المكّون الأساسي الذي جُبل عليه الأنسان وتعرف على حقوقه من خلالها هو الموروث الأجتماعي الذي يضّم مجموع العادات ،العقائد، الطبائع البشرية، الموروث المعرفي، التأريخ القيم …الخ .

فكل هذا الموروث المتراكم يشكل بدوره المنبع الرئيسي للتشريع المدنّي الذي تكون الحقوق جزأًً مهماً منهُ. لكن تبقى حقوق الأنسان مبعثرة ومُوزعة في كل هذا الموروث مالم يخصص لهُ تشريع يؤطره.

منظومّة حقوق الأنسان حتى تتحقق كنموذج إجتماعي معترف بهِ ضمن قيّم المجتمع، تحتاج الى هيكلة قانونية ، يُؤسس لها عبر آليات ووسائل عمل دستورية وتشريعية لكي تجعلهُ عامل فاعل من قيّمنا في المجتمع العربي (تحديداً).

كما هومعروف إن منظومة الحقوق الشخصية والمدنية لها مرجعيات ذهنية ومعرفية ، ساعدت على سقلها وتثبيتها عبر تأريخ طويل. لو لم يكن في الدول المتقدمة هيكل قانوني ، ودستوري لحقوق الأنسان تأُسس عبر آليات قانونية وتشريعية . لما أصبحت بعد ذلك منظومة معترف بها كنموذج حضاري من قيم المجتمع.

النصوص الأولية التي ظهرت بها منظومة حقوق الأنسان ، جاءت أولاً على شكل إعلانات مثل، أعلان حقوق ولاية (فرجينيا) في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1776. ثم جاء إعلان استقلال الولات المتحدة في 4 تموز من عام 1776 .

بعد ذلك الإعلان الفرنسي لحقوق الأنسان في 26 آيار من عام 1789. الذي نّص بشكل لايقبل اللبس على إقرار وتأكيد حقوق الأنسان ( تجاهل الأنسان وإحتقار حقوقهِ هي الأساليب الوحيدة للمضّرات العمومية وإنحلال النّظم الحكومية).

وفي الفصل الثاني جاء( إن غاية كل مجتمع سياسي هي المحافظة على حقوق الأنسان الطبيعية التي لايأتي عليها التقادم)- موريس دي فرهاي- ( اعلان حقوق الأنسان والمواطن).

هل من الممكن لحقوق الإنسان أن تنهض وتتعافى في ظّل حكومات مستبِّدة؟

البعض من الباحثين في مجال حقوق الأنسان يقسمون دور نشأة الحقوق الى أجيال. جيل الحرّيات الفردية، ثم جيل الحق الأجتماعي، وثالث جيل حق التضامن الأجتماعي والأنساني الذي تّم فيه تكريس وتقوية العدالة الأجتماعية، وتعزيز مفهوم حقوق الأنسان فيه.

هذا لاينكر التّطور الذي صاحب تلك الأجيال بظرفيّه الذاتي وهو إستعداد الأنسان ذاته لتثبيت حقه عبر التضّحية التي واكبت دورة تلك الأجيال لتثبيت حقوقها وجعلها بالتالي ضمن القيّم المجتمّعية. والظرف الموضوعي الذي تمثلت فيه التّحولات العميقة المادية ، والثقافية، والأجتماعية والتشريعية في المجتمعات.

إشكالية حقوق الأنسان في عالمنا العربي معقدة ومتشابكة ،لدرجة يصعب حتى على المدقّق والمتخصّص فك تشعبات وتفرعات تلك الإشكاليات لكي يستطيع القيام برتق العطّب، وردم الهوة بين ماهو مُغيّب من كم الحقوق وما هو مهمل ومهمشْ وهو كثير. من ضّرورات البحث والدراسة العلميّة الجّادة هي أن نبدأ بطرح الأسئلة الأكثر أهمّية.

علنّا نهتدي من خلال الأجوبة الى حلول ربما تقودنا الى حّل جذّري لأشكاليات وعوائق تحقيق حرية وحقوق الأنسان العربي.

