مقال قانوني قيم عن العرف

أ/ ابراهيم العناني

تعريـف العرف وأهميته

لقد كان العرف قديما هو المصدر الوحيد للقانون قبل نشوء الدولة وقيام السلطة التشريعية ، حيث اضطر الأفراد تحت ضغط الحاجات والظروف ونظرا لعدم مشرع ينظم روابطهم الاجتماعية ، إلى إيجاد قواعد يخضع لها الكافة .
وقد كان العرف هو السبيل الوحيد إلى إنشاء مثل هذه القواعد ولذلك كان أول مصدر رسمي للقانون وكان الأفراد يعهدون في تطبيق العرف إلى محكمين يختارونهم ، ثم يتولى رئيس الجماعة أمر تطبيقه على منازعات الأفراد ، وانتهى الأمر بأن أصبح هو الذي يضع قواعد قانونية عن طريق الأوامر التي يصدرها الأفراد . ومن هنا ظل العرف ينكمش تدريجيا ليترك المجال لأوامر الرئيس أو السلطان ، أي للتشريع الذي استقرت له الغلبة بعد ذلك .

العرف لغة : هو من كل شيء ظهره وأعاليه ، فيقال عرف الرمل وعرف الجبل وعرف الديك . والعرف والعارفة والمعروف ضد النكر ، وهو كل ما تعرفه النفس من خير ، وتأنس به وتطمئن إليه وعلى العموم فإن هذه الكلمة تستعمل في العربية لكل ما ارتفع من كرم المعاني .
العرف اصطلاحا: هو ما اعتاده الناس وساروا عليه من كل فعل شاع بينهم أو لفظ تعارفوا على إطلاقه على معنى خاص تألفه اللغة ولا يتبادر غيره عند سماعه ، وهي بمعنى العادة الجماعية .

ويقصد به في مجال القانون اعتياد الناس على سلوك معين في مسألة معينة مع شعورهم بإلزام هذا السلوك فإذا كان التشريع وليد إرادة السلطة التشريعية فإن العرف يتكون من تلقاء نفسه بناء على قوة القاعدة وتحت تأثير حاجة المجتمع .
وكما قد اصطلح على تعريفه في الفقه القانوني على انه “اطراد سلوك الأفراد في مسألة معينة على نحو معين اطرادا مصحوبا بالاعتقاد وإلزام هذا السلوك ” .

فالعرف هو مجموعة من الأحكام التي تكونت عن طريق الممارسة العملية يف مجتمع بناء على الأركان والشروط التي يخضع لها وجوده وإذا كان التشريع قد فرضته سلطة رسمية فإن العرف قد فرض عن طريق الممارسة العملية مع توافر الرضا والاعتقاد بلزوم الخضوع له والغايات والأهداف للعرف هي ذات الأهداف التي يحققها التشريع فإذا قلنا أن التشريع ينظم سلوك الأفراد في علاقتهم ببعض في المجتمع ويقيم بذلك العدالة فنجد أن العرف يحقق ذات الأهداف .

ويتميز العرف بأنه يتكون مما جرى الناس عليه في معاملاتهم الاقتصادية وأحوالهم الاجتماعية ومن ثم تتميز قواعده بأنها تعبر اصدق تعبير عما يرتضيه أفراد المجتمع في تنظيم علاقاتهم ، فتكون بحكم نشأتها على هذا النحو ملائمة للظروف الاجتماعية، كما تؤدي هذه الطريقة ذاتها في نشوء القواعد العرفية إلى تطورها بتطور الظروف في المجتمع فتظل على وجه الدوام ملائمة لهذه الظروف .
ويؤخذ على العرف انه أداة بطيئة في تكوين القواعد القانونية بحيث يقصر عن تزويد الجماعة في العصر الحديث بما تحتاج إليه من قواعد لمواجهة حاجاتها المتجددة بالسرعة الواجبة .

