دراسة وبحث قانوني مفصل عن السيادة

المقدمة:

يرجع معظم الفقهاء في صياغة نظرية السيادة لتنظيم السلطة في الفقه الدستوري الحديث، الى الفقه الفرنسي أثناء فترة الصراع السياسي في العصور الوسطى من حكام وحكومات الدولة المسيحية، وعن سيطرة البابا على الحكم المسيحي، لهذا فالسيادة أول الأمر ظهرت بمبدأ أساسي يهدف الى تأكدي سلطة الملوك في مواجهة أمراء الإقطاع في الداخل وكذا تقرير عدم خضوع الملوك لسلطة البابا والإمبراطور على المستوى الخارجي، ثم أدخلت هذه النظرية في الفقه القانوني، من قبل الكتاب الفرنسيين أمثال “بودان” الذي وصف ملك فرنسا بالسيادة وقبل، وقد عرفنا أن الشخصية المعنوية خاصية من خصائص الدولة.
إذاً، ما هو مفهوم السيادة، مصادرها، مضامينها؟ وهل تعتبر خاصية مميزة وهامة للدولة؟

المبحث الأول: مفهوم السيادة ومضامينها:

تعددت آراء الفقهاء في إيجاد تعريف كامل وشامل لمفهوم السيادة إلا أن كل التعاريف تصب في مضمون واحد.

المطلب الأول: مفهوم السيادة:

الفرع الأول: تعريف السيادة:
إن ما يميز الدولة عن غيرها من التنظيمات والتجمعات ليس فقط توافر الأركان الثلاثة وتمتعها بالشخصية المعنوية، وإنما تتميز أيضا عن غيرها بتمتعها بالسيادة التي لا يعلوها أحد، وهذا يعني أن سلطة الدولة سلطة قانونية مستمدة من القانون وإنها أصيلة لا تستمد أصلها من غيرها والعكس صحيح( ).

وأن المتتبع للتاريخ يلاحظ أن موضوع السيادة قد تعرض أكثر من غيره من مواضيع القانون للدراسة المستفيضة، خاصة في مجال نظرية الدولة باعتبار أن السيادة هي العنصر الأساسي المميز لها عن غيرها من التجمعات أو الجماعات، ومع ذلك فإنها لم تحض بتحديد مفهوم متفق عليه نظرا لاختلاف الفقه حول مداها والعناصر المكونة لها، وخصائصها واقتصارهم على بعض مظاهرها.

فالأستاذ “إيزمان Esmein” ينطلق في تعريفه للسيادة من الدولة التي يرى بأنها تشخيص قانوني للأمة وعنده أن الذي يجعل من الأمة دولة هو توافر السلطة العامة التي تعلو إرادات أعضاء هذه الأمة، ولا توجد فوقها سلطة تخضعها لها، وينتهي الى أن السلطة العليا في المجتمع السياسي هي التي لا توازيها أو تماثلها سلطة أخرى، وهي حسب وجهة نظرها السلطة التقديرية المطلقة.
في حين يرى الأستاذ كاري “دي مالبرغ C.Dmalberg” بأن السيادة لها معنى سلبي يتمثل في إنكار كل مقاومة أو قيود على السلطة العامة، فالسيادة وفقا لرأي هذا الفقيه صفة أو هي إحدى خصائص السلطة العامة التي بموجبها لا ترضى بأي حال وجود سلطة أخرى فوقها.

أما الأستاذ “لي فير Fur” فيعرفها بأنها صفة في الدولة تمكنها من عدم الالتزام والتقيد إلا بمحض إرادتها في حدود المبدأ الأعلى للقانون وطبقا للهدف الجماعي الذي تأسست لتحقيقه.

أما الأستاذ “دابان J.Dabin” فيعرفها بقوله أن الدولة تكون ذات سيادة في مواجهة الأفراد والجماعات الخاصة والعامة التي تعيش أو تعمل داخلها، فهي المجتمع السامي الذي يخضع له الأفراد والجماعات( ).
فالسيادة تعني عدم التبعية ولها عنصران إيجابي يتمثل في القدرة فوق العادية للبشر لفرض السلطة، وسلبي يبدو في الصفة التي تجعل صاحب السيادة لا يتبع في أي شيء جهة أخرى، وإن كان ذلك يتجافى والواقع، ويذهب تعريف آخر الى أن السيادة هي “السلطة التي لا تحتاج لأي مبرر لإثبات صحة تصرفاتها”.

