الشاهد المساعَد في قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي

د. حلا محمد سليم زودة

كلية الحقوق – جامعة حلب

يؤمِّن مركز الشاهد المساعَد المعروف في قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي حماية خاصة للشاهد ، إذ لا يرتبط هذا المفهوم بحماية الشاهد من العنف أو التهديد أو الإكراه أو الإغواء ، بل ينصرف إلى مفهوم الشاهد العادي الذي جعل كثيراً من الناس يحجمون عن التقدم للإدلاء بشهادتهم لأنه من المحتمل أن يتم توقيفهم من قبل الشرطة كمجرمين مفترضين .

فقد تدور شبهات حول أحد الأشخاص بأنه مساهم في ارتكاب الجريمة أو تقدم شكوى ضده دون أن تقترن بدلائل قوية وكافية على أنه مرتكب الجريمة ، ففي هذه الحالة يكون توجيه اتهام مباشر إليه واعتباره مدعى عليه أمراً خطيراً يضر به وبقرينة البراءة ويعرضه لمخاطر حجز وتقييد حريته وفَقد ثقة المجتمع به دونما مبرر معقول ، كما أن سماعه كشاهد عادي قد يحرمه من فرصة تحضير دفاع مناسب أو الاطلاع على ملف الدعوى لمواجهة ما قد يطرأ على وضعه في الدعوى مستقبلاً .

ومن جهة ثانية كثيراً ما يحصل عملياً أن يستمع قاضي التحقيق لأحد الشهود ويحلفه اليمين – بالرغم من وجود دلائل جدية حول مساهمته في ارتكاب الجريمة – ثم تتوفر لاحقاً أدلة كافية على ارتكابه الجريمة فيوجه إليه الاتهام بصورة متأخرة مما يترتب عليه مخالفة صارخة لحقوق الدفاع ولا سيما بتحليف المدعى عليه اليمين .

والأفضل في مثل هذه الحالات لو يتوقف القاضي عن اعتبار هذا الشخص شاهداً منذ اللحظة التي يثور فيها الشك بجرميته ويعامله على أساس أنه مدعى عليه ويمكّنه من حق الاستعانة بمحام ويتجنب بالتالي اتهامه المتأخر الذي ينتقده الفقه الجزائي ويحاربه بشدة ويرى أنه يبطل عمل قاضي التحقيق .

من هنا ولدت فكرة الشاهد المساعَد في قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي لتكون حلاً وسطاً بين وضع المتهم ووضع الشاهد(1) ، ولا تعدّ هذه الفكرة جديدة تماماً فقد طالب بها الفقه القانوني الفرنسي منذ سبعينيات القرن العشرين(2) ، لكن كان يجب الانتظار حتى عام 1987 ليتم تقنين مركز الشاهد المساعَد رسمياً بمقتضى قانون 30 كانون الأول 1987 ثم جاء قانون 24 آب لعام 1993 ليحث فئة جديدة من الشهود المساعدين أكثر استفادة من حقوق الدفاع ، واستمر الحال كذلك إلى أن صدر القانون الأبرز في مسيرة قانون الإجراءات الجزائية في فرنسا وهو قانون 15 حزيران لعام 2000 الذي وحّد أوضاع الشاهد المساعَد وعزز مركزه .

من هنا فإننا نبحث في وضع الشاهد المساعَد قبل صدور قانون 15 حزيران 2000 ، ووضعه بعد صدور ذلك القانون في فرنسا .

مركز الشاهد المساعَد قبل صدور قانون 15 حزيران 2000 :

شهد المركز القانوني للشاهد المساعَد تطوراً كبيراً منذ إقراره رسمياً عام 1987 وحتى صدور قانون 15 حزيران 2000 ، فقبل صدور هذا القانون كان يتم التمييز بين الشاهد المساعَد الذي قدم بحقه ادعاء شخصي وبين الشاهد المساعَد الذي وجهت النيابة اتهاماً محدداً ضده .

أولاً – الشاهد المساعَد البسيط :

افترضت المادة 104 من قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي التي عدلت بموجب قانون 30 كانون الأول 1987 أنه إذا قدمت شكوى مرفقة بادعاء شخصي ضد شخص ما أمام قاضي التحقيق وكانت هذه الشكوى غير كافية أو مبررة لاتهامه ، فإنه يجب أن يسمع كشاهد لكنه يستفيد من بعض حقوق المتهم .

وتعتبر هذه المادة تطبيقاً لقاعدة استبعاد الاتهام المبكر التي تقضي بألا يصدر القاضي قرار الاتهام إلا بعد أن يستوضح إن كان الشخص قد ساهم في الفعل الإجرامي في ظروف تسمح بنشأة مسؤوليته الجنائية .

والشروط التي حددتها المادة 104 لاستفادة أمثال ذلك الشخص من وضع الشاهد المساعَد تتمثل في تقديم شكوى مرفقة بادعاء شخصي ضد الشخص المعني ويجب أن تترافق هذه الشكوى مع تقديم اتهام من قبل النيابة ضد مجهول في الدعوى ذاتها ، فإن وجهت النيابة اتهامها للشخص نفسه المسمى في الشكوى فلا مجال لتطبيق المادة 104 بل تطبق المادة 105 بحقه ، كما يجب أن يطلب الشخص بنفسه الاستفادة من أحكام هذه المادة ومعاملته كشاهد مساعَد .

ولإنجاز ذلك ينبغي لقاضي التحقيق عند مثول الشخص أمامه أول مرة أن يبلغه بالشكوى المرفوعة ضده وأن يخطره أن من حقه الاستعانة بمحام يحضر معه جلسات سماعه ومواجهته ويدافع عنه ويطلع على ملف التحقيق ، فإن طلب الشخص المعني الاستفادة من هذا الوضع يقرر قاضي التحقيق تأجيل سماعه لوقت لاحق للسماح له باختيار محام ، وإن لم يطلب الاستفادة من الحقوق التي منحتها له المادة 104 فإنه يسمع كشاهد عادي إذ يحلفه القاضي اليمين ويسمعه وفق الإجراءات المعتادة عند سماع الشهود .

وبموجب الفقرة الثانية من المادة 152 لا يستطيع أفراد الشرطة القضائية المكلفين بالتحقيق بموجب إنابة قضائية سماع الشهود المستفيدين من أحكام المادة 104 إلا إذا طلب هؤلاء ذلك .

وبالرغم من تمتع الشاهد المساعَد بحق الاستعانة بمحام والإمكانية الممنوحة لهذا الأخير بالاطلاع على الملف فإن الشاهد المساعَد لا يعدّ طرفاً في الدعوى ولذلك فهو لا يتلقى أي تبليغ بالقرارات الصادرة عن قاضي التحقيق ولا يحق له استئناف أي منها ، فهو أقرب إلى صفة الشاهد منه إلى المتهم ولذلك فإنه يحلف يمين الشهود وإذا كذب في شهادته يكون عرضة للمعاقبة .

ثانياً – الشاهد المساعَد الطرف في الدعوى :

بصدور قانون 24 آب لعام 1993 ظهرت فئة جديدة من الشهود المساعدين أكثر مساعدة Surassiste من أولئك المشمولين بأحكام المادة 104 ، إذ حسب الفقرة الثالثة و

التي أضافها القانون سالف الذكر إلى المادة 105 فإن الشخص الذي قدم ضده اتهام مسمى من قبل النيابة دون وجود دلائل قوية وكافية على جرميته(3) ، يتمتع بصفة الشاهد لكنه يستفيد من جميع حقوق المدعى عليهم وليس من بعضها فقط .

ولا يحتاج قاضي التحقيق إلى طلب من الشخص المعني كي يمنحه صفه الشاهد المساعَد بل يمنحه هذه الصفة ولو لم يطلب ذلك بخلاف أحكام المادة 104 التي تشترط أن تمنح صفة الشاهد المساعَد بناء على طلب صاحب العلاقة .

إذاً قاضي التحقيق هو من يقرر من تلقاء نفسه سماع الشخص كشاهد مساعَد معللاً قراره بعدم كفاية الأدلة على مشاركة الشخص في الأفعال الجرمية التي تتم ملاحقتها ، وعند مثول الشخص أمامه أول مرة يعلمه قاضي التحقيق بقرار الاتهام الصادر عن النيابة وبأنه سيقوم بسماعه كشاهد كما يعلمه بأنه سيتمتع بجميع الحقوق الممنوحة للمدعى عليهم وأهم هذه الحقوق :

1 – حق الاستعانة بمحام وله في هذه الحالة أن يختار محامياً بنفسه أو قد يعين له القاضي محامياً من تلقاء نفسه – ولا يحظى الشاهد المساعَد الخاضع لنص المادة 104 بإمكانية تعيين محام له من قبل القاضي – وبعد سماع الشخص لأول مرة يستطيع محاميه الاطلاع على أوراق الإجراءات في أي وقت خلال أوقات الدوام الرسمي شرط مراعاة حسن سير عمل غرفة التحقيق .

2 – يبلغ الشاهد المساعَد حسب أحكام المادة 105 بجميع قرارات قاضي التحقيق ويملك استئنافها أيضاً ، وهذا فرق جوهري بينه وبين الشاهد المساعَد الخاضع للمادة 104 .

3 – يبقى الشاهد المساعَد حراً فلا يخضع للمراقبة القضائية أو التوقيف المؤقت .

ولا بد للقول إن المساواة التامة في الحقوق بين الشاهد المساعَد والمتهم تبدو أمراً مبالغاً فيه بعض الشيء فهي تجعلهما ضمن فئة واحدة تقريباً وهو أمر غير مقبول ، ولعل هذا ما دفع لاحقاً إلى التخفيف من بعض الحقوق الممنوحة للشاهد المساعَد .

مركز الشاهد المساعَد في قانون 15 حزيران 2000 :

عمق قانون 15 حزيران 2000 قرينة البراءة وحقوق المجني عليهم ، وبصدوره اختفت الازدواجية في أوضاع الشهود المساعّدين فتم إيجاد وضع وحيد لهم وذلك في المواد من 113/1 إلى 114/8 التي أضيفت إلى قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي .

فمن هم الأشخاص الذين أصبح بإمكانهم الاستفادة من وضع الشاهد المساعَد حسب ذلك القانون وما هي حقوقهم ؟

ستتم الإجابة على هذين السؤالين فيما يأتي :

أولاً – المستفيدون من مركز الشاهد المساعَد وفق قانون 15 حزيران 2000 .

حددت المادتان 113/1 و 133/2 الأشخاص الذين يمكن لهم أن يسمعوا كشهود مساعَدين ، فكل شخص ذكر في لائحة اتهام تمهيدي ولم يوضع تحت الاختبار Mise en examen(4) لا يمكن أن يسمع إلا كشاهد مساعَد حسب المادة 113/1 ، أما الشخص الذي ورد اسمه في شكوى أو أدخل في الدعوى من قبل الضحية فيمكن أن يسمع كشاهد مساعَد إذا طلب هو ذلك من قاضي التحقيق وفق المادة 113/2 ، وهكذا يبدو أن الاستفادة من وضع الشاهد المساعَد يكون وجوبياً تارة وجوازياً تارة أخرى شر ط ألا توجد ضد صاحب العلاقة دلائل خطيرة وكافية تشير إلى مشاركته في الجريمة .

ثانياً – حقوق الشاهد المساعَد وفق قانون 15 حزيران 2000 .

خلافاً للشاهد المساعَد الطرف في الدعوى حسب الفقرة الثالثة الملغاة من المادة 105 فإن الشاهد المساعَد وبموجب الأحكام الجديدة التي جاء بها قانون 15 حزيران 2000 لا يستفيد من جميع الحقوق الممنوحة للمدعى عليهم بل من بعضها فقط ، ولقد أحسن المشرع الفرنسي بتراجعه عن منح الشاهد المساعَد جميع حقوق الدفاع في مرحلة التحقيق الابتدائي ، فالشخص الخاضع لأحكام الشاهد المساعَد يكون في وضع أقل خطورة من وضع المتهم الذي توفرت دلائل قوية وكافية على مساهمته في الجريمة وحساسية وضعه تتطلب منحه حقوقاً قد لا يحتاج الشاهد المساعَد إلى التمتع بها كلها .

ويعلم الشاهد المساعَد بحقوقه عند مثوله أمام قاضي التحقيق لأول مرة وهذه الحقوق هي :

1 – الحق في الاستعانة بمحام يخطر بجلسات الاستماع ويطلع على ملف الدعوى حسب أحكام المادتين 114 و 114/1 .

2 – الحق في طلب مواجهته مع الأشخاص الذين أدخلوه في الدعوى (المادة 113/3) .

3 – في حالة استئناف قرار قاضي التحقيق الصادر بألا وجه لإقامة الدعوى للشاهد المساعَد الحق في إبداء ملاحظاته بواسطة محاميه أمام غرفة التحقيق (المادة 197/1) .

