نظرة عامة على مشروع قانون العقوبات الليبي الجديد

يتحدد تقييم أى قانون بالمرجعية التى ينتسب اليها ، فمرجعية القوانين تتحدد بالنظام السياسى والاجتماعى والاقتصادى والقانونى للدولة التى أصدرته ، كما تتحدد بمراعاة معاييرحقوق الانسان الدولية والمحلية فى شكل وموضوع القانون ، فمتى كانت أنظمة الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مستقرة ومزدهرة تظهر قوة القانون فى التعبير الجيد عن حكم العلاقات الصادر من أجلها ، ومتى كانت الدولة تتمتع بنظام قانونى ودستورى يعبران عن هذا الاستقرار والازدهار يكون القانون أكثر تعبيراً و عدالة ، فالدولة بمفهومها الحديث دستورياً وقانونياً والتى تفصل بين سلطاتها ومجال الحريات العامة وحرية الرأى فيها واسعة وتراعى المعايير الدولية فى سياساتها و قوانينها ومحاكمها وحقوق الانسان هى التى تنتج القوانين الجيدة .

و قد حققت ليبيا الثورة نجاحاً مهماً فى مجالات الاستقرار و بنى الدولة الشعبية و المادية والاقتصادية ، و كيفت سياساتها الخارجية ونجحت بما لائم ووافق قبولها عالمياً كدولة مسئولة راشدة ، وها هى تتجه لمجال بناء الاجهزة القانونية والدستوروالمؤسسات وحقوق الانسان بما يعمل على توليد ليبيا الدولة الحديثة بالمقاييس العالمية من رحم الـثورة بثوابتها الوطنية .

ان ما ستتناوله بإيجاز هذه الورقة البسيطة هو المعايير الدولية المتعلقة بالعقوبات التى يمكن توقيعها والعقوبات الممنوع توقيعها وحضرها ومعيار بناء وإنشاء بعض النصوص التجريمية .

و إننى أحاول تقييم بعض نصوص فى مشروع قانون وضعى ومدى ملائمتها للمعايير الدولية لحقوق الانسان وليس تقييماً لاحكام الشريعة الاسلامية الالهية القائمة والثابتة التى أستمدت منها بعض نصوص هذا المشروع .
فماهى مرجعية مشروع قانون العقوبات الجديد هذا ؟ وهل راعى الاتجاه فى بناء ليبيا الحديثة ومستقبلها ؟ وهل راعى المعايير الدولية أوحتى المحلية لحقوق الانسان فى وصف الافعال المجرمة و تحديد عقوباتها ؟
لم أر شيئاً من ذلك فى هذا المشروع ولم ألمس مرجعية له سوى اللجنة التى أعدته وأقترحته .

حددت منظمة العفو الدولية واللجنة الدولية لحقوق الانسان معايير شاملة لمرحلة ما قبل المحاكمة واثناء المحاكمة وفى بعض الحالات الخاصة بشكل مفصل وشامل ومعايير منعت بها العقوبات البدنية والجماعية .

فقد عرًفت العقوبة البدنية بأنها ( ضروب الآلام التى توقع على جسم المذنب بموجب حكم قضائى او أمر إدارى كالضرب والتشويه ، ومن انواع هذه العقوبات الجلد والضرب بالعصى وبتر الاطراف والوسم ، ويتضح من تصريحات الخبراء والهيئات السياسية التابعة للامم المتحدة والمحكمة الاوروبية ان العقوبات البدنية ممنوعة فى المعايير الدولية بإعتبارها إنتهاكات للحظر المطلق على إستخدام التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة ، ولا يجوز توقيع هذه العقوبة على ألآ شخاص لاى سبب أياً كانت بشاعة الجريمة التى إرتكبت وأياً ما كان إنعدام الاستقرار السياسى . ( وقالت اللجنة المعنية بحقوق الانسان ان الحظر المفروض على استخدام التعذيب فى العهد الدولى يمتد الى حظر توقيع العقوبات البدنية ، وقد صرحت اللجنة المذكورة بان عقوبات الجلد وبتر الاطراف المعترف بها كعقوبات على الافعال الجنائية فى السودان لاتتفق مع العهد الدولى ، وبالمثل فقد انتهت اللجنة الى ان العقوبات من قبيل بتر الاطراف والوسم ، لا تتفق مع الحظر المفروض على التعذيب ، واوصت بضرورة الامتناع فورا عن توقيع هذه العقوبات فى العراق ، وقال مقرر الامم المتحدة المعنى بمسألة التعذيب فى عام 1997 ان العقوبة البدنية تنتهك الحظر على استخدام التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية واللا انسانية ) ص 123 من كتاب منظمة العفو الدولية – دليل المحاكمات العادلة – و منعت اللجنة الدولية لحقوق الانسان و منظمة العفو الدولية العقوبات الجماعية حيث ورد فى ( المادة 7/2 من الميثاق الافريقى التى تنص على ان العقوبة شخصية ، كما ان الاتفاقية الامريكية تنص على انه لا يجوز تمديد العقوبة الى اى شخص بخلاف الجانى ) – وردت بالفصل الخاص بحظر العقوبات الجماعية ص 124 من المصدر السابق .

