضاء ) وذلك من أجل إبعاد القضاء عن أي مؤثر من شأنه التأثير على سير العدالة .
3- نصت المادة الحادية والخمسون من هذا النظام أيضاً على ما يلي : ( أنه لا يجوز الجمع بين وظيفة القضاء ومزاولة التجارة أو أية وظيفة أو عمل لا يتفق مع استقلال القضاء وكرامته ، ويجوز لمجلس القضاء الأعلى أن يقرر منع القاضي من مباشرة أي عمل يرى أن القيام به يتعارض مع واجبات الوظيفة وحسن أدائها ) ، وهذا يفيد تقرير مبدأ إبعاد القاضي عن كل ما لا يتفق مع استقلال القضاء وإعزازه والحفاظ على حياده.
ونصت المادة السادسة والخمسون بعد المائتين من نظام تركيز مسئوليات القضاء الشرعي على أنه ( لا يجوز اتصال القضاة أو نوابهم وموظفي المحاكم بذوي المرافعات والمصالح أو وكلائهم بصفة خاصة في موضوع قضاياهم خارج المحاكم ، وكل من يثبت عليه أنه تدخل في سير المحاكمات والمرافعات يكون مسؤولاً وفق النظام ) ( ) ، وهذه المادة تفيد تقرير مبدأ وجوب استقلال القضاء ، وأن الإخلال بذلك مناط من مناطات الجزاء العقابي .
كما راعى النظام القضائي في المملكة العربية السعودية مبدأ حياد القضاء واستقلاله في جملة من نصوصه ففي نظام المرافعات الشرعية تأتي المادة التسعون تحت الباب الثامن ، ونصها كما يلي :
( يكون القاضي ممنوعاً من نظر الدعوى وسماعها ولو لم يطلب ذلك أحد الخصوم في الأحوال الآتية :
إذا كان زوجاً لأحد الخصوم أو كان قريباً أو صهراً إلى الدرجة الرابعة .
إذا كان له أو لزوجته خصومة قائمة مع أحد الخصوم في الدعوى أو مع زوجته .
إذا كان وكيلاً لأحد الخصوم ، أو وصياً ، أو قيماً عليه ، أو مظنونة وراثته له ، أو كان زوجاً لوصي أحد الخصوم أو القيم عليه ، أو كانت له صلة قرابة أو مصاهرة إلى الدرجة الرابعة بهذا الوصي أو القيم .
د – إذا كان له أو لزوجته أو لأحد أقاربه أو أصهاره على عمود النسب أو لمن يكون هو وكيلاً عنه أو وصياً أو قيما عليه ، مصلحة في الدعوى القائمة
هـ-إذا كان قد أفتى أو ترافع عن أحد الخصوم في الدعوى أو كتب فيها ولو كان ذلك قبل اشتغاله بالقضاء ، أو كان قد سبق له نظرها قاضياً أو خبيراً أو محكما ، أو كان قد أدى شهادة فيها ، أو باشر إجراء من إجراءات التحقيق فيها ،
كما نصت المادة الحادية والتسعون على ما يلي ( يقع باطلاً عمل القاضي أو قضاؤه في الأحوال المتقدمة في المادة التسعين ولو تم باتفاق الخصوم ، وإذا وقع هذا البطلان في حكم مؤيد من محكمة التمييز جاز للخصم أن يطلب منها إلغاء الحكم وإعادة نظر الطعن أمام قاض آخر ) ،
وجاء نص المادة الثانية والتسعون على ما يلي: ( يجوز رد القاضي لأحد الأسباب الآتية:
إذا كان له أو لزوجته دعوى مماثلة للدعوى التي ينظرها .
إذا كان له أو لزوجته خصومة مع أحد الخصوم أو مع زوجته بعد قيام الدعوى المنظورة أمام القاضي ، ما لم تكن هذه الدعوى قد أقيمت بقصد رده عن نظر الدعوى المنظورة أمامه .
ج- إذا كان لمطلقته التي له منها ولد ، أو لأحد أقاربه ، أو أصهاره إلى الدرجة الرابعة خصومة قائمة أمام القضاء مع أحد الخصوم في الدعوى ، أو مع زوجته ، ما لم تكن هذه الخصومة قد أقيمت أمام القاضي بقصد رده .
د- إذا كان أحد الخصوم خادماً له ، أو كان القاضي قد اعتاد مؤاكلة أحد الخصوم أو مساكنته ، أو كان قد تلقي منه هدية قبل رفع الدعوى أو بعده .
هـ – إذا كان بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بدون تحيز ) ( )
كل هذا حرص من النظام القضائي في المملكة العربية السعودية على توفير الحصانة للأحكام القضائية من كل ما يؤثر على الحكم بالعدل وإحقاق الحق.
نصت المادة الثانية من النظام القضائي المشار إليه على ما يلي : ـ
(( القضاة غير قابلين للعزل إلا في الحالات المبينة في هذا النظام )) كما نصت المادة الثالثة على ما يلي مع عدم الإخلال بحكم المادة ( 49 ) لا ينقل القضاة إلى وظائف أخرى إلا برضاهم أو بسبب ترقيتهم ووفق أحكام هذا النظام ) . كما نصت المادة الرابعة منه على ما يلي : ( لا تجوز مخاصمة القاضي إلا وفق الشروط والقواعد الخاصة بتأديبهم ) وكل هذه النصوص تعطي إشارة واضحة إلى تقرير مبدأ استقلال القاضي .
وتأكيداً لمبدإ الاستقلال القضائي تطالعنا المادة الحادية عشرة من نظام المرافعات على ( أنه لا يجوز نقل أي قضية رفعت بطريقة صحيحة لمحكمة مختصة إلى محكمة أو جهة أخرى قبل الحكم فيها ) . وبقراءة متمعنة في نظام الإجراءات الجزائية نجد أن هذا المبدأ بارز في تقريراته ومن ذلك ما جاء في المادة الخامسة بما نصه : ( إذا رفعت قضية بصفة رسمية إلى محكمة فلا تجوز إحالتها إلى جهة أخرى إلا بعد الحكم فيها ، أو إصدار قرار بعدم اختصاصها بالنظر فيها وإحالتها إلى الجهة المختصة ) .
والتنصيص على هذه المسائل ونحوها مما يتعلق بالقضاء وتنظيمها وفق قواعد وشرائط مرسومة ترسيخ وإرساء لمبدأ استقلال القضاء .

