مقال قانوني هام عن شروط تنفيذ الحكم الأجنبي أمام القاضي الجزائري

بوشكيوه عبد الحليم

الفرع الأول

الشروط المتعلقة بطبيعة الحكم الأجنبي المطلوب تنفيذه أمام القاضي الجزائري

المقصود بالشروط المتعلقة بطبيعة الحكم الأجنبي أن تثبت له الأوصاف الآتية: أن يكون أجنبيا، وقضائيا، صادرا في مواد القانون الخاص، وحائزا لقوة الشيء المقضي به.

وفيما يلي بيان كل شرط على حده:

أولا ـ أن يكون الحكم أجنبيا:

يعدّ الحكم أجنبيا إذا كان صادرا باسم سيادة دولة أجنبية، مثلما تصدر الأحكام الوطنية في الجزائر باسم الشعب، بغض النظر عن جنسية القضاة الذين يفصلون في الخصومة، ودون الاهتمام بالمكان الذي صدر فيه.

وبسبب فقدان شرط «الأجنبي» رفض القضاء الفرنسي إصدار الأمر بتنفيذ الحكم الروسي الصادر من المحكمة القنصلية الروسية، التي أسّسها المهاجرون الروس في القسطنطينية بعد قيام الثورة الروسية، مستندا في ذلك إلى أن هذا الحكم لم يصدر باسم سيادة دولة أجنبية.

ولم تتضمن اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي أي إشارة إلى مصطلح «الأجنبي»، ولكنها أشارت إلى الأحكام الصادرة من دولة متعاقدة ـ أي منضمّة للاتفاقية ـ والقابلة للتنفيذ في دولة متعاقدة أخرى. وفي هذا الصدد تقضي المادة 25 الفقرة ب منها بأنه: «… يعترف كل من الأطراف المتعاقدة بالأحكام الصادرة عن محاكم أي طرف متعاقد آخر…». والطرف المتعاقد الآخر هو دولة أجنبية بطبيعة الحال.

كما يعد أجنبيا الحكم الصادر عن الهيآت الدولية التي لها سلطة القضاء والمنظمة تنظيما دقيقا، مثل: محكمة العدل الدولية الدائمة؛ ويعامل هو الآخر معاملة الحكم الأجنبي من حيث وجوب شموله بالأمر بالتنفيذ.

ومن ذلك، فالحكم القضائي ينطبق عليه وصف الأجنبي بالنسبة للقاضي الجزائري إذا صدر عن محكمة غير جزائرية وباسم سيادة أجنبية.

ثانيا ـ أن يكون الحكم الأجنبي قضائيا:

إن تحديد كون الحكم الأجنبي قضائيا يعتبر من مسائل التكييف التي ثار حولها خلاف فقهي، في كونها تخضع لقانون دولة القاضي الوطني أم لقانون الدولة الأجنبية ؟

وانطلاقا من هذا الخلاف نتساءل: على أي أساس يقوم القاضي الجزائري بتكييف الحكم الأجنبي على أنه قضائي؟ هل يكيّفه وفق القانون الجزائري؟ أم يكيفه وفقا لقانون دولة القاضي الأجنبي الذي أصدر الحكم ؟

إن الإجابة عن هذا التساؤل تنطلق من ضرورة إدراك أن تنفيذ الحكم الأجنبي يتجاوز نطاق إنشاء الحق، أي عدم الحاجة لاستصدار حكم قضائي وطني، وأنه قد أصبحت له القدرة على النفاذ الدولي للحق، أي قدرته على توليد آثار في الخارج.

بمعنى أنه عندما نكون بصدد تنفيذ الأحكام الأجنبية فإننا نكون في ميدان النفاد الوطني للحق (الحكم الصادر في الخارج) وليس في ميدان إنشاء الحق (استصدار حكم وطني).

ومن المنطلق السابق ذكره، يكون من الأفضل أن يقوم القاضي الجزائري بتكييف الحكم الأجنبي على أنه قضائي أم لا وفقا لقانون القاضي الذي أصدره، وإلا انتهى إلى نتائج غير مقبولة ومخالفة لروح الأمر بالتنفيذ. فمثلا: إذا كيّف القاضي الجزائري الحكم الأجنبي وفقا لقانونه هو فبالإمكان عدم اعتبار الوثيقة المتضمنة «تطليقا بالإرادة المنفردة للزوج بناء على طلبه ودون حضور زوجته» حكما قضائيا؛ على الرغم من أن هذه الوثيقة تعتبرها الكثير من الدول الإسلامية حكما قضائيا، ومرتبا لآثاره بعد حصوله على الأمر بالتنفيذ.

