قد يحدث في بعض الحالات الاتفاق على أجرة معينة في عقد الإيجار ويستمر سريان هذا العقد لمدة طويلة من الزمن فتصبح الأجرة التي كانت معقولة ومناسبة وقت إبرام العقد تافهة أو بخسة وقت الوفاء بها في المواعيد اللاحقة مما يؤدي ذلك إلى إخلال التوازن بين التزامات المتعاقدين بسبب اضطراب سعر النقد أو بسبب حدوث موجات من التضخم الاقتصادي تؤدي إلى تغيير قيمة العملة المتداولة فيكون مبلغ الأجرة المستحق تافهاً من حيث القيمة عند مقارنته مع الأجرة التي تم الاتفاق عليها ، وعليه سنبين موقف التشريعات المدنية من الأجرة التي تغيرت قيمتها الفعلية ومن ثم نبين الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها لمعالجة هذا التغير :

أولاً: موقف التشريعات المدنية من الأجرة التي تغيرت قيمتها

إن موقف التشريعات المدنية من هذه المسألة يكاد يكون موقفاً متوحداً جملته لا تأثير على مقدار الأجرة بسبب تغير قيمة العملة ، فالقانون المدني العراقي لم يتضمن نصاً خاصاً بشأن الالتزام المحدد بالنقود بل ورد فيه نصٌ عامٌ يفرض على المتعاقدين التقييد بما تضمن العقد من التزامات ويبدو ذلك واضحاً من مضمون الفقرة (1) من المادة (146) التي نصت على ذلك بقولها (إذا نفذ العقد كان لازماً ، ولا يجوز لأحد العاقدين الرجوع عنه ولا تعديله إلا بمقتضى نص في القانون أو التراضي) وقد اخذ القانون المدني العراقي هذا المعنى من المادة (134) من القانون المدني المصري التي نصت على انه (إذا كان محل الالتزام نقوداً التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر) ، يتبين من هذا النص أن المشرع المصري قد اخذ هذا المضمون من نص المادة (1895) من القانون المدني الفرنسي التي نصت على انه (إذا كان محل الالتزام نقوداً التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو انخفاضها وقت الوفاء أي اثر) ، ومن هذا الطريق انتشر هذا الحكم في اغلب التقنينات المدنية العربية ، فالقانون المدني السوري أوضح هذا المعنى في المادة (135) التي نصت على انه (إذا كان محل الالتزام نقوداً التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون ان يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر ما لم ينص القانون على أحكام خاصة بتحويل النقد الأجنبي) ، والقانون المدني الجزائري أشار إلى هذا المعنى في المادة (95) التي نصت على انه (إذا كان محل الالتزام نقوداً التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون ان يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر) والقانون المدني الأردني أيضاً بين هذا المفهوم في المادة (162) التي نصت على انه (إذا كان محل التصرف أو مقابله نقوداً الزم بيان قدر عددها المذكور في التصرف دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي اثر) ، أما قانون الموجبات والعقود اللبناني فانه كالقانون المدني العراقي لم يتضمن نصاً صريحاً بشأن الالتزام المحدد بالنقود بل وضع لنا نصاً عاماً يفرض على المتعاقدين التقييد بما أشتمل عليه العقد من الالتزامات فقد نصت المادة (221) منه على انه (العقود المنشأة على الوجه القانوني تلزم المتعاقدين) ونصت المادة (299) على انه (يجب إيفاء المستحق نفسه) .

يتضح من النصوص التي ذكرناها ان على المستأجر ان يبقى ملتزماً بمقدار الأجرة التي تم تحديدها في العقد بصرف النظر عن ارتفاع قيمتها أو انخفاضها وقت الوفاء وبذلك فان مشكلة تغير قيمة النقود لا تؤثر على تحديد الأجرة في التشريعات المدنية المذكورة وعليه فان ترك هذه المسألة دون معالجة سيؤدي إلى إرهاق احد طرفي عقد الإيجار ، لذا لابد من إيجاد طريقة معينة تضمن إعادة التوازن الاقتصادي إلى طرفي العلاقة الايجارية وترفع الغبن الذي يصيب احد الأطراف إلى الحد المعقول .