المبحث الثالث
ضمانات استقلال القضاء((ما يتحقق به استقلال القضاء))

المطلب الأول: الضمانات الذاتية :

إن خير ضمانات القاضي في استقلاله هي تلك التي يستمدها من قرارة نفسه، وخير حصن يلجأ إليه هو ضميره، وهذه العصمة النفسية أو الحصانة الذاتية للقاضي – التي هي أساس استقلال القضاء- لا توجدها النصوص، ولا تقررها القوانين، وإنما تقرر القوانين الضمانات التي تؤكد هذا الحق وتدعمه، وتسد كل ثغرة قد ينفذ منها السوء إلى استقلال القضاء( )، ولهذا قيل يجب قبل أن نفتش عن ضمانات القاضي أن نفتش عن الرجل الذي يحمل وسام القضاء، فلن يصنع منه الوسام قاضيا إن لم يكن له بين جنبيه نفس القاضي وعزته وكرامته(( . ولذا جعلت الشريعة الإسلامية استقلال القاضي نابعا من ذاته، حيث راعت فيه الجانب العقدي والجانب الشخصي، أما الجانب العقدي فهو يؤمن بأن إقامة العدل فريضة، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ ( ) ، وقوله تعالى:﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾( )، وقوله تعالى:
﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ ( )، فقد أمر الله تعالى في هذه الآيات بالعدل مما يدل على وجوب إقامته، فالقاضي عندما يحكم بالعدل، فهو إنما يحكم به على أنه فريضة دينية أوجبها الله تعالى وأمر بها، فلا يجوز مخالفتها وإلا كان ظالما يستحق عقاب الله القائل في كتابه الكريم :﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾( ) ، والقائل:﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ( )، والقاضي يؤمن بأن العدل هو ما جاءت به الشريعة، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع، وقد قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ ( )، فما أمرت به الشريعة وما أنزل الله فهو العدل، الذي ليس فيه ظلم ولا جهل( ).
وطبقا لهذا فالقاضي في الشريعة لا يقضي إلا بالحق، فلا يتبع هواه مصداقا لقوله تعالى : ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ( )، ولا يحكم إلا بالعدل، فلا يحابي أحدا لقرابة أو غيرها، لقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا  ( )، ولا يظلم أحدا لعداوته له، لقوله تعالى :﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ( )، وهو لا يخاف في الحق لومة لائم، فلا يخاف إلا من الله، لقوله تعالى : ﴿وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ﴾ ( ).
وإيمان القاضي بفرضية العدل، والتزامه بتطبيقه، يجعله لا يخضع لأي ضغط، ولا يقبل أي تدخل يخل بميزان العدل، فهو حصن حصين له يحميه من طمع الطامعين واستبداد الطاغين، فإيمانه بفرضية العدل يمثل ضمانة ذاتية له تحميه من التدخل في شؤونه، لأن هذا التدخل من قبيل الظلم الذي لا يحل بأي وجه من الوجوه، ولا يمكن للقاضي المسلم أن يستجيب أو يخضع له.
يضاف إلى ذلك أن إيمان القاضي بفرضية تحكيم الشريعة يمنعه من قبول أي تدخل يؤدي إلى تعطيل أحكامها، لأن هذا القبول يتنافى مع إيمانه بفرضية تحكيمها الثابت بقوله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ ( )، وقوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر﴾ ( ).
وعلاوة على هذا فإن تطبيق أحكام الشريعة من جانب القاضي على الخصومة المنظورة في مجلس القضاء يضمن عدم التدخل في القضاء من جانب الحاكم، ويحمي الأحكام من أهواء ونزوات السلطة، لأن الحاكم المسلم حين يتدخل في القضاء فكأنما يمنع تنفيذ حكم الله، والإسلام يعتبر الانقياد لحكم الله وتطبيقه والتسليم له جزءا لا يتجزأ من الإيمان، والخروج عنه كفر، وبعبارة أخرى يجب بقاء كل فرد ضمن إطار مبدأ المشروعية وخضوعه لمبدأ سيادة الشريعة الذي يخضع له الجميع حكاما ومحكومين، واحترام هذا المبدأ يعتبر ضمانة أساسية لاستقلال القضاء( ).
