ملاحظات هامة في جريمة إساءة الائتمان في قانون العقوبات

مقال حول: ملاحظات هامة في جريمة إساءة الائتمان في قانون العقوبات

جريمة إساءة الائتمان في قانون العقوبات السوري

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

أيها الحضور الكريم :
تحية الحق والعروبة :
نحاولُ اليوم من خلال هذا البحث أن نُسلط الضوء على موضوع يومي ، ومن أكثر المواضيع شيوعاً في قاعات المحاكم ، خاصة بعد أن أصبحت عقود الائتمان ـ ومنها سند الأمانة ـ أداةُ تسلطٍ يستخدمها القوي لإرغام الضعيف الانصياعَ لطلباته ، بدلاً من أن تلعب دوراً ائتمانياً باعتبارها أداةُ ائتمانٍ في المقام الأول تعزز

الثقة بين المتعاملين فيها .
وحيث أن للأمانةِ عند العرب شأنٌ كبيرٌ ، والإساءة إليها أعتداءٌ على قواعد الأخلاق ، وتعتبر جرماً مُعاقباً عليه في كثير من دول العالم والعربية منها على وجه الخصوص ، وإن اختلفت تسميته

.
وجريمة إساءة الائتمان كما قصدها المشرعُ السوري بالتعريف هي :
(( إقدام شخصٍ قصداً على كتمِ أو إتلافِ أو اختلاسِ أو تمزيقِ سندٍ يتضمن تعهداً أو إبراءً أو شيء منقول آخر سُلّم إليه بناءً على عقد من عقود الائتمان أو التصرف بهذا الشيء الذي يسلّم إليه من أجل القيام بعمل معيّن ، ويمتنع عن إعادة هذا الشيء جاحداً بذلك حق المالك الشرعي )) .

وإنه ومن خلال دراستي لهذا الجرم في رسالة المحاماة ، وأثناء ممارستي للمهنة توصلتُ إلى ملاحظاتٍ ونتائج كثيرة أذكر بعضها (اختصاراً ) :
النتيجة الأولى _ إن المشرعَ طالما قصد حماية عقود الائتمان والثقة التي هي – في الغالب- الدافع القوي للتعاقد مهما اختلفت أسباب التعاقد ، وطالما أن المشرع قد وضع قواعد أخرى لحماية ملكية المنقولات التي تكون محلاً لعقود مختلفة وردت في القانون المدني ، فإذا كان الفعل أو الاعتداء على ملكية المنقولات يشكل جرماً فإن القانون الجزائي كفيل به . لذلك فقد كان حريٌّ بالمشرع أن يكمل رغبته في حماية الثقة بالتعبير عنها بأن يضع النصوص المتعلقة بإساءة الائتمان في الباب الخامس الذي يحمل عنوان (الجرائم المخلة بالثقة العامة ). فالجرم _ وعلى وجه القصد المتوفر فيه _ يهدف إلى تغيير نوع الحيازة من ناقصة إلى كاملة للشيء المنقول موضوع عقد الائتمان ، أي أن المجرم سيدعي ملكية الشيء لنفسه ناكراً وجاحداً الثقة وحق المالك على ذلك الشيء . والحماية الجزائية التي منحها المشرع لعقود الائتمان تهدف في المقام الأول إلى صيانة الثقة المفترضة بين طرفي التعاقد ، تعزيزاً لرغبة التعاقد بين الأفراد .

النتيجة الثانية _ إن الشروط الواجب توافرها في موضوع الجرم هي أن يكون مالاً مادياً منقولاً وليس عقاراً مملوكاً لغير مسيء الائتمان جرى عليه تسليمٌ ناقلٌ للحيازة الناقصة ، بناءً على أحد عقود الائتمان وإن فعل التسليم هو جوهر عقد الائتمان وترتبط الجريمة به وجوداً وعدماً ، فإن لم يتحقق التسليم بإحدى صوره (المباشر والحكمي) فلا يمكن تصور وقوع الجرم ، وإن اشتراط المشرع لوقوع التسليم جاء متفقاً مع قواعد التجريم العامة ، فكيف يمكن معاقبة شخص بجرم إساءة ائتمان إن لم يكن مرتبطاً بعلاقة قانونية مع شخص آخر ، ولا يوجد تسليمٌ بينهما ؟؟

النتيجة الثالثة _ إن عقود الائتمان التي قصدها المشرع السوري هي : (الوديعة والوكالة والإجارة والعارية والرهن والمقاولة والنقل والخدمات المجانية) ولكن هل هذا التعداد جاء على سبيل الحصر ؟؟ أو على سبيل المثال ؟؟ . وهناك آراء كثيرة متضاربة حول ذلك ، وإني رأيت أن المشرع السوري لم يقصد في المادة 656 الجمع والمنع ، وإنما ترك حرية التفسير للقاضي مع اشتراط صفة الأمانة في العقد ، ولم يخص العقود على أن التسليم وجب بمقتضاها أو بناءً عليها ، وإنما استخدم عبارة “على وجه ” وعبارة “على سبيل”.

وإن عبارة “أو لإجراء عمل لقاء أجرة أو بدون أجرة” قد تشمل عقد العمل المأجور وعقد العمل غير المأجور ، إضافة لعقود المقاولة والنقل والخدمات المجانية ، وإن تكييف العقد واستظهار نية المتعاقدين للوصف الحقيقي للعقد يعود لقاضي الموضوع .

النتيجة الرابعة _ وكانت حول تجديد عقد الائتمان واستبداله : إن التجديد يختلف عن الاستبدال من حيث أن التجديد هو عقد جديد يختلف عن العقد القديم بالتاريخ فقط ، ويماثله بموجباته والالتزامات الناجمة عنه ، وهنا إذا كان العقد من عقود الائتمان فإن تجديده لا يمنع من وقوع الجرم ومعاقبة الفاعل لأن العقد الجديد من عقود الائتمان أيضاً .
أما الاستبدال فإنه يفترض حلول عقد جديد محل العقد القديم يختلف عنه بالالتزامات التي يرتبها وذلك يفترض حالات عدة لا يكترث بها المشرع ، وإن ما يهمه أن يكون عقد الائتمان ما يزال قائماً ، وذلك يجعل الفاعل تحت المساءلة القانونية .

النتيجة الخامسة _ إن القانون الجزائي لا يصبُّ جُلَّ اهتمامه على كل موجبات والتزامات عقد الائتمان ولكنهُ يعنى بوجوده ولو كان باطلاً، ، وكل ما في الأمر أن يقوم المؤتمن بالفعل الجرمي الذي يقع على موضوع الجرم ، الذي هو محل عقد الائتمان مع توفر القصد الجرمي المطلوب ، حتى يتدخل النص ويكون منطبقاً على الجريمة .
وإن إساءة الائتمان جرمها المشرع على أنها اعتداءٌ على حق ملكية المنقولات عن طريق خيانة الثقة المفترضة في التعاقد ، وإن الإخلال بأحد الالتزامات المتولدة عن عقد الائتمان لا يعتبر جرماً ، إلا إذا كان ذلك يهدف إلى تغيير نوع الحيازة ، من ناقصة إلى كاملة إضراراً بمالك الشيء المنقول .

النتيجة السادسة _ إن الآراء ومهما اختلفت حول وجود الركن الثالث أو عدم وجوده إلا أنها تجتمع على فكرة مفادها : أن الركن الشرعي أو القانوني _ إن وجد _ فهو نص التجريم ليس إلا ، وليس الصفة غير المشروعة للفعل ، ويمكن اعتباره كالفاعل بالنسبة للجريمة ، فعلى الرغم من أنه لا يدخل في التركيبة العضوية للجريمة إلا أنه يرتبط معها وجوداً وعدماً . وإنه من غير الممكن القول بوجود جريمة بدون نص ، استناداً للقاعدة القانونية “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني صريح ” ، والنص هو الذي يوضح العلاقة بين أركان الجرم العامة والخاصة بعد أن يخلقها وسط البنية القانونية للجريمة . إذا إن نص التجريم لا يمكن اعتباره ركناً ثالثاً للجرائم ، ومَثَلُ ذلك مَثَلُ الأسرة ، فهل يمكن القول بأن الأسرة تتألف من الأب والأم والأولاد وصك الزواج أو دفتر العائلة ؟

النتيجة السابعة _ تتحقق جريمة إساءة الائتمان بكل فعل يدل على أن المؤتمن قد قام بتغيير نوع حيازته واعتبر المال المؤتمن عليه مملوكاً له يتصرف فيه تصرف المالك بملكه ، وإن جوهر السلوك الجرمي يتمثل في إرادة الفاعل لتغيير نوع حيازته وإضافة المال المؤتمن عليه إلى ملكه الخاص بشكل فعلي ، ولا تتحقق بمجرد الإفصاح عن هذه الإرادة أو بالتعبير عنها ، لأن جرم إساءة الائتمان هو جرم مادي وليس تعبيري وإنه ومهما اختلفت صور الفعل الجرمي ، إلا أنها تتجه لتحقيق النتيجة الجريمة ، وقد حاول المشرع السوري حصر كل صور الفعل الجرمي ، فقد ذكرها على أنها (كتمٌ واختلاسٌ وإتلافٌ وتمزيقٌ ) في المادة 656 و(تصرفٌ بالمثليات) في المادة 657 ، وأضاف الفقهاء المصريون صورة أخرى وهي (التبديد) وجاءت في كثير من اجتهادات محكمة النقض السورية .

النتيجة الثامنة _ إن الإنذار المطلوب في المادة 657 هو أحد الشرطين المحققين للنتيجة الجرمية على الرغم من أنه يلعب دوراً هاماً في الإثبات ، فبوجوده مع (عدم الإبراء) تتحقق النتيجة وبالتالي يتحقق الركن المادي مع صورة الركن المعنوي المطلوبة في المادة 657 ، إما إن لم يكن الإنذار موجوداً فلا يمكن القول بوجود نتيجة جرمية وبالتالي ينتفي الركن المادي وتنتفي الجريمة .

وإن اشتراط الإنذار في المادة 657 قائمٌ على أساس أن الأمين لا يرمي إلى تملك الأمانة ، وإنما إلى تأخير تسليمها ، وإنه يمكن تعويضها بتقديم مثلها ، أما الأمين الذي يرغب في تملك المال إضراراً بصاحبه فلا يُشترط الإنذارُ لمعاقبته سواء كانت الأمانة من المثليات أو القيميات أو النقود ، وهذا حسب رأي محكمة النقض السورية .

النتيجة التاسعة _ إن جوهر الركن المعنوي في المادة 656 هو القصد الخاص ، ويتوفر بتوافر العلم والإرادة ونية التملك، أي متى انصرفت إرادة الفاعل إلى إضافة الشيء إلى ملكه أو إخراجه من حيازته إضراراً بمالكه ، أما إذا لم تتجه إرادة الفاعل إلى ذلك ، وإنما هلك الشيء نتيجة إهمال أو قلة احتراز فذلك ينفي الجريمة لعدم تشكل القصد ، ولأن مجرد الخطأ لا يكفي لاكتمال بنيان الجريمة .

أما في المادة 657 فقد اكتفى المشرع بالخطأ ليتحقق الركن المعنوي ، ولكن إذا توفر القصد فلا يغير من قواعد العقاب شيئاً ، لأن عناصر الخطأ تدخل في تكوين القصد ، ومن عناصر الخطأ المعتبرة في هذه المادة أن المؤتمنَ كان واجباً عليه توقع النتيجة ، ولم يتوقعها ، وامتنع عن إعادة الأمانة .

النتيجة العاشرة _ إن جريمة إساءة الائتمان هي جريمة واحدة تظهر في صورتين : الصورة الأولى رسمتها المادة 656 وهي القاعدة ، والصورة الثانية رسمتها المادة 657 وهي الاستثناء ، ومن البديهي أن يختلف الاستثناء عن القاعدة من أوجهٍ كثيرة ، ولكن مهما تعددت أوجه الاختلاف والتباين بين هاتين الصورتين، إلا أنهما تجتمعان على فكرة مفادها : أن إساءة الائتمان تفترض أمرين اثنين :

الأمر الأول = وجود عقد ائتمان محله شيء منقول مادي تعود ملكيته لغير المؤتمنَ ، جرى عليه تسليمٌ ناقلٌ للحيازة الناقصة ، (وإن فكرة الحيازة الناقصة هي الأساس الذي يُبنى عليه عقد الائتمان ، ومن خلالها يمكن التمييز بين عقد الائتمان وغيره من العقود ) .

الأمر الثاني = أن يأتي المؤتمَن فعلاً يهدف من خلاله إلى تحويل حيازته الناقصة على الشيء إلى حيازة كاملة والظهور عليه بمظهر المالك ، ضارباً عرض الحائط بالثقة المودعَة لديه من المؤتمَن ومتنكراً لحق المالك على شيئه .

وإن هدف المشرع من تجريم إساءة الائتمان كان يجب أن يكون احتراماً لقاعدة أخلاقية أصبحت عرفاً محترماً بين أفراد المجتمع تتمثل في حفظ الأمانة وإعادتها لمالكها ، لا أن يكون ترجمةً أو أخذاً عن نصٍ أجنبي إن ذلك أدى إلى اكتناف النص الغموض الذي أثار العديد من مشكلات التطبيق . لذا ؛ فقد آن الأوان لإيجاد النص البديل الذي لابد أن يمتاز بالدقة والوضوح والشمول بعيداً عن الأخذ أو الاعتماد على أي نصٍ أجنبي أو حتى عربي ، لأن الاستعانة بالمصطلحات العربية فيه شيء من مجانبة الصواب ، فجريمة إساءة الائتمان كما قصدها المشرع السوري تختلف عن جريمة خيانة الأمانة في مصر ، وجريمة خيانة الأمانة في الأردن وفي عمان وفي الكويت … إلخ ، إضافة إلى الاختلاف في قواعد الأصول .
هذه محاولة آمل أن أكون قد وفقت ، وإن أخطأت فحسبي أني حاولت ، والله من وراء القصد
{ وفوق كل ذي علم عليم }
إعداد المحامي ربيع فوازعزالدين
عضو الغرفة العربية للتوفيق والتحكيم
سورية – السويداء

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.