ثانياً: الطرق التي يمكن اللجوء إليها لمعالجة اثر تغير قيمة النقد على تحديد الأجرة

يمكن إعادة التوازن إلى العلاقة الايجارية عندما يحدث تغيير في قيمة النقد ويتأثر الالتزام بدفع الأجرة فتكون الأجرة التي تم تحديدها في عقد الإيجار تافهة من حيث القيمة وقت الوفاء بها عند انخفاض قيمة النقد أو ان تكون فاحشة من حيث القيمة وقت الوفاء بها عند ارتفاع قيمة العملة عن طريق وضع آلية معينة وذلك لان الالتزام المحدد بالنقود يمكن ان يقترن بأحد الطرق الآتية:-

1. تحديد الأجرة بالعملة الأجنبية أو بما يعادل قيمتها :

ان الطرفين المتعاقدين قد يلجأن إلى تحديد الأجرة إذا كانت من النقود بعملة أجنبية مستقرة نسبياً كالدولار مثلاً وذلك تفادياً لانخفاض القوة الشرائية للعملة الوطنية في حالة إذا كان القانون الوطني يجيز التعامل بالعملات الأجنبية ، وقد يلجأ إلى تحديد الأجرة بعملة وطنية وربطها بما يقابلها من العملة الأجنبية في العقد كأن يتفقا على ان تكون الأجرة خمس وأربعين ألف دينار شهرياً وتساوي ثلاثين دولار أمريكي وذلك من أجل معالجة التغير الذي يحصل في قيمة العملة الوطنية ، ففي حالة تغير قيمة النقد فان المستأجر يلتزم بدفع عملة وطنية قيمتها تعادل قيمة ثلاثين دولار وقت الوفاء بالأجرة .

2. تحديد الأجرة بكمية معينة من الذهب أو بقيمة تعادل كمية معينة من الذهب :

قد يلجأ الطرفان إلى تحديد الأجرة بكمية معينة من الذهب أو بقيمة معادلة لكمية معينة من الذهب لأجل إعادة التوازن بين طرفي العلاقة الايجارية إذا اختل التعادل بين الالتزامات المتقابلة فالحكمة من لجوء الطرفين إلى هذه الطريقة تكمن في ان الذهب معدن ثمين وثمنه في ارتفاع مستمر بخلاف العملة الورقية التي تتعرض إلى انخفاض أو ارتفاع في قوتها الشرائية.

3. تحديد الأجرة وفقاً لأساليب أخرى :

لتجنب الآثار التي تترتب على تغير قيمة العملة قد يلجأ الطرفان إلى إدراج أساليب معينة كالاتفاق على تحديد الأجرة وفقاً لمؤشر معين كما لو كان هذا المؤشر هو الحد الأدنى للأجور مثلاً أو الاتفاق على ربط الأجرة بثمن بضاعة معينة أو الاتفاق على وضع شروط معينة كشرط الإرهاق أو شرط إعادة النظر في العقد وما شابه ذلك ، ولكن هل يمكن اللجوء إلى نظرية الظروف الطارئة في حالة اضطراب سعر النقد ؟ لاشك في مسألة انطباق أحكام هذه النظرية على عقد الإيجار لكونه عقداً مستمر التنفيذ ولكن هل يمكن عد مسألة تغير قيمة النقد حادثاً استثنائياً عاماً لا يمكن توقعه ؟ للإجابة على هذا التساؤل نقول لا يمكن اللجوء إلى نظرية الظروف الطارئة لسد الخلل الحاصل في الالتزامات المتقابلة لأطراف العلاقة العقدية لأنه يصعب في ظل الظروف الاقتصادية التي تحدث في المجتمع عد تغير قيمة النقد حادثاً غير متوقع(1) .

4. تحديد الأجرة من خلال المشرع :

على المشرع القانوني ان يحل مشكلة تغير قيمة النقد بنصوص قانونية تعيد الحق إلى أصحابه وتعيد التوازن إلى العلاقة الايجارية التي أصابها الاختلال نتيجة تغير قيمة النقد(2) . بعد بيان الطرق التي يمكن الاعتماد عليها في معالجة اثر تغير قيمة النقد على تحديد الأجرة فنحن نؤيد الطريقة الأخيرة المتمثلة بإعادة التوازن والتعادل للعلاقة العقدية من خلال قيام المشرع القانوني بذلك عن طريق إصدار قرارات بعد حصول تغير قيمة النقد تتضمن وضع الحلول المناسبة لإعادة التوازن للالتزامات المتقابلة ومنها تحديد الأجرة وذلك من اجل تفادي النزاعات التي قد تحدث بين الناس بسبب تغير قيمة النقود. أما بالنسبة لموقف فقهاء المسلمين من اثر تغير قيمة النقود على تحديد الأجرة فان لهم في هذه المسألة خمسة آراء :