وأما الجانب الشخصي في القاضي، فقد اهتمت به الشريعة اهتماما بالغا مما يجعله أعظم ضمانة لاستقلال القاضي، فقد ألزمت الشريعة ولاة الأمر باختيار أفضل العناصر الموجودة لتولي منصب القضاء، ممن بان فضله وصدقه وعلمه وورعه، وتوافرت فيه سائر الشروط ( ) والصفات والآداب المطلوبة فيمن يتولى هذا المنصب، وعلى رأسها شرط العدالة الذي يعصم القاضي من التأثر بأهواء الحكام وتدخلاتهم، كما أن من أهم الأوصاف التي تحفظ للقاضي كرامته وهيبته واستقلاله في قضائه، وتجعله موضع إجلال واحترام لدى الجميع، هو ما يتمتع به من قوة في الدين، وشدة في الحق، وترفع عن متاع الدنيا وزينتها.
وقد نص الفقهاء على هذه الأوصاف، فقد جاء في تبصرة الحكام( ) عند الكلام على الأوصاف التي ينبغي أن يكون عليها القاضي : ” أن يكون غير مستضعف … وغير مستكبر عن مشورة من معه من أهل العلم، ورعا، ذكيا، فطنا، متأنيا غير عجول، نزها عما في أيدي الناس، عاقلا، مرضي الأحوال، موثقا باحتياطه في نظره لنفسه في دينه وفيما حمل من أمر من ولي النظر لهم، غير مخدوع، وقورا، مهيبا، عبوسا من غير غضب، متواضعا من غير ضعف، حاكما بشهادة العدول، لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخشى في الله لومة لائم”.
وجاء في معين الحكام ( ):” يجب على من ولي القضاء أن يعالج نفسه على آداب الشرع ، وحفظ المروءة، وعلو الهمة، ويتوقى ما يشينه في دينه ومروءته وعقله ، أو يحطه في منصبه وهمته ، فإنه أهل لأن ينظر إليه ويقتدى به ، وليس يسعه في ذلك ما يسع غيره ، فالعيون إليه مصروفة ، ونفوس الخاصة على الاقتداء بهديه موقوفة … فليأخذ نفسه بالمجاهدة ويسعى في اكتساب الخير ويطلبه ويستصلح الناس بالرهبة والرغبة ويشدد عليهم في الحق ، فإن الله تعالى بفضله يجعل له في ولايته وجميع أموره فرجا ومخرجا ، ولا يجعل حظه من الولاية المباهاة بالرئاسة وإنفاذ الأمور والالتذاذ بالمطاعم والملابس والمساكن ، فيكون ممن خوطب بقوله تعالى : ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ﴾ ( ).
ومن هذه الصفات أيضا ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:” لا تستقضين إلا ذا مال وذا حسب ، فإن ذا المال لا يرغب في أموال الناس ، وذا الحسب لا يخشى العواقب بين الناس “( ).
ومنها كذلك ما جاء عن عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – أنه قال:” لا ينبغي للرجل أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال فإن أخطأته واحدة كانت فيه وصمة وإن أخطأته اثنتان كانت فيه وصمتان حتى يكون عالما بما كان قبله مستشيرا لذي الرأي ذا نزاهة عن الطمع حليما عن الخصم محتملا للأئمة ( )”.
فهذه الأوصاف المذكورة تمثل حصانة للقاضي وحماية له من أي تدخل في شؤونه ، فهي تحافظ على هيبة القاضي واستقلاله وكرامته ، فيكون وقورا مهيبا غير ضعيف ، متنزها عما في أيدي الناس ، متعففا عن كل ما يعيبه في دينه ومروءته وعقله ، متوقيا كل ما يحط من منصبه ومكانته ، لا يسعى إلا في الخير ، يأخذ الناس بالرغبة والرهبة ، قويا من غير عنف لينا من غير ضعف ، لا يحابي أحدا ولا يخاف من أحد ، فهو لا يخاف في الله لومة لائم ، وكل واحد من هذه الأوصاف جدير بأن يضمن للقاضي استقلاله ، فكيف بها مجتمعة ( )!!
وإذا كانت تلك الأمور المتقدمة والتي يستمدها القاضي من تلقاء نفسه بتزكيتها وتهذيبها من ضمانات استقلاله ، فهناك ضمانات وظيفية أخرى تساعد على استقلال القضاء نبينها في المطلب الثاني.