وورد بالمشروع انواع من هذه العقوبات البدنية مثل القطع والجلد وعقوبة الدية الجماعية التى يلزم بها الجانى وعاقلته .

كما يؤخذ على مشروع القانون هذا ، عدم مراعاته فى بعض نصوصه توجهات الجماهيرية المستقبلية الجديدة فى بناء الدولة والمؤسسات المدنية والشعبية ، وذلك بتوسعه فى تجريم بعض الافعال بعبارات واسعة فضفاضة تحتمل عدة اوجه وتأويلات قد يكون بعضها مجرًم ضار بالدولة والمجتمع فعلاً ، وقد يكون بعضها الآخر ليس كذلك ، فهو لم يعرَف ويحصر بشكل دقيق ومحدد الافعال والسلوكات المادية والمعنوية المجرمة خاصة فى الجرائم المنصوص عليها فى الباب الاول من الكتاب الثانى وجرائم الفصل الاول من الباب الاول من الكتاب الثالث فى هذا المشروع وهى جرائم خطيرة معاقب عليها بالاعدام والسجن المؤبد والسجن الامر الذى قد يضيق مستقبلاً على الحريات العامة للافراد ومؤسسات الدولة المدنية القانونية وقد يحير المحاكم فى تكييف هذه الافعال وتطبيق النصوص عليها وإثباتها وهو ما يؤثر على سير العدالة نفسها ، كما يؤخذ على هذا المشروع تغليظه للعقوبات فى بعض الجرائم ، بما يجعلها إنتقاماً أكثر منها ردعاً أو إصلاحاً ، ويؤخذ عليه تجاهله لبعض القواعد القانونية و الفقهية المعترف بها و الراسخة مثل إستثنائه بعض الجرائم من سقوطها بمضى المدة . فقد أستثنت المادة 86 / 2 من سقوط الجريمة بمضى المدة ، الجرائم المنصوص عليها فى الباب الاول من الكتاب الثانى وجرائم الفصل الاول من الباب الاول من الكتاب الثالث المشار اليها فى هذا المشروع .

ويؤخذ على نصوصه فى كيفية تطبيق جرائم الحدود وعقوباتها وطرق إثباتها بأن جعلها نصوص قانونية وضعية بعيدة عن التطبيق الصحيح للشريعة الاسلامية وروحها بما أوقعها فى تعارض مع المعايير الدولية لحقوق الانسان التى تبنتها منظمة العفو الدولية و اللجنة الدولية لحقوق الانسان و التى تشرفت ليبيا برئأستها يوماً .

فقد أوردت المادة 133 من المشروع أنه إذا تعذر تطبيق عقوبة الحد لاى سبب كان طبقت فى شأنه أحكام الجرائم والعقوبات التعزيرية….الخ

و أدخلت على وسائل الاثبات الشرعية فى هذه الجرائم وسائل إثبات وضعية أخرى لا علاقة لها بما حدده الشارع الاسلامى من وسائل إثبات محددة صارمة متشددة حيث أضاف هذا المشروع الى الاثبات الشرعى ( أن جريمة الحد تثبت بأى وسيلة علمية أخرى ) .