أركــان العــرف

أولا – الركن المادي :

هو عبارة عن اعتياد الناس على مسلك معين ، وقوام العادة التي يتكون منها الركن المادي للعرف أن تكون عامة وقديمة ومطردة.

1- أن تكون العادة عامة : يقصد بالعموم اطراد السير على مقتضاها في الوسط الاجتماعي الذي نشأت فيه لأن العرف ينشئ قاعدة قانونية ومن أركانها أن تكون قاعدة عامة مجردة فالعادة التي يتكون منها العرف يجب أن تكون عامة بالنسبة للأشخاص الذين تنطبق عليهم . ولا يشترط لكون العادة عامة أن يلتزم بالسير عليها كل أفراد المجتمع ولهذا كان العرف القومي نادرا ويكفي لوجود العرف أن يلتزم بالسير على مقتضى العادة أبناء إقليم معين من أقاليم الدولة وفي هذه الحالة يعد العرف إقليميا أو البناء طائفة معينة من طوائف المجتمع كطائفة التجار أو الصناع أو الزراع وفي هذه الحالة يعد العرف طائفيا .
2- أن تكون العادة قديمة : يقصد بالقدم أن يكون إتباع العادة قد مر عليها فترة من الزمن ويفرق بعض الفقهاء في هذا الشأن بين العادة التي يتكون منها العرف الإقليمي أو الطائفي ، فيجب السير على مقتضى العادة فترة من الزمن لا سبيل إلى تذكره ، أما بالنسبة للعادة لتي يتكون منها العرف القومي فليس هناك محل لاشتراط مثل هذا الشرط فيكفي أن تكون العادة قد استقرت في الوسط الاجتماعي نهائيا بصرف النظر عن مدة بقائها . ولكن الرأي الراجح انه لا يوجد حد لهذه المدة سواء كان ذلك في العادة التي يتكون منها العرف القومي أو الإقليمي أو الطائفي لأن المسألة تختلف باختلاف ظروف كل حالة .
3- أن تكون العادة ثابتة ومطردة : ويقصد بالثبات أن يتبعها الناس بطريقة منتظمة وغير متغيرة ، لا بطريقة متقطعة ، فلا يتبعها الناس لفترة من الزمن ثم يتركونها فترة أخرى ، ثم يعودون إليها مرة ثانية وهكذا ، وهذه مسالة موضوعية متروكة للقضاء .

ثانيا – الركن المعنوي :

لا يكفي لوجود العرف اضطراد الجماعة على العمل بالعادة ، بل لابد من الوجود المعنوي لديهم وهو اعتقادهم بأنها أصبحت واجبة الإتباع باعتبارها قاعدة قانونية ، فالأفعال والوقائع التي ينطوي عليها الركن المادي لا تكفي لتكوين قاعدة قانونية وأنها لابد من العنصر المعنوي لقيامها إذ هو الذي يوجب على الأفراد إتباع ذات السلوك الذي اعتادوه . إلى جانب ذلك فإن الركن المعنوي يساعد على التمييز بين العرف وبين العادات السلوكية حيث إن سلوك الأفراد في المجتمع تحكمه عادات كثيرة لا تنطوي على الصفة القانونية الملزمة للجماعة ومن هذا القبيل تقديم الهدايا في الأعياد والمناسبات، فالإلزام المطلوب لجعل العرف قاعدة قانونية ليس هو الإلزام الاجتماعي أو الأخلاقي بل هو الجبر على طاعته والعمل بمقتضاه .

ويتميز العرف عن العادة الاتفاقية بأن العرف يتوافر له الركنان المادي والمعنوي بخلاف العادة التي لا يتوافر لها سوى الركن المادي بمعنى أن العادة لم تستقر في ضمير الجماعة بحيث تعتبرها من قواعد السلوك الملزمة وإنما هي مجرد عادة يستطيعون الخروج عليها دون خشية التعرض للجزاء فهي لا تلزم الأفراد إلا إذا اتجهت إرادتهم إلى الالتزام بها ، ولذا فقد سميت بالعادة الاتفاقية بمعنى أنها لا تطبق إلا إذا اتفق المتعاقدان على الالتزام بها واتجاه الإرادة قد يكون صراحة بأن يحيا عليها وقد يكون ضمنيا ويستنتج من ظروف وملابسات التعاقد ومن معاملات المتعاقدين السابقة .