المطلب الثاني
الضمانات الوظيفية

وفيه خمس مسائل :

المسألة الأولى: عدم التدخل في أعمال القضاء :

حتى يتحقق للقضاء استقلاله فلا يجوز التدخل في أعمال القضاء سواء من جانب السلطة التنظيمية أو التنفيذية ، فلا يحق للسلطة التنظيمية أن تعتدي على ولاية القضاء بأن تنتزع خصومات ومنازعات معروضة عليه لكي تتولى الفصل فيها بنفسها أو توجهها إلى لجنة من لجانها لتفصل فيها مادامت بين يدي القاضي ، كما يمتنع على السلطة التنفيذية التدخل في الخصومات المعروضة على القضاء للفصل فيها ، حتى ولو اتخذ التدخل شكلا مقنعا بأن تأتي على هيئة توجيهات أو تعليمات عامة لم يقصد بها في حقيقة الأمر إلا تحديد وجه الفصل فيما هو معروض على القضاء من منازعات معينة .

المسألة الثانية: توفير المناخ الملائم للقضاء وذلك بوضع قواعد خاصة لنقل القضاة وندبهم وإعارتهم وترقيتهم وتأديبهم ومرتباتهم:

لكي يتحقق الاستقلال الكامل للقضاء لابد من توفير الأسباب التي تكفل أكبر قدر من الاستقرار والطمأنينة لرجال القضاء , والتي تهيئ لهم ظروف الحياة والنزاهة التامة في أداء عملهم وينعكس ذلك على كثير من القواعد التي تتعلق بشئون القضاء وبأداء العمل القضائي سواء في طريقة اختيارهم أو شروط ولايتهم أو مرتباتهم , أو مساءلتهم التأديبية ، وقد التزمت المملكة العربية السعودية بهذا المبدأ بإنشاء المجلس الأعلى للقضاء ليتولى هذه الأمور، وهذه نبذة موجزة عن المجلس الأعلى للقضاء مستمدة من نظام القضاء :

