بحث قانوني معمق حول سبب العقد أو الباعث علي التعاقد

د.ثروت عبدالحميد

سبب العقد هو الباعث الدافع أو الأمر الجوهري الذي حمل الشخص علي قبول التعاقد والذي لولاه لما أبرم العقد فالشخص قد يتعاقد بناء علي أكثر من دافع ولا تعد هذه الدوافع كلها سبباً للعقد. ذلك أنه غالباً ما يكون من بين الدوافع التي تقف وراء إنشاء العقد دافع رئيسي حاسم لولاه لما أقدم الشخص علي التعاقد فيكون هذا الدافع هو سبب العقد باستبعاد الدوافع الأخري الثانوية.

يشترط في الباعث شرط وحيد: أن يكون سبب العقد مشروعاً:

1- يجب أن يكون سبب العقد مشروعاً فإن كان غير مشروع كان العقد باطلاً بطلاناً مطلقاً.
2- ويكون سبب العقد غير مشروع إذا كان مخالفاً للنظام العام ولحسن الآداب. ومن هنا إذا كان الدافع إلي إبرام عقد إيجار الشقة هو استعمالها كمكان للدعارة أو المقامرة السرية أو إخفاء البضائع المهربة فإن سبب العقد يكون غير مشروع ويكون العقد باطلاً.

كيفية إثبات السبب غير المشروع:

· إن الاتجاه الإرادة إلي إبرام العقد يعني وجود باعث أو دفاع وراء هذه الإرادة فلا يتصور أن يقصد شخص إبرام عقد بدون دافع مطلقاً فانتفاء الدافع أو الباعث علي التعاقد يعني انتفاء الإرادة الجادة ولذلك فلا يلتزم من يدعي إبرام العقد أن يثبت سببه فيفترض أن لكل عقد سبباً وأن هذا السبب مباح ومشروع فإذا ادعي شخص أنه ليس للعقد سبب أو أن سبب العقد غير مشروع كان عليه إثبات ما يدعيه وهو يستطيع أن يفعل ذلك بجميع طرق الإثبات.

وجوب أن يتصل الباعث غير المشروع بالتعاقد الآخر ضماناً لاستقرار المعاملات:
· قد يحدث أن يكون الطرفان علي صلة بالباعث غير مشروع ولاشك في بطلان العقد في هذه الحالات. كمن يؤجر لآخر شقة ليستعملها في الدعارة أوفي القمار ويتفق معه علي أن تكون الأجر نسبة معينة من الدخل الناتج عن الدعارة أو القمار.

· غير أنه لما كان الباعث علي التعاقد هو أمر داخلي يتصل بشخص المتعاقد كما لا يمكن تبينه من بنود العقد فقد يكون مشروعاً بالنسبة لأحد المتعاقدين وغير مشروع بالنسبة للمتعاقد الآخر.

فهل يقع مثل هذا العقد باطلاً لعدم مشروعية سببه؟

العقد باطلاً إذا كان الباعث المستحث عليه مخالفاً للنظام العام أو الآداب أي غير مشروع. ويبدو من القراءة السريعة للنص المتقدم أن الشرع يقرر البطلان جزاء لعدم مشروعية الباعث ولو توافر الباعث المشروع بالنسبة لأحد المتعاقدين دون المتعاقد الآخر. وهو ما يؤيده بعض الفقهاء.

· إلا أن الرأي الراجح في الفقه يذهب إلي أنه لا يكفي لبطلان العقد أن يكون باعث أحد المتعاقدين غير مشروع بل يجب أن يتصل هذا الباعث بالمتعاقد الآخر وذلك محافظة علي استقرار المعاملات وتحقيقاً للعدالة والثقة وحماية للمتعاقد حسن النية الذي لم يعلم وقت إبرام بوجود باعث غير مشروع لدي المتعاقد معه وهو فرض كثير الحدوث في العمل نظراً لأن الباعث علي التعاقد أمر مستكن في خفايا الضمير.