ولذلك يجب أن يكون المتعاقدان على علم بها ، بخلاف العرف الذي يعبر عن قاعدة قانونية مفروضة على إرادات الأفراد والتي تعد حلا جبريا لمعاملاتهم ، فالعرف لا يستند في إلزامه للجماعة إلى رضا الخاضعين له .
ويشترط في العرف ألا يكون مخالفا للنظام العام أو الآداب ، والعرف الذي يعتبر مصدرا للقاعدة القانونية هو العرف الموافق للنظام العام والآداب ، أما إذا كان العرف مخالفا للنظام العام أو الآداب فهو عرف فاسد لا يعول عليه كأخذ الثأر في صعيد مصر ، عرف فاسد لأنه يتعارض مع قاعدة ثابتة وهي انه لا يجوز للشخص أن يقتضي حقه بنفسه وإنما وسيلة اقتضاء الحقوق هي السلطة العامة .

واثبات توافر العنصر المعنوي للعرف ، أي عنصر الإلزام في قواعده القانونية ، يعتبر من مسائل القانون التي وان اختص بتقدير توافرها من خدمة قاضي الموضوع، إلا انه يخضع في تقديره هذا لرقابة محكمة النقض باعتبارها –كما سبق القول- الأمين على حسن تطبيق القانون وتفسيره وتأويله .

شــروط العـرف:

يشترط لكي يصبح العرف مصدرا من مصادر القانون أن تتوافر فيه شروط معينة نلخصها فيما يلي :
1- أن يكون عاما: ذلك أن العرف ينشئ قاعدة قانونية ، والقاعدة لابد أن تكون عامة مجردة فلا ينصرف حكمها إلى شخص معين بذاته أو إلى أشخاص معينين بالذات وليس معنى هذا أن يكون العرف شاملا لكل الأشخاص في الدولة ولكنه قد يكون خاصا بأقاليم معينة منها ، وفي هذه الحالة يعتبر العرف محليا.
2- يلزم كذلك أن يكون العرف قديما: ومعنى ذلك أن يمضي على إتباعه فترة طويلة بحيث يمكن أن يقال إن الأمر قد استقر في الجماعة على إتباعه ولا يوجد حد معين لهذه المدة .
3- يلزم كذلك أن يكون العرف ثابتا : ومعنى ذلك أن يتبعه الناس بانتظام بطريقة لا تتغير ولا تنقطع فلا يتبعه الناس في بعض الأوقات ويتركونه في أوقات أخرى ويترك تقدير هذا الموضوع كذلك للقضاء .
4- يلزم أن يكون العرف مطابقا للنظام العام والآداب في المجتمع : فإذا جرت عادة الناس على أمر من الأمور التي تتنافس مع النظام العام مثلا كما هو الشأن بالنسبة لعادة الأخذ بالثار في بعض الأقاليم.
5- يجب أن يتولد في أذهان الناس الشعور بضرورة احترامه وان مخالفته تستوجب توقيع الجزاء عليهم وهذا الشعور بالإلزام شرط جوهري لتكوين العرف فإذا ما استقر هذا الشعور لدى الأفراد بصورة قديمة وثابتة يصبح بعد ذلك قاعدة قانونية كواجبة الاحترام أي تصبح ملزمة للأفراد .