المجلس الأعلى للقضاء.
المادة الخامسة:

يؤلف المجلس الأعلى للقضاء من رئيس يسمى بأمر ملكي، وعشرة أعضاء على النحو الآتي:
1- رئيس المحكمة العليا.
2- أربعة قضاة متفرغين بدرجة رئيس محكمة استئناف، يسمون بأمر ملكي.
3- وكيل وزارة العدل.
4- رئيس هيئة التحقيق والإدعاء العام.
5- ثلاثة أعضاء يتوافر فيهم ما يشترط في قاضي استئناف، يسمون بأمر ملكي. وتكون مدة رئيس المجلس، والأعضاء المنصوص عليهم في الفقرتين (ب) و (هـ) أربع سنوات قابلة للتجديد.
المادة السادسة:

يتولى المجلس الأعلى للقضاء – بالإضافة إلى الاختصاصات الأخرى المبينة في هذا النظام – ما يلي:
1- النظر في شؤون القضاء الوظيفية، من تعيين وترقية وتأديب وندب وإعارة وتدريب ونقل وإجازة وإنهاء خدمة وغير ذلك، وفقا للقواعد والإجراءات المقررة، وذلك بما يضمن استقلال القضاء.
2- إصدار اللوائح المتعلقة بشؤون القضاة الوظيفية بعد موافقة الملك عليها.
3- إصدار لائحة للتفتيش القضائي.
4- إنشاء محاكم وفق الأسماء المنصوص عليها في المادة التاسعة من هذا النظام، أو دمجها أو إلغائها، وتحديد اختصاصها المكاني والنوعي بما لا يتعارض مع حكم المادة الخامسة والعشرين من هذا النظام، وتأليف الدوائر فيها.
5- الإشراف على المحاكم والقضاة وأعمالهم في الحدود المبينة في هذا النظام.
6- تسمية رؤساء محاكم الاستئناف ومساعديهم من قضاة محاكم الاستئناف، ورؤساء محاكم الدرجة الأولى ومساعديهم.
7- إصدار قواعد تنظيم اختصاصات وصلاحيات رؤساء المحاكم ومساعديهم.
8- إصدار قواعد تبين طريقة اختيار القضاة، وإجراءات وضوابط تفريغهم للدراسة.
9- تنظيم أعمال الملازمين القضائيين.
10- تحديد الأعمال القضائية النظيرة المطلوبة لشغل الدرجات القضائية.
11- رفع ما يراه من المقترحات ذات الصلة بالاختصاصات المقررة له.
12- إعداد تقرير شامل في نهاية كل عام يتضمن الانجازات التي تحققت والمعوقات ومقترحاته بشأنها ورفعه إلى الملك.
المادة السابعة:

ينعقد المجلس الأعلى للقضاء – برئاسة رئيس – مرة كل شهرين على الأقل وكلما دعت الحاجة إلى ذلك، ويكون انعقاده نظاميا بحضور أغلبية الأعضاء، وتصدر قراراته بأغلبية المجلس. وفي حالة غياب رئيس المجلس يحل محله رئيس المحكمة العليا .
المادة الثامنة:

1- يكون للمجلس الأعلى للقضاء ميزانية خاصة به تصدر وفق القواعد المتبعة لصدور الميزانية العامة للدولة
2- يكون للمجلس الأعلى للقضاء أمانة عامة، ويختار المجلس الأمين العام من بين القضاة.
3- يعين في المجلس العدد الكافي من الباحثين والفنيين والإداريين، وللمجلس بقرار منه الاستعانة بمن يرى الاستعانة به، ويشرف عليهم رئيس المجلس .
4- يصدر المجلس لائحة داخلية تنظم أعماله ومهماته .
ولو انفردت السلطة التنفيذية بتعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم لكان في هذا الانفراد مساس باستقلال القضاء ، فقد تستخدم التعيين والترقية وسيلة للتأثير على استقلال القضاء، فكان إنشاء مجلس أعلى للقضاء تكون له المرجعية في جميع المسائل المتعلقة بشؤون القضاة ضمانة من أهم الضمانات التي تكفل استقلال القضاة( ) .

