موقف المحكم الدولي من قانون الإرادة في العقود الدولية 2 – مقال قانوني هام

يمكنك الإطلاع على الجزء الأول من هذا الموضوع من خلال الرابط التالي:

موقف المحكم الدولي من قانون الإرادة في العقود الدولية 1

وإن قضاء التحكيم التجاري الدولي يستخدم في هذا الشأن المؤشرات العامة لاستظهار قانون الإرادة الضمنية، فتارة نجد بعض قرارات التحكيم تغلب قانون محل التحكيم، أي قواعد القانون الدولي الخاص للدولة التي يختار خصوم المنازعة إقليمها كمكان للتحكيم، أو قانون الدولة المتعاقدة طرف النزاع، وتارة أخرى نجد أن بعض قرارات التحكيم تطرح جانبا القوانين الوطنية المحتمل تطبيقها على موضوع النزاع. كما تطبق ما اصطلح عليه بالمبادئ العامة والمشتركة للدول المتمدينة ففي شأن نزاع بين الحكومة الليبية وبين شركة بترول لجأ المحكم إلى حيل واضحة واستبعد القانون الليبي لصالح المبادئ العامة في القانون الدولي بدعوى تعارض أو مناقضة هذا القانون لبعض هذه المبادئ وذهب المحكم إلى القول بأن القول بأن إعمال المبادئ العامة للقانون لا يكون فقط بسبب عدم وجود قانون داخلي لحكم مثل هذا النزاع أو لعدم توافقه أو ملاءمته مع طبيعة العلاقة بين الدولة وأحد الأشخاص الاعتبارية الأجنبية، وإنما أيضا بقصد حماية المتعاقد الأجنبي من التغيرات التي تقررها الدولة في تشريعاتها الداخلية بما يؤدي إلى الإخلال بالتوازن العقدي. وهذا الاتجاه في قرارات التحكيم التجاري الدولي لاستبعاد القوانين الوطنية للدول المتعاقدة أطراف العلاقة التعاقدية مع الشركات الأجنبية الخاصة وتطبيقها لما يسمى بالمبادئ العامة في الدول المتحضرة أو المبادئ العامة في القانون أو ما يسمى أحيانا بقانون الشعوب الجديد، هو موقف غير حيادي ويتصف بالتعصب، ذلك لأن استبعاد القوانين الوطنية للدول أطراف المنازعات التي تنشب مع الشركات الأجنبية الخاصة غالبا ما يخفي وراءه موقفا غير بريء بالنسبة لمشكلة تعتبر من أعقد المشاكل التي واجهت وتواجه الدول النامية لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي السيطرة على ثرواتها الطبيعية وتأكيد استقلالها الوطني.

انطلاقا من هذا الموقف غير الحيادي، كثيرا ما استبعد المحكمون تطبيق القوانين الوطنية للدول النامية بدعوى تعارضها مع النظام العام الدولي المدعى به، والذي يتطابق في سماته العامة مع المبادئ العامة “للدول المتحضرة”؟.
والواقع أن هذا الموقف هو إعمال قانون الطرف القوي على الطرف الضعيف، ومن شأنه أن يحول سيادة الدولة على ثرواتها الطبيعية إلى سيادة شكلية وخاوية المضمون رغم أن هذا المبدأ قد أصبح منذ قرار الأمم المتحدة رقم 626 لسنة 1952 من المبادئ التي رسخت في ضمير المجتمع الدولي بغض النظر عن نوع الحكومات أو شكلها.

وأصبح من حق الدولة أن تقدر ضرورات تأميم ثرواتها الطبيعية بمحض إرادتها واختيارها، ولا رقابة على قرارها ولا يجوز الاعتراض على ذلك سواء لاعتبارات سياسية أو اقتصادية بل وحتى قانونية، وأصبحت المشكلة الآن هي مشكلة التعويض، وحتى في هذا التعويض أصبح ينظر في تقديره إلى عدة اعتبارات منها: الأرباح الخيالية التي حققتها الشركات الأجنبية المؤممة، ومدى ما كانت تتمتع به من امتيازات. حيث قرر أحد الشراح (أنه ما لم ينص في مشارطة التحكيم أو في العقد مثار المنازعة على أن النزاع في مثل هذه الحالة يكون على مقتضى مبادئ العدالة وتعطى للمحكم سلطة صريحة وواضحة في هذا الشأن فإن سكوت أطراف المنازعة التي تنشب بشأن ما يعرف بعقود التجارة الدولية يجب أن يفسر على أن إرادة الأطراف تتجه كقاعدة عامة نحو قانون الدولة طرف النزاع وكما يرى البعض بحق فإن اختيار قانون الدولة المتعاقدة في مثل هذه الحالة لا يعدو كونه قانونا للإرادة المفترضة وليس مجرد امتياز يقرر لمصلحة هذه الدولة وإذا كان ثمة ضرورة من استلهام المحكم في قراره لمبادئ القانون الدولي أو حتى قانون الدول المتمدينة فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن يكون هذا الاستلهام منحازا بل يتعين أن يكون محايدا، وذلك بالنظر إلى اختلاف التركيبات الاقتصادية والاجتماعية)[1] .

وهذا الاتجاه طبقته غرفة التجارة الدولية بباريس في نزاع نشب بين دولة إفريقية وأحد الأشخاص من رعايا بلجيكا وكان موضوع العقد امتيازا منح لهذا الشخص في شراء منتجات المناجم على إقليم تلك الدولة، وقد نشب النزاع الذي عرض على التحكيم عندما قامت حكومة هذه الدولة بإلغاء هذا الامتياز قبل حلول أجل انتهائه وقد أعمل المحكم قانون هذه الدولة رغم أن العقد قد وقع في بروكسل ومع أحد رعايا بلجيكا وقال المحكم في قراره: (إن القانون الذي يطبق على العقد مثار النزاع هو في حالة غياب الاختيار الصريح للأطراف قانون الدولة طرف العقد بالرغم من أن العقد قد أبرم في بروكسل ومع أحد الرعايا البلجيكيين وبالرغم من صفته الدولية)[2].

[1] – د. أبو زيد رضوان، الأسس العامة في التحكيم التجاري الدولي، مرجع سابق، ص 137.
[2] – المرجع السابق،ـ ص 138.