ما معنى أنْ تكونَ مُحَامِياً؟
بكر بن عبداللطيف الهبوب
الأمين العام للهيئة السعودية للمحامين – مستشار قانوني

عَرَّفَ نظام المحاماة المهنةَ بأنها: «أ» الترافع عن الغير أمام المحاكم وديوان المظالم، واللجان المشكلة بموجب الأنظمة والأوامر والقرارات لنظر القضايا الداخلة في اختصاصها، «ب» ومزاولة الاستشارات الشرعية والنظامية، ويسمى من يزاولُ هذه المهنة محامياً. بمجرد الحصول على ترخيص المهنة، ينضم المحامي إلى نادي المهنة الحرة، الذي تحكمه هيئة مهنية تُعَد حَرَم المحامين المهنيَّ الذي يُعنى بشؤونهم وتنظيم سوق المهنة، والرقي بممارساتها، والسمو بها من خلال تعزيز الجانب الأخلاقي للممارسين. فالمحاماة تربطها بالعدالة قرابةٌ تجعلها تخضع لصفاتها وأخلاقها. فالمحامي ليس مجردَ وكيلٍ بل هو شريك السلطة القضائية في استظهار الحقائق؛ لتحقيق العدل وسيادة القانون. لذا لا يتصور انفكاك المحاماة عن أخلاقيات المهنة. وبمجرد انحراف المحامي عنها فإنه يستحق التأديب المهني الذي قد يصل لحد شطب الترخيص.

إنَّ الانتماء للمهنة يجعلُ منسوبها ينضم إلى نادٍ يُعَامل أفراده باحترام ومراعاةٍ، ليس من جانب العملاء فحسب، وإنما من قبل المجتمع الذي يضفي التقدير على أفراد سدنة العدالة. يتمتع المحامي بمهاراتٍ تمكنه من إتقان فنون التقاضي الشفهية وفن الإلقاء، وديناميكية أساليب الدفاع؛ وفقًا لمناخ سير الدعوى، وهذا يتطلب أن يكون حاضرَ البديهة مُعيراً ذهنه لأي تفاصيل مهما كان وزنها، حيث يقرأ أوراق الدعوى بنظرةٍ فاحصة، وتحليلٍّ نقدي مثاره الشك، وعدم التسليم إلا للثوابت إجراءً وموضوعاً، وتاريخاً ومكاناً وزماناً. كما أنَّ المحامي يتمتعُ بمهارة حل المشكلات «Problem-Solving» على نحوٍ يمكنه من وزن مسار الموضوع استراتيجياً، فسيولة اليوم ليس كالغد، والأعيان المنقولة ليست كالثابتة. وما يلوحُ كفرصةٍ للغير قد يكون في عين المحامي كسراب بقيعة؛ لأنَّ تحليل المخاطر يرشده إلى مواطن قد تخفى على غير المختص، وبالمقابل فإنَّ المحامي يرى بصيص الأمل حتى في أحلك الظروف التي تحيط بالمتهم حتى تشرق عليه شمس العدالة. وبهذا فإنَّ المحامي لا يدافع عن المتهم أو عن ارتكاب الجريمة، بل مدافع عن تطبيق القانون وسيادته بعدالة. ومن صفات المحامي الناجح قدرتهُ على تكوين الحجج القانونية «Make Arguments» من خلال أسئلة تثير ما قد يُعتقد أنه قناعات مُسلمة، وقدرته على ذلك تعتمد على الإنصات للمتحدث، والاستماع للنصوص المكتوبة لفهم المراد قبل إعداد الرد.

وتكوين الأسئلة الجدلية والحجج مهارةٌ تتزامن مع مهارة أعلى هي القدرة على تكوين رأي مرجح «Exercising Judgment» يحسم الآراء الجدلية، ويميز بين الآراء الجيدة وغير المنطقية أو غير المتسقة قانوناً. يقول المستشار عبد العزيز فهمي رئيس محكمة النقض المصرية: «إذا وازنت بين عمل القاضي وعمل المحامي، لوجدت أن عمل المحامي أدق وأخطر؛ لأن مهمة القاضي هي الوزن والترجيح، أما مهمة المحامي فهي الخلق والإبداع والتكوين».

