دور الإعلام في الحد من ظاهرة الجريمة

الجريمة ظهرت بنشوء المجتمعات وهي قديمة قدم المجتمع البشري نفسه، وظهر تبعاً للجريمة العقاب كرد فعل لها.. وخلال الأحقاب الطويلة المتعاقبة من الزمن خضعت الجريمة والعقاب لسلسة كبيرة من التطورات شأنها في ذلك شأن كل الظواهر الاجتماعية الأخرى… كما حظيت الجريمة باهتمام الفلاسفة والمفكرين والمنظرين والعلماء.

وكان من أولهم أفلاطون الفيلسوف اليوناني المشهور الذي أعتبر الجريمة عنواناً لمرضٍ في النفس، وبين في كتابه (جمهورية أفلاطون) أن الفقر هو سبب الكثير من الجرائم، وأن كلاً من الفقر والثراء الفاحش لو انعدما في مجتمع معين كان ذلك كفيلا بانتشار الأخلاق الحميدة لتوافر العدالة.. كما قال أن العقوبة تفرض على المجرم جزاء ذنبه ومنعاً لغيره من الأقدام على الجريمة.. أما أرسطو فقد كان يرى قي المجرمين أعداء المجتمع ويرى أيضاً أن الفقر سبباً أساسياً للجريمة , أما العقاب ففيه أعادة للتوازن في المجتمع.

ان الجريمة كانت وما تزال واحدة من أعقد مشكلات المجتمع المزمنة والملازمة له عبر العصور والتطورات الحضارية المتلاحقة، ولذلك فأن أهمية هذه المشكلة تزداد بتزايد انتشارها وتعدد صيغها ودوافعها ومسبباتها وكذلك تزايد استفحال مخاطرها المتعددة على المجتمع البشري.

إذن الظاهرة الإجرامية لا يمكن تفسيرها بمعزل عن السلوك الإنساني بصورة عامة ولها أسباب ودوافع وعوامل ومتغيرات مؤدية اليها، وأرتبط تطور الجريمة ارتباطا وثيقاً بنشأة وتطور الفكر الجنائي بوجه عام والعقابي بوجه خاص.. تتلخص مسببات الجريمة بنوعين من العوامل:

1- داخلية تكوينية

المسببات الداخلية التكوينية كما صاغها أصحاب نظرياتها هي الصفات والخصائص الجسمية والنفسية والعضوية والوراثية والسلوكية والعقلية.

2- خارجية اجتماعية

المسببات الخارجية الاجتماعية كما حددها منظروها فهي الدوافع الاقتصادية المتعلقة بالفقر وتدني المستوى المعاشي يضاف لها الدوافع الاجتماعية المتعلقة بالعائلة والبيئة والمدرسة وأصدقاء السوء والمجتمع بشكل عام. ناهيك عن دوافع أخرى منها الجهل والتخلف والانحراف واختلالات البيئة العامة وغير ذلك.

ولا نريد أن نطيل الحديث عن الجريمة فهو ليس من اختصاصنا نحن الإعلاميين بل هو شأن الأساتذة ذوي الأخصاص في العلوم الجنائية والقانونية والاجتماعية.

لكننا ونحن نبحث عن دور الإعلام في الحد من الجريمة لابد من أن نعطي تمهيدا لهذه الظاهرة الخطرة ودوافعها وسياسة مكافحة الأجرام التي تنطوي في الحقيقية على ثلاث سياسات فرعية هي:

1- سياسة الوقاية من الجريمة

2- سياسة منع الجريمة

3- سياسة معالجة المجرمين.

لكي نتعرف على الحجم الذي يلعبه الإعلام في هذه الدور وكيف نستخدمه للحد من ظاهرة الأجرام لابد أن نعرف ما هو الإعلام وما هي قوة تأثيره في مجمل الحياة البشرية.

الإعلام تعبير موضوعي لعقلية الجماهير ولروحها وميولها واتجاهاتها في الوقت نفسه، وهو ليس تعبيرا ذاتياً عن شخصية رجل الأعلام وإنما يقوم على الحقائق ويهدف إلى التأثير على موقف الكائن الإنساني ودفعه إلى التصرف على نحو معين.

والإعلام يسعى إلى إيقاظ الوعي باستمرار من خلال تزويد الناس بالأخبار والحقائق والمعلومات وما يدور من أحداث ووقائع، وهو حين يهتم بنشر الحقائق والأفكار والآراء يهدف إلى التفاهم والإقناع وكسب التأييد.

الإعلام اذن يبدأ مع الناس من حيث وجودهم وينشر مادته أو رسالته التي تحمل أهدافها من أجل أن تعلمهم فيتغيروا. من هذا المنطلق نعرف أن الإعلام هو علم تطبيقي ميداني وليس مكتبي أو نظري، هذا العلم يستند إلى علوم كثيرة في معرفة اتجاهات الناس ويستفيد من الخدمة الاجتماعية والنفسية في تغير هذه الاتجاهات وفق هدف محدد.

الإعلام بعناصره الثلاثة وهي الصدق والصراحة والوضوح في الهدف هو مهنة أذن.. ورجل الأعلام يمارس هذه المهنة بأساليبها الخاصة التي تحتاج إلى الذكاء والتخطيط والمبادرة كما تحتاج إلى الدراسة والممارسة..

وتقوم عملية الاتصال الإعلامي على أسس هي المرسل، والمستقبل، والوسائل الإعلامية المستخدمة لتوصيل الرسالة إلى المستقبل والتي هدفها الأساس هو التأثير.. ومن وسائل الإعلام الأساسية (الصحافة والإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح والمحاضرات والندوات والمعارض والحفلات والمهرجانات وغيرها) وهذه بمجموعها تسمى وسائل الاتصال الجماهيري، وهذه الوسائل أصبحت محاولات متطورة لتسهيل وتقوية هدفها الأساس وهو التأثير… كما صارت هذه الوسائل في مجملها محاولة لتوسيع قدرة الإنسان على الاتصال عبر الزمن وعبر المسافات…

– الإعلام الآن هو الوسيلة الأولى في تقريب المسافات التاريخية والجغرافية بين الإنسان والإنسان، وفي بسط العالم كله أمام الناس كل الناس بكل ما يحمله هذا العالم في ثناياه، ووضع البشر جمعيا وجها لوجه..

– ينهض الإعلام المعاصر بالمهمة الصعبة التي تبدأ بنقل الخبر وتنتهي بمحاولة نقل العالم ونقل النشاط الإنساني أو التراث الإنساني بكل تنوعاته ووجوهه وروافده..

– أو ليس صحيحا أن الإعلام أصبح اليوم القناة الرئيسة لبث ونشر كل أنواع المعارف والعلوم والآداب والفنون والأفكار والآراء والمعتقدات وأصبح مرآة الإنسان المعاصر في تقدمه وازدهاره وتفتحه أو في انكماشه وتخلفه وعجزه , وغدا الوسيلة الأقوى والأفعل في اقتلاع الحواجز بين الإفراد والشعوب والدول وفي خلق التفاعل بين الأفكار والمعتقدات والأيدلوجيات المختلفة ؟

كل هذا صحيح ولكن أليس من الأنصاف أن نقول أيضاً: أن الإعلام لا يقوم دائما بهذا الدور الايجابي أو ينهض بهذه المسؤولية. بل يمكن أن يقوم أيضاً بدور مغاير فيطمس الحقائق ويشوه المفاهيم ويحرض على البغضاء والكراهية والأحقاد والعنصرية ويهبط بذوق الأفراد ويبث الأكاذيب ويستلب وعي الشعوب.

فالإعلام قناة يمكن أن توصل الطيب والخبيث في آن واحد.. تكون أحيانا وسيلة تشويه وإكراه وتخويف، ووسيلة سيطرة على الفكر والإرادة والمعتقد والسلوك، وأداة اقتلاع من الجذور ومن الخصوصية التاريخية.. يمكن للإعلام أن يكون أداة تشريد وفصل عن الذات وعن الهوية الثقافية والخصوصية الحضارية التي تكون ظاهرة الأجرام واحدة من نتائجها السلبية.

ويكفي أن نذكر مثل عن الأعلام الغربي السلبي كيف يصور الإنسان العربي ومواقفه وحقوقه الإسلامية ناعتاً هذا الإنسان بالتخلف والبداوة والجهل والتعصب والاقتتال والطائفية وغير ذلك متناسيا دور الإنسان العربي في بناء أول وأعظم حضارة إنسانية في العالم. إلا نرى كيف يحاول الأعلام السلبي (العربي والغربي) تزوير الحقائق وطمس وتشويه تراث الشعوب وبث الأكاذيب في رداء العلم وكيف يشجع على إغراق العالم النامي بأمواج الاستهلاك بالثقافة الاستهلاكية والأفكار الاستهلاكية والفن الاستهلاكي الهابط والمبتذل.

كما ان هذا الإعلام يحاول أن يبهر و يستلب أرادة الشعوب ووعيها وقدرتها على التميز والاختيار. وإلا بماذا نفسر تهافت الشباب على الأفلام الهابطة والمسلسلات المدبلجة وغيرها التي لا تقدم لنا سوى الإبهار الأجوف والإثارة والتشويق اللاشرعي المنافية لكل قيمنا الوطنية وأخلاقنا الإسلامية الحميدة.

مثل هذا الإعلام يحول نفسه ومعه الثقافة إلى أداة تخويف وابتزاز واستلاب وعنف، ليسعى إلى اقتلاع عقول المجتمعات من جذورها ومن مفاهيمها ومن قيمها وخصوصيتها، ليرميها في الفراغ والمجهول ويبعدها عن إمكانية صنع مستقبلها وتوجيهه وامتلاكه.

هذا الإعلام يواجه بإعلام مؤمن مؤثر ملتزم ونظيف تكون أحدى فضائله الاجتماعية والإنسانية الحد من ظاهرة الأجرام التي كان واحداً من أبرز أسبابها الإعلام السلبي (العربي والغربي).

أن المرتكزات الرئيسة والمهمة للحد من ظاهرة وقوع الأجرام منوطة بعدة عوامل منها:

1- قوة القانون وسيادته وكذلك في قوة وسيادة القضاء العادل الكفء الذي يقوم بواجباته على الوجه الأكمل بشرف ونزاهة. ومنوطة أيضا بعمق وصدق وضوح آليات القضاء وأحكامه العادلة.

2- تطوير التشريع الجنائي بما ينسجم مع التطوير الفكري والفلسفي والاجتماعي وجعله يتمتع بالمزيد من قابلية الردع.

3- التدابير الاحترازية السابقة لوقوع الجريمة في محاولة لشل الخطورة الإجرامية.

4- الإجراءات الإدارية والقضائية للأجهزة الأمنية المختصة على أن يتم تطوير هذه الإجراءات باستمرار بهدف تجميد نشاط المجرمين وأساليبهم المختلفة.

5- البحوث والدراسات المختصة والبيانات والإحصائيات التي تقوم بأعدادها المراكز المختصة في البحوث الجنائية.

6- يضاف إلى ذلك توعية الجمهور عن طريق التثقيف والإعلام وتنبيههم إلى خطورة الجرائم ونتائجها المدمرة على المجتمع بما فيها المجني عليهم والجناة أنفسهم.

7- حث الموطنين على التعاون مع الأجهزة الأمنية في عمليات الرصد والأخبار والمتابعة لغرض الحيلولة دون قيام الجريمة أو على الأقل جعل قيامها أمراً صعباً أو مستحيلاً.

ووسائل الأعلام والاتصال التي تقوم بهذه المهمة الوطنية المشرفة من خلال برامجها ونشاطاتها وفعالياتها الفكرية والثقافية وكذلك التوجيهية والتربوية والترفيهية وهذه الوسائل الإعلامية هي:

(الإعلام الصحفي، الإعلام المسرحي والسينمائي، الإعلام الإذاعي، الإعلام التلفزيوني، الإعلام عن طريق المعارض والمهرجانات والملصقات واللافتات والصور الملونة والنماذج المجسمة والنشرات، الإعلام عن طريق قادة الرأي من الشخصيات المثقفة ذوي النفوذ في قيادة المجتمع، وأيضا تنظيم المحاضرات والندوات والزيارات واللقاءات واستقبال الشكاوى والمقترحات والاستجابة لها وحلها بأساليب مرضية وعلى أساس الحق، وهذه العوامل الإعلامية تؤدي دور مؤثر في الحد من ظاهرة الجريمة.

وهذه المهمة الوطنية والإنسانية منوطة بكل إنسان شريف مخلص لوطنه وقبل كل هذا فأن الجريمة هي مسؤولية القضاء العادل والأجهزة الأمنية الرسمية المعنية ومنظمات المجتمع المدني المتخصصة في بناء الإنسان وكذلك منتديات الشباب واتحادات الطلبة.

على العاملين في مجال الإعلام في كل وسائل الاتصال الإعلامي والجماهيري (المقروء والمسموع والمرئي) أن يتمتعوا بالجانب الإنساني في كل نشاطاتهم وفعالياتهم وأن يكون واضحا لجمهورهم أنهم يسيرون بهذا الاتجاه وأنهم مؤمنين بأهمية الإنسان كقيمة عليا في المجتمع، مكرسين جهودهم الإعلامية في خدمة المجتمع قولاً وفعلاً، لأن الجانب الإنساني في هذا المبدأ يكون رمزاً ناجحاً في برامج الإعلام خصوصاً إذا ارتبطت المعلومات والنشاطات الإعلامية باسم أشتهر عنه أنه يؤمن بالجماهير ويعمل على حل مشكلاتها ورفاهيتها وإسعادها فيكون لذلك أثره العميق والصادق والفاعل في المجتمع وفي أصلاح ما أفسد منه، عن طريق الجانب الإنساني في المادة الإعلامية , وأقصد في الجانب الإنساني هو الموضوعية في التغطية الإعلامية التي تشمل الصراحة والتفاعل والانسجام والمحبة والمشاركة الوجدانية الصادقة وكل ما ينتمي إلى هذا المعنى بصلة.

والاعلام هو سيف ذو حدين فالإعلام بشكل عام بوسائله المتعددة يمكن أن يكون قناة نظيفة بقدر ما يمكن أن يكون قناة ملوثة سامة… فهو بنظافته وصدقة والتزامه يكون من أهم وأغزر قنوات الثقافة والتربية والتعليم والتوجيه والبناء المادي والروحي، ومن أكبر المسعفات في أغناء وإثراء الحياة الإنسانية، من خلال توفير عامل التواصل والتفاعل الحضاري مع البشر.

ومن خلال نسف أو تذويب الخرافات والأوهام والرسوبات الميتة الجامدة، في العقول والنفوس والسلوك والتي تحول دون تفتح الشخصية الإنسانية وبعث حياتها وقدراتها على النمو والعطاء.

أن الاستقرار الاجتماعي والازدهار الاقتصادي ورفاهية المجتمع فكرياً ومعيشياً وانعدام مظاهر البطالة والتسكع والكسب غير المشروع هي السد المنيع والحاجز الأكبر في الحؤول دون وقوع الجريمة بكل أشكالها وطرقها وصيغها..

اعادة نشر بواسطة محاماة نت