تدريب القضاة وتأهيلهم .. وقفات مراجعة
محمد بن سعود الجذلاني
تعرضت لبعض الملاحظات حول مسألة الدورات التدريبية التي تعقدها وزارة العدل وديوان المظالم للقضاة في خطوة من خطوات تطوير القضاء ورفع كفاءة القضاة. ورغم ما حرصت عليه من الموضوعية في ملاحظاتي وربطها بالواقع الذي يشهد عليه كل من يتعاملون مع المحاكم وديوان المظالم، إلا أن ذلك المقال حظي بانتقاد حاد عبر موقع الصحيفة الإلكتروني أو غيره, وكان ذلك الانتقاد عبر تعليقات تركت مناقشة ما تضمنه مقالي من أفكار وانشغلت باللمز لشخصي بعبارات يترفع عن قولها أو الرد عليها ذوو النفوس الكريمة, ما يدل على هوى شخصي في نفس كاتبها, لكني أحتسب عند الله ــ عز وجل ــ كل ما تعرضت له من أذى في سبيل الإصلاح والصدع بكلمة الحق وقول ما أدين الله به من نقد موضوعي يهدف أولاً وأخيراً إلى المساهمة في رفع مستوى القضاء في المملكة من واقع تخصصي أو اطلاعي على كثير مما يدور في ميدان القضاء من أحداث.

وها أنا اليوم أعود إلى الحديث عن الموضوع نفسه رغم أني لم أكن أنوي الرجوع إليه لاعتقادي أن رسالتي وصلت في المقال السابق فلا داعي للتكرار، إلا أن ما يشهده واقع تدريب القضاة وتأهيلهم من إثارة للجدل وما يكتنفه من ملاحظات متجددة تستدعي الوقوف أمامها طويلاً وتقديم ما لدي من رؤى حولها بحكم التخصص. وبداية لا يمكن أن يجادلني مدرك عاقل أن الركيزة الأولى واللبنة الأساسية في النهوض بأي مرفق من المرافق، وتطويره ورفع مستواه من حيث الأداء، أن ذلك يجب أن يرتكز في المقام الأول على العنصر البشري من العاملين في ذلك المرفق, عبر التركيز على رفع كفاءتهم وتأهيلهم والنهوض بأدائهم, إلا أن هذا التأهيل والتدريب والتطوير لا يمكن له أن يحقق النجاح المرجو منه، وأن يؤتي ثماره التي يريدها القائمون عليه إلا عن طريق إقناع الموظف المستهدف بالتدريب والتأهيل، وإطلاعه على أهداف هذا التدريب، وبرامجه المتبعة فيه بكل وضوح وشفافية، وبطريق حفز الهمم وبث روح الحماسة والتفاعل بين العاملين لحملهم على قبول فكرة التدريب والترحيب بها والتفاعل معها، لأنه ما من موظف يحظى بفرصة لتطوير ذاته وأدائه إلا ويرحب بها ويتفاعل معها عدا القليل النادر من متواضعي الهمة والطموح.

كما أن سوق الموظفين إلى التدريب والتأهيل بطريقة تعسفية تعتمد أسلوب الإكراه والتجهيل وتغييب الأهداف والخطط عن ناظرهم, أن ذلك, إن حقق انصياعاً شكلياً وبدنياً من الموظف فإنه لا يمكن أن يحقق قبولاً وارتياحاً وتفاعلاً ومشاركة منه مع برامج التدريب, وبالتالي فتكون هذه البرامج بالنسبة إليه، إما برامج ترفيهية أو سفرات سياحية أو غير ذلك، كما تكون بالنسبة للمال العام هدراً وضياعاً دون جدوى.

