نظرية التأمينات الاجتماعية في الشريعة الإسلامية

إعــــداد
دكتور/ أسامة السيد عبد السميع
كلية الشريعة والقانون
جامعة الأزهر – بدمنهور

فى الفترة من 12-14 أكتوبر 2002م

بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم وتقسيم :
إن الحمد لله . نحمده ونستعين به . ونصلي ونسلم على أشرف الخلق وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد ..

فإن للناظر في الشريعة الإسلامية يجد أنها شريعة صالحة لكل زمان ومكان، قال تعالى : ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ ( ) وذلك على العكس من الشرائع السماوية السابقة على الشريعة الإسلامية .

وقد يعتقد البعض أن التأمينات الاجتماعية والتي تحقق الاستقرار والأمن الاقتصادي ضد المخاطر الاجتماعية المستقبلية من مرض أو بطالة أو عجز أو شيخوخة أو وفاة .. الخ ، وبما وضع لها من تشريعات كثيرة – سواء للتأمين الاجتماعي أو للضمان الاجتماعي – ليس لها نظير في الشريعة الإسلامية نظراً لحداثتها، ولكن من ينظر في الشريعة الإسلامية وعلى الأخص مصدر القرآن الكريم والسنة النبوية يجد أنهما قد وضعا نظرية عامة ومتكاملة للتأمين الاجتماعي وأخرى للضمان الاجتماعي ، بما يغني نفى عن هذه الكثرة من الإصدارات التشريعية .

ومن ثم فإنني قد قسمت هذا البحث المتواضع إلى خمسة مباحث وخاتمة .

التمهيد : وذكرت فيه التأمين والضمان الاجتماعي وهل هما مترادفان أم متغايران ؟.
المبحث الأول : التشريع الأول التأمين الاجتماعي في التاريخ .
المبحث الثاني : النظرية العامة للتأمين الاجتماعي في الإسلام .
المبحث الثالث : نظرية الضمان الاجتماعي في الإسلام .
المبحث الرابع : الحكم الشرعي لنظام التأمين والضمان الاجتماعي .
المبحث الخامس : شمولية نظام التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي لغير المسلمين .
الخاتمة : وذكرت فيها أهم نتائج هذا البحث .

التمهيــد
مفهوم التأمين والضمان الاجتماعي
وهل هما مترادفان أم متغايران

أولا : مفهوم التأمين الاجتماعي :
قد يعتقد البعض أن كلمة التأمين الاجتماعي لفظ حديث ، ولكن من يطالع كتب الأقدمين يجد أن لها مدلول لغوي وآخر اصطلاحي .

التأمين لغة : من الأمان أو الأمن وهو ضد الخوف ، ومنه قولهم : وقد أمنه كسمع وأمّنه تأمينا وائتمنه واستأمنه قال تعالى: ﴿فليؤد الذي أؤتمن أمانته﴾ وقال أيضاً: ﴿وآمنهم من خوف﴾

ومنه أيضا : أمنته وآمننيه غيري وهو في أمن منه وأمنة .
واصطلاحا : وبما أن التأمين مشتق من الأمان أو الأمن فقد عرفه الإمام الجرجاني بقولـه: هو عدم توقع مكروه في الزمان الآتي .

أي التأمين من المخاطر الاجتماعية في الحياة المستقبلية .

وهذا التعريف بمعناه اللغوي أو الاصطلاحي هو بذاته نفس المفهوم الذي عرف به التأمين الاجتماعي في العصر الحديث ، وهو أن التأمين الاجتماعي هو : ” النظام أو الوسيلة التي تكفل وتضمن للشخص الدخل الناتج عن نشاطه الحرفي أو المهني ، بحيث يحل المعاش أو التعويض محل ما يفقده المؤمن عليه من أجر ” 

على أنه يمكن تعريف التأمين الاجتماعي : بأنه المعاش الذي يدخر للعامل نتيجة اقتطاع جزء من أجره أثناء عمله ليستعين به ضد المخاطر الاجتماعية المستقبلية من مرض وعجز وشيخوخة ونحو ذلك .

الغرض من نشأة نظام التأمين الاجتماعي :
وذلك لمواجهة خطر من المخاطر الاجتماعية المستقبلية كالعجز أو الشيخوخة أو المرض أو البطالة أو نحو ذلك .

قوام فكرة التأمين الاجتماعي :
وتقوم فكرة التأمين الاجتماعي في أي نظام على أساس مبدأ الادخار والاقتصاد من الدخل ، فكل شخص يجب أن يكون وسطاً في إنفاقه لدخله ، فلا يكون مسرفاً أو مبذراً ، ولا يكون أيضاً ممسكاً مقتراً ، فإذا كان الإنسان وسطاً في إنفاقه لدخله فمعنى ذلك أنه يدخر جزءً من دخله لكي يستعين به ضد المخاطر الاجتماعية المستقبلية من عجز أو شيخوخة أو إصابة عمل أو مرض أو بطالة .. إلخ .

ثانيا : مفهوم الضمان الاجتماعي :
الضمان لغة : من ضمن الشيء ضمانا وضمنا فهو ضامن وضمين أي كفله وضمن الرجل بالكسر زمن أي مرض ، ومنه الضمنة : بالضم المرض والمبتلي في جسده ، وهو بين الضمن والضمان والضمانة .

واصطلاحا : لا يكاد المعنى الاصطلاحي يختلف كثيرا عن المعنى اللغوي، ولذا فإنه يمكن تعريفه أنه كفالة شخص حسيا كان أو معنويا لشخص أو لأشخاص آخرين مستحقون لذلك من غير أن يقدموا شيئا وذلك لسد احتياجاتهم ، أو تقديم مساعدة لأشخاص مستحقون لذلك غير مستفيدين بأي من النظم التأمينية الاجتماعية المختلفة .

أقسام الضمان الاجتماعي :
لقد قسم البعض الضمان الاجتماعي إلى نوعين : الضمان الخاص : ومصدره توفير العمل للشخص لكي يستطيع منه الإنفاق على نفسه ومن يعول 00 الخ ، والضمان العام : وهو الذي تتولى أمره الحكومة الإسلامية لتنفذ معاني القرآن الكريم وأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين بجوهرهما الأصيل ليعيش الشعب آمنا من سلطان الجوع وغير ذلك.

ثالثاً : الرأي حول التأمين و الضمان الاجتماعي بمعنى واحد أم هما مختلفان ؟.
لقد اختلفت الاتجاهات حول هل التأمين الاجتماعي مرادف للضمان الاجتماعي ، أم هما مختلفان ؟
فيرى البعض أنهما مترادفان وبذلك أخذ قانون المملكة العربية السعودية الصادر بالمرسوم الملكي رقم 38 في 12/10/1377هـ ، وبه تم التصديق على نظام الضمان الاجتماعي ، ومن أهدافه :

هدف وقائي للقضاء على أسباب العوز أو الحاجة ، وهدف علاجي وذلك بصرف التأمين المستحق إذا كانت الأسرة أو الفرد مستفيدا من إحدى نظم التأمينات الاجتماعية .

بينما يرى البعض الآخر أن نظام التأمين والضمان الاجتماعي مختلفان ، فإذا اقتطع من العامل جزءً من أجره لكي يقدم له بعد ذلك في صورة معاش أو تعويض فهو نظام تامين اجتماعي ،

أما إذا كان الشخص غير خاضع لأي نظام تأمين اجتماعي ثم حصل على مساعدة من الدولة فهذا ما يسمى بالضمان الاجتماعي، وهذا هو ما أخذ به القانون المصري حيث أصدر قانونا للتأمين الاجتماعي وهو القانون رقم 79 لسنة 1975م، وآخر للضمان الاجتماعي رقم 30 لسنة 1977م( ) ، والرأي الثاني هو الأًوْلى حيث إن من مصادر التمويل للضمان الاجتماعي الزكاة وغيرها ، بينما الممول الحقيقي في نظام التأمين الاجتماعي هو ذلك الجزء المستقطع مسبقا من الأجر للحصول عليه في المستقبل .

المبحث الأول
التشريع الأول للتأمين الاجتماعي في التاريخ

إن من يمعن النظر ويدقق الفكر في الشريعة الإسلامية يجد أن فيها نظاماً متكاملاً للتأمين الاجتماعي وآخر للضمان الاجتماعي ، بما يجعلنا لسنا في حاجة إلى هذه الكثرة من تشريعات التأمين والضمان الاجتماعي .

وسوف نوضح ذلك فيما يلي بعد أن نذكر أول تشريع للتأمين الاجتماعي في التاريخ :
قد يعتقد البعض بأن التأمين الاجتماعي الذي سن له المشرع قوانين وأوامر ولوائح ، والتي يرجع أول اصدار له إلى عام 1854م أي منذ مائة وخمس وخمسين عاماً تقريباً ، بأن ذلك يعني أن المشرع الوضعي قد اهتم اهتماماً بالغاً في كفالة الأمن الاجتماعي للإنسان ، ولكن من يوطد الفكر ويثقب النظر في آيات القرآن الكريم يجد أن التأمين الاجتماعي قد وجد منذ آلاف السنين ،

وأن أول تشريع للتأمين الاجتماعي في التاريخ لتحقيق الاستقرار والأمن الاقتصادي والزراعي والقومي للبلاد قد وجد في عهد سيدنا يوسف عليه السلام ، وذلك حينما طلبوا من سيدنا يوسف عليه السلام تأويل الرؤيا التي رآها ملك مصر ووقائعها هي ﴿يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون﴾.

فوقائع هذه الرؤيا واضحة المعالم سبع بقرات سمينة يأكلهن سبع هزال ، وسبع سنبلات خضر يأكلهن سبع يابسات .

فأوّلها سيدنا يوسف عليه السلام بقوله: ﴿قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون﴾.

فقد أمرهم الصديق يوسف عليه السلام بأن يزرعوا سبع سنين متواصلة ومتوالية، ولكن عند الحصاد يتركوا هذا الحب في سنبله لئلا يفسد ويدخل فيه السوس إلا مقدار ما يحتاجون إليه وبقدر الحاجة .

فهو تأمين اجتماعي في صورته الزراعية وادخار لما يزيد عن قدر الحاجة لكي ينفع في أيام وسنين أخر تكون الحياة فيها مجدبة والأرض لا تنبت زرعا ، حيث أراد بسبع بقرات سمان والسنبلات الخضر هي السبع سنين المخصبة ، وأما البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فهي السبع سنين المجدبات ، ثم أعلمهم بفائدة الادخار ومنه عنصر الأمان الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي ، قال تعالى: ﴿ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون﴾،

أي يأتي بعد السنين السبع المخصبة سبع شداد وهي السنين المجدبات لكي يأكلن ويستهلكن ما ادخرتم لأجلهن ، والمراد بقوله: ﴿إلا قليلا مما تحصنون﴾ أي مما تحبسون لتزرعوا ، لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات .

بل ويضيف سيدنا يوسف عليه السلام رؤية مستقبلية جديدة وهي أنه بعد السنين السبع المجدبة ، سوف يأتي بعد ذلك علم فيه يمطر الناس ويمارسون حياتهم اليومية بعصر المنتجات التي تستخرج من الأرض كالعنب والسمسم والزيتون 00 الخ ، قال تعالى: ﴿ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون﴾.

وما ذكر في سورة يوسف يعد دلالة حقيقية على التأمين الاجتماعي ، وإن كان بصورة جماعية ، إلا أنه في حقيقة الأمر ما هي إلا جهود أفراد بتعاون جماعي كامل لكي يصلوا إلى هذه النتيجة ، ولكي يصلح بذلك حال المجتمع .

يقول الإمام القرطبي معبراً عن نظرية العمل والجهد ثم إدخار جزء من هذا الجهد والعمل لكي ينفع في أيام أخر وهي نظرية التأمين الاجتماعي ” هذه الآية أصل في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال ، فكل ما تضمن تحصيل شيء من هذه الأمور فهو مصلحة ، وكل ما يفوت شيئا منها فهو مفسدة ، ودفعه مصلحة ، ولا خلاف أن مقصود الشرائع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى وعبادته الموصلتين إلى السعادة الأخروية ، ومراعاة ذلك فضل من الله عز وجل ورحمة رحم بها عباده من غير وجوب عليه ولا استحقاق ” .

المبحث الثاني
نظرية التأمين الاجتماعي في الإسلام

فإذا ما انتقلنا إلى نظام التأمين الاجتماعي في ظل الإسلام ، فنجده علاوة على أنه أكثر وضوحا وشمولا فهو قديم قدم القرآن منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ويزيد ، وذلك على العكس من حداثة نظام التأمين الاجتماعي في الوقت المعاصر حيث لم يقنن له قانون إلا منذ عام 1854م فقط ، ومن ثم فإن التأمين الاجتماعي في ظل الإسلام نظرية عامة ، والتي قد رسم لها خطوطها العريضة وعناصرها الأساسية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تاركين التفصيلات لكل بيئة حسب ما يناسبها في كل عصر وزمان .
فعنصر الادخار وهو اقتطاع جزء من الدخل وبه يتحقق الأمن والأمان الاجتماعي ضد المخاطر الاجتماعية وهي فكرة التأمين الاجتماعي والتي قد سبق ذكرها إجمالاً في التمهيد ، كل هذه العناصر قد أشار إليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة .

أولاً : من القرآن الكريم :
1 – قوله تعالى : ﴿وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين﴾( ).
2 – وقوله تعالى: ﴿وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، وكان الشيطان لربه كفورا﴾( ) .
3 – وقوله تعالى: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾ .
4 – وقال تعالى في صفات عباد الرحمن :
﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما﴾( ) .

وجه الدلالة من هذه الآيات :
فهذه الآيات الأربع تدل في مجموعها وتوضح على أن الإنسان لابد أن يكون وسطاً في تناوله للطعام والشراب ، وسطاً في انفاقه ، فلا يبخل أو يمسك ويعيش عيش البخلاء ، وكذلك أيضا لا يسرف أو يبذر بل إنه لابد أن يدخر جزءً من دخله – سواء كان نقدياً أو عينياً – لكي يستعين به ويستعمله في وقت آخر ، ومن ثم فإن هذا المطلب من الحق تبارك وتعالى ليس فيه إلا المصلحة له ، حيث إن في الإنفاق الوسط إدخار لجزء من دخله ،

لكي يستعين به على نوائب الدهر من مرض أو شيخوخة أو عجز الخ وهذا هو التأمين الاجتماعي بعينه.

ومن ثم فقد وصف القرآن الشخص الذي يكون الإسراف أو التبذير سمته بأنه قرين الشيطان وأخ له قال تعالى: ﴿إن المبذرين كانوا أخوان الشياطين﴾.

ولكن ما هو معيار الإنفاق للقول بالتبذير ؟
هذا هو ما سوف نبينه حالاً :

معيار الإنفاق لاعتبار الشخص مبذراً :
والتبذير هو : إنفاق المال في غير حق قاله الشافعي ، ولا تبذير في عمل الخير وهذا هو قول الجمهور ، وقال أشهب : التبذير هو : أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه ، وهو الإسراف ، فكأن الجمهور ومنهم الشافعي قد قاسوا معيار الإنفاق لاعتبار الشخص مبذراً ليس بحجم أو مقدار الإنفاق ، وإنما هو في نوع الإنفاق ، فإذا أنفق في الخير فلا يعتبر تبذيراً حتى ولو كان كثيراً ، بينما إذا أنفق درهماً في الشر ، أو في غير موضعه ، فإنه يعتبر مبذراً .
وقد ذكر الإمام القرطبي بأن من أنفق ماله في الشهوات زائداً على قدر الحاجات وعرضه بذلك للنفاد فهو مبذر ، ومن أنفق ربح ماله في شهواته وحفظ الأصل أو الرقبة فليس بمبذر ، ومن أنفق درهماً في حرام فهو مبذر ، ويحجر عليه في نفقته للدرهم الحرام ، ولا يحجر عليه إن بذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد .

وهذا ما يدعونا إلى ذكر رأي فقهاء الشريعة الإسلامية بخصوص الحجر على مبذري المال .

جواز الحجر بسبب التبذير :
لقد ذكر الفقهاء بأن من أسباب الحجر( ) التبذير في المال ، يقول الإمام الدردير “وسبب الحجر سبعة ومنها: فلس وجنون وصبا أي صغر سن وتبذير المال ومرض بموت…”.

وحيث اعتبر الحق تبارك وتعالى المبذر أخ للشيطان كما سبق ، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يتوعد المبذر أيضاً بالفقر فيقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه طلحة بن عبيد الله : ” من اقتصد أغناه الله ، ومن بذر أفقره الله ” .

وفي المقابل لذلك يمدح الحق تبارك وتعالى عباد الرحمن ويثني عليهم بأنهم وسط في إنفاقهم فهم غير مسرفين أو مبذرين ولا بخلاء ممسكين قال تعالى ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما﴾ .
ولذلك يحثنا صلى الله عليه وسلم على الادخار في الأموال العينية والنقدية فيقول فيا رواه عنه أبو سعيد الخدري : ” كلوا وأطعموا واحسبوا وادخروا ”
ولذلك نجد الأمر بالتوسط في الإنفاق كما ورد في قوله تعالى : ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾.

ومن الجدير بالإشارة أن آية سورة الأعراف ﴿وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين﴾ فكما أن الإسراف في الطعام والشراب فيه مضرة بدنية وحكمة طبية ، ففي هذه الآية أيضاً دلالة على التأمين الاجتماعي والادخار الاقتصادي ، حيث إن الإنسان عليه ألا يسرف لا في طعام ولا في شراب ولا غيره، بل عليه أن يدخر جزءً منه يستعين به في غده من نوائب الزمن وهذا هو التأمين الاجتماعي كما سبق .

وظيفة الأمان الاجتماعي ضد المخاطر الاجتماعية :
وطالما أن الإنسان قام بادخار جزء من دخله لكي ينفقه بعد ذلك ويستعين به على نوائب الدهر من فقر أو عجز أو شيخوخة 00 الخ فهو من ثم يشعر بالأمان الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي والذي حكاه القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً من الزمان بتفضله بذلك على أهل مكة وهم قريش حينما قال: ﴿لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف﴾ .

وهذا الأمان لا شك يقي الإنسان من المخاطر الاجتماعية أيا كان نوعها قال تعالى : ﴿وآمنهم من خوف﴾، سواء كان هذا الخوف مرض أو بطالة أو فقر أو عجز أو شيخوخة .. الخ ولذلك عبّر القرآن الكريم عن تعرض الإنسان لهذه المخاطر الاجتماعية بسبب إسرافه وعدم ادخار جزء من دخله بالندم والحسرة فقال: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾.

فكأن الإنسان إذا انفق كل ما يملكه ولم يدخر شيئا فإنه سوف يجيء بعد ذلك نادما بسبب تعرضه لأي نوع من أنواع المخاطر الاجتماعية ولم يجد ما يعوضه عن ذلك ، ولذا نجد الحسرة مقرونة أكثر بإنفاق الإنسان لكل دخله .
ومن الجدير بالتنويه أن مبدأ الاستقرار الاقتصادي والأمان الاجتماعي والتي نادت به الدراسات الحديثة وقننت له التشريعات التأمينية منذ وقت قريب نادى به القرآن الكريم وردده كما سبق – في حق أهل مكة منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ونيف من السنين .

ثانياً : من السنة النبوية الشريفة :
وكما قرر القرآن الكريم نظام التأمين الاجتماعي كما سبق ، نجد أيضا أن السنة النبوية قد قررت ذلك أيضا ، وذلك حينما حثت الإنسان بأن يدخر جزء من دخله لمواجهة الشدائد والصعوبات في المستقبل .

1- يقول النبي : فيما رواه عنه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ” اغتنم خمساً قبل خمس شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل مماتك ” .

وجــه الدلالـــة :
فهذا الحديث قد جمع عدة مخاطر اجتماعية وهي المرض والشيخوخة والفقر والوفاة ، وحث على الأخذ بنظام التأمين الاجتماعي في وقته ضد هذه المخاطر الاجتماعية مستقبلا ،

وذلك لكي يستعين الإنسان بهذا التأمين على الحياة المستقبلية ونوائب الدهر ، فأمره أن يدخر جزءً من دخله وهو غني لكي يستعين به في حالة حدوث فقر أو احتياجه إليه مستقبلا ، وطالبه أيضا بأن يحافظ على صحته وألا يرهقها بتناوله للمحرمات والمنكرات والمسكرات عامة لأن ذلك يجعله عرضة للمرض ولا يستطيع أن يقاومه ، وأمره ألا يجور على شبابه بارتكاب المحرمات لأنه لا يدوم وحتى يواجه خطر الشيخوخة في حالة الكبر ، كما طالبه أيضا بأن يعمل في الحياة وأن يكد فيها ويجتهد ليس لمجرد ارتفاع شأن الإنسان في الدنيا ، بل عليه أن يعمل البر والخير والعمل الصالح من اجل انتقال الإنسان إلى الرفيق الأعلى ،

فإنه بعد الموت لا ينفع الإنسان لا مال ولا بنون ، وإنما الذي ينفعه هو العمل الصالح قال تعالى: ﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم﴾( ) ومن ثم فإن هذا الحديث قد اشتمل على التأمين الاجتماعي المادي الذي ينفع الإنسان في الحياة المستقبلية والاستعانة به على نوائب لدهر ، كما اشتمل – إن صح التعبير – على التأمين المعنوي للدار الآخرة وهو القيام بالأعمال الصالحة .

2- وعن عائشة رضي الله عنها قالـت : قـال رسـول الله : ” رحم الله امرئ اكتسب طيباً وأنفق قصداً وقدم فضلاً ليوم حاجته “( ) .

وجه الدلالة :
فقد دل هذا الحديث على ترغيب الإنسان من أجل رحمة الله له إذا فعل ثلاثة أشياء :
• إذا كان مصدر عمله وكسبه من حلال طيب .
• إذا كان وسطاً في إنفاقه ولم يكن مسرفاً أو مبذراً بل كان قصداً في إنفاقه .
• إذا ادخر شيئاً سواء كان نقدياً أو عينياً لكي يستعين به في يوم حاجة كمرض أو عجز أو عدم وجود عمل … إلخ .

وهذا مما لا شك فيه يقيني من ذل السؤال للغير ، وهذا هو التأمين الاجتماعي ، حيث يعتمد على ادخار جزء من دخل الإنسان للاستعانة به مستقبلاً من المخاطر الاجتماعية .

ولذلك يقول أحد المحدثين( ) مؤيداً ذلك : ” إن الفلسفة الرشيدة لسياسة الإسلام المتوازنة في المال تقوم على تشجيع الاقتصاد في الانفاق وعلى الادخار ، فالادخار فوق أنه يعين صاحبه على نازلات الدهر ، ويوفر له طمأنينة من مفاجآت الأيام .. ويجنبه ذلّ الحاجة والسؤال .. ويقيه أيضاً من الانحراف وسقوط الهمة ، فوق ذلك فإنه ضروري للاستثمار الذي به يرتفع شأن الفرد والأسرة والجماعة الإسلامية بأسرها ، فلا سبيل أمام الفرد والأمة للاستثمار والتنمية التي تحتاج إلى رأس مال وافر إلا بالاعتدال في الانفاق الذي يهيئ ادخار الأموال اللازمة لذلك “.

3- وكما حثتنا السنة النبوية على الادخار والتأمين للمستقبل بعدم التبذير في المال ، نهتنا من باب أولى عن ضياع المال في غير مصلحة أو إنفاقه في مفسدة ، فعن المغيرة بن شعبة  أن رسول الله  قال : ” إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ( ) ، ووأد البنات ( ) ، ومنعا وهات ( ) ، وكره لكم قيل وقال ( ) ، وكثرة السؤال وإضاعة المال ” متفق عليه ( ).

وجــه الــدلالــة :
فقد دل هذا الحديث على النهي سواء بالتحريم أو الكراهة عن أشياء كما هي موضحة في الحديث نخص بالذكر منها إضاعة المال ، ومن ثم نجد الإمام الصنعاني يعلق على النهي عن إضاعة المال فيقول : ( والمتبادر من الإضاعة ما لم يكن لغرض ديني أو دنيوي ، وقيل هو الإسراف في الإنفاق ، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام ، ورجح المصنف أنه ما أنفق في غير وجوهه المأذون فيها شرعاً سواء كانت دينية أو دنيوية ، لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد( ) وفي التبذير تفويت تلك المصالح إما في حق صاحب المال أو في حق غيره،

قال : والحاصل أن في كثرة الإنفاق ثلاثة وجوه : الأول الإنفاق في الوجوه المذمومة شرعاً ولا شك في تحريمه . الثاني : الإنفاق في الوجوه المحمودة شرعاً ، ولا شك في كونه مطلوباً ما لم يفوت حقاً آخر أهمّ من ذلك المنفق فيه . والثالث : الإنفاق في المباحات وهو منسم إلى قسمين : أحدهما أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله ، فهذا ليس بإضاعة ولا إسراف . وثانيهما : أن يكون فيما لا يليق به عرفاً ، فإن كان ذات مفسدة إما حاضرة أو متوقعة فليس ذلك بإسراف ، وإن لم يكن كذلك فالجمهور على أنه إسراف ) ( ) .

بل ويذكر الفقهاء من شدة الحرمة في إضاعة المال ، أنه يحرم استيعاب جميع المال حتى ولو كان ذلك بالصدقة قاله الباجي من المالكية ، وقيل يكره كثرة الإنفاق في مصالح الدنيا ( ).

المبحث الثالث
نظرية الضمان الاجتماعي في الإسلام

والناظر في الشريعة الإسلامية يجد أنها قد قامت بعمل نظرية متكاملة عن الضمان الاجتماعي ، وهو النوع الآخر من التأمين الاجتماعي – إن جاز التعبير – وعلى الرغم من أن هذا النوع لم يتقرر له قانون إلا منذ عام 1950م بالقانون رقم (116)  أي منذ نصف قرن تقريبا نجد أن الشريعة الإسلامية تهتم بهذا النوع وتقرر له حقوقا منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ونيف من السنين .

والضمان الاجتماعي في الإسلام يقوم أساسا على مبدأ التكامل والتعاون ذلكم المبدأ الذي يجد صداه في القرآن الكريم والسنة النبوية :
فمن القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الثم والعدوان﴾ .

ومن السنة النبوية : ما رواه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة  عن النبي  قال : ” من نفس عن مؤمن كربة  من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه 00 “.

ولم تكتف الشريعة الإسلامية بذلك ، بل إنها أوجبت هذا الضمان الاجتماعي في بيت مال المسلمين لمن كان في حاجة إليه ويكفينا أن نذكر في هذا المقام حديث النبي  فيما رواه عنه عبد الله بن عمر – رضى الله عنهما – قال : سمعت رسول الله  يقول : ” كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، الإمام راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ، كلكم راع ومسئول عن رعيته ” متفق عليه  .

كما نذكر أيضا قول الفاروق عمر بن الخطاب  حينما قال مؤكدا ذلك ، فعن مالك بن أوس قال : كان عمر يحلف على أيمان ثلاث يقول : والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدا مملوكا ولكنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسمنا من رسول الله  ، فالرجل وبلاؤه في الإسلام ، والرجل وقدمه في الإسلام ، والرجل وغناؤه في الإسلام ، والرجل وحاجته في الإسلام ، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه .

ومن ثم فإن الشريعة الإسلامية قد اهتمت بالضمان الاجتماعي وقررت له عـدة عوامل مساعدة من أجل إقامته وتعميمه بين أبنـاء المجتمـع الـواحد والتي يضيق المقام بذكرهـا جميعا ، منها وأهمها : الزكاة والتي فيها سهـم للفقراء

وآخر للمساكين أيا كان سبب الفقر ومصدره بخلاف المصادر الأخرى قال تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ومن الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم﴾، وقال أيضا: ﴿والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾ إلى غير ذلك من الآيات التي أوجبت في مجموعها قدرا معلوما سمى بالزكاة ، إذا بلغ المال نصابا معينا حسب التفصيل الوارد في كتب الفقه الإسلامي .

علما بأنه لو تم تنفيذ الزكاة بين أبناء المجتمع وطبقت تطبيقا صحيحا ما وجدنا في المجتمع فقير ولا مسكين، حيث إنه من الممكن أن تجمع أموال الزكاة في مكان موحد له أفرع في كل المحافظات ، أو يتم تجميعها لدى هيئة عامة كوزارة التأمينات أو لدى بنك ناصر الاجتماعي ، ثم يؤخذ من هذا المال جزء منه في صورة راتب شهري لهؤلاء المحتاجين .

ومن ثم نحب أن نشير في النهاية إلى ما ورد في قانون التأمين الاجتماعي الحالي يجد له ما يؤيده في الشريعة مع سبق الشريعة في ذلك ، حيث إنها وبحق نظام قانوني شامل ، ولذا أستعير عبارة المستشرق الإنجليزي ” نوبل كولسون ” في حق الشريعة الإسلامية حينما قال ( إن هناك شيئا اسمه النظام القانوني الإسلامي ، وأنه نظام حي متفاعل يجب على المسلمين أن يعيدوا بناء أنظمتهم القانونية العصرية على أساسه

وأن هناك نظاما مستمدا من أحكام القرآن الكريم مثبوت في كتب الفقه الفرعية والأصولية يجب على المسلمين أن يعتنوا بدراسته وأن هذه الشريعة حية متجددة وليست كالقانون الروماني نظاما عريقا أقل نجمه وانتهى عصره ) .

أما من حيث الإجراءات أو الشروط فإننا لا نجد غضاضة في الأخذ والتطبيق بما ورد في القانون الحالي للتأمين الاجتماعي رقم 79 لسنة 1975م ، حيث إن من سمات الشريعة الإسلامية أنها تأتي بالمعطيات أو المجملات( ) تاركة التفصيلات لكل بيئة حسب كل زمان ومكان .

أما قانون الضمان الاجتماعي فإن البديل له هو تطبيق الزكاة تطبيقا صحيحا والتي يتم توجيه هذه الأموال إلى المصارف الثمانية الواردة في آية سورة التوبة سالفة الذكر ومنها الفقراء والمساكين أيا كان نوعهم وعددهم ، والعمل على زيادة موارد الدولة الإسلامية ، كل هذا كفيل لسد حاجات المحتاجين أيا كان نوعهم وعددهم ، وحينئذ لا نكون في حاجة إلى قانون للضمان الاجتماعي إلا أن يقنن قانونا يساير اتجاه .

ومن الجدير بالإشارة أنه ينبغي أن يكون معاش الضمان الاجتماعي مناسباً لحالة ارتفاع الأسعار التي نواجهها كل يوم ، وفي هذا دعوة لأولى الأمر على تنفيذ ذلك ، وهو ما يمكن تسميته بحد الكفاية من مطعم ومشرب وملبس .. إلخ ( ).

المبحث الرابع
الحكم الشرعي لنظام التأمين والضمان الاجتماعي

إن المتأمل في نظم التأمينات الاجتماعية يجد أنها تقوم على اقتطاع جزء من أجر العامل وادخاره له ، لكي يحصل عليه مستقبلا لمواجهة خطر من المخاطر الاجتماعية كالعجز والشيخوخة أو الوفاة أو المرض ونحو ذلك ، والتي لابد أن يصاب الشخص بإحداها على الأقل .

ومن ثم فهي تقوم على الادخار ، وحيث إن الادخار أمر مطالب به شرعا حيث يقوم على الاقتصاد في النفقة بأن يكون وسطا في ذلك فلا يكون مسرفا أو ممسكا قال تعالى في حق عباد الرحمن: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوما﴾.

وقال صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه السيدة عائشة رضي الله عنها : ” رحم الله امرئ اكتسب طيباً وأنفق قصداً وقدم فضلاً ليوم حاجته ” .
ومن ثم فإن نظم التأمينات الاجتماعية المعمول بها حاليا لاشك أنها جائزة .
أما عن نظام الضمان الاجتماعي فإننا إذا اعتبرناه مرادف لنظام التأمين الاجتماعي كما ذهب البعض فإنه يأخذ حكم نظام التأمين الاجتماعي وهو جائز كما سبق.

وإذا اعتبرناه بأنه مغاير لنظام التأمين الاجتماعي فإن من يقوم بتنفيذ هذا النظام سواء كان فرداً أم دولة أو هيئة عامة أو وزارة .. الخ له الثواب من الله عز وجل ، حيث إنه يقدم معونة مالية أو عينية لشخص مستحق لذلك ، وصدق رسول الله  حينما قال فيما رواه عنه أبو هريرة: ﴿والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه﴾ ، ومن ثم فإن التعامل أيضا بنظام الضمان الاجتماعي جائز هو الآخر .
وها نحن ننقل للقارئ الكريم القرار الذي صدر عن المؤتمر الثاني المنعقد في الأزهر الشريف سنة 1385هـ – مايو سنة 1965م بخصوص هذا الموضوع وكان قراره ما يلي :

أ – التأمين التعاوني الذي تقوم به جمعيات تعاونية يشترك فيها جميع المستأمنين لتؤدي لأعضائها ما يحتاجون إليه من معونات وخدمات أمر مشروع وهو من باب التعاون على البر .

ب – نظام المعاش الحكومي وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المتبع في بعض الدول ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع كذلك في بعض الدول كل هذا جائز .

المبحث الخامس
شمولية نظام التأمين والضمان الاجتماعي لغير المسلمين

ومن الجدير بالتنويه إلى أن نظام التأمين والضمان الاجتماعي غير قاصر على من ينتمون للإسلام فقط بل يمتد إلى غير المسلمين الذين يعيشون جنبا إلى جنب في بلد واحد وهذه هي سماحة الإسلام .

أما بالنسبة لنظام التأمين الاجتماعي :
فهذا واضح حيث أنه كما سبق بأنه نظام للتأمين الاجتماعي يقوم على اقتطاع جزء من أجر العامل ويدخره له ، لكي يحصل عليه مستقبلاً ضد المخاطر الاجتماعية ، وهذا يستوي فيه المسلم وغير المسلم .

وأما بالنسبة لنظام الضمان الاجتماعي :
فمما هو معلوم أن بيت مال المسلمين هو الملاذ الوحيد كجهة عامة  لصرف إعانات أو معاشات للمحتاجين ، وحيث أن مصدر تمويل بيت مال المسلمين أو الخزانة العامة لا تكون الحصيلة فيها قاصرة على الزكاة وحدها بأنواعها المختلفة وإنما يدخل فيها أيضا حصيلة الثروة المعدنية والخراج والوقف (وغيرها من مصادر التمويل ومن ثم يجوز أن يعطى المحتاجون من الفقراء والمساكين من أهل الكتاب قدرا من المال في صورة إعانة شهرية من غير حصيلة الزكاة،

ولا أدلّ على ذلك مما فعله الفاروق عمر بن الخطاب  (حينما مرّ بشيخ ضرير كبير السن يسأل الناس  فسأله عمر  من أي أهل الكتاب أنت ؟

فقال يهودي قال : من ألحاك إلى ما أرى ؟ قال : أسأل الجزية والحاجة والسن فأخذ عمر بيده ، وذهب إلى منزله فرضح  له بشيء ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه  فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ، إنما الصدقات للفقراء والمساكين والفقراء هم المسلمون ،وهذا مسكين من أهل الكتاب ، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه ، ولم يكتف عمر بذلك ، بل رتب له قدراً من المال يكفيه ) .

وجــه الــدلالـة :
فهذا الأثر يعطينا بأن هناك ضمان اجتماعي مضاعف .
الأول : وهو وضع الفاروق عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – الجزيه عن هذا اليهودي هو بمثابة ضمان اجتماعي حيث كفه ومنعه عن سؤال الناس لسداد الجزية المفروضة عليه .

الثاني : فرض الفاروق عمر بن الخطاب لهذا اليهودي راتباً شهرياً في صورة إعانة له تكفيه حاجته فأي عدل بعد هذا وأي عظمة بعد ذلك.

خاتمة البحث

وختاما نود أن نسجل هذه الحقائق التالية عما سبق ذكره :

1- إشارة القرآن الكريم إلى أول تشريع للتأمين الاجتماعي في التاريخ وهو الذي حدث في عهد سيدنا يوسف عليه السلام .

2- أن الشريعة الإسلامية قدمت لنا نظريتان كاملتان متكاملتان أحدهما للتأمين الاجتماعي ، والأخرى للضمان الاجتماعي ، وهما التي من أجلهما صدرت كافة التشريعات الاجتماعية الوضعية سواء قبل الثورة أو بعدها ، بما كان في هاتين النظريتين ما يغني إصدار الكثرة المذهلة لتشريعات التأمينات الاجتماعية .

3- أن نظام التأمين الاجتماعي الذي أشارت إليه كافة قوانين التأمين الاجتماعي منذ قرن ونصف من الزمان أشار إليه القرآن الكريم والسنة النبوية منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ونيف من السنين ، وأن صورة التأمين الاجتماعي في التشريع المعاصر هي ذات الفكرة التي أشار إليها القرآن الكريم والسنة النبوية كما سبق ، وذلك بالحث على عدم الإسراف والتبذير لكل دخل الإنسان ، بل لابد أن يكون وسطا في إنفاقه ، وهذا معناه أنه سوف يدخر جزء من دخله يعينه بعد ذلك على التغلب على المخاطر الاجتماعية من عجز أو شيخوخة أو مرض الخ .

4- تقرير الشريعة الإسلامية لنظام الضمان الاجتماعي منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ونيف من السنين ، في حين لم يسن أي يوضع له قانون إلا منذ نصف قرن تقريبا وهو القانون رقم 116 لسنة 1950م كما سبق .

5- إن في تطبيق فريضة الزكاة تطبيقا فعليا حقيقيا وتنفيذها على الوجه الأمثل والأكمل في أي مجتمع كما هو موضح سلفا من نتيجته سد حاجات الفقراء والمساكين أيا كان نوعهم وعددهم ، بل ومع مرور الوقت ودوام التجربة لا نجد في المجتمع فقيرا ولا مسكينا ، وذلك مثلما حدث في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز  ، بما يجعلنا لسنا في حاجة إلى سن قانون للضمان الاجتماعي بفرض إعانات للمحتاجين ، لأن في الزكاة ما يغني عن ذلك ، فضلاً عن المصادر الشرعية الأخرى للضمان والتي تركناها خشية الإطالة.

6- دعوة الدولة ممثلة في هيئة التأمينات الاجتماعية إلى رفع معاش الضمان الاجتماعي بما يتناسب والعصر الحالي ، وذلك حتى لا يلجأ أصحاب هؤلاء المعاش إلى استكماله عن طريق التسول وسؤال الناس الحاجة ، وهو ما يمكن التعبير عنه بحد الكفاية والذي سبق توضيحه سلفاً .

7- وإذا كنا نطالب برفع معاشات الضمان الاجتماعي لكي تتناسب مع العصر الحالي، فمن باب أولى رفع معاشات التأمين الاجتماعي بما يكفي وحاجات هؤلاء المستفيدين منها ، حيث إن هؤلاء قد اقتطع جزءً من دخلهم في الماضي وتم استثماره ، ومن ثم فنحن نطالب بزيادة الجزء المستقطع للمعاش وهذا يعني زيادة المرتبات لمواجهة هذه الزيادة المقتطعة .

8- جواز التعامل حالياً بنظم التأمينات الاجتماعية السارية أو الضمان الاجتماعي المتعارف عليه في بعض الدول وعدم مخالفتها لأحكام الشريعة الإسلامية .

9- ليس هناك ما يمنع في الشريعة الإسلامية من تطبيق الإجراءات الواردة بقانون التأمين الاجتماعي الحالي رقم 79 لسنة 1975م حيث إن الشريعة وكما سبق – أتت بمعطيات إجمالية تاركة – التفصيلات حسب كل بيئة وعصر .

10- مدّ الشريعة الإسلامية لمظلة التأمينات الاجتماعية والضمان الاجتماعي لغير المسلمين من أهل الكتاب طالما كانوا متعايشين مع المسلمين على أرض واحدة .