وقد استعملت كسلاح قانوني صنعته البورجوازية لخدمة مصالحها السياسية الخاصة غير لأنها تحولت ضدها لكنها بقوتها قلصت من مداها فيما بعد لصالحها، وهو ما يستشف من دراسة التطور الذي أصاب هذه الفكرة حيث استعملت من قبل تلك الطبقة لإبعاد الملك والأرستقراطية والطبقة العامة إلا أن الأفكار الاجتماعية قيدت من إطلاق السيادة لصالح الطبعة العاملة على حساب مصلحة الرأسماليين، إلا أن تلك القيود الناتجة عن الثورات الشيوعية لم تثبت أمام قوة الأفكار الليبرالية الحرة والرأسمالية والاحتكارية من جهة والفساد الذي ساد الأنظمة الاشتراكية فاستعادت بذلك تلك الطبقة سلطتها وسيادتها لكن في شكل قانوني تأسيسي يضمن لها الحفاظ على مصالحها دون إبعاد للشعب من المشاركة في اختيار ممثليه وممارسي السلطة والسيادة باسمه ولحسابه دون أن يكون هو المالك الفعلي لها أو الممارس لها، لأن الدولة أعيد تأميمها.

الفرع الثاني: مضمون السيادة:
هي صفة أو خاصية قانونية ملازمة ولصيقة بالدولة التي تزول بزوال هذه الخاصية عنها( ).

أ-المضمون السلبي: السيادة هنا، هي السلطة السياسية باعتبارها سلطة عليا لا تخضع الى سلطة أخرى تعلوها وتأمرها أو توجهها من الخارج أو تماثلها أو توازيها وتنافسها في الداخل.
هذا يعني أن الدولة تمارس صلاحيتها دون الخضوع الى جهة أو سلطة بشرية ما تعلوها من الناحية الخارجية وتأثر فيها ولا تتعرض في الداخل الى سلطة منافسة لها تعرقلها وتقيد إرادتها

ب-المضمون الإيجابي: يقصد بالسيادة هنا مجموع الاختصاصات والصلاحيات التي تمارسها الدولة خارجيا وداخليا، ولذا تقسم السيادة الى سيادة خارجية وسيادة داخلية.

1- السيادة الخارجية: هي مجموعة الحقوق والصلاحيات التي تمارسها الدولة في المجتمع الدولي، مثل حقها في الانضمام الى المنظمات الدولية والمشاركة في المؤتمرات وإبرام المعاهدات والاتفاقيات، والدخول في علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى بكل حرية، وكذلك العلاقات التجارية والثقافية وغيرها، وكذلك حق متابعة ورعاية شؤون مواطنيها في الخارج وحمايتهم..إلخ.

2- السيادة الداخلية: هي كل الصلاحيات والمهام التي تمارسها الدولة على كل إقليمها وكامل السكان الموجودين فيه دون منازعة أو منافسة أو تدخل خارجي، حيث تشرع وتقيم القضاء والأمن وتنشأ المرافق، الى غير ذلك مما يستلزمه تنظيم المجتمع وقياداته. ( )
والمظهر السلبي والمظهر الإيجابي للسيادة، لا يشكلان إلا وجهين لعملة واحدة بحيث أن الدولة التي تكون سلطتها خاضعة ومأمورة أو محل منافسة لا يمكن أن تكون لها حرية التصرف وممارسة أي اختصاص أو صلاحيات بحرية داخليا.
بناء على ذلك فإن السيادة تسمح للدولة بما يلي( ):

1-احتكار الاختصاص: أي أن سلطة الدولة هي وحدها التي تمارس على إقليمها وعلى شعبها دون منافسة ويتضح ذلك على المستويات التالية:

* احتكار ممارسة الإكراه المادي وحدها دون منافسة.
* احتكار ممارسة القضاء بمنع أي قضاء آخر سواء للخواص أو لدولة أخرى إلا بإدارتها الحرة.
* تنظيم المرافق العامة من تعليم وصحة وبريد ودفاع وأمن…إلخ بالطريقة التي تريد، ومنع المرافق الأجنبية إلا إذا سمحت بذلك.

2- استقلال الاختصاص: أي أن الدولة مستقلة تماما في ممارسة سلطتها بطريقة تقديرية أي لها حرية اتخاذ القرار والتحرك والعمال حسبما تراه ملائما ودون الخضوع الى توجيهات أجنبية أو عرقلة داخلية.

3-شمولية الاختصاص: أي أن الدول تنشط في جميع الميادين دون استثناء ودون اعتراض بعكس المجموعات الأخرى (البلدية، الولاية، الأشخاص المعنوية الأخرى)، المقيدة بأهدافها وموضوعها.

المطلب الثاني: أشكال السيادة :

ندرس من خلاله المحاور التالية( ):

الفرع الأول: السيادة القانونية والسيادة السياسية:
صاحب السيادة القانوني هو الشخص أو الهيئة التي يخولها الدستور أو القانون سلطة ممارسة السيادة، ففي كل دولة توجد مؤسسات يخولها القانون ممارسة السيادة أي إصدار الأوامر النهائية في الدولة.
أما السيادة السياسية فهي مجموع القوى التي تساند القانون وتكفل تنفيذه واحترامه، ففي الدول الديمقراطية الشعب هو صاحب السيادة السياسية، فالسيادة السياسية غير منفصلة عن السيادة القانونية في الديمقراطية المباشرة.
والسيادة السياسية تظهر عن طريق التصويت أو عن طريق الصحف أو عن طريق الخطب أو المهرجانات الشعبية، فهي سيادة غير منتظمة.

ويجب علينا أن نفرق بين السيادة السياسية والسيادة الشعبية، إذ هذه الأخيرة لا تستعمل لدى بعض الكتاب السياسيين إلا حينما نقرر حق الأفراد في الانتخابات أي إشراف الشعب على الحكومة.

الفرع الثاني: السيادة القانونية والسيادة الفعلية:
السيادة الفعلية هي طاعة المواطنين لأوامرها سواء كانت مستندة لقانون أو غير مستندة لم فكما يقول اللورد “برايس” هو الشخص الذي يستطيع أن ينفذ إرادته في الشعب حتى ولو كانت تلك الإرادة خارجة عن القانون.
وصاحب السيادة الفعلية قد يكون قائدا عسكريا فيستخدم الجيش للسيطرة وفرض طاعته، وقد يكون زعيما وطنيا يدين الشعب بمبادئه.

أحيانا يجتمع في دولة واحدة هذان النوعان من السيادة إذ يسيطر الجيش على الحكم بينما الحكومة الشرعية قائمة اسما أما في الدول المنظمة يكون تناسق تام بين الحق (السيادة قانونية) والقوة (سيادة فعلية).

وقد تظهر السيادة الفعلية ثم تتحول تدريجيا الى سيادة قانونية إذ تظهر قوانين جديدة تمنح السلطة الجديدة الشرعية وهذه هي القاعدة في دول العالم الثالث.

المبحث الثاني: مصادر السيادة:

ذهب معظم الفقهاء أن السيادة مصدرين أساسيين هما الأمة والشعب وسنتطرق في مبحثنا هذا الى هذين النظريتين ومدى أهميتهما:

المطلب الأول: سيادة الأمة:

الفرع الأول: مفهومها:
ذهب بعض الفقهاء الى تقريب مفهوم سيادة الأمة من مفهوم الديمقراطية بل واعتبارها تعبير عن فكرة واحدة ولكن من ناحيتين.
فالديمقراطية هي تعبير عن الشكل السياسي (أي نظام الحكم في الدولة) أما مبدأ سيادة الأمة، فهو على حد تعبير هذا الفقه عبارة عن التعبير القانوني( ).
واتساقا مع هذا الرأي، فإن فكرة السيادة أول ما ظهرت على لسان القانونيين الذين كانوا يدافعون عن سلطات الملك في فرنسا ضد البابا والإمبراطور في العصور الوسطى مؤكدين أنه يتمتع بالسيادة الكاملة في مملكته، وأن هذه السلطة العليا لا ينافسه عليها أحد في الدولة.

وكان لجون “بودان Jean Bodin” الفضل الكبير في إبراز هذا المفهوم كعنصر مميز للدولة عن سائر المجتمعات الإنسانية( ).

ومع قيام الثورة الفرنسية وتأكيد الفصل بين الملك والسلطة، والسلطة السياسية، ظلت فكرة السيادة قائمة بما لها من صفة الإطلاق والسمو والأصالة ولكنها انتقلت من الملك الى الأمة، لتصبح بذلك إرادة الأمة هي السلطة العليا التي لا تنافس( ).
وأياّ كان التطور التاريخي لهذا المبدأ، فإنه نظرية فرنسية تنسب الى جان جاك روسو، الذي كان لكتاباته وأفكاره الفضل الكبير في التأكيد على بعض المعاني التي استند عليها أنصار هذا المذهب.

والأخذ بمبدأ سيادة الأمة يعني الصفة الآمرة العليا في الدولة لا ترجع الى فرد أو أفراد معينين بذواتهم أو الى هيئة أو هيئات معينة، بل الى وحدة مجردة ترمز الى جميع الأفراد، هذه الوحدة التي تمثل المجموع بأفراده وهيئاته لا يمكن تجزئتها وعي مستقلة تماما عن الأفراد الذي تمثلهم وترمز إليهم.