يُعد «الإقناع» مهارة أساسية للمحامي، من خلاله تُغير وتُعزز المواقف أو المعتقدات أو السلوك للطرف المراد اقناعه من خلال المصداقية والاعتماد على الثقة والمعرفة. فسلوك وتعامل المحامي يكشف عن مهنيته وأمانته، بل إن لغة الجسد لها دور بالتأثير على الآخرين، ومواجهة المواقف بقوة وثبات، وتوظف الابتسامة في الحوار كعلامات الترقيم لها دلالات تعبيرية في موضعها، كما أن لنبرات الصوت، وتوزيع طبقاته «Intonation» تأثيراً وسيطرةً على الآخرين، وبالمقابل تكون عند المحامي حاسةٌ تُمكنه من كشف الكاذبين من خلال نبرات صوتهم، وإيمائيتهم الجسدية، وتناقض كلماتهم وطريقة اخيارها ونطقها. ولأن اللغة هي المادة الخام التي ينسج منها المحامي أعماله، كان لازماً أن يتمتع بمهارات لغوية، تُعينه على تحليل البصمة الوراثية لِلغة النصِّ، ويحلل مواقع علامات الترقيم، ويرصد مترادفات النص، ومدى عمومه وخصوصه، ومطلقه ومقيده.

إن اللغة القانونية لغة مباشرة، فلكل كلمة فيها لها مدلول مقصود لذاته، لذا تخلو اللغة القانونية من المحسانات البديعة والأساليب البلاغية، فاللغة المعقدة تجعل القانون مغلقاً، كما أن اللغة غير الدقيقة تجعل القانون مبهماً، فالمتوقع أن تكون لغة المحامي راقية برقي لغة القانون. إنَّ إجادة المحامي للتقنيات الحديثة أحدُ مقومات النجاح. فقد أظهرت دراسة قامت بها جامعة ماساتشوستس الأمريكية بأن ما يزيد على 40% من المحامين الأمريكيين يستخدمون واحدة أو أكثر شبكة تواصل اجتماعي؛ لأنهم يرون تأثيراً قويًا ومباشرًا لشبكات التواصل الاجتماعي، ودوراً في تطوير الخدمات القانونية المقدمة للعملاء.

ومع ذلك فإنَّ مخاطر التقدم التكنولوجي والعولمة، والمخاطر المحتملة لاستخدام شبكات التواصل الاجتماعي، كتقديم استشارة قانونية في دولة لا يملك ترخيصاً بممارسة الاستشارات فيها، أو التهرب من دفع ضرائب لقاء تقديم تلك الخدمة في تلك الدولة، أو التدخل بالتعليق على قضية منظورة أمام قضاء دولة أخرى. ومما يؤكد تلك المخاطر القرار التأديبي الصادر من محكمة فلوريدا العليا ضد محامية أميركية قامت في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي بوصف قاضية بمحكمة فلوريدا بكلماتٍ تنال من هيبة القضاء. وأيضاً شطبت نقابة المحامين الأميركيين ترخيص أحد المحامين؛ لقيامه بإفشاء معلومات خاصة لأحد العملاء بطريقة غير مقصودة عبر أحد شبكات التواصل الاجتماعي. المحاماة من العلوم الاجتماعية، حيث يلتقي المحامي بأصناف مختلفة من طبقات المجتمع؛ مما يجعله مجُيداً لمهارات الاتصال، قادراً على تحليل السلوك البشري، وقراءة الأفكار، والموازنة بين الواقعية والمثالية، والتجرد من المبادئ والقناعات الشخصية غير المستندة على ثوابت وحقائق.

يقول المفكر الفرنسي فولتير: «كنت أتمنى أن أكون محاميًا؛ لأن المحاماة أجمل مهنة في العالم، فالمحامي يلجأ إليه الأغنياء والفقراء على السواء، ومن عملائه الأمراء والعظماء، يضحى بوقته وصحته وحتى بحياته في الدفاع عن متهم بريء أو ضعيف مهضوم الحق». من خلال التعامل مع الاستشارات والقضايا يكسب المحامي خبرة في مجالات تلك الأعمال، سواء كانت تجارية أو طبية أو سلوكية أو علمية أو وظيفية، مما يؤهله أن يكون دائرة معارف مختصرة، وهذا ما يجعل المجتمع يعتقد أنه موسوعة قانونية متنقلة، يسألونه في كل موضوع ويتوقعون إجابته عليها بدقة؛ مما يتوجب على المحامي أن يتقن مهارات خدمة العملاء، والتواصل الفعّال معهم، ومهارات استقطابهم والمحافظة عليهم. فالمحاماة ليست وظيفة، وإنما مهنة لها أعراف تجارية مقيدة بقيود تضمن عدم المساس بقدسية العدالة.

