رؤية عصرية حديثة حول المؤسسية في القانون

* د. محمد طالب عبيدات

برزت ثقافات تنظيمية عدّة هذه الأيام كالحاكمية الرشيدة والمؤسسية كرؤى عصرية حديثة للعمل المنظّم. وتعتبر المؤسسية إحدى الثقافات التنظيمية التي تؤسس لعمل منظم وفق أطار مؤسسي ذي رؤية وأهداف وهيكلية أساسها عمل الأفراد كخلية نحل منظمة أو أنظمة تشغيلية كأنظمة التشغيل المختلفة في المركبة، والفرد فيها كالبرغي في الغماز في السيارة، فهو موجود ورغم صغره فقيمته محفوظة لأنه جزء من نظام مؤطر وليس عبثيا أو عشوائيا، والكل متفق فيها على منهجية الحاكمية الرشيدة التي تنأى عن أي اختلال إداري، والكل له وصف وظيفي واضح وفق رسالة المؤسسة التي تمثل دستور أي مؤسسة كانت. ومن هنا فإننا لا نجد التقاطع أو الندية أو الضدية بين الأشخاص العاملين في المؤسسة، لأنه لا مجال هنا للشخصنة والعزف على وتر سياسات الإقصاء والإبعاد، فالأضداد فكرياً أو اجتماعياً أو غير ذلك لا بد أن يلتقوا لمصلحة العمل ولا تفسد سوء العلاقات الشخصية أي مصلحة للعمل، لأن هنالك محاسبة للمخطئ والنظرة بمؤسسية لا بفردية. وفي المؤسسية يغيب الاستغلال الوظيفي أو الابتزاز بأنواعه لأن القرار ليس للفرد بل للجان والمجالس، ولأن القرار ليس من رأس الهرم بل من قاعدته التي تتفهم أهمية أي قرار ليس لمصلحة شخصية فحسب بل لمصلحة المؤسسة والمصلحة العامة لأن مصلحة الفرد من مصلحة المؤسسة، ولهذا فان المصالح الشخصية تذوب في إطار المصلحة العامة.

ومن هنا تطفو على السطح هذه الأيام شعارات الحاكمية المؤسسية والرشيدة والتي تؤطر مجموعة العلاقات ما بين الإدارة التنفيذية للمؤسسة ومجالسها المختلفة والمستهلكين ومساهميها والجهات الأخرى التي لها اهتمام بالمؤسسة وفق معادلة رؤية وضوابط قانونية للمؤسسة، كما أنها تبين التركيبة التي تتضح من خلالها أهداف المؤسسة والوسائل الكفيلة بتحقيقها ومراقبتها، وأساس العلاقة بين المسؤول والموظف أنّى كان موقعه أو مرتبته الوظيفية.

ولهذا فان الحاكمية الرشيدة هي جزء من رؤية دولة المؤسسات والقانون التي تعتمد مبدأ حق المواطنة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم سواء كانت وطنية أو قومية أو دينية أو مذهبية أو كانت تخص المعتقد أو العرق أو الجنس أو اللون، وتحترم حرياتهم المسؤولة في ظل المعادلة الموزونة بين الحقوق والواجبات، وتحترم حقوقهم المدنية والسياسية والخاصة والعامة، بشرط ثوابت الأرضية الصلبة من ضوابط الانتماء للوطن والولاء للقيادة.

والمؤسسية الإدارية بعكس الفردية التي تأخذ مبدأ إدارة الشخص الواحد والشلّة القريبة أو ما يدعى بالمؤسسية الشكلية، لأن للمؤسسية معايير فنية وإدارية ومهنية للإدارة وميثاق شرف وتعطي أنظمة حوافز للمرؤوسين وهنالك تنافسية بين الموظفين وهنالك أنظمة للجودة ومؤشرات للنزاهة، وهنالك الإشراف والرقابة والتغذية الراجعة والتحكيم الخارجي، وهنالك ضوابط قانونية، وهنالك تعزيز للشفافية والمساءلة وسلطة القانون، وهنالك تعزيز للإنتاجية وتأطير لجودة العمل، وهنالك ضبط لمخرجات العمل، وهنالك الكثير من المعايير والمؤشرات لضبط العمل والتي تحكم عمل المؤسسة لدرجة أن غياب أي شخص عن المؤسسة لا يؤثر سلبا عليها بل يمكن الاستغناء عن أيّ كان في أي وقت وتدريب غيره بمهارات تقتضيها طبيعة عمله. والمؤسسية بعكس الفردية تكشف الخلل ومواطن الضعف فلا مجال للتلكؤ أو الواسطة أو المحسوبية أو الانحياز أو الابتزاز أو غيره.

ونحن في الأردن نرنو إلى تطبيق شعارنا “دولة المؤسسات والقانون” بكل ما يحمل من معنى وبرؤية هاشمية بامتياز، فالحمد لله فان لدينا مؤسسات دولة محترمة ومبنية وفق هيكلية مدروسة وإطارها العام قانوني مبنٍ على دستور عصري ومرن ومتطور ويعد من أرقى دساتير العالم، وهذه المؤسسات تم بناؤها بشكل تراكمي وبسواعد الأردنيين الشرفاء منذ نشأة الدولة الأردنية، لكننا ما زلنا نلحظ أن البعض ما زال ينبري ليعزف على وتر الفردية والشوفية وإدارة الرجل الواحد في بعض المؤسسات دون الأخذ برأي المجالس أو الأشخاص التابعين لإدارته وفق المنهجية القانونية والمؤسسية. ولهذا فان وجود الجهات الرقابية ومبدأ المساءلة والتحكيم وإدارة الجودة والإطار المؤسسي تجعل الناس المتمسكين بالإدارة الفردية ضعفاء أمام الإدارة المؤسسية التي تضبطها حاكمية رشيدة أساسها مؤسسي منظم ومتين، خصوصاً أن الحديث عن الفساد الاداري قد كثُر هذه الأيام، ولهذا فاننا أحوج ما نكون الى تطبيق أنظمة المؤسسية والحاكمية الرشيدة على كل مؤسسات الدولة.

* وزير الأشغال العامة والاسكان السابق