لست ضد تطبيق شرع الله وحدوده ولكنى أقيَم كيفية تطبيق هذه الشرعة والحكم بها وقد أختلف مع المشرع الوضعى فى هذه الكيفية ، فمشروع القانون هذا يبقينا فى الاشكالية السابقة لتطبيق ما أصدرناه من قوانين حدود فى المحاكم ، حيث يكوُن القاضى عقيدتين لسلوك اجرامى واحد عقيدة البراءة لعدم ثبوت تهمة جريمة الحد فى حق الجانى لعدم توافر الدليل الشرعى عليها ، ثم عقيدة الادانة لمجرد تغيير اسم نفس السلوك الاجرامى بقيده ووصفه طبقاً لمسمى قانون العقوبات الوضعى .
فمثلاً ـ تهمة القذف من جرائم الحدود ، و سلوكها المادى لا يخرج عن ( رمى الغير بالزنا أو نفى النسب بأى وسيلة ) ولا يمكن أن تحتمل أكثر من ذلك لان شرع الله نص عليها وعلى أدلتها وعلى العقاب عليها ، وهو سلوك اجرامى لجريمة الحد هذه و لتهمة وحيدة قائمة بذاتها عقوبتها الحد إذا ما توافر الدليل الشرعى لهذا السلوك .

فما هو أساس أن تستبدل عقوبة الحد التى شرعها الله لتطهير النفس لوحدها بعقوبة من وضع البشر ، حيث لا يمكن إستبدالها أو الاضافة عليها بعقوبة تعزيرية غير ما شرعه الله للعقاب عليها ، لان الجانى إرتكب سلوك إجرامى واحد مما ينطبق عليه قانون الحد الشرعى .

فالخلط بين عقوبات الحد وعقوبات القانون الوضعى و بين الإدلة الشرعية المحددة من الله و الادلة الوضعية التى وضعناها لاثبات جرائم قوانيننا الوضعية هو الذى جعل الاحكام تصدر بعقوبة وضعية لجريمة حد شرعها الله وحدد لها عقابها وأدلة شرعية محددة لا نتجاوزها أو نتحايل عليها ، لنهرب من الادلة الصارمة المحددة شرعأ لثبوتها ، كما يحدث فى الاحكام القضائية الآن من تغيير لاسم جريمة القذف المعاقب عليها شرعاَ فتسمى جريمة ( التشهير أو السب ) المنصوص عليها فى القانون الوضعى ويعاقب بها المتهم مع براءته شرعاً وكأن هذه الاحكام تود ان أن تقول أن هناك قصوراَ فيما ما قرره الشرع من أدلة لقيام تهمة القذف و تفادياً لهذا القصور نغير إسم فعل القذف المعاقب عليه حداً الى إسم فعل التشهير أو السب ونعاقب الجانى به ، مع أن السلوك الاجرامى واحد لم يتعدد أو يتغير ، الامر الذى أفقد الحكم الشرعى بالبراءة فى جريمة الحد من أى مفعول أوأثر أو معنى ولم تعد الحماية الشرعية من الله للمتهم فى التشدد على الادلة لها أى أثر أو مضمون .
فلو أن ( ماعزاً ) حوكم اليوم بنفس ما إعترف به ليطهر نفسه شرعا ،ً لحكم عليه بالسجن بجريمة المواقعة ، رغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير معاقبته بأى عقوبة عن تهمة الزنا وقال ألا تركتمــوه ، لمجرد الندم وليس لعدم توافر الدليل الشرعى .
أننا بهذا الخلط نحاول إيهام أنفسنا بأننا نطبق شرع إلا أننا ننتقم من المتهم ونفضح الفعل .

إن الوصف الشرعى لجريمتى القذف و الزنا حداً قد خرجا عن الاوصاف القانونية لجريمتى التشهير والسب أو المواقعة اللتين لهما سلوكات مادية أخرى غير السلوك المادى الذى تناولته جرائم الحد وخرجا عن الاثبات بغير الادلة الشرعية ولم يعودا من جنس واحد وبمجرد عدم توافر الدليل الشرعى عليهما تبرأ ساحة المتهم وكفى .

إن المعايير الدولية تقتضى أن تكون أدلة الادانة قوية غير قابلة لاى شك وهذا ما أخذت الشريعة الاسلامية بأقوى منه فى جرائم الحدود منذ أكثر من 1400 عام قبل منظمة العفو الدولية ومعايير حقوق الانسان التى يخالفها ويخالف الشريعة الاسلامية مشروع هذا القانون .