وإذا كانت هذه الجوانب مهمة لأي موظف يراد إلحاقه ببرامج تدريب وتأهيل، فكيف إذا كان المستهدف من التطوير والتدريب هم أصحاب الفضيلة القضاة؟! إن الواجب في هذه الحال يتعاظم والمسؤولية تكون أكبر بوجوب أن يراعى في تدريب القضاة وتأهيلهم جوانب كثيرة مهمة وحساسة, وأن من أولاها وأهمها أن يكون إلحاق القضاة بهذه البرامج بأسلوب الدعوة والترحيب وإطلاعهم على الأهداف المراد تحقيقها من وراء هذه البرامج وإشراكهم في التخطيط لها واستطلاع آرائهم في كل الجوانب المتعلقة بها مما له مساس بظروفهم، من حيث أماكن الدورات وأوقاتها ومواضيعها ونحو ذلك. وأن يكون ذلك بأسلوب المشاورة والمشاركة أو طرح القرارات للتصويت. وهذا الأمر ــ في نظري ــ ليس ترفاً ولا تفضلاً ومنّة من أحد, بل هو أبسط الحقوق لأصحاب الفضيلة القضاة على قياداتهم، وما يتناسب مع مكانتهم وفضلهم.

أما أن يساق القضاة إلى برامج التدريب والتطوير قسراً ويقحمون فيها إقحاماً دون نقاش أو مشاركة منهم في رسم مسارها ومدتها وتوقيتها ومواضيعها، ودون اهتمام بمدى قناعتهم بأهميتها وغاياتها، فذلك أمر يستحق المراجعة والوقوف عنده طويلا. إن تدريب القضاة وتأهيلهم إذا أريد به النهوض بمرفق القضاء وزيادة كفاءة العمل في المحاكم يجب أن يبنى على عدة أسس لها أهميتها البالغة التي إن تم تجاهلها فسيكون هذا التدريب مجرد عبء على ميزانية الأجهزة القضائية، ومن أبرز هذه الأسس ما يلي:

أولاً: كما أشرت إليه أن إشراك القضاة في رسم خطط التدريب والتأهيل والسعي إلى توضيح أهداف وغايات هذه الدورات لهم والحرص على إقناعهم بها حتى يأتوا إليها برغبة تامة وحرص على الاستفادة, وأن يكون ذلك وفق الأسلوب الأدبي الواجب الاتباع في التعامل مع أصحاب الفضيلة القضاة الذين يقوم احترامهم وتوقيرهم على أساس من أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية وما التزم به ولاة أمر هذه البلاد ـ وفقهم الله ـ منذ قيام الدولة.

وربما يكون من صور هذه المشاركة أن تتاح للقضاة عدة برامج تختلف في مواضيعها وأماكنها وتوقيتها بحيث يتم توزيعها على عدة مناطق وفي أوقات متفرقة من العام فيختار القاضي وفق استبانة توسع عليهم التوقيت المناسب لظروفه والمكان المناسب لرغبته والموضوع المناسب لما يعتقد أنه في حاجة إلى التدريب فيه, فالقاضي رجل بالغ عاقل رشيد يعرف مصلحة نفسه ويستطيع تحديد جوانب حاجته وضعفه من الناحية العلمية أو الإجرائية دون وصاية من أحد, ومع ذلك فبالإمكان أن تشارك الجهة المنظمة لبرامج التدريب في تقديم النصح والمشورة للقاضي في تحديد المواضيع الأنسب له، كما بالإمكان, وفي أضيق حدود, إلزام القاضي ببعض الموضوعات التي يرى مرجعه أن التدريب فيها لا يمكن تجاوزه لأهميته, لكن بعد ترك الحرية للقاضي في الاختيار بين الأماكن والأوقات المتاحة.

فإن من نافلة القول التأكيد على أن إجبار الفرد (موظفاً أو طالباً أو أي شيء) على حضور دروس أو دورات لا يؤمن بأهميتها ولم يكن له أدنى اختيار في حضورها، أن ذلك لا يمكن أن يحقق الغاية من عقد تلك الدورات والدروس. ولا بد من إدراك الفرق بين دورات تدريبية تعقد للقضاة وبين دورات التجنيد العسكري الإلزامي التي يلحق بها الشباب في بعض الدول! وإذا كان هذا أمراً مُسلَّما في التعامل مع الطالب المراهق مع استحقاقه للوصاية والمتابعة فكيف يكون الحال مع قاض يناط به أعظم المسؤوليات ويؤتمن على أكبر الأمانات؟! ثانياً: يجب أن تكون موضوعات التدريب والدورات التي تعقد للقضاة مرتكزة على الأهم فالمهم وأن تبتدئ بالجوانب الموضوعية أو الإجرائية ذات الصلة المباشرة بالاختصاصات القضائية، وسبق لي أن ذكرت على ذلك أمثلة ومنها:

1 – دورات تدريبية على صياغة الأحكام. 2 – وعلى إدارة الجلسات القضائية وإجراءات الدعوى. 3 – وعلى أحكام الإثبات في الشريعة والقانون. 4 – وفي الأنظمة القضائية المهمة كنظام المرافعات أو الإجراءات الجزائية. ونحو ذلك من موضوعات لها أهميتها وضرورتها القصوى مما يجب على القاضي إتقانها والإحاطة بها والقدرة على التعامل معها، ما يظهر أثرها جلياً في مستوى الأحكام القضائية.

ثالثاً: أنه ينبغي أن يراعى في عقد الدورات للقضاة أو حتى الموظفين الفوارق الشخصية بينهم من حيث العمر والمرتبة والتخصص وجوانب القصور أو الضعف التي تختلف من قاض إلى آخر.

رابعاً: كما أشرت إليه في مقال سابق فإن من أهم المهمات وأولى الأولويات مراعاة عدم تأثير حركة التدريب والتأهيل للقضاة فينجاز القضايا وسرعة الفصل فيها، وألا يحدث هذا التدريب خللاً ملحوظاً في ذلك الجانب المهم, بل يجب أن يكون عقد الدورات وفق برنامج يراعي بدقة هذه الناحية ويضمن عدم تأثرها.

خامساً: أن مما يلاحظ على حركة التدريب والتطوير القضائي القائمة في الجهات القضائية حالياً بعض الملاحظات التي يحسن تداركها والتنبه لها ومن ذلك:

1- غياب التنسيق بين الجهات القضائية في هذه الدورات بحيث تجد مثلاً لديوان المظالم خطته المستقلة تماما والبعيدة كل البعد عن خطط وزارة العدل في مواضيعها وجهات تنفيذها وأسلوبها مع أنه كان بالإمكان أن تستفيد كل جهة مما لدى الأخرى من تجارب وقناعات وتشكيل فريق عمل مشترك من الجهتين يتولى تقريب وجهات النظر في رسم خطط التدريب والتطوير – بغير إلزام للجهتين – وذلك حتى لا يكون لكل جهة خططها المفارقة بشكل كبير للجهة الأخرى مع تشابه الاحتياجات والمجالات القضائية، وأن كثيراً من مواضيع التدريب تناسب القضاة من الجهتين.

2– كذلك ألاحظ عدم وضوح الجهة المختصة بتدريب قضاة وزارة العدل, وهل هي الوزارة أم المجلس الأعلى للقضاء, فتجد كل جهة تعلن من جانبها قيامها بتنفيذ برامج تدريب للقضاة وعقد اتفاقيات وتفاهمات مع عدة قطاعات في تسابق بين الوزارة والمجلس, وفي حركة يبدو منه الارتباك في فهم الاختصاصات وتحديد الصلاحيات بينهما! ما يدعو أي متابع من ذوي الاختصاص إلى التساؤل حول الجهة المختصة أصلاً وفقاً لنظامها بتنفيذ هذه الدورات والتعاقد مع المراكز والجهات التي تتولى تقديم التدريب للقضاة في وزارة العدل؟ وفي اعتقادي أن وزارة العدل بصفتها الجهة المختصة بالشؤون المالية والإدارية للمرفق العدلي بجميع فروعه من محاكم وكتابات عدل أنها هي الجهة المعنية بتنفيذ مثل هذه الدورات، وربما يكون من المناسب أن يتولى المجلس الأعلى للقضاء تحديد ورسم مسار هذه البرامج والدورات التدريبية وتحديد مواضيعها ومجالاتها, بل تحديد العدد المستهدف تدريبه من القضاة لكل دورة على حدة، ثم يترك للوزارة أمر تنفيذ ذلك وتولي كل جوانبه المالية وترتيباته الإدارية.

وختاماً أسأل الله لنا جميعاً صلاح القول والعمل, وأن نسعد برؤية مرفق قضائي محقق لأعلى درجات العدل والإنصاف وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت