الاختصاص بالنظر في المنازعات الخاصة بالمساقي والمصارف الخصوصية

قبل العمل بالأمر العالي الصادر في 22 فبراير سنة 1894 المشتمل على لائحة الترع والجسور، كانت المحاكم الأهلية مختصة بالنظر فيما يقع بين الأهالي من المنازعات المتعلقة بالمساقي والمصارف الخصوصية، باعتبار كونها من المنازعات المدنية العادية، سواء أكانت الدعوى تتعلق بطلب إنشاء حق الارتفاق المنصوص عليه في المادة (33) من القانون المدني، أو من الدعاوى المتعلقة بالانتفاع بالمياه (فقرة ثانية من المادة (26) من قانون المرافعات) أو من الدعاوى المتعلقة بالمنازعة في وضع اليد على المسقى أو المصرف (فقرة ثالثة من المادة المذكورة).

وفي هذه الحالة الأخيرة إذا كانت الدعوى المتعلقة بالنزاع في وضع اليد، مبنية على فعل صادر من المدعى عليه مضت عليه سنة فأكثر، يكون الاختصاص للمحكمة الابتدائية بدل المحكمة الجزئية طبقًا للمادة (31) مرافعات.

ولما صدرت لائحة الترع والجسور المشار إليها جاء بين أحكامها نصوص خاصة بحقوق الارتفاق المتعلقة بالمساقي والمصارف الخصوصية (المواد (6) و(8) و(9) و(15)) وتضمنت المادة (19) بيان الإجراءات التي تتبع في الشكاوى الخاصة بردم المسقى أو المصرف أو تدمير جسورهما… إلخ.
ومع أن هذه النصوص تخول جهة الإدارة ومصلحة الري الفصل في تلك الأمور، فإن بعض الناس كان يرفع دعواه عنها إلى المحاكم باعتبار كونها صاحبة الاختصاص الأصلي، وقد اختلفت آراء المحاكم في هذا الموضوع لغاية سنة 1923، فبعضها (وهي الأقل) كانت تحكم بعدم اختصاصها بنظر الدعوى لأنها أصبحت من اختصاص الإدارة ومصلحة الري، وأكثرها كانت تقضي بعكس ذلك، معتبرة أن نصوص لائحة الترع والجسور لا تسلب المحاكم اختصاصها بنظر الدعاوى التي من هذا القبيل.

غير أن المحاكم ثبتت في العهد الأخير على مبدأ عدم اختصاصها (يراجع الحكم المدرج بصحيفة (197) من مجلة القضاء سنة 1899 والأحكام المنشورة في المجموعة الرسمية بصحف (52) سنة 1906 و(266) سنة 1913 و(44) سنة 1922 و(184) سنة 1923 والحكم المنشور في مجلة المحاماة بصحيفة (935) سنة 1924).

وحيث كان اعتقادي أن الحق في جانب الفريق الذي يرى أن الاختصاص في هذه المسائل مشترك بين المحاكم وبين الإدارة ومصلحة الري، تبعًا لاختيار أرباب الدعاوى، وكانت هذه المنازعات من الأمور الكثيرة الوقوع بين طوائف المزارعين وملاك الأطيان ومستأجريها، ويهم أصحاب الشأن فيها ووكلاءهم معرفة حقيقة الاختصاص بها، قد أردت طرح هذا الموضوع على بساط البحث في المجلة، مدليًا بأدلتي على صحة رأي فيه لتناوله أقلام الباحثين من رجال القانون.

وقد اخترت لبحثي من نصوص تلك اللائحة، النص الأكثر استعمالاً لكثرة المنازعات التي يطبق عليها (وهو نص المادة (19)) ويمكن القياس على هذا البحث فيما يتعلق بباقي نصوص اللائحة المذكورة.

1 – إن الحق المخول للمدير ورجال مصلحة الري في تلك المادة لم يكن مقررًا بصفة كونه اختصاصًا وحيدًا لهؤلاء الموظفين الإداريين دون سواهم، كما يظهر من منطوق النص وهو (إذا قدمت للمدير شكوى… إلخ) ولم يقل الشارع مثلاً: يختص المدير ورجال مصلحة الري بالنظر والفصل في المنازعات التي تقع بين أصحاب الأراضي… إلخ.

فصيغة النص تجعل اختصاص هؤلاء الموظفين الإداريين، تابعًا لرغبة صاحب الشأن إذا قدم شكواه إليهم، ولا تمنعه من أن يتبع الطريق العادي برفع دعواه إلى المحاكم طبقًا لنصوص قوانينها التي هي الأصل في كل المنازعات المدنية، ولم تبطلها لائحة الترع والجسور.

2 – ليس بغريب أن يخول الشارع المصري الاختصاص في هذا الموضوع إلى سلطتين مختلفتين (القضائية والإدارية) ليختار صاحب الدعوى أيهما يرفع إليها دعواه، نعم إن الشارع وضع الطريقة الإدارية باعتبار كونها أقصر زمنًا وأقل نفقةً، ولكنه لاحظ أن يُبقي الطريقة القضائية لاحتمال أن البعض يفضل استعمالها للوصول إلى حقه، لما في النظام القضائي من الضمانات أكثر من الطريقة الإدارية، ولذلك لم يمس النصوص القانونية المتعلقة باختصاص المحاكم بإلغاء أو تعديل.

3 – هذا الاشتراك في الاختصاص ليس هو الوحيد في تشريعنا، حيث رغمًا عن كون المحاكم الشرعية مختصة قديمًا بقضايا النفقة وكذلك باقي الهيئات الدينية التي لها سلطة القضاء في الأحوال الشخصية، قد ورد في القانون المدني الأهلي نصوص تتعلق بالنفقة بين الأصول والفروع والأزواج (المواد من (155) إلى (157)) وهذه النصوص تختص بتنفيذها المحاكم الأهلية طبعًا.