وبالمقابل فإنَّ ضريبة أن تكون محامياً أن تتحمل الضغوط التي تنعكس سلباً على صحتك التي تغدو كالطقس تقلباً، وتظهر عليها عوامل تعرية السنين مبكراً، وتعجل عليها بالمشيب من أهوال المهنة. فردهات المحاكم تحفظ وقع أقدامه، وأوراق مكتبه تقيس أنفاسه. يقول الفقيه الفرنسي جارسونيه «إنَّ المحامي يترافع في يوم واحد أمام محاكم متعددة في دعاوى مختلفة، ومنزله ليس مكانًا لراحته ولا بعاصم له من مضايقة عملائه، إذ يقصده كل من يريد أن يتخفف من أعباء مشاكله وهمومه، ولا يكاد ينتهي من مرافعة طويلة إلا ليعالج مذكرات أطول، فعمله معالجة مختلف المشاكل وتخفيف متاعب الآخرين». ومع ذلك يرى المحاماة متعة الألم، وألم المتعة، فنشوة النصر تُخفي مشاق مخاض العدالة، التي ولدت بصبره ومثابرته.

يرتبط المحامي بعلاقة وثيقة مع الزمن، فالخبرة التراكمية هي سجله المهني. فسجل الخبرة يقاس بقدر التجربة التي تصقله لا بمجرد مرور السنوات، فليس بلائق من المحامي المستجد أن يقتحم المسائل دون مشاورة من هم أكثر منه خبرة، أو يتصدر لمسائل توقف فيها الكبار. وتتميز ساعة المحامي بدقة الساعات العريقة فمواعيد القضايا ومدد الإجراءات، تتطلب ضبطاً والتزاماً ومهارة متقدمة في إدارة الوقت. إن الوقت هو رأس مال المحامي الذي يقتات منه، وقد يغري البعض بالاستفادة منه بلا مقابل أو عدم استشعار لما يعنيه له من قيمة ثمينة يسخر فيها مهاراته ومعلوماته لخدمة السائل، لذا فإن من الأساليب المهنية الاحترافية لاحتساب أتعاب الأعمال اعتماد ما يسمى بـــ «Billable Hours» بحيث يكون الأجر مقابل عدد ساعات العمل المبذولة، فكان ذلك هو مقياس الإنتاجية في الشركات القانونية الاحترافية، مما يضعهم تحت ضغوطات مستمرة لتحقيق مكاسب مالية لقاء استهلاك ساعات العمل. بالرغم من أن المحامي قد ترك أروقة الدراسة إلا أنَّه لا يزال تلميذاً مستمر التعليم، فالتعليم هو وقود الخبرة والمعرفة، لاسيما أن تكلفة عدم تحديث المعلومات هو الاستبعاد من المنافسة.

فالخطأ الذي استبعد شركة نوكيا عن المنافسة في سوق الهواتف المحمولة هو أن العالم تغير بسرعة ومنافسوهم كانوا أكثر تأقلماً منهم مع المتغيرات. فليس بالضرورة أن تفعل خطأً لتخسر المنافسة، بل إن الركون على المعلومات السابقة دون تحديثها كفيلٌ بإبعاد المحامي عن سوق المهنة. من غير العسير أن يصبح المرء محامياً، لكن من غير اليسير أن يكون محامياً جيداً، فخبرة المحامي ومهاراته تصقل تدريجاً من خلال مسيرته المهنية، قال القاضي البيسانيّ «إنِّي رأيتُ أنَّه لا يكتُبُ إنسانٌ كتابًا في يومِه؛ إلاَّ قالَ في غَدِهِ: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسنَ، ولو زِيدَ كذا لكان يُستَحسَنُ، ولو قُدِّمَ هذا لكان أفضلَ، ولو تُرِكَ هذا لكان أجملَ. هذا مِنْ أعظَمِ العِبَرِ، وهو دليلٌ علَى استيلاءِ النَّقصِ علَى جُملةِ البَشَرِ».

إعادة نشر بواسطة محاماة نت