· ويمتنع علي المتعاقد شيء القصد أو الباعث أن يتمسك ببطلان العقد بحجة مخالفة السبب للناظم العام والآداب وإذا رف دعوي بذلك كانت غير مقبولة فلا يجوز للشخص أن يتمسك بفعله الشائن في ساحة القضاء فساحات المحاكم يجب ألا تدنس بادعاءات أصحابها.

· ولكن متي يتصل الباعث غير المشروع المتوافر لدي أحد المتعاقدين بالمتعاقد الآخر؟ هل يكفي مجرد العلم بالباعث غير المشروع؟ أم يجب أن يكون المتعاقد الآخر مساهماً فيه؟ أما يجب أن يكون متفقاً عليه؟

· يذهب الرأي الغالب في هذا الصدد إلي الاكتفاء بأن يكون المتعاقد الآخر علي علم وقت التعاقد بوجود الباعث غير المشروع لدي المتعاقد معه أو باستطاعته أن يعلم بوجوده.

· وعلي ذلك إذا استأجر شخص شقة لإدارتها مكاناً للدعارة أو المقامرة فيكفي لبطلان عقد الإيجار أن يكون المؤجر عالماً بأن المستأجر استهدف من الاستئجار إدارة الشقة للدعارة أو المقامرة. وإذا اقترض شخص نقوداً من آخر ليستخدمها في المقامرة أو في شراء مخدرات.

· فإن عقد القرض يكون باطلاً إذا كان المقرض يعلم بأن المقترض إنما اقترض ليقامر بها اقترضه أو ليشتري به المخدرات. أما إذا كان المتعاقد الآخر حسن النية لا يعلم بالباعث غير المشروع الذي دفع المتعاقد معه علي الاستئجار أو الاقتراض فلا يجوز التمسك بالبطلان في مواجهته وذلك حتي لا يفاجأ المتعاقد حسن النية ببطلان العقد الذي أبرمه وهو ما يهدد استقرار المعاملات.

كيفية إثبات عدم مشروعية الباعث:

· لما كان الباعث الدافع علي التعاقد أمر داخلي يكمن في نفس الشخص ولا يظهر من خلال عبارات العقد لذلك فقد وضع المشرع قرينة بسيطة مفادها “أن كل التزام لم يذكر له سبب في العقد يفترض أن له سبباً مشروعاً ما لم يقم الدليل علي غير ذلك”.

· وعلي ذلك فلا يلتزم الشخص بإثبات وجود باعث لديه أو بكون هذا الباعث مشروعاً بل إن علي من يدعي أن الباعث علي التعاقد غير مشروع إقامة الدليل علي ما يدعيه باعتبار أن الشخص لا يقدم علي التعاقد إلا إذا دفعه إلي ذلك باعث معين وأن هذا الباعث أمر نفسي كامن في النفس فإذا كان الباعث علي التعاقد غير مصرح به وهو الغالب فإنه يمكن إثبات كون هذا الباعث غير مشروع بجميع طرق الإثبات لتعلق الأمر بواقعة مادية.

· أما إذا كان الباعث علي التعاقد مصرحاً به كما لو كان مذكوراً في محرر أفرغ فيه العقد وادعي شخص أن الباعث المذكور في العقد ليس هو الباعث الحقيقي وأن الباعث الدافع إلي العقد باعث آخر مخالف للنظام العام والآداب أي ادعي صورية الباعث فيمكن كذلك إثبات حقيقة هذا الباعث وعدم مشروعيته بكل طرق الإثبات لأن الصورية تكون في هذه الحالة قد استخدمت وسيلة لإخفاء عدم المشروعية والتحايل علي القانون وذلك يجيز عدم التقيد بالقاعدة التي لا تجيز إثبات ما يخالف الكتابة أو يجاوزها إلا بالكتابة وإثبات الباعث الحقيقي غير المشروع بكل طرق الإثبات.

2- سبب الالتــــــــزام

حتي ينشأ الالتزام صحيحاً لابد له من سبب وسبب الالتزام هو الغرض المباشر الذي يقصد إليه المدين من وراء التحمل بالالتزام. ويتميز بأنه عنصر داخلي في العقد يمكن أن يستخلص من عبارات التعاقد كما أنه موضوعي لا يتأثر بنوايا الشخص أو الدوافع الكامنة في نفسه وهو واحد في كل أنواع العقود فلا يتغير أو يتبدل باختلاف أطراف الالتزام أو محله.

وفقاً للنظرية التقليدية في السبب-والتي تنسب إلي فقهاء القانون الفرنسي القديم-وبخاصة دوماً بوتييه فإن سبب اللاتزام هو الغرض أو القصد المباشر الذي يهدف إليه الملتزم من وراء التزامه. ويطلق علي السبب بهذا المعني السبب القصدي أو الغائي لأنه يقوم علي القصد أو الغاية من إنشاء الالتزام تمييزاً له عن السبب المنشئ للالتزام والذي هو عبارة عن المصدر الذي أنشأ الالتزام علي عاتق المدين وهو قد يكون العقد أو الإرادة المنفردة أو العمل غير المشروع أو العمل النافع أو نص القانون.

وفي المقابل فإن النظرية الحديثة تري أنه لا يشترط أن يكون للالتزام سبب اكتفاء بسبب العقد الذي هو كما قدمنا الباعث الدافع أو المستحث إلي التعاقد.

أما عن موقف القانون المصري فقد نصت م136 مدني علي أنه: “إذا لم يكن للالتزام سبب أو كان سببه مخالفاً للنظام العام أو الآداب. كان العقد جزاء لعدم وجود سبب ومع ذلك ينكر بعض الشراح ضرورة أن يكون للالتزام سبب ويرون أن المقصود بالسبب في المادة السابقة هو سبب العقد لا سبب الالتزام وأنه يقصد بسبب العقد الباعث المستحث الذي دفع المتعاقد إلي التعاقد.

ولكن الرأي الراجح في الفقه يري أن المقصود بالسبب في م 136 هو السبب القصدي أو إلغائي كما تحدده النظرية التقليدية وأن القانون المدني الجديد لم يتحول عن هذه النظرية وأنه إذا كان يعتد بالباعث علي التعاقد فليس معني ذلك أنه يستغني به عن السبب المعني التقليدي فهو لا يكتفي بوجود الباعث (سبب العقد) بل يشترط إلي جانبه توافر السبب القصدي أو إلغائي (سبب الالتزام) وإذا كانت نصوص القانون ليست صريحة في هذا الشأن إلا أن هذا هو المعني المستفاد من نص المادة 136. فهذه المادة تقرر بطلان العقد إذا لم يكن للالتزام سبب فهي إذن تشترط وجود سبب للالتزام.

وسبب العقد وهو الباعث الذي دفع المتعاقد إلي قبول العقد يكون موجوداً دائماً إذ لا يتصور أن يقوم شخص بإبرام عقد دون أن يكون هناك باعث أي كان دفعه إلي ذلك وإذا حصل أن انتفي الباعث فإن ذلك يعني انتفاء الإرادة الجادة ومن شأن ذلك عدم تحقق التراضي وبالتالي عدم انعقاد العقد لا لعدم وجد الباعث وإنما لعدم تحقق التراضي.

ولذلك فلا يشترط في الباعث (سبب العقد) إلا أن يكون مشروعاً كما قدمنا. أما بالنسبة لسبب الالتزام فهو قد يوجد وقد لا يوجد ولذلك اشترط المشرع وجوده وإلا وقع العقد باطلاً.

يشترط في سبب الالتزام إذن أن يكون موجوداً فإذا تبين عدم وجوده كان العقد باطلاً. ويتخلف شرط الوجود في حالة انعدام السبب كما لو أكره شخص علي التوقيع علي عقد هبة دون أن يكون لديه نية التبرع كما يتخلف هذا الشرط في حالة السبب الموهوم أو الصوري.