المسألة الثالثة : تقرير الأرزاق ( المرتبات ) الكافية للقضاة :
نظرا لما للناحية المادية من تأثير كبير في حياة الناس فقد رعت الشريعة الإسلامية ذلك الجانب حرصا منها على عدم الإخلال بمبدأ استقلال القضاء ، فمادام أن القاضي قد شغل وقته وفرغ نفسه للحكم بين الناس وما دام أنه منع من التكسب بالتجارة ونحوها ، ومن كثرة مخالطة الناس وأمر بالتحلي بدرجة عالية من الأخلاق والآداب التي تكفل له الاحترام والاستقلال في الرأي ، فلن يتم له كل هذا إلا إذا كان له مرتب يتقاضاه من بيت المال يكفل له العيش بأمان دون أن يكون لأحد عليه منة ودون أن يلجأ إلى بعض المكاسب التي لا تليق بمنصبه، ومن هنا فقد نص الفقهاء على أن القاضي ينبغي أن يكون له رزق من بيت المال، يقول ابن قدامة في موضوع رزق القاضي بعد أن ذكر أقوال الفقهاء في هذه المسألة : والصحيح جواز أخذ الرزق عليه ـ أي على عمل القضاء ـ بكل حال ، لأن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا له الرزق كل يوم درهمين ولما ذكرناه من أن عمر رضي الله عنه رزق زيدا وشريحا وابن مسعود ،ولو لم يأمر بفرض الرزق لتعطل القضاء وضاعت الحقوق( ).
وقد عملت المملكة العربية السعودية بهذا المبدأ فقررت أرزاقا ومرتبات جيدة للقضاة ، وهناك توجه لزيادتها كما صرح بذلك رئيس المجلس الأعلى للقضاء معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد وفقه الله ، فقد صرح لصحيفة عكاظ ( ) بقوله إن هناك توجها لزيادة رواتب القضاة العاملين في جميع المحاكم، مؤكدا أن الدراسة التي يجري العمل عليها هذه الأيام لا تخص القضاة المعينين في المناطق النائية فقط، وإنما تتطرق أيضا لزيادة رواتب القضاة بشكل عام والبالغ عددهم نحو 1250 قاضيا.
وأكد ابن حميد أن الدراسة لا تقتصر على رواتب القضاة المعينين في المناطق النائية وإنما تتطرق للجانب الوظيفي لجميع القضاة، وتوفر بدل سكن ونقل وراتب مجزية لأصحاب الفضيلة القضاة في مختلف أنواع المحاكم ، وشدد على أهمية زيادة رواتب القضاة في ظل المتغيرات الاقتصادية الكبيرة التي يشهدها العالم، مؤكدا أن رواتب القضاة في المملكة تأتي أقل مما تقدمه الدول المجاورة للقضاة لديهم، كما ستسهم زيادة الرواتب في زيادة القبول على سلك القضاء لا سيما أن المجلس الأعلى للقضاء لديه ما يصل إلى 2000 وظيفة شاغرة ).

المسألة الرابعة: عدم قابلية القضاة للعزل:

والمقصود بهذا المبدأ عدم قابلية القضاء للعزل بغير الطريق التأديبي حتـــى يكون القاضي آمنا على وضعه , مستقرا في نفسه لا يخشى في إقراره الحق لومة لائم ، وهو ما أكدته المادة الثانية من نظام القضاء ونصها :
(( القضاة غير قابلين للعزل إلا في الحالات المبينة في هذا النظام ))
المسألة الخامسة: عدم تقرير ميزة أو معاملة خاصة لأحد القضاة دون غيره:

حتى نضمن استقلال القضاء فلابد من معاملة رجال القضاء على قدم المساواة في كل ما يتعلق بالنواحي المادية بل والأدبية , فمنح الرتب والألقاب والنياشين ينبغي أن تتم بعد انتهاء خدمة القاضي وفراغه من أداء رسالته ، حتى لا يؤثر تطلعه إلى هذه الأوسمة – لو كانت تمنح للقضاة وهم على رأس العمل – على استقلال القضاء وحياديته .