أساس القوة الملزمة للعرف

تعددت الآراء في أساس القوة الملزمة للعرف واختلفت باختلاف العصور والظروف واهم هذه الآراء ثلاثة مذاهب :
المذهب الأول: يقول أن نشوء العادة في المجتمع واستقرارها واطرادها كل هذا يدل على رضا أفراد المجتمع بها رضا ضمنيا ويرى أن هذا الرضا الضمني العام هو أساس قوة العرف الملزمة . وقد قال بهذا المذهب فقهاء القانون الروماني ومن بعدهم فقهاء القانون الفرنسي القديم فيما قبل ظهور الملكية المطلقة ، ثم اختفى في العهد الذي بلغت فيه الملكية المطلقة أوج مجدها ولكنه عاد إلى الظهور ثانية منذ أوائل القرن الثامن عشر إلى نهاية الثلث الأول من القرن الماضي .
المذهب الثاني : يرى أن القول بأن أساس قوة العرف الملزمة رضا الشعب الضمني لا يصدق إلا على المجتمعات التي يكون الشعب فيها هو صاحب سلطة التشريع بحيث يتعين النظر إلى رضا الشعب باعتباره رضا المشرع ، أما المجتمعات التي يكون المشرع فيها فردا أو هيئة معينة فإنه يتعذر فيها القول بأن أساس قوة العرف الملزمة هو رضا الشعب مادام الشعب فيها لا يملك سلطة التشريع ويكون الأصوب إذن أن يقال أن أساس قوة العرف الملزمة هو رضا المشرع به رضا ضمنيا وعدم اعتراضه عليه . وقد راج هذا الرأي في فرنسا في عهد الملكية المطلقة حيث أريد تعزيز سلطة الملك بنظرية الحق الإلهي التي تقول أن الحاكم يستمد سلطانه من الله سبحانه وتعالى لا من الشعب وان القانون وليد إرادة الحاكم سواء أكانت تلك الإرادة صريحة أو ضمنية، وقد استمر هذا المذهب سائدا طوال القرن التاسع عشر ولا يزال أثره ظاهرا في فقه القرن الحالي .
المذهب الثالث : يقول أن العرف أي القانون غير المسنون وقد كان في الأصل كل القانون ، إنما يستمد قوته الملزمة من ضرورته لتنظيم المجتمع تنظيما عادلا يحقق الخير العام وان توافر الشروط المطلوبة في العرف يدل دلالة كافية على ضرورته ويضمن مطابقته للعدل وللخير العام ، ومتى ثبتت ضرورته فقد وجب أن يكون ملزما وهذا هو المذهب الآخذ في الانتشار منذ أوائل القرن الحالي .

وظاهر أن هذه المذاهب الثلاثة تتحد في الاعتراف بقوة العرف الملزمة ولكن المدى الذي يعترف فيه كل منها بالعرف كمصدر للقانون في المذهب الثاني ، عنه في المذهبين الآخرين . فالمذهبان الأول والثالث يؤديان إلى اعتبار العرف مصدرا أساسيا للقانون معادلا على الأقل للتشريع وغير محتاج إلى اعتراف المشرع به أو إلى النص على وجوب إتباعه ويترتب على ذلك أن العرف ينشأ ويكون واجب الإتباع سواء أجازه المشرع صراحة أو ضمنا أم م يجزه وانه يجوز له أن يخالف التشريع وان ينسخه . أما المذهب الثاني فيجعل القانون كله منوطا بإرادة المشرع ولا يعتبر العرف مصدرا للقانون إلا بالقدر الذي يسمح به المشرع وهذا القدر يتفاوت سعة وضيقا باختلاف الشرائع والعصور .

بمعنى أن يقر في ضمير أفراد الجماعة –في مجموعهم- بأن إتباع هذا السلوك أو ذاك أمر ملزم لهم ، وان هناك جزاء قانونيا يوقع عند مخالفته . وفي هذا يختلف العرف عن العادة التي هي مجرد سلوك غير ملزم لصاحبه .
واعتقاد الناس في إلزامية سلوك معين مسألة قانونية ، يخضع قاضي الموضوع في تقدير وجودها من عدمه لرقابة محكمة النقض أو التمييز باعتبارها الأمينة على حسن تطبيق القانون وتغييره وتأويله .