فقد تشددت الشريعة الاسلامية كثيراً ودققت وحددت أدلة الاثبات فى جرائم الحدود بحيث لا يمكن توافرها بسهولة أو بأدنى شك فما أصعب أن تتحقق الادلة الشرعية لقيام جريمة الحد فى حق الجانى وما أصعب إقامة الحد عليه إن لم يكن مستحيلاً فى بعض جرائم الحدود ، وأعتقد أن منظمة العفو الدولية لو تعرَفت على تشدد الشريعة الاسلامية فى مسألة أدلة الاثبات على المتهم فى جرائم الحدود لتبنتها فى كثير من الجرائم الخطيرة وجعلتها معياراً دولياً .

إلا أننا نحن المسلمون المنوط بهم فهم و تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية كما أنزلها الله وكما أراد لها أن تكون تدخلنا فى الوصف الشرعى والادلة الشرعية لجرائم الحدود وخلطناها بأوصاف وأدلة تناسب تخلفنا ، وتسلطنا ونزعتنا للانتقام من الجانى وفضحه وقدمناها للعالم بهذا الشكل المعيب الذى لا يتناسب مع أى معيار .

إن الشريعة الاسلامية وأحكامها تسير بنا إلى الامام إلا أننا نركض بها للخلف فقد أعطيناها فهماً وتفسيراً وتطبيقاً غير صحيح وغير مقبول عالمياً ودولياً بقصد أو بدون قصد مثل ما يحدث فى التفسيرات والفتاوى المتشددة والمتطرفة من بعض فقهاء المسلمين فى بعض المسائل المهمة الاخرى والتى ما أنزل الله بها من سلطان ، فأعطت تأثيراتها السلبية لنا وللشريعة الاسلامية أمام الامم الاخرى .

إن كان الشرع الالهى والقانون الوضعى قد يشملهما مسمى واحد هو التشريع ألا أن هناك إختلافاً جوهرياً فى خصائصهما ففى حين أن الشرع الالهى الذى فى القرآن الكريم والسنة الصحيحة مصدره الله و له صفة الديمومة وعدم التغيير أو التبديل أو التعديل أو الالغاء ، نجد أن من أهم خصائص التشريع الوضعى أنه من صنع البشر مؤقت قابل للتغيير والتعديل والالغاء ، فأقوى التشريعات الوضعية و هى الدساتير تلغى أو تعدل أو تستبدل كما نريد .

فما الذى نضيفه عندما نصدر الاحكام التشريعية فى القرآن الكريم والسنة فى شكل القوانين الوضعية لاعطائها قوة الالزام و لنفاذها بين الناس حالة كون التشريع الالهى قد صدر وأنتهى من يوم نزوله وأصبح ملزماً ولا حاجة لاصداره من المشرع الوضعى فى شكل قانون فهو تشريع قوى الالزام فى ذاته ، ومن ناحية أخرى لاختلاف الخصائص بينهما ولم أر مبرراً لاصدار الحكم الشرعى فى شكل قانون وضعى إلا الحفاظ على مكنتنا فى تغيير أو تعديل أو إلغاء التشريع السماوى حسب أهوائنا إستناداً على حقنا القانونى فى تبديل أو تعديل أو إلغاء ما أصدرنا من قوانين .

وليس أدل على ذلك من عدم ثبات قوانيننا السابقة والتى أردنا أن نطبق شرع الله بها فقد صدر قانون حد الشرب وعدل أكثر من مرًة ثم ألغى ولم يعد الشرب الآن جريمة حد ، وكم من الناس أنتزع قميصه أمام الجموع و جلد بمقتضاه .

وصدرت قوانين القصاص و حد الزنا وحد السرقة والحرابة وحد القذف وتناولها التعديل والتبديل جميعها ولم تستقر على أمر لا فى شكلها ولا فى مضمونها ولا فى أدلتها حتى الآن و ليس هذا فقط فقد عدًلنا القانون رقم 10/84 بشأن الزواج والطلاق وأحكامهما عديد المرات ، فهل الاحكام الشرعية السماوية غير ثابتة وغير دائمة وقابلة للتعديل كيفما نريد أم أننا نحن الذين نخالفها ونعدلها متى نريد
ا لمصدر مرجع هذه الورقة من محاضرات بعض الدكاترة التي القيت علي طلبة الدراسات العليا في جامعة الفاتح