الخاتمه

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، أحمده على ما أنعم به علي من إنهاء هذا البحث وتذليل الصعوبات والصلاة والسلام على من ختمت به الرسالات ، وبعد: فقد توصلت من خلال هذا البحث إلى النتائج الآتية:
1/ يقصد باستقلال القضاء : الحرية في البحث عن الحق وألا يخاف القاضي في الله لومة لائم ، فلا يخضع القضاة أثناء ممارسة عملهم لسلطان أي جهة أخرى ، بل يكون عملهم خالصا لإقرار الحق والعدل بين الناس دون محاباة وتحيز ، وإيصال الحقوق لأصحابها دون تمييز أو تفريق بين الناس ، خاضعا لما يمليه الشرع والضمير دون أي اعتبارات أخرى ، قال تعالى﴿يا داودُ إنَّا جَعَلْناك خَلِيفةً في الأرض﴾
ويتبع ذلك بالضرورة الحيلولة دون تدخل أي جهة أو سلطة أو ضغط من حاكم ، أو تدخل ذوي النفوذ في أعمال القضاء لتوجيهها وجهة معينة ، أو لعرقلة مسيرته الطبيعية ، أو شل آثار ما يصدر عنه من أحكام ، كما يقتضي أن يوفر للقضاة أكبر قدر من الاستقرار بما يهيء لهم المناخ المناسب الذي يمكنهم من أداء رسالتهم الجليلة على أحسن حال .
2/ أن استقلال القضاء ونزاهته وحياديته وعدالته وعدم المحاباة فيه هي القواعد والأسس التي يقوم عليها القضاء الإسلامي وهدفه الأسمى الذي وجد من أجله ، وإذا قيدت حرية القاضي ولم يتمتع بالحرية والاستقلال في إظهار الحق ودمغ الباطل فإنه من العسير على القاضي أن يتحمل حماية حقوق الأفراد والجماعات عندما تكون هذه الحقوق موضعا للنزاع والمشاحنة .
3/ أن الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من خلفاء المسلمين حرصوا على استقلال القضاء ، وكانوا بأنفسهم يحتكمون إلى القضاة ويمثلون أمامهم , ويقضى عليهم , فينفذون القضاء بطواعية واختيار , وأحجم الخلفاء عن التدخل في أعمال القضاة . وضربوا المثل الأعلى لمن بعدهم وقرروا أن الناس مهما علت مقاماتهم أو سمت منازلهم فهم أمام شرع الله متساوون لا امتياز لأحد على أحد .
4/ أن المملكة العربية السعودية حرصت منذ تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله على استقلال القضاء ، وسن الأنظمة والتشريعات التي تكفل هذا المبدأ كما اتضح ذلك من خلال دراسة نظام القضاء .
5/ أن ضمانات استقلال القضاء تتمثل فيما يلي:
(أ‌) ضمانات ذاتية ، وهي الصفات التي يجب أن يتحلى بها القاضي من عزة النفس والمروءة والقوة في الحق وأن لا يخاف في الله لومة لا ئئم .
(ب‌) الضمانات الوظيفية وتتضمن عدم التدخل في أعمال القضاء ، وتوفير المناخ الملائم للقضاء وذلك بوضع قواعد خاصة لنقل القضاة وندبهم وإعارتهم وترقيتهم وتأديبهم ومرتباتهم من خلال مجلس أعلى للقضاء ، وتقرير الأرزاق ( المرتبات ) الكافية للقضاة ، وحصانة القضاة من العزل ، وعدم تقرير ميزة أو معاملة خاصة لأحد القضاة دون غيره .
وختاما فالحمد لله الذي وفق بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية وقيادتها الرشيدة لهذا المنهج الرشيد المتمثل بتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مناحي الحياة ، وسن الأنظمة التي تسير وفق الشريعة المطهرة للنهوض بالقضاء وتطويره من غير إخلال بشرعية القضاء أو التأثير على استقلاله .

شارك المقالة

1 تعليق

  1. المصادر من أين ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.