4 – لا تقيد حرية الشاهد المساعَد فلا يتم توقيفه أو وضعه تحت المراقبة القضائية ، كما لا يجوز أن يكون موضوعاً لقرار اتهام أو إحالة إلى المحكمة (المادة 113/5) .

5 – لا يحلف الشاهد المساعَد يميناً (المادة 113/7) .

وبالرغم من أهمية هذه الحقوق المعددة على سبيل الحصر فإنها لا تمنح الشاهد المساعَد صفة الطرف في الدعوى بأي حال من الأحوال .

ثالثاً – انتهاء وضع الشاهد المساعَد :

ينبغي القول إن وضع الشاهد المساعَد في القانون الفرنسي هو وضع خاص بمرحلة التحقيق الابتدائي فقط ولا يطبق في مرحلة المحاكمة ، لذا تنتهي الاستفادة منه في حالتين :

الأولى : أن يطلب الشاهد المساعَد من قاضي التحقيق وضعه تحت الاختبار وعلى القاضي إجابته إلى هذا الطلب فيستفيد بذلك من حقوق الدفاع كاملة (المادة 113/6) لكنه يصبح عرضة لإجراءات شديدة وقاسية كتوقيفه أو إخضاعه للمراقبة القضائية .

الثانية : ظهور دلائل خطيرة وقوية وكافية أثناء سير الإجراءات تبرر وضع الشاهد المساعَد تحت الاختبار فهنا يجب على القاضي القيام بذلك بعد تبليغ صاحب العلاقة بالأمر كما يبلغه بأن من حقه تقديم طلبات كتابية أو التماسات إلغاء ، وإذا طلب الشخص سماعه من جديد فإن قاضي التحقيق سيقوم باستجوابه (المادة 113/8) .

الخلاصة :

من خلال ما سبق يمكن القول إن المشرع الفرنسي ابتكر مفهوم الشاهد المساعَد رغبة منه في تأخير وضع المتهم تحت الاختبار أطول فترة ممكنة ، لما يجره ذلك عليه من مخاطر تسيء إلى سمعته وحريته وإلى عائلته نتيجة تقييد حريته بالتوقيف أو بالخضوع للمراقبة القضائية ، وهو مفهوم يتناسب وقرينة البراءة ووجوب صيانة حق الفرد في الحرية وعدم تجريده منها إلا في أحوال استثنائية جداً ، كما أنه من جهة أخرى يبث الطمأنينة في نفوس الأشخاص الذين يحتمل أن يشهدوا في الدعوى لكنهم يخشون أن يتورطوا فيها فيصبحوا متهمين دون داع لذلك .

وهكذا يمنح مركز الشاهد المساعَـد فرصة

كافية للتأكد من مساهمة الشخص في الجريمة بصورة حقيقة دون التعدي على حريته وسمعته ودون أن يعرضه ذلك لخطر الاتهام المتأخر أيضاً ، فالاتهام المتأخر يضير الحق في الدفاع ويضير بالتالي حقوق الإنسان لأن الحق في الدفاع في مواجهة اتهام قائم هو أحد الحقوق الأساسية التي كفلتها الدساتير والقوانين .

مع ذلك يبدو أن هذا الإجراء يبقى تقديرياً وخاضعاً لقرار قاضي التحقيق الذي يضع يده على التحقيق ومعاملاته ويعود له تقدير وجود دلائل كافية تبرر الوضع تحت الاختبار أو عدم وجود تلك الدلائل بصورة يجب معها منح الشخص مركز الشاهد المساعَد ، كما أن القضاة وبخاصة في الجرائم الخطيرة يميلون إلى اتخاذ إجراءات سالبة أو مقيدة للحرية خوفاً من طمس الأدلة والضغط على الضحايا والشهود .

وأعتقد أنه يمكن الاعتماد على مفهوم الشاهد المساعَد في قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري ، وتطبيقه في مرحلة التحقيق الابتدائي شرط أن يكون كل من قاضي التحقيق والشخص المعني على علم كاف بشروط وميزات هذا المفهوم ، وأن يطبق بداية في قضايا الجنح ومن ثم يصار إلى تعميمه في قضايا الجنايات ، بالاستناد إلى نتائج ذلك التطبيق وآثاره .

د. حلا محمد سليم زودة