ولما كانت السيادة للأمة ذاتها باعتبارها وحدة واحدة ومستقلة عن الأفراد المكونين لها، فلا سيادة لفرد أو جماعة بل إن الصفة الآمرة العليا لمجموع الأفراد على اعتبار أن هذا الشخص الجماعي يمثل وحدة واحدة لا تتجزأ مستقلة عن أفراده ألا وهي الأمة، لذلك قيل بأن السيادة وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة أو للتنازل أو للتصرف فيها، أو للتملك فهي ملك للأمة وحدها.

ولقد نصت وثيقة إعلان حقوق الإنسان التي أقرتها الجمعية الوطنية في فرنسا عام 1789 على مبدأ سيادة الأمة، حيث قررت في المادة الثالثة منها على أن “الأمة هي مصدر كل سيادة، ولا يجوز لأن فرد أو هيئة ممارسة السلطة إلا على اعتبار أنها صادرة منها، كذلك تبنى الدستور الفرنسي الصادر في 3 سبتمبر 1791 هذا المعنى حيث ورد في الباب الثالث منه في فقرتيه الأولى والثانية على أنّ “السيادة وحدة واحدة غير قابلة للانقسام ولا للتنازل عنها ولا للتملك بالتقادم، وهي ملك للأمة وبأن الأمة هي مصدر جميع السلطات”.

هذا وقد ساد مبدأ سيادة الأمة في كثير من دساتير الدول العربية، لقد تبناه الدستور المصري 1923، وكذلك دستور 1930، إذ قضيا في المادة 23 من كل منهما بأن جميع السلطات مصدرها الأمة، ثم جاء دستور 1906 المصري ونص في المادة الثانية منه على أن “السيادة للأمة”.
وكذلك تنص المادة 24 من دستور المملكة الأردنية الهاشمية الحالي (1952) الفقرة الأولى “الأمة مصدر السلطات”، أما الفقرة الثانية ، فقد نصت على “تمارس الأمة سلطتها على الوجه المبين في الدستور”، كما نصت المادة السادسة من دستور الكويت (1962) على أنّ “السيادة للأمة مصدر السلطات جميعا، وينص دستور المملكة المغربية (1972) على أن”السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية”( ).

النتائج المترتبة على مبدأ سيادة الأمة:

السيادة طبقا لمبدأ سيادة الأمة عبارة عن وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة أو للتنازل عنها أو للتصرف فيها أو للتملك فهي ملك للأمة وحدها، هذا المعنى للسيادة يترتب عليها نتائج عديدة أهمها:

1- النظام النيابي التقليدي: لقد ترتب على اعتناق الديمقراطية لنظرية سيادة الأمة أن أخذت أنظمة الحكم بالنظام الديمقراطي النيابي.
فالأمة هي التي تعبّر عن إرادتها، وليس بحاجة الى أشخاص طبيعية أو معنوية تتحدث باسمها وتعبّر عنها، لأن مخالفة ذلك معناه تجزئة هذه الإرادة وهذا يتعارض مع مبدأ سيادة الأمة.
لذا قيل بأن مبدأ سيادة الأمة لا يتناسب مع الديمقراطية المباشرة، حيث يقوم الأفراد بأنفسهم دون وساطة أحد بممارسة شؤون السلطة السياسية ولا مع الديمقراطية شبه المباشرة الذي يعطي الشعب حق ممارسة بعض مظاهر هذه السلطة عن طريق الاستفتاء الشعبي أو اقتراح القوانين أو الاعتراض عليها.
فالنظام النيابي “الديمقراطية النيابية” تقوم على اختيار الشعب لممثليه الذين يمارسون السلطة نيابة عنه لفترة محددة دون حق هذا الشعب في ممارسة شؤون السلطة أو المشاركة فيها، فدوره إذن يقتصر على مجرد اختيار بعض النواب الذين يستقلون تماما عن الشعب في مباشرة السلطة الآمرة( ).
هذا ويلاحظ أن مبدأ سيادة الأمة وإن كان يتناسب مع النظام النيابي التقليدي فلا يتحتم وجود النظام الجمهوري بل يمكن أن يسود كذلك في النظام الملكي.

2- الانتخابات وظيفة وليست حقا: إذا كانت السلطة الآمرة العليا في الدولة للشخص الجماعي الواحد ولا يجود تجزئتها على الأفراد فإنه يستحيل على أفراد الشعب ممارسة شؤون السلطة أو الادعاء بوجود حق لهم في ذلك، وعلى هذا فاختيار النواب الممثلين لهذا المجموع لا يعد حقا للأفراد بقدر ما هو وظيفة وواجب يحتمان اختيار الأصلح لممارسة شؤونهم.

3- الأخذ بالاقتراع المقيّد: مادام الاختيار طبقا لسيادة الأمة مجرد وظيفة وواجب الاختيار للأصلح فإن للأمة أن تحدد الشروط اللازم توافرها في هيئة الناخبين لضمان حن الاختيار لمن سيقومون بممارسة السلطة هذه.
لذلك قيل أنه ليس من اللازم تقرير نظام الاقتراع العام في الانتخابات وإنما يجوز تبعا لمبدأ سيادة الأمة الأخذ بنظام الاقتراع المقيد الذي يشترط في الناخب أو المرشح نصابا ماليا معينا، أو حدا أدنى من التعليم أو شرط الانتماء الى طبقة معينة من الطبقات.

4- النائب ممثل للأمة: النائب طبقا لنظرية سيادة الأمة يكون ممثلا للأمة بكاملها، ولا يقتصر تمثيله لدارة انتخابية معينة، فهو وكيل عن الأمة وليس وكيلا عن دائرته التي انتخبته لذلك فالنواب يعملون وبصفة دائمة من أجل الأمة، والصالح العام وليس من أجل انتخابهم أو الصالح الخاص، هذا ما عبّر عنه “روسو” بأن الإرادة العامة هي إرادة الأغلبية، وهي دائما صحيحة يجب على الأقلية ألا تعارضها لأنها دائما مخطئة وتعّبر عن مصالح محدودة بينما الإرادة العامة هي مصلحة المجموع لكل المجموع.

5- القانون تعبير عن إرادة الأمة: ينظر الى القانون طبقا لمبدأ سيادة الأمة على أنه تعبير عن هذه السيادة المطبقة والإرادة العليا للأمة وليس مجرد تعبير عن إرادة النواب، أو إرادة ناخبيهم، وهو بهذا المعنى عنوان للحق والعدل ، ولا يجوز أن يكون موضوع نقاش من فرد أو هيئة بعد استيفاء الإجراءات الدستورية لسنه وإصداره.

الفرع الثاني: الانتقادات الموجهة:
نقد مبدأ سيادة الأمة: تعرض مبدأ سيادة الأمة لكثير من الانتقادات أهمها:
1- مبدأ سيادة الأمة يؤدي الى الاعتراف للأمة بالشخصية المعنوية، وبالتالي الى قيام شخصين معنويين يتنازعان السيادة على إقليم واحد وهما الدولة والأمة، إزاء ذلك حاول البعض أن يزيل هذا التناقض باعتبار أن الدولة والأمة عبارة عن شخص معنوي واحد إلا أن هذه المحاولة غير ذات جدوى لأنها تعيدنا من جديد للسؤال عن صاحب السيادة الفعلية داخل الدولة، بعد أن فقد مبدأ سيادة الدولة قيمته وجدواه.
2- قيل أنه لا توجد حاجة في الوقت الحاضر للأخذ بنظرية سيادة الأمة، خاصة بعد زوال الظروف السياسية والتاريخية التي أبرزته وبررته فلقد كان لهذا المبدأ فائدة كبيرة في أوقات السلطان المطلق للطبقة الحاكمة، على اعتبار أنه سلاح من أسلحة الكفاح ضد الفئة الحاكمة، فما دامت هذه الفئة قد تخلت عن استبدادها المستند والمبرر، من نظريات الحق الإلهي، فإنه لم تعد الحاجة الى هذه النظرية أو المبدأ وبعبارة أخرى إنه إذا كان مبدأ سيادة الأمة في عصر الثورة الفرنسية بعُد معولا من معاول هدم نظرية الحق الإلهي، وإذا كانت هذه النظرية في العصر الحديث، قم تم هدمها فما فائدة ذلك المعول.
3- يعاب على نظرية حق سيادة الأمة بأنها تؤدي الى السيادة المطلقة وإطلاق السيادة سيؤدي بالتالي الى الاستبداد وإهدار حقوق وحريات الأفراد.

فما دام القانون هو تعبير عن الإرادة العامة التي لا يجوز لأي فئة الاعتراض عليها، فهي إن فعلت ذلك كانت كما يصفها جان جاء روسو مخطئة لأن الأغلبية هي الأصح في كل الأحوال وتعكس العدل والحق دائما، وما دام كذلك فإن الحكام الذين يمارسون هذه السيادة ويعبرون عنها قد يستغلون مركزهم هذا، ويتصرفون حسب أهوائهم ومطامعهم، فيستبدون بالأفراد ويتعسفون بهم اعتمادا على هذا المبدأ وفي ذلك كله خطر وتهديد لحقوق الأفراد وحرياتهم.

4- قيل في مبدأ سيادة الأمة بأنه لا يمثل نظاما معينا، فهو وإن كان يؤدي الى النظام الديمقراطي الذي يقوم على أساس احترام الحقوق وصيانة الحريات فإنه يتلاءم كذلك مع الأنظمة الدكتاتورية، بالإضافة الى انسجامه مع أنظمة متعارضة في جوهرها كالأنظمة الملكية والجمهورية ، كما وأنه إذا اتخذ أساسا للدفاع عن حقوق الأفراد، فقد استخدم ليكون وسيلة للتعسف والاستبداد.

المطلب الثاني: سيادة الشعب:

الفرع الأول: مفهومها:
لقد كان تطور الذي لحق بالمذهب الفردي، والانتقادات التي وجهت الى مبدأ سيادة الأمة، سببا كافيا وصوتا داعيا الى الرغبة في التمثيل الحقيقي للشعب منظورا إليه في حقيقته وتكوينه، لا بوصفه المجرد كوحدة متجانسة مستقلة عن الأفراد المكونين له، لذا فقد هجر الفكر السياسي والدستوري نظرية سيادة الأمة، ونادي بنظرية سيادة الشعب.
تقوم هذه النظرية سيادة الشعب على أن السيادة للجماعة بوصفها مكونه من عدد من الأفراد لا على أساس أنها وحدة مستقلة عن الأفراد المكونين لها، كما نادت به نظرية سيادة الأمة.

وبالتالي فطبقا لنظرية سيادة الشعب، تكون السيادة لكل فرد في الجماعة فهي تنظر الى الأفراد ذاتهم وتجعل السيادة شركة بينهم، ومن ثم تنقسم وتتجزأ بحسب عدد أفراد الجماعة السياسية.

وعلى خلاف هذا فنقطة الخلاف بين مبدأ سيادة الأمة وسيادة الشعب ، أن المبدأ الأول يعطي السيادة لمجموع الأفراد منظورا إليه كوحدة واحدة مجردة، لا يقبل التجرئة ومستقلة عن الأفراد ذاتهم، أما مبدأ سيادة الشعب فإنه لا ينظر الى هذا المجموع إلا من خلال الأفراد الذين تقرر لهم السيادة، وتنقسم بينهم، بحيث يكون لكل فرد جزء منها، وبالتالي تصبح هذه السيادة مجزأة ومنقسمة بين الأفراد بحسب عدد الأفراد في المجتمع السياسي.
ولكن من هم هؤلاء الأفراد الذي يتمتعون بالسيادة طبقا لمبدأ سيادة الشعب الذي يدعونا الى هذا التساؤل ضمن هذا الموضوع، هو اختلاف مدلول الشعب باختلاف النظم السياسية من ناحية واختلاف الزمان والمكان من ناحية أخرى، ومن ثم كان من الضروري تحديد المقصود بالشعب.

مهما كان الاختلاف بين الأنظمة السياسية والظروف المؤثرة فيها حسب كل زمان ومكان، فإن للشعب مدلولين المدلول الاجتماعي والمدلول السياسي.

المدلول الاجتماعي:
ينصرف الى جميع الأفراد الذين يقيمون على إقليم الدولة، والذين ينتسبون إليها عن طريق تمتعهم بجنسيتها، وهم بطبيعة الحال يختلفون كما سبق بيانه عن السكان بالمعنى الواسع،ـ والذين لا يجمعهم سوى عنصر الإقامة على إقليم دولة واحدة سواء كانوا وطنيين يتمتعون بجنسية الدولة أم أجانب.

المدلول السياسي:
إذا كان مفهوم الشعب كحقيقة اجتماعية يشمل كل من ينتمي الى الدولة بجنسيته ، وهم الرعايا أو الوطنيين فإنه يكون أوسع مدى، وأكثر دلالة من مفهومه السياسي، الذي لا يشمل جميع هؤلاء الأفراد، بل يحمل معنى أضيق من ذلك ليشمل فقط الذين يتمتعون بالحقوق السياسية وهم من يطلق عليهم وصف جمهور الناخبين أي الذين توافرت فيهم الشروط العام التي تؤهلهم لأن تدرج أسماؤهم في جداول الانتخابات وهم المقصودون بالأفراد طبقا لنظرية سيادة الشعب.
وإذا كان مبدأ الاقتراع الذي تقرر أثر الأخذ بمبدأ سيادة الشعب يقرب مفهوم الشعب السياسي من المفهوم الاجتماعي للشعب، إلا أنهما لا يتطابقان في أي حال من الأحوال، وذلك بسبب بعض الشروط العامة التي يشترطها المشّرع، من الناخب، مما يؤدي الى استبعاد بعض الفئات كالقصر وناقصي الأهلية من مفهوم الشعب السياسي، إلا إذا جاء اليوم الذي يسمح فيه المشّرع لهذه الفئات بالتصويت عن طريق أوصيائهم أو أوليائهم، ففي هذه الحالة كما يقال يلتقي الشعب في حقيقته الاجتماعية مع الشعب بمفهومه السياسي، وهذا غير متوقع على المدى القريب.