هل العقل العربي بكلا شقيّه الشعبي والنخّبوي جاهز بشكل لايقبل التردّد لهضم وإستيعاب آليات ومفاهيم حقوق الإنسان العصّرية. ومايترنب عليها من مواجهة وربما تصادم مع العتيق من المطلقات الموروثة من القيم، وبعض التقاليد التي أصبحت عديمة الجدوى؟

هل من الممكن لحقوق الإنسان أن تنهض وتتعافى في ظّل حكومات مستبِدة، أو راديكالية تنفي الغير، أو حكومات غير شرعية ( أي جاءت بلا إنتخاب أو بغفلة من غفلات الزمن على صفيح الدبابات)؟

هل من الممكن الترويّج والدفاع عن حقوق الأنسان ، والآخرين يعتبرونها بدعة غربية؟
هل العقل السياسي العربي بموروثاته الساكنة ، أو بعضها الذي يتّحرك خارج التأريخ ببطء، يمكن أن يُحدث إنقلاباً جذرّيا على ماهو ضّار من الجمود الذي لايمت لحركة التأريخ وديناميته بصلة؟

ظنّي إن إحترام وصيانة حقوق الأنسان لايمكن انجازها أو تحقيقها بدون اشكال وأطر قانونية ودستورية ، وهذه الأشكال والأطر لا تتم إلا بدولة القانون. وهل توجد لدينا دولة قانون حقيقية في عالمنا العربي ؟

بنظرة متفحّصة ومدققة نلقي الضوء على أدبّياتنا السياسية ومن مراحل التكوين(الإستقلالي) الأولى للأنظمة في عالمنا العربي. بداية الخمسينات من القرن الماضي بدأ تشكيل الكيانات السياسية للأنظمة العربية .

والتي جاءت عبر إنقلابات عسكرية.كان يقود بعضها التيار القومي (الجّلف)، وآخرى يقودها التيار اليساري المساوم، وثالثة يقودها الليبرالي التابع، ورابع الملكي المُسيّر. كل هذه التركة من الأنظمة السياسية وإن إختلفت توجهاتتها وأولوياتها ، لكنها كانت متآلفة ومتوحدة وربما متفقة في خروقات مواطنيّها، ورعاياها وكلها كانت تتجاهل حقوق الأنسان على أهميّتها ، وتقوم بتكريس الخروقات وتوغل بأهانة الأنسان العربي.

رغم المزايّدات الخطابّية التي كانت تمارسها النُخبْ المستفيدة والبطانات التي تسترّزق على موائد الأنظمة الحاكمة والمثقفين وأشباه المثقفين والمنتفعين اللذين كانوا يمارسون أقصى حّد لقدراتهم الخطابية الفجّة كأبواق مداهنة ومتزلفة ومنافقة لأولياء نِعمهم لقلب الحق باطلاً والعكس بالعكس، حتى يرضى عنهم أرباب نِعمهم.

إن هؤلاء الجموع يتّحملون الكثير من المسوؤلية عن تعثر عملية الأعتراف بحقوق الأنسان منذو ذلك الوقت. أعتقد اليوم علينا جميعاً تعريّة قصّورنا، وجلد ذواتنا لتجاوز هذا القصور الحاصل بتجاوزات حقوق الأنسان العربي الفرديّة والمدنيّة،حتى نتمكن من المساهمة ولو بعد أجيال من الآن لردم هوّة التجاوزات،وسدّ فجوة الخروقات لنحّمي الأجيال المقبلة من الأهانة والأستخفاف بها من قبل الأنظمة السياسية الحاكمة.

إكذوبة لم تصّمد طويلاً..

الحكومات العربية التي أقرت في 22 مارس عام 1945 ميثاق الجامعة العربية وبمباركة من بريطانيا العظمى وقتذاك لم يتنبه إطلاقاً أي عضو مؤسس من أعضاء الجامعة العربية السبعة ولا حتى بالأشارة لا من قريب ولا من بعيد لحقوق الأنسان العربي وكأنهُ رقم بلا قيّمة.

إن تجاهل ميثاق الجامعة العربية لحقوق الأنسان العربي ،والغياب الكامل للأي نصّ يؤكد حق وحرية الأنسان العربي ، إنما يدل على الاستخفاف بالانسان العربي .بالمقارنة البدهية هي إن بعض المنظمات الأقليمية والعالمية أفرغت منذو تأسيسها أبواباً خاصة لتأكيد الحقوق الشخصية والمدنية لمواطنيها .

وأكثر من ذلك بعضها أسهب في تفصيل تلك الحقوق ،ومنها اللأمم المتحدة التي أقرت بعد عام من تأسيس الجامعة العربية أي في شباط من عام 1946 أقرت الأعلان العالمي لحقوق الأنسان. بينما كانت تتذرع الحكومات العربية آنذاك بالحفاظ على أمنها، واستقرار كياناتها السياسية وتتذرع باعادة أولوياتها ،وإنها غارقة في ترتيب شئونها الداخلية.

ولاسيما مقارعة الأستعمار،وتثبيت السيادة (المنقوصة)،وبناء اقتصاد مستقل هي (اكذوبة) ساذجة أثبتها الزمن. ومن الأولويات الملحّة خسب زعمهّم هي بناء مؤسسات الدولة، وتصفية بقايّا الأستعمار المتمثل بالرتل الخامس.

والأكثر غرابةً ودهشة إن بعض الدول تدعي إنها أحدثت (ثورة). وهي أكذوبة لم تصمد طويلاً. بالحقيقة لم تحدث أي ثورة في العالم العربي ، كل الذي حدث هو سلسلة من الأنقلابات العسكرية ،أغلب قادتها كانو ظباطاً يخدمون بالجيش العثماني، والبعض منهم تدربّوا وتعلموا في المعاهد والمدارس البريطانية.

التي ساهمت بإنشاء الجامعة العربية على حدّ زعم الباحثين . لأن بريطانيا كانت تحتاج الى كيانات وأنظمة تخدم مصالحها في الشرق الأوسط ، وهذا ماقيّد آمال وطموحات الشعوب العربية بالسعي للوحدة. وهذا يعني من ناحية آخرى تكريس مزعوم (للسيادة المفترضة)لأعضاء دول الجامعة العربية واحترام استقلالها وهذا يعني بوضوح لايقبل اللبّس أرجحّية القطري على القومي.

بنظرة متفحصّة نستشعر جلياً إن بريطانيا حققت أهدافها بكلفة أقل ،وبوقت قصير بشرذمتها العرب الى دويلات ،وامارات فيما بعد،حيث كانت الدول العربية عند تأسيس الجامعة العربية سبعة دول، أما الآن أصبحت إثنان وعشرون دولة.وعليك أن تتخيل شعارات (الوحدة العربية)الموعودة.

والأكثر مافي الأمر من غرابة هي اشكالية قانونية صارخة في آليّات تطبيق القرارات الصادرة عن ميثاق الجامعة العربية((إن ما يقرّره المجلس بالأجماع يصبح ملزماً للجميع، وبالأكثرية يكون ملزماً لمن يقبل)).

وهذا مما اعتبره الباحثين القانونيين فشلاً فاضحاً في تأسيس الجامعة. وكانو محقين! حيث ترك هذا أثره المضّطرب فيما بعد على سير أعمال الجامعة ، وأدخلنا في دوامات راح فيها الكثير من الجهود . الأكثر حزناً إن الأمم المتحدة بعد أكثر من 20 سنة على تأسيسها.

حثت الجامعة العربية على تبنّي اقتراح بمبادرة منها لتشكيل لجنة دائمة لحقوق الأنسان عام 1968. بعد أكثر من 22سنة لاأحد من الحكام ولا مستشاريهم،أو أبواقهم تفتقت مخّيلته لتشكيل لجنة ولو شكلياً تنظر في تجاوزات حقوق الأنسان العربي ولو بشكل محدود لتضّفي جزء من الشرعية على وجودها.

الأكثر قرفاً ،إن أغلب دساتير الدول العربية أقّرت وإعترفت في بنودها وفقراتها القانونية،انها تحترم وتصون حقوق الأنسان الفردية والمدنية (لكن على الورق فقط) أما على الواقع فهي تخترق،وتصادر،وتحبس،وتنفي،وتعذب،وتعدم.

بنظرة سريعة نستعرض ماتنصّ مواد وفقرات بعض الدساتير للدول العربية التي أغلبها تُحكم بدساتير مؤقتة.

– الدستور المصري الصادر عام 1971 المادة 41 تنّص((الحرّية حق مكفول،وهي مصانة ولاتُمس)). المادة 34 تنص((تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية،وحرية الرأي مكفولة.ولكل انسان حق التعبير عن رأيه بالقول والكتابة)).

والكل يتذكر أغرب قانون ارتجله الرئيس المصري السابق أنور السادات وهو قانون (العيّب) الذي زُجّ بسببه مجاميع من النخب المصرية بالسجون عام 1978.

– الدستور السوري الصادر عام 1973 المادة 25 تنّص((الحريّة حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتّهم الشخصّية،وتحافظ على كرامتهم وأمنهم)). المادة 28 تنصّ((لايجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً أو معاملته معاملة مهينة)).وكلنا يعرف مايجري في السجون السورية لحّد هذه اللحظة.

-الدستور الأردني الصادر عام 1952 المدة 7 تنّص(( إن الحريّة الشخصية مصانة ولايجوز أن يوقف أحد أو يسجن إلا بقرار قضائي)) . عليك أن تقرأ تقرير منظمة العفو الدولية وتتبين من صّحة ومصداقية تلك المادة القانونية.

_ الدستور العراقي المؤقت الصادر عام 1970 المواد 19/20/21/22/ كلها تنّص(( ضمان حقوق الأنسان دون تفريق وتكافؤ الفرص للجميع، وحق الدفاع مقدس في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة)) المادة 21 تنص(( يحرم ممارسة التعذيب الجسدي والفكري والنفسي،ولايجوز القبض على أحد أو توقيفه أو حبسه)).

وكاتب هذه السطور أمضى مع الآلاف من أبناء وطنه مختفياً ولسنوات طويلة في السجون العراقية.كما شاهد أشخاص ماتوا تحت التعذيب . انها ترهات وتخريف تلك المواد التي نصّ عليها الدستو العراقي المؤقت . في العراق يُمارس التعذيب بشكل سافر والى أقصى درجاته أيام الطاغيّة المخلوع وحتى الآن على يّد قوات الأحتلال ,انا أعرف مئات الضّحايا!
وهكذا في معظم بل كل الدول العربية خروقات وإعتقالات تعسفية.

المواطن العربي تائه بين نصوص جميلة تؤكد وتعترف بحقوقه وحرياته، وبين واقع يختلف تماماً عن ذلك.إنهُ واقع مؤلم وملئ بالتجاوزات. في بلداننا العربية سلطة أنظمة فاسدة. تمارس النقيض مننصوص دساتيرها المكتوبة بخصوص حقوق الأنسان الفردية والمدنية. توجد هناك قاعدة قانونية تقول(إن الدولة عليها أن تضمن حقوق الأفراد من الخروقات المُحتملة من الدولة أولاً،ومن الجماعات ثانياً،ومن الأفراد ثالثاً).

لكن في عالمنا العربي الدولة تمارس سلطتها وبشكل مُنظم لمصادرة الحقوق الشخصية لمواطنيها،ولأأتفه الأسباب.منْ في عالمنا العربي يستطيع مقاضاة سلطة الدولة التي تصادر حقوقه؟ إن ذلك يحتاج الى استقلال قضائي وتشريعي.. هل لدينا ذلك؟

الجلاد أصبح أميناً عاماً!

يبقى ملاذنا الوحيد تلك الأصوات النبيلة ، والجمّعيات الأنسانية اللأحكومية، والتي تعمل بجّد ومثابرة للإزالة الحيّف ومنع مصادرة حقوق الأنسان العربي. ونحن نعمل معهم بنشاط وجديّة لحماية وصيانة حقوق المواطن العربي الفردية والمدنية وبالجهد المستطاع. وهنا أخصّ بالذكر المنظمة العربية لحقوق الأنسان التي تضم نخبة من المثقفين للدفاع عن حقوق الأنسان العربي.

ان هذه المنظمة واجهت وتواجه مشكلات لاحصّر لها .لاسيما في بداية عملها عندما عقدت مؤتمرها التأسيسي الأول في دولة (قبرص) عام 1983 بعد أن تعذّر عليها إيجاد مساحة على الأرض العربية تعقد مؤتمرها الأول. حاولت عام 1986 عقد مؤتمرها الثاني في (مصر) لكن الحكومة المصرية رفضت ذلك. فعقدته في الخرطوم (السودان).

لأسف الشديد البعض يعمل في بعض المنظمات أو الجمعيات الأجتماعية أو الحقوقية عليها شبهات ، وأحياناً فضائح مالية، وليس لهذه الجمعيات مصداقية . على سبيل المثال ( إتحاد مايسمى بالحقوقين العرب) . قرّر عقد مؤتمره عام 1984 في بغداد ليكون مقره الدائم في العراق.حضّر آنذاك ممثلون حقوقيون رسميون وغير رسميين من أكثر من 16 بلداً عربياً .

والغريب أنهم إنتخبوا ( جلاداً) أميناً عاماً لهم وهو مايسمى وزير (اللأعدل) العراقي آنذاك هو الجلاد شبيب المالكي الذي كتب وعدّل (قانون العقوبات العراقي) الذي ينّص من المادة156-247 على أكثر من ثلاثين مادة قانونية بالأعدام. وباستطاعة القارئ ان يرجع الى ذلك الكتاب. أنا أسأل هل هذا ؤزير عدل أم جلاد؟ :كيف هؤلاء الحقوقيين ينتخّبون هكذا جلاد أميناً عاماً؟ كيف لأتحاد مثل هذا يدافع عن حقوق الأنسان العربي، مع الأحترام الشدّيد للذين لديهم نوايا طيّبة ولا يعرفون جيداً أمينهم العام!

هذه ( الفانتازيا) تحدث فقط في ثقافتنا العربية . بحيث يكون الحاكم جلاداً،وعميل،ووطني،ومدافع عن حقوق الأنسان في الوقت نفسه.