هذا فيما يتعلق بالقانون الواجب الاستناد إليه في تكييف الحكم؛ فماذا عن الجهة التي أصدرت الحكم، هل لها اعتبار في تكييف الحكم كونه قضائيا أم لا ؟

الرأي أنه إذا قام القاضي الجزائري بتكييف الحكم الأجنبي على أنه قضائي ـ حسب المعيار السابق ـ فلا يؤثر بعد ذلك كون الجهة القضائية الأجنبية التي أصدرته، أصدرته بمقتضى وظيفتها القضائية أو بمقتضى وظيفتها الولائية؛ فالمهم ثبوت أنه حكم قضائي.

وهذا ما يدل عليه ظاهر نص المادة 25 الفقرة أ من اتفاقية الرياض التي عرفت الحكم بأنه: «كل قرار ـ أيا كانت تسميته ـ يصدر بناء على إجراءات قضائية أو ولائية من محاكم أو أي جهة مختصة لدى أحد الأطراف المتعاقدة».

فظاهر النص يدل على أنه ليس من الضروري أن تكون الإجراءات المتبعة لإصدار القرار هي إجراءات قضائية، إذ من الممكن أن تكون ولائية، المهم في كل ذلك أن تكون الجهة التي أصدرت القرار مختصة، ووفقا لقانون البلد الذي تتبع له؛ وتؤكد الفقرة ب من المادة 25 نفسها ذلك، بنصها صراحة على أن الاعتراف ـ وبالتالي التنفيذ ـ لدى أحد الأطراف المتعاقدة إنما يكون للأحكام الصادرة عن«… محاكم أي طرف متعاقد أخر…»، أي أن ذلك مقصور على الأحكام القضائية دون غيرها، سواء بمعناها القانوني المألوف أم بمقتضى الوظيفة الولائية للجهة القضائية.

وأكدت الاتفاقية الثنائية المتعلقة بتنفيذ الأحكام وتسليم المجرمين المبرمة بين الجزائر وفرنسا عام 1964م ذلك في مادتها الأولى، بنصها على: «أن القرارات الصادرة حسب الاختصاصالقضائيوالاختصاصالولائي… عنالمحاكم المنعقدة في الجزائر أو فرنسا…».

ثالثا ـ أن يكون الحكم القضائي الأجنبي صادرا في مواد القانون الخاص:

يعدّ الحكم القضائي الأجنبي في مواد القانون الخاص متى صدر في منازعة مدنية أو تجارية ، أما مواد القانون الجنائي أو الإداري أو المالي فالأحكام القضائية الأجنبية الصادرة فيها تخضع ـ كأصل عام ـ لمبدأ الإقليمية البحتة، ولا يتعدى أثرها حدود الدولة التي صدر الحكم باسمها.وهي بذلك لا تتمتع بأي أثر في الخارج، وخاصة الأمر بالتنفيذ.

وهذا بخلاف ما أوردته اتفاقية الرياض التي وإن استبعدت القضايا الجزائية من نطاق تطبيقها، إلا أنها نصت في المادة 25 الفقرة ب على أن تنفيذ الأحكام يشمل القضايا الإدارية وقضايا الأحوال الشخصية، بالإضافة إلى المسائل المدنية والتجارية، والتي استثنت منها الاتفاقية (الرياض) الأحكام الصادرة في قضايا الإفلاس والضرائب والرسوم (المادة 25 الفقرة ت). والسبب في استثنائها ربما لكونها تتعلق بسيادة الدولة على إقليمها ومواطنيها بالنسبة للضرائب والرسوم؛ مع ملاحظة أن هذا الاستثناء قائم سواء كان الحكم صدر لمصلحة الجهة المختصة بجبي الضريبة أو الرسوم، أو صدر ضدها.

أما اتفاقية تنفيذ الأحكام بين الجزائر وفرنسا ـ السابقة الذكر ـ فقد نصت على شرط أن يكون الحكم في مواد القانون الخاص، وهذا في المادة الأولى كما يلي: «إن القرارات الصادرة حسب الاختصاص القضائي والاختصاص الولائي في الأمورالمدنية والتجارية ….».

ومن المعلوم أن التنظيم القضائي يختلف من دولة إلى أخرى، فقد تعهد دولة بمنازعات القانون الخاص إلى محاكم تختلف عن تلك المختصة بالمنازعات الجنائية أو الإدارية، وقد تختص بهذين النوعين في دولة أخرى محكمة واحدة؛ كما أن الحكم الجنائي أو الإداري قد يتضمن الفصل في مسألة من مسائل القانون الخاص أو يرتب أثارا في مادة من مواده.

فالعبرة في كل ذلك عند تحديد طبيعة الحكم الأجنبي ـ من حيث كونه من مواد القانون الخاص أم لا ـ إنما هي بطبيعة المسألة التي فصل فيها، وليست العبرة بنوع القضاء الذي صدر عنه.

وعلى ذلك، فالحكم بتعويض مدني في دعوى جنائية يعتبر حكما مدنيا رغم صدوره عن محكمة جنائية؛ وعلى العكس فإن الحكم بالغرامة لا يعدّ حكما مدنيا حتى لو كان صادرا عن محكمة مدنية.وبالتالي يرتب الحكم الأول أثره في الخارج بعد شموله بالأمر بالتنفيذ، بينما لا يرتب الحكم الثاني أثره في الخارج لأنه يتضمن معنى العقوبة رغم صدوره عن محكمة مدنية.

ويطبق هذا المبدأ في اتفاقية الرياض العربية، حسب نص المادة 25 الفقرة ب منها: «… يعترف كل من الأطراف المتعاقدة بالأحكام الصادرة عن محاكم أي طرف متعاقد أخر في القضايا المدنية بما في ذلك الأحكام المتعلقة بالحقوق المدنية الصادرة عن محاكم جزائية».

وتحديد طبيعة المسألة ـ كونها من مواد القانون الخاص أم لا ـ إنما هو تكييف يخضع لقانون بلد القاضي المطلوب منه الأمر بالتنفيذ، فإن اعتبرها من مواد القانون الخاص رتب على الحكم الأجنبي أثره في دولته، وذلك بأن يشمله بالأمر بالتنفيذ؛ وإذا لم يعتبرها من مواد القانون الخاص رفض القاضي طلب الأمر بتنفيذه، فلم يرتب بذلك الحكم الأجنبي أثره في دولته.

رابعا ـ أن يكون الحكم الأجنبي حائزا لقوة الشيء المقضي به:

أكدت اتفاقية الرياض ـ السالفة الذكر ـ هذا الشرط في المادة 25 الفقرة أ كما يلي:«… يعترف كل من الأطراف المتعاقدة بالأحكام الصادرة عن محاكم أي طرف متعاقد أخر…، الحائزة لقوة الأمر المقضي به وينفذها في إقليمه…».

كما أكدته أيضا اتفاقية تنفيذ الأحكام بين الجزائر وفرنسا ـ السابقة الذكر ـ بصريح نص المادة الأولى الفقرة جـ منها:«جـ ـ أن يكون القرار، بمقتضى قانون الدولة التي صدر فيها قد حاز قوة القضية المقضية وأصبح قابلا للتنفيذ».

بل وزادته تأكيدا، بنصها على إلزامية قيام السلطة المختصة بالتحقيق فيما إذا كان القرار المطلوب تنفيذه مستوفيا الشروط المنصوص عليها في المادة1، الخاصة باكتسابه بحكم القانون قوة القضية المقضية، كما قررت أنه لا يستجاب لطلب التنفيذ إذا كان القرار المطلوب تنفيذه موضوع طعن لدى محكمة النقض والإبرام.

وهذا ما أخذ به القانون المصري كذلك، إذ يشترط نهائية الحكم الأجنبي طبقا لقانون المحكمة التي أصدرته، حسب الفقرة الثالثة من المادة 298 من قانون المرافعات المصري.

ويؤيد الفقه المصري سلامة هذا الشرط بكونه يكفل الاستقرار اللازم في المعاملات، ذلك أن الحكم غير النهائي معرض للإلغاء، ومن ثمَّ ففي منع تنفيذه قبل حيازته لقوة الشيء المقضي به ما يكفل تلافي المفاجآت المترتبة على إلغائه.

ويستثني الفقه المصري من هذا الشرط الأحكام غير القطعية إذا كانت تتعلق بسير الدعوى لدى المحكمة، كالحكم بإحالة الدعوى إلى التحقيق أو بندب خبير، فإنه يكون من الجائز تنفيذها عن طريق الإنابة القضائية؛ كذلك يجوز تنفيذ الأحكام المؤقتة لأنها ـ وإن كانت غير قطعية لا تحوز قوة الأمر المقضي به ـ تهدف إلى مجرد اتخاذ إجراء تحفظي أو مؤقت لحماية مصلحة الخصوم ولحفظ أموالهم حتى يتم الفصل في موضوع النزاع

وبالاستناد إلى القانون الجزائري الذي نجده يستلزم لإمكانية التنفيذ الجبري للأحكام القضائية الجزائرية أن تكون نهائية حائزة لقوة الشيء المقضي به؛ فمن باب أولى أن يراعي القاضي الجزائري هذا الشرط في مواجهة الأحكام القضائية الأجنبية، وإلا صارت هذه الأخيرة في وضع أكثر تميّزا عن الأحكام القضائية الجزائرية.

وفي نهاية هذا الفرع لابد من الإشارة إلى أن تمتع الحكم المراد تنفيذه بخاصيتي الأجنبية والقضائية، وكونه صادرا في مود القانون الخاص، وحائزا لقوة الشيء المقضي به، لا يعدّ أمرا كافيا من أجل أن يصدر القاضي الجزائري أمرا بتنفيذه؛ فهناك شروط أخرى لا تتعلق بطبيعة الحكم الأجنبي يجب توافرها من أجل إصدار هذا الأمر، وهذا ما سأعرضه في الفرع الثاني.

الفرع الثاني

الشروط الأخرى المتعلقة بالأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي من طرف القاضي الجزائري

سبقت الإشارة إلى أن التنفيذ غير المقيد للأحكام الأجنبية يتنافى مع مبدأ السيادة الوطنية، وأن رفض تنفيذها بصفة مطلقة يتعارض مع حاجة المعاملات الدولية.

ولهذا عمدت الجزائر ـ كالعديد من الدول ـ إلى التوفيق بين الاعتبارين السابقين، وذلك بأن اتبعت نظاما يسمى نظام الأمر بالتنفيذ في إحدى صوره، وهي ما يعرف بنظام المراقبة (contrôle )، الذي يقوم في ظله القاضي المقدم إليه طلب إصدار الأمر بالتنفيذ بنوع من المراقبة الخارجية أو الشكلية للحكم الأجنبي، وذلك بفحصه للتأكد من أنه استوفى بعض الشروط الأساسية اللازمة لصحته، دون أن يقوم بمراجعته من ناحية الموضوع أو يعدله عكس ما هو معمول به في نظام المراجعة(révision).

وانطلاقا من كون المشرع الجزائري لم ينص على شروط الأمر بالتنفيذ، وفي ظل اعتماده نظام المراقبة على الأحكام القضائية الأجنبية نتساءل: ما هي الشروط التي يجب على القاضي الجزائري أن يراعي توافرها في الحكم القضائي الأجنبي من أجل الأمر بتنفيذه ؟

بالإضافة إلى الشروط السابقة الذكر في الفرع الأول والمتعلقة بطبيعة الحكم الأجنبي، يجب على القاضي الجزائري أن يراعي توفر الشروط الآتية ليصدر الأمر بالتنفيذ:

أولا ـ ثبوت الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة التي أصدرت الحكم الأجنبي:

وفقا لاتفاقية الرياض العربية، يُشترط لتنفيذ الحكم الأجنبي أن تكون محاكم الطرف المتعاقد التي أصدرت الحكم مختصة طبقا لقواعد الاختصاص القضائي الدولي المقررة لدى الطرف المتعاقد المطلوب إليه تنفيذ الحكم.

ولكن نص الاتفاقية أضاف بأن الاختصاص يمكن أيضا أن ينعقد لمحاكم إحدى الدول المتعاقدة، إذا توفرت إحدى حالات معينة بشرط أن لا يكون الطرف المتعاقد المطلوب منه تنفيذ الحكم يحتفظ لمحاكمه أو لمحاكم طرف آخر دون غيرها بالاختصاص بإصدار الحكم.

ويمكن توضيح ذلك بالمثال الآتي:

بفرض أن الحكم صدر في«تونس»ويراد تنفيذه في«الجزائر»، ففي هذه الحالة يكون الحل محصورا في أحد الاحتمالات الثلاثة التالية:

ـ الاحتمال1: إذا كانت قواعد الاختصاص القضائي الدولي في الجزائر تجيز الاختصاص لمحاكم تونس، فيكون الاختصاص هنا صحيحا.

ـ الاحتمال2: إذا كانت قواعد الاختصاص الدولي في الجزائر لا تجيز الاختصاص لمحاكم تونس، وفي الوقت ذاته لا تعقد الاختصاص حصرا لا لمحاكمها (أي الجزائر)، ولا لمحاكم دولة ثانية (مصر مثلا)، فعندئذ تكون محاكم تونس مختصة إذا توفرت إحدى حالات الاختصاص المبينة في الاتفاقية.

ـ الاحتمال3: إذا كانت قواعد الاختصاص القضائي الدولي في الجزائر تحصر الاختصاص لمحاكمها أو لمحاكم دولة ثالثة (وهي مصر في هذا المثال)، فلا تكون محاكم تونس مختصة حسب الاتفاقية، حتى لو توفرت حالة أو أكثر من حالات الاختصاص المنصوص عليها في هذه الاتفاقية.

وعلى غرار اتفاقية الرياض، تشترط اتفاقية تنفيذ الأحكام بين الجزائر وفرنسا (1964م) لتنفيذ الحكم الصادر عن الدولة الأخرى أن تكون المحكمة التي أصدرته مختصة وفقا للقواعد الخاصة بتنازع الاختصاص المطبق في الدولة التي سينفذ الحكم لديها، وهذا ما تضمنته الفقرة أ من المادة 1 من الاتفاقية.

هذا في حالة وجود اتفاقيات، أما في حالة عدم وجودها، واستنادا إلى أن اختصاص المحاكم في الجزائر وجوبي في بعض النزاعات، وجوازي في بعضها الآخر، فالرأي أن النزاعات التي يكون فيها اختصاص المحاكم الجزائرية وجوبيا يجب اعتبار الحكم الأجنبي الصادر فيها حكما صادرا عن محكمة غير مختصة دوليا، وبالتالي يرفض القاضي الجزائري منحه الأمر بالتنفيذ ؛ أما في النزاعات التي يكون فيها اختصاص المحاكم الجزائرية جوازيا، فيجب الرجوع إلى قواعد الاختصاص الدولي في قانون البلد الذي أصدر قضاؤه الحكم الأجنبي، فإن قضت هذه القواعد باختصاصه، منحنا للحكم الذي أصدره الأمر بالتنفيذ.

ولكن إذا كانت رقابة القاضي للاختصاص الدولي للمحكمة التي أصدرت الحكم الأجنبي مشترطة، فهل تمتد رقابته إلى الاختصاص الداخلي لتلك المحكمة ؟

الرأي في الفقه أن رقابة القاضي الوطني لا يجب أن تمتد إلى الاختصاص الداخلي للمحكمة التي أصدرت الحكم الأجنبي، لأن هذه المسألة تخص القانون الأجنبي قانون تلك المحكمة.

وهذا ما اتجه إليه الفقه الفرنسي أيضا بعد صدور حكم محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 4 أكتوبر 1967م، والذي ألغى كل رقابة على صحة الإجراءات إلا ما يتعلق منها بالنظام العام الدولي؛ فقد رأى الفقه الفرنسي أن حكم الإلغاء هذا، يستتبع حتما التخلي عن الرقابة الداخلية للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم.

وما يؤيد أيضا عدم امتداد رقابة القاضي الجزائري على الاختصاص الداخلي للمحكمة الأجنبية، أن القاضي الأجنبي في محكمته يوجد في وضع يسمح له بفهم قانونه وتطبيقه تطبيقا صحيحا، أفضل من الوضع الذي يوجد فيه القاضي الجزائري.