الرأي الأول:

قال به فقهاء الأحناف(3) وعندهم يلتزم المستأجر بدفع أجرة المثل عند تغير قيمة النقود ولكن يذهب أبو يوسف إلى ان المستأجر يلتزم بالوفاء بقيمة الأجرة المحددة ومن النقد لأخر يوم التعاقد وقال أبو الحسن ان المستأجر يلتزم بدفع الأجرة يوم الكساد وهو أخر يوم تعامل الناس به وقد انتقد ابن عابدين ما جرى عليه العمل من دفع الأجرة من نوع النقود التي وقع عليها العقد ، إذ يرى بان ذلك يلحق ضرراً بالمستأجر في حالة ارتفاع قيمة النقود ويلحق ضرراً للمؤجر في حالة انخفاض قيمة النقود ويذهب إلى ضرورة الأخذ بالصلح على الأوسط حتى لا يتحمل الضرر احد أطراف العلاقة العقدية بمفرده أي يتقاسم المؤجر والمستأجر الضرر الناجم عن تغير قيمة النقود وذلك تطبيقاً لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .

الرأي الثاني:

ذهب إليه فقهاء الشافعية(4) ، وعندهم يلتزم المستأجر بوجوب الوفاء بقيمة الأجرة من الذهب عند تغير قيمة النقود .

الرأي الثالث:

قال به فقهاء الحنابلة(5) ، وعندهم يلتزم المستأجر بوفاء الأجرة المحددة في عقد الإجارة عند تغير قيمة النقد، إلا إذا أعوز المثل فيصار إلى قيمتها يوم الإعواز.

الرأي الرابع:

ذهب إليه فقهاء المالكية(6) وعندهم ان المستأجر يلتزم بوفاء الأجرة المحددة في العقد ومن جنسها ذاته لان الوفاء يتم بالعملة المتعاقد عليها.

الرأي الخامس:

قال به فقهاء الامامية(7) وعندهم يلتزم المستأجر بوفاء الأجرة المحددة في عقد الإجارة ، وعلى هذا فان تغير قيمة النقود ليس له اثر على الأجرة المحددة وان المستأجر يلتزم بأداء الأجرة المتفق عليها في عقد الإجارة.

__________________

1- أ. د. رمضان أبو السعود ، العقود المسماة (عقد الإيجار الاحكام العامة في الايجار) ، منشأة المعارف بالاسكندرية ، 1996، ص 267 .

2- انظر في هذا المعنى: د. ادورد عيد ، اثر انخفاض قيمة العملة في الالتزامات المدنية ، بيروت ، 1990 ، ص 9 . د. عصمت عبد المجيد ، اثر تغير قيمة النقد في الالتزامات العقدية ، بحث منشور في مجلة القانون المقارن ، تصدرها جمعية القانون المقارن العراقية ، العدد الثاني والثلاثين ، 2002 ، ص 22 .

وانظر في هذا المعنى :

– Jean Cherallier، Louis Bach، Opcit، p. 437.

3- محمد امين الشهير ابن عابدين ، مجموعة رسائل ابن عابدين ، ج2 ، مطبعة شركة الصحافة العثمانية ، استانبول ، 1325هـ ، ص 64 .

4- أبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي ، حاشية البجيرمي على منهج الطلاب ، ج2 ، مطبعة مصطفى محمد ، القاهرة ، 1355هـ ، ص 186 .

5- منصور بن يوسف ادريس البهوتي ، الروض المربع شرح زاد المستقنع ، تحقيق محمد عبد الرحمن معوض، ج2 ، مطبعة السنة المحمدية ، القاهرة ، 1955 ، ص 153 .

6- مالك بن انس ، مصدر سابق ، مج4 ، ج8 ، ص 444 – 445 .

7- الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي ، مسائل الخلاف ، ج1 ، طبعة حجرية ، مطبعة محمد علي العملي ، طهران ، 1370هـ ، ص 680 .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .