الحكومة

تتشعب وظائف الدولة الحديثة، في أطر ثلاثة:

1- الوظيفة التشريعية: وهي سَّن القوانين التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكومين، وعلاقة المحكومين بعضهم ببعض.

2- الوظيفة التنفيذية: وهي العمل على تنفيذ القوانين، والسهر على أمن الأفراد والمجتمع وإشباع حاجاتهم، ورعاية مصالحهم، وتحقيق رفاهيتهم.

3- الوظيفة القضائية: وهي توقيع العقوبات على مرتكبي الجرائم، والفصل في المنازعات التي تنشأ بين الأفراد بعضهم وبعض، أو بينهم وبين السلطة الحاكمة.

والتخصص الوظيفي للسلطات الحاكمة، يعني أن تتعدد هذه السلطات بقدر تعدد وظائف الدولة، بحيث تخصص كل سلطة بأعمال وظيفة بعينها، لا تتعداها إلا استثناءً، وبإجازة خاصة من الدستور.

وترَّكز الدساتير، الوظيفة التنفيذية، في يد رئيس الدولة، ولكنه لا يمارسها وحده، بل يوجد إلى جانبه الحكومة والجهاز الإداري، يبدأ في القمة، بمجلس الوزراء والوزراء والجهاز الإداري، الذي يتألف من معاوني الوزراء والمديرين العامين والمدرين والموظفين، فضلاً عن المؤسسات ووحدات الإدارة المحلية وغير ذلك. والمواطن لا يحس بوجود الدولة، ولا يراها في واقع حياته اليومية، إلا من خلال الحكومة وأدائها.

ونقطة البدء، في الفكرة القانونية للدولة، تتمثل في ضرورة التمييز بين مفهوم السلطة السياسية وأشخاص الحكام. لأن الحكومة لا تمارس السلطة، باعتبارها حقاً شخصياً لأعضائها، من رئيس وزراء أو وزراء، بل يمارسونها من خلال وظائفهم واختصاصاتهم المحددة لهم سلفاً.

لم تعرف الإمبراطوريات القديمة، ودولة المدينة الإغريقية، مبدأ فصل السلطات بمعناه الحديث، بل كانت تختلط فكرة السلطة بأشخاص الحكام من جهة، وتختلط وظائف الدولة عبر مبدأ وحدة السلطة واندماجها التي كانت تتركز في شخص الحاكم. وكانت صلاحيات الحكومة بمعناها التاريخي المبكر تنصرف إلى سَّن القوانين وتنفيذها، وحاول بعض الفلاسفة الإغريق، التمييز بين وظائف السلطة الحاكمة، فميزوها في ثلاث وظائف في إطار وحدة السلطة:

1- وظيفة المداولة: التي يناط بها التصويت على القوانين والمعاهدات والرقابة على الحكام.

2- المناصب: أي ممارسة السلطة.

3- الوظيفة القضائية: التي تؤمنها سلسلة المحاكم.

وفي الإمبراطوريات الرومانية، كان هناك نوع من التقسيم بين السلطات:

ـ فالإمبراطور يشرف على الولايات العسكرية، ومجلس الشيوخ يتولى المقاطعات التي سادها السلم ويسن القوانين ويفوض الأمير. والشعب يفوض الأمير فالحكام والأباطرة. وكلاء عن الشعب، مسؤولون أمامه.

وعلى الرغم من ذلك فقد بقي مبدأ المشروعية، من دون الحد الذي يؤكد خضوع السلطات بقيود قانونية مفروضة عليها، وخارجة عنها، لطبيعة المجتمع العبودي من جهة، وعدم وجود شخصية قانونية للفرد من جهة أخرى.

ونادى الحواريون المسيحيون، بضرورة طاعة الحكومات، وأن الحكومة وسيلة تنفيذ إرادة الله في الأرض، وعدّوا في عهد الرومان، أن الحكومة مؤسسة إلهية مقدسة، تستمد سلطانها من الله، ولذلك فإن طاعتها في نظرهم ليست ضرورة سياسية بل جزءاً من التعاليم الدينية، وقد سمحوا بعدم طاعتها، في حال تدخلها في شؤون الكنيسة وتعاليمها.

وفي العصر الوسيط، اعتمدت الدولة الإسلامية الخلافة سلطة زمنية ودينية. إذ كان الخليفة يجمع بين السلطتين ويرأسهما، على الرغم من تعدد اجتهادات الفكر الإسلامي في هذا الصدد وجنوح بعض مدارسه إلى استقلالية القضاء عن الحكومة.

أما في الدولة الحديثة، فقد نهضت على مبدأ خضوع السلطات العامة للدستور، الذي يحدد طبيعة السلطة، ودورها. ويضبط نمط السيادة وشكل الحكم والحكومة، واختصاصات سلطات الدولة وواجباتها. وبذلك فإن الدولة تمارس وظائفها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات، بما يفيده من تخصص وظيفي للهيئات الحاكمة، باعتبارها السلطة التنفيذية للدستور مباشرة، حين يتضمن أمراً أو نهياً يمكن تنفيذه مباشرة، والالتزام به من جانبها، من دون اشتراط سبق صدور قانون عادي.

وتخضع للدستور بالتزامها تنفيذ القانون العادي الصادر عن الهيئة التشريعية (البرلمان)، وتملك سلطة إصدار القرارات لتنفيذ القوانين، بما ليس فيه تعديل أو تعطيل أو وقف لها، ما لم يكن هناك تفويض تشريعي، يسمح لها بممارسة التشريع، ويخولها سلطة تعديل القوانين وإلغائها.

ويختلف دور الحكومة وصلاحياتها ومهامها، في العصر الحديث، باختلاف طبيعة النظام السياسي الذي يسود الدولة، ووفق ما يرسمه الدستور فيها:

أولاً: النظام النيابي (البرلماني)

في مثل هذا النظام الذي تعدّ بريطانيا مثالاً بيناً عليه، تستمد الحكومة الثقة من مجلس الشعب (البرلمان أي السلطة التشريعية[ر])، ويكون لهذا الأخير نفوذ واسع عليها، يضعف من هيمنتها، بما يملكه من صلاحيات سحب الثقة منها، على الرغم من أنها لا تخضع للمجلس النيابي خضوعاً رئاسياً، ولذلك فهي لاتلتزم بغير القانون، بمعنى أنها لا تلتزم بما يصدره إليها المجلس النيابي من أوامر في شأن حالة بذاتها معروضة عليها، كما لا تلتزم الحكومة بالرغبات والتوصيات التي تبديها اللجان النيابية في تقاريرها في شأن أحوال من اختصاصها، إلا إذا قررت هي الالتزام بها، فضمنتها لائحة عامة واجبة التطبيق وينجم عن هذا الوضع، توازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بحيث يمكن توصيفه بأنه نظام ثنائي السلطة (البرلمان + الحكومة). يقوم على تعاونهما.

غير أن بعض المفكرين السياسيين، الذين بشروا بمبدأ فصل السلطات، ولاسيما منهم روسو Rosseau، فقد ذهب إلى ترجيح أولوية الهيئة التشريعية على الحكومة، بوصفها الأخيرة السلطة التنفيذية[ر]، إذ كان يرى أن حق السيادة، الناتج عن العقد الاجتماعي الذي يتنازل فيه الأفراد عن سيادتهم لصالح سيادة المجموع (إرادة الأمة) ينحصر في مهمة التعبير عن هذه الإرادة، أي في أعمال التشريع، دون أعمال التنفيذ أو القضاء.

وأن الحكومة، بوصفها السلطة التنفيذية تمارس وظائفها في حدود ما تقرره القوانين الصادرة عن الهيئة التشريعية، وأنها تقوم بدور تابع مرؤوس، وأن أشخاص الحكام بمثابة وكلاء تنفيذ للقوانين، ولا تنفذ الحكومة إلا القوانين، وليس لأشخاصها امتيازات أو سلطة. غير أن الأنظمة الحديثة، لم تأخذ بمثل هذه النظرية على إطلاقها لاسيما منها ما يتعلق بتبعية وخضوع السلطة التنفيذية للتشريعية.

ثانياً: النظام الرئاسي

يتميز هذا النظام، بأن رئيس الدولة ينتخب كقاعدة من الشعب مباشرة، ويكون مسؤولاً أمامه، من دون أن يكون للمجلس النيابي دور مباشر في ذلك، ولما كان رئيس الدولة رئيساً للسلطة التنفيذية وتقوم الحكومة بمساعدته في أداء مهامه، ويعينها من قبله من دون اللجوء إلى المجلس النيابي لكسب ثقته، فإن دور الحكومة يتعزز إزاء المجلس النيابي، ويتحقق فصل شبه مطلق بين السلطات، إذ تقوم كل سلطة بصلاحياتها في النطاق الذي يمنحه لها الدستور، وتعدّ الولايات المتحدة مثالاً واضحاً على النظام الرئاسي.

غير أن دور الحكومة وصلاحياتها، تختلف بين نظام رئاسي وآخر تبعاً لوجود نظام الأحزاب المتعددة، أو نظام الحزب الواحد داخل السلطة السياسية. وعلى العموم، فإن النظام الرئاسي يتميز بأنه يقدم حكومة وسلطة تنفيذية قوية، تستطيع اتخاذ القرارات بسرعة على عكس النظام المجلس النيابيي الذي يتميز ببطء إجراءاته، وخضوع قرارات الدولة لتداول الحكومة والمجلس نيابي. وثم نظام نصف رئاسي هو خليط بين النظام المجلس النيابيي والنظام الرئاسي وتعتبر فرنسة والجمهورية العربية السورية مثالين واضحين على النظام نصف الرئاسي.

ثالثاً: النظام الثوري

تكون السلطة الفعلية في مثل هذه الأنظمة للحزب الثوري، الذي يقود السلطة والمجتمع، وعلى الرغم من اتجاه بعضها إلى تقنيين ممارسات الأجهزة والمؤسسات، وتحديد دور السلطات فيها، وإقامة سلطات تشريعية وتنفيذية، فإن دور هذه السلطات وصلاحياتها واختصاصاتها، يقتصر دورهما على تنفيذ سياسة الحزب في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والخارجية. وكان النظام السوڤييتي قبل انهياره مثالاً على النظام الثوري.

رابعاً: النظام الشمولي

يندرج تحت مثل هذا النظام، أنماط مختلفة من الحكومات الاستبدادية، منها: الملكية المطلقة والفاشية والعسكرية، إذ تستمد الحكومات صلاحياتها ومهامها، من فلسفة النظام والحاكم المستبد. من خلال ما ينيط بها من اختصاصات وأدوار، وتبعاً لما يمارسه من دور في القيادة المباشرة للحكومة، أو الاستئثار ببعض الصلاحيات التي ينفرد بها، والتي تقع في نطاق صلاحيات الحكومة كسلطة تنفيذية.

ولا يكون في مثل هذه الأنظمة، كبير دور لاستقلالية الهيئات والسلطات التي يحدثها النظام على مسرح الحياة السياسية، إذ إن شخصية الحاكم ورغباته وفلسفة نظامه تملي على هذه الهيئات طبيعة علاقاتها ودورها السياسي والاجتماعي.

ولذلك. فليس هناك معيار واحد يضبط أداء الحكومة فيها، وغالباً ما يسود مبدأ الضرورة في تبرير سلوك الحكومة، وتصرفاتها، تحت ذريعة أمن الدولة والظروف الاستثنائية. بحيث تمارس الحكومة الحكم على أساس هذا المبدأ. وبالقوانين الاستثنائية والأحكام العرفية التي تعطل الدستور والقوانين.

في الأنظمة الشمولية، تصبح أحوال الضرورة مبدأ قانونياً، بينما تستعين به الحكومات في الأنظمة الدستورية، لمواجهة حالة طارئة، تستدعي القرارات والقوانين العاجلة والتي يظل لها طابعاً استثنائياً يقتضي إعادة عرضها على المجلس النيابي.

وقد تولد عن هذه الأحوال الاستثنائية التي تواجهها الدولة، سياسة التفويض التشريعي الكامل من المجلس النيابي للحكومة، في الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي تقضي أن تمنح الحكومة التفويض كي تنظم بمراسيم تشريعية موضوعات تدخل في نطاق اختصاصها دستورياً.