ثانيا ـ عدم تعارض الحكم الأجنبي مع النظام العام في الجزائر:

التزم المشرع الجزائري السكوت عن تعريف النظام العام، واكتفى بالإشارة إليه في المادة 24 من القانون المدني التي نصت على أنه: «لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي بموجب النصوص السابقة إذا كان مخالفا للنظام العام أو الآداب في الجزائر». أما مهمة تحديد مفهومه فتركها المشرع للقاضي المطروح أمامه النزاع.

ويتضح من النص السابق أن المشرع الجزائري أخذ ـ مثلما فعلت جميع الدول التي تطبق نظام الأمر بالتنفيذ ـ بشرط «عدم مخالفة القانون الأجنبي لنظامها العام بمعناه الدولي».

وهذا الشرط الذي يطبق على القانون الأجنبي هو نفسه يطبق على الحكم الأجنبي المطلوب تنفيذه أمام القضاء الجزائري؛ فعند تعارض الحكم القضائي الأجنبي مع الأسس الجوهرية السائدة في الدولة الجزائرية، ومع مصالحها الحيوية، يمتنع القاضي الجزائري عن إصدار الأمر بتنفيذه.

وقد نصت اتفاقية الرياض العربية على هذا الشرط بالنسبة للدولة المتعاقدة المطلوب منها تنفيذ الحكم الصادر عن دولة متعاقدة أخرى، بل وأضافت بأن لا يكون الحكم الأجنبي مخالفا أيضا للشريعة الإسلامية أو أحكام الدستور

كما نصت الاتفاقية الثنائية لتنفيذ الأحكام بين الجزائر وفرنسا لعام 1964م أن من شروط حيازة الحكم الصادر من إحدى الدولتين لقوة القضية المقضي بها في بلد الدولة الأخرى، أن لا يتضمن القرار ما يخالف النظام العام الخاص بالدولة المنابة لتنفيذ القرار، أو لمبادئ الحقوق العمومية المطبقة في تلك الدولة.

ويتحقق التعارض بين الحكم الأجنبي المطلوب تنفيذه وفكرة النظام العام بمعناه الدولي في صورتين: الأولى إجرائية والثانية تتعلق بالمضمون.

أ ـ النظام العام والناحية الإجرائية للحكم الأجنبي:

في هذه الصورة يكون مصدر التعارض بين النظام العام والحكم الأجنبي نابعا من الإجراءات التي اتبعت في إصداره.

وقد ذكرت اتفاقية الرياض العربية بعض حالات رفض الاعتراف بالحكم الأجنبي وتنفيذه( مما يمكن اعتباره من قبيل المخالفة للنظام العام الإجرائي مثل:

ـ كون الحكم الأجنبي غيابيا ولم يعلن الخصم المحكوم عليه بالدعوى أو الحكم إعلانا صحيحا يمكّنه من الدفاع عن نفسه.

ـ عدم مراعاة قواعد قانون الطرف المتعاقد المطلوب إليه الاعتراف، الخاصة بالتمثيل القانوني للأشخاص عديمي الأهلية أو ناقصيها.

كما أشارت الاتفاقية الثنائية بين الجزائر وفرنسا لعام 1964م إلى بعض الإجراءات اللازمة ليحوز الحكم الصادر من الدولة الأخرى الأمر بالتنفيذ، ومنها: أن يكون الأطراف مبلغين أصولا وممثلين، أو مقررا اعتبارهم متغيبين حسب قانون الدولة التي صدر فيها القرار.

ب ـ النظام العام ومضمون الحكم الأجنبي:

إن فكرة النظام العام في إطارها الدولي تحول دون تنفيذ الحكم الأجنبي إذا كان مضمونه يتعارض مع المبادئ والمثل السائدة في الدولة المطلوب تنفيذ الحكم فيها

وبناء على ذلك لا يجوز تنفيذ الحكم الأجنبي إذا تضمن مثلا تجسيدا لفكرة التمييز العنصري؛ بل إن القاضي يجوز له أن يرفض تنفيذ الحكم الأجنبي إذا تضمنت حيثياته عبارات تتنافى مع الشعور العام في الوطن.

وإذا كانت فكرة النظام العام فكرة مرنة ومتطورة تتغير بتغير الزمان والمكان، فإن القاضي الوطني يقدر عدم تعارض الحكم الأجنبيـالمطلوب تنفيذهـ مع النظام العام في الوطن وقت التقدم بطلب تنفيذ هذا الحكم، وله أن يرفض تنفيذه إذا كان يتعارض مع النظام العام في ذلك الوقت، ولو لم يكن في هذا الحكم ما يخالف النظام العام عند صدوره عن القضاء الأجنبي.

ثالثا ـ غياب أي غش نحو القانون:

الغش في هذا الموضوع يمكن أن يتخذ صورتين: الأولى غش نحو الاختصاص، والثانية غش في إجراءات التقاضي.

فالغش نحو الاختصاص يتم بتحايل الأطراف على ضابط الإسناد المعتمد في الدولة الأجنبية التي أصدر قضاؤها الحكم، مما يجعل القاضي في تلك الدولة يطبق قانونا معينا على النزاع، في حين أنه لولا غش الأطراف ذاك لكان قانونا آخر هو المختص.

في هذه الحالة إذا ما تبين للقاضي الوطني أن أطراف النزاع لجأوا إلى محاكم إحدى الدول بعينها، لعلمهم أن الحكم الذي سيصدر منها سوف يحقق مآربهم الخاصة، أي أن الاختصاص انعقدلتلك المحاكم الأجنبية بناء على اصطناع من جانب الخصوم، فإذا ما تبين للقاضي الوطني ذلك، كان عليه أن يرفض طلب الأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي، رغم أن المحكمة التي أصدرته مختصة دوليا وفقا لقانونها، وهذا الرفض عقاب للأطراف سيّئِي النية، ومحاربة للغش نحو الاختصاص.

هذا عن الصورة الأولى للغش وهي الغش نحو الاختصاص؛ أما الصورة الثانية وهي الغش في إجراءات التقاضي، فتتمثل في كون المحكوم له قد حصل على الحكم بطريقة الاحتيال أو التدليس أو التغرير، ويعني ذلك أن الغش تم عن طريق اللجوء إلى وسائل خداعية قولية أو فعلية من أحد الخصمين في مواجهة الخصم الآخر أثناء إجراءات التقاضي، فيصور غير الواقع واقعا، بما يؤثر في مضمون الحكم، بحيث لولا ذلك الغش لاختلف مضمون الحكم.

ويقع عبء إثبات وقوع هذا النوع من الغش على عاتق المدعى عليه في دعوى طلب الأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي، ومتى ثبت للقاضي الجزائري وجود غش نحو القانون فعليه رفض طلب الأمر بالتنفيذ لأن الغش يفسد كل شيء.

رابعا ـ عدم تعارض الحكم الأجنبي مع حكم وطني سابق:

ومفاد هذا الشرط أنه يتعين على القاضي الوطني قبل الأمر بالتنفيذ أن يتأكد من أن الحكم الأجنبي لا يتعارض مع حكم قضائي وطني سبق صدوره في الوطن، ذلك أن تنفيذ الحكم الأجنبي في هذه الحالة يتعارض مع حجية الشيء المقضي به التي كفلها القانون للأحكام الوطنية

ولاعتبارات السيادة يكون من غير المستساغ أن يهدر القاضي الوطني حكما وطنيا حائزا لقوة الأمر المقضي به لمصلحة حكم صادر من محكمة دولة أجنبية، حتى لو توافرت فيه كافة الشروط الأخرى لإصدار الأمر بتنفيذه.

وعلى هذا الشرط نصت المادة 30 الفقرة دمن اتفاقية الرياض العربية، فجعلت من حالات رفض الاعتراف بالحكم وبالتالي رفض تنفيذه لدى إحدى الدول المتعاقدة، أن يكون النزاع الصادر في شأنه الحكم المطلوب تنفيذه محلا لحكم صادر في الموضوع ذاته، وبين الخصوم أنفسهم، ويتعلق بذات الحق محلا وسببا، وحائزا قوة الأمر المقضي به لدى الطرف المتعاقد المطلوب منه الاعتراف بالحكم وتنفيذه؛ بل وأضافت إلى حالة عدم تعارض الحكم المطلوب تنفيذه مع حكم وطني سابق حالة عدم تعارضه مع حكم سابق صادر من طرف متعاقد ثالث ومعترف به لدى الطرف المطلوب إليه الاعتراف.

كما تضمنت اتفاقية تنفيذ الأحكام بين الجزائر وفرنسا لعام 1964م هذا الشرط، فلا يجوز حسب نص المادة 1 الفقرة د منها أن يكون الحكم ـ المطلوب تنفيذه ـ الصادر من إحدى الدولتين متعارضا مع حكم قضائي صادر في الدولة المطلوب إلى قضائها تنفيذه، وحائزا بالنسبة لها قوة القضية المقضية.

وتجري أحكام القضاء الفرنسي على عدم تنفيذ الحكم الأجنبي المتعارض مع حكم فرنسي سابق عليه في الصدور، وإن كان القانون الفرنسي لا يتطلب هذا الشرط صراحة ويعتبر الأمر مجرد تطبيق لفكرة النظام العام.

أما القانون المصري فقد نص على هذا الشرط في المادة 298 من قانون المرافعات بقوله:«لا يجوز الأمر بالتنفيذ إلا بعد التحقق مما يأتي: …أن الحكم أو الأمر لا يتعارض مع حكم أو أمر سبق صدوره من محاكم الجمهورية».

هذا فيما يخص شرط عدم تعارض الحكم الأجنبي المراد تنفيذه مع حكم وطني سبق صدوره عن المحاكم الوطنية، فهل يسري نفس الشرط أيضا في حالة ما إذا كانت هناك دعوى مرفوعة أمام القضاء الوطني في ذات الموضوع وبين نفس الأطراف، ولم يصدر فيها حكم بعد ؟

بالنسبة لاتفاقية الرياض العربية فإنها تطبق نفس الشرط؛ إذ قررت أن الحكم الأجنبي يرفض الاعتراف به إذا كان النزاع الصادر في شأنه هذا الحكم محلا لدعوى منظورة أمام إحدى محاكم الطرف المطلوب إليه التنفيذ، بين الخصوم أنفسهم، وفي موضوع الحق ذاته محلا وسببا، وكانت تلك الدعوى قد رفعت إلى محاكم ذلك الطرف (المطلوب منه التنفيذ) في تاريخ سابق على عرض النزاع على محكمة الطرف (طالب التنفيذ) التي صدر عنها الحكم المشار إليه، أي قبل رفع النزاع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم المطلوب تنفيذه

أما الاتفاقية الثنائية بين الجزائر وفرنسا لعام 1964م فلا يوجد فيها نص يدل على أنها تشترط عدم وجود دعوى مرفوعة أمام قضاء إحدى الدولتين لتنفيذ الحكم القضائي الصادر عن محاكم الدولة الأخرى.

ولكن، ما هو الحكم الذي يطبقه القاضي الجزائري في غير الحالات التي توجد فيها اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف ؟ هل يرفض الأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي المعروض أمامه إذا كانت هناك دعوى مرفوعة أمام القضاء الجزائري في نفس الحق؟ أم أنه يقبل تنفيذ الحكم ؟

الرأي أنه من الأفضل ترك الأمر للسلطة التقديرية للقاضي ليتخذ الموقف المناسب حسب كل حالة، وذلك بالنظر إلى اعتبارات الملاءمة ومتطلبات النظام العام الوطني، فمن المحتمل مثلا أن يكون الحكم الأجنبي صادرا في دعوى تتركز معظم أدلة الإثباتفيها في الدولة التي تتبعها المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم، فيكون من المهم قبول طلب الأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي إذا توافرت فيه الشروط الأخرى، حتى ولو كانت هناك دعوى في ذات الموضوع أمام القضاء الوطني.

وهذا الرأي هو المؤيّد في مصر من بين ثلاثة آراء؛ ذهب الأول منها إلى أنه لا مانع من إهدار الحكم الأجنبي متى كانت الدعوى المتعلقة بذات النزاع مرفوعة بالفعل وما تزال قيد المحاكم المصرية، ولو كانت هذه الدعوى قد قامت بعد تاريخ صدور الحكم؛ بينما ذهب الرأي الثاني إلى القول بأن مجرد قيام دعوى أمام القضاء الوطني لا يحول دون تنفيذ الحكم الأجنبي.