وفي كل الأحوال إذا كان مبدأ سيادة الأمة قد أخذ بسيادة المجموع من الناحية النظرية المجردة، فإن مبدأ سيادة الشعب يتجه الى جعل السلطة في يد الشعب الحقيقي، بما تتنازعه من قوى مختلفة، وما تتخلله من اتجاهات متعارضة.

لقد حاول البعض نسبة مبدأ سيادة الشعب الى جان جاك روسو، رغم استعماله في أكثر من مقام إصلاح “المجموع” أو “الإرادة العامة” المجردة والتي كانت تتناسب مع مفهوم سيادة الأمة، ودليلهم على ذلك ما صرح به جان جاك روسو في الفصل الأول من الكتاب الثالث في العقد الاجتماعي، عندما قال “لنفترض أن الدولة تتألف من عشرة آلاف مواطن، فالسلطات لا يمكن أن تعتبر جماعية لأن كل شخص بحكم مواطنته اعتباره الفردي، وهكذا تكون نسبة سيادة كل فرد كنسبة واحد الى عشرة آلاف”.
عملا بمبدأ سيادة الشعب، فإن السيادة تتجزأ بين الأفراد وتصبح شركة بينهم يمارس كل منهم الجزء الخاص به، وهذا المعنى يؤدي الى نتائج هامة، وعديدة نبين أهمها:

1- تجزئة السيادة بين الأفراد: يقرر مبدأ السيادة للشعب، لكل فرد من أفراد الشعب السياسي جزءا من السيادة لذلك فإن مبدأ سيادة الشعب، يتماشى مع نظام الديمقراطية المباشرة، حيث يكون للشعب حق ممارسة السلطة، والذي يعطي للشعب القدرة في الاشتراك في مباشرة بعض مظاهر السلطة عن طريق الاستفتاء الشعبي، أو الاقتراع الشعبي للقوانين أو الاعتراض عليها، لذلك ذهب البعض الى القول بأن مبدأ سيادة الشعب أكثر ديمقراطية من مبدأ سيادة الأمة، ما دام أن المبدأ الأول يفسح مجالا للشعب لممارسة السلطة إما بنفسه في جميع شؤون الحكم (الديمقراطية المباشرة)، ولذلك على خلاف سيادة الأمة الذي لا يتناسب إلا مع النظام النيابي.

2- الانتخاب حق لا وظيفة: مادام أن لكل فرد من أفراد الشعب السياسي -حسب مبدأ سيادة الشعب- جزءا من السيادة فإنه يكون لكل منهم الحق في مباشرة حقوقه السياسية ومنها الانتخاب، لذلك يعتبر الانتخاب طبقا لمبدأ سيادة الشعب حقا وليس وظيفة، لأن أهمية المجالس النيابية التي تشكل بالانتخاب تقل بسبب المشاركة السياسية المباشرة من أفراد الشعب.

3- الأخذ بالاقتراع العام: إذا كان الانتخاب طبقا لمبدأ سيادة الشعب، حقا لكل فرد من أفراد الشعب السياسي فلكل واحد أن يمارسه إذا استوفى الشروط التنظيمية العام، هذا التكييف للانتخاب يؤدي الى عدم جواز تقييده بشروط مالية أو عليمة أو ثقافية والتي يمليها علينا مبدأ الاقتراع المقيد، الذي سوف يسود في ظل مبدأ سيادة الأمة، وعلى هذا ففي ظل سيادة الشعب يسود الاقتراع العام، لذا فالاقتراع العام هو –كما يعرف عادة- ليس بالاقتراع المقيد.

4- الاقتراع بنظام التمثيل النسبي: لم يعد النظام النيابي في ظل مبدأ سيادة الشعب كما هو الحال، بثوبه التقليدي المتلائم مع مبدأ سيادة الأمة، فقد تداخلت بعض الاتجاهات التي تدعو الى حق كافة الفئات والأقليات في التعبير عن إرادتها ، ومن أهم هذه الاتجاهات فكرة التمثيل النسبي. وتقوم هذه الفكرة على حق الأقليات السياسية في تمثيلها نفسها في البرلمان من خلال توزيع المقاعد النيابية، في كل دائرة انتخابية، طبقا لعدد أصوات الناخبين الذين تحصل عليه قائمة كل حزب في هذه الدائرة.

5- القانون تعبير عن إرادة الأغلبية: إذا كان مبدأ سيادة الأمة ينظر الى القانون على أساس تعبير عن الإرادة العامة للأمة، فإن القانون طبقا لمبدأ سيادة الشعب، هو تعبير عن إرادة الأغلبية، الممثلة في هيئة الناخبين، وما على الأقلية المعارضة إلا الإذعان لرأي الأغلبية دون أي اعتبار آخر، طالما بقي القانون قائما دون تعديل أو إلغاء، وفي هذه الحالة قد تجير الدولة بمقتضى نظامها الدستوري الرقابة على دستورية القوانين والطعن في شرعيتها أمام كافة المحاكم أو أمام محكمة مختصة لتقرر شرعيتها أو بطلانها، ومن ثم إلغائها إذا منحت تلك المحاكم صلاحية إلغاء القانون المخالف للدستور.

الفرع الثاني: الانتقادات الموجة:
نقد مبدأ الشعب:
إذا كان الاتجاه الغالب للدساتير المعاصرة في تبني مبدأ سيادة الشعب، لكونه أكثر ملاءمة للديمقراطية إلا أنه مع ذلك تعرض لبعض الانتقادات وأهمها:

1-تجسيد علاقة التبعية بين النائب والناخب، بحيث يعود الأول ملتزما بآراء ومعتقدات الثاني، بغض النظر عن صحتها، أو خطئها، لذلك قيل: أن ارتباط النواب بناخبيهم بمثل هذا الارتباط يؤدي الى إحياء الوكالة الإلزامية التي عانى منها أعضاء المجالس النيابية، وانتقدها بشدة الفقه الدستوري، لأنها في النهاية ستؤدي مثلما أدته قبل الثورة الفرنسية، من تغلب الصالح الخاص للناخبين على الصالح العام، وهذا بدوره يؤدي بأوخم العواقب على الحياة النيابية وعلى الدولة على حد سواء.

2-لقد قيل: بأن نظرية سيادة الأمة تؤدي الى الاعتراف بوجود شخصية معنوية للأمة، الى جانب شخصية الدولة، وبالتالي وجود شخصيتين معنويتين ي يتنازعان السيادة وهذا بدوره يؤدي الى نوع من عدم الاستقرار والاضطراب.
إن الأخذ بمبدأ سيادة الشعب لن يحل المشكلة، لأنه في الواقع يجزئ السيادة ويجعلها مقسمة بين أفراد الشعب، فيزيد الأمر تعقيدا والموقف اضطرابا وعدم وضح وذلك لعدم تحديده لصاحب السيادة الفعلي، هل هو الفرد، أم الشعب، أم الدولة؟.
فسيادة الدولة كما ذكرنا، تعني عدم الخضوع لسلطة أخرى عليا سواء في الداخل أو الخارج، وهي كما صورناها بمظهرها الخارجي والداخلي، أما السيادة في الدولة فتعود الى ممارسها، وصاحب صفة الأمر فيها، وهذا ما حاولن بيانه وتفسيره كل من نظرية سيادة الأمة وسيادة الشعب.

الخـــاتمة:

وفي الأخير إن الصفة التي توصف بها الدولة والتي أصبحت تسمى السيادة غدت من الخصائص الجوهرية للدولة الحديثة ومن الصفات الأساسية للسلطة في الدولة التي تميزها عن غيرها من الجماعات السياسية الأخرى، فإن الدول بكل أركانها من غير السيادة فذلك إن دلّ على شيء فإنما يدل على ضعف الدولة وقابليتها للاحتلال وتصبح وبكل بساطة مطمعا من مطامع الدول القوية.

قائمة المراجع:

1- د/ أمين شريط، (الوجيز في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية المقارنة)، ط2، ديوان المطبوعات الجامعية، 2002، الجزائر.
2- د/ سعيد بوشعير ، (القانون الدستوري والنظم السياسية)، ط5، ديوان المطبوعات الجامعية، 2002، الجزائر.
3- أ/ نعمان أحمد الخطيب، (الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري)،ط1، دار الثقافة ، 2004، عمّان.
4- أ/ فوزي أوصديق، (الوافي في شرح القانون الدستوري)، ط2، ديوان المطبوعات الجامعية، 2003، الجزائر.