تقسيم العقوبة في الشریعة الإسلامية و غایتها

الشريعة الإسلامية دين وقانون، فهي دين في أحكامها لكونها تأخذ بالنيات قبل البينات، وجعلت القصد الشريف هو الأصل ولو أخطأ فاعله وترتب عليه ضرر، لذلك إنفردت بخاصية أساسية هي أن الأحكام فيها تبنى على المقاصد والنتائج، فمن إرتكب جريمة لا يعلم بها أحد إلا الله، ولم يكشف أمره فلا يعاقب في الدنيا رغم حصول النتيجة، لكن لا ينجو من عقاب الآخرة قطعا إلا إذا تاب لله توبة نصوحا، أما إذا إعتدى أحد على غيره فينفذ عليه حكم القضاء حسب الظاهر ولو لم تحصل نتيجة من طرفه لكن ثبتت في حقه، فحكم الشريعة الإسلامية عام شامل لكل أفعال الإنسان ظاهرة وباطنة يتولى القضاء الفصل في الظاهر منها، والذي يمكن إثباته من غير ظن ولا تجسس، ويبقى ما هو باطن يعاقب عليها الفاعل أخرويا يقينا، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام الترميذي في الجامع الصحيح بسنده (( … ومن ستر مؤمنا ستره الله يوم القيامة )).

وقد قررت الشريعة الإسلامية تقسيم العقوبة الدنيوية إلى نوعين، العقوبة النصية والعقوبة التفويضية تماشيا مع التوازن الإجتماعي في كليهما والتقليل من خطر الجريمة بطريقة سلمية ثابتة فيما يضر بطبعه متغيرة فيما يضر بكثرته وليس بطبعه كما سيأتي :

العقوبة النصية :

نص القرآن العظيم والسنة النبوية الطاهرة على علة عقوبات الجرائم التي تمس كيان المجتمع وتهدم بنيانه من الأساس نظرا لخطورتها، حيث حدد الله تعالى عقوبات مناسبة لضررها لأجل إستئصالها من المجتمع وفرض الأمن والإستقرار العامين وهذه العقوبات محددة إصطلح على تسميتها بالحدود .

والحد في إصطلاح المذهب الحنفي هو : ((عقوبة مقدرة واجبة حقا لله تعالى )).

وا تفقوا على أنها شرعت لصيانة المجتمع من كل ما يفسده سواء كان ذلك في الأعراض والأنساب أو العقول والأنفس والأموال .

أما الجمهور غير الحنفية فالحد عندهم هو : ((عقوبة مقدرة شرعا سواء أكانت حقا لله تعالى أم للعبد )).

و قد إختلف علماء الإسلام في عددها فمنهم من جعلها سبعة أنواع، ومنهم من وصل إلى ثلاثة عشر حدا حيث أدخل معها الزندقة والسحر، وسب الله، وسب الملائكة والأنبياء وترك الصلاة والصيام.

وقد ظهر لنا سبب إختلافهم في عدد الحدود كما هو ظاهر من تحليلاتهم لمقاصد الأحكام فمنهم من يرى أن كل ما يضر بعامة المجتمع وهلاك أمنه فهو حد ولو لم يحدد له النص الشرعي عقوبة وإنما جعله فسادا في الأرض أو هلاكا لفاعله فعندهم حد منصوص على وجوب تركه لفائدة المجتمع، ومنهم من يرى أن الحد ما نص على عقوبته شرعا بصراحة .

و سنبينه في المبحث الثاني من الفصل الثاني إن شاء الله، إلا أننا نرى أن الحدود هي : ما ثبت بنص وحددت له العقوبة، وأعنى بذلك أن الفعل المجرم أو المحرم، أو الموصوف بالفساد لا يعني بأنه حد، ولكن يثبت تحريم الفعل قطعا، ويندرج ضمن النوع الثاني من التقسيم الشرعي أي (( العقوبات التفويضية )) .

وحقيقة أن هناك نوع من الأفعال تضر بالمجتمع في عهد من العهود ولكن يقل ضررها بتطور المجتمع من ذلك أفعال السحرة، حيث نقرأ عن أثار هذا الفعل في بعض العصور فنجد أنها أضرت بأفراد المجتمع وأمنه أكثر من الأفعال المعاقب عليها بحدود النصية, مما جعل بعض الفقهاء يجعلونه حدا في نظرا لضرره وخطورة آثاره، كذلك الزندقة التي هي أخطر من النفاق وأخطر من الردة في ضررها بعقيدة أفراد المجتمع الإسلامي وسلامة كيانه, فكان رد الفقهاء في عقد إنتشار هذا الفعل أنهم رأوا المصلحة في جعله حدا ما دام ضرره أكثر من الفعل ذي الحد المقرر شرعا، ولكن بعد مدة زال هذا الخطر بعد إنتشار الكتب الصحيحة في كل فن من فنون الإسلام، ولهذا تقرر عند أغلب علماء الشريعة الإسلامية أنه لا حد إلا بنص يحرم الفعل ثم يحدد له العقوبة، ويمكن بهذا التحليل أن نصل إلى نتيجة هي : معرفة عدد الحدود بشروطها الشرعية المذكورة .

أي النص على تحريم الفعل وتحديد العقوبة للفاعل بعد أن تتوفر الشروط المحددة شرعا كما سيأتي بيانه .

جواز تشديد العقوبة في غير الحدود إذا ثبت ضررها سواء كان مساويا لضرر الحد أو أكثر منه، مادام العلماء لم يحددوا العقوبة في كل تعزير .

وبهذا التوضيح يمكن لنا تحديد الحدود المنصوص عليها في القرآن الكريم أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حد الزنى، حد القذف، حد شرب الخمر، حد السرقة حد قطع الطريق وحد الردة.

العقوبات التفويضية :

لم تنص الشريعة الإسلامية على كل العقوبات للجرائم، بل نصت على البعض فقط وهي قليلة جدا، ولكنها خطيرة على أمن المجتمع وأفراده، وفوضت تحديد العقوبة في غيرها للإمام لتكون مناسبة لإستتباب الأمن وردع الجناة، وجرى عرف الفقهاء على تسمية هذا النوع : (( بالتعزير )) ، فكل جريمة لم تحدد الشريعة لها عقوبة معينة فهي من نوع التعزير، وحتى إذا كانت محددة ولكن لم تتوافر فيها الشروط الشرعية جاز للحاكم القضاء بالتعزير المناسب .

وعقوبة التعزير تكون حسب المصلحة، زمانا ومكانا وحالا فتتغير من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، وكذا حسب كل حال على حدى . إلا أن تحديد هذه العقوبة من طرف ولي الأمر أو من ينوبه أفرادا كانوا أو جماعات حسب إختصاصهم يتم إذا توفرت فيه الشروط الأساسية في الوالي .

فمن حيث ولي الأمر أو من ينوبه، فالشرط الأساسي فيه هو توليه الإمارة بحكم الإسلام ولأجل إقامة حدوده وتنفيذ أحكامه، وتوجيه الرعية وفق تعاليمه في شتى المجالات، ولا يكون كذلك إلا إذا إستوفى شروط الحاكم العادل .

أما الشروط الواجبة توفرها في عقوبة التعزير فهي :

1 أن يكون الباعث عليها هو حماية المصالح الحقيقية المقررة شرعا، لا حماية الأهواء والشهوات والمحافظة على الأوضاع القائمة وغيرها .

2 أن يكون هناك تناسب بين العقوبة والجريمة فلا يعاقب البريئ، ولا يترك المجرم بلا عقاب .

3 المساواة والعدالة بين الناس جميعا، فالعقوبات يجب أن تفرض على كل مخالف دون النظر إلى انتمائه الطائفي أو المهني أو الإجتماعي وهذا من العدل العام الذي لا يجوز مخالفته .

4 أن تكون العقوبة التي تقرر للجريمة ناجعة حاسمة للشر أو مخففة له أي محاربة الإجرام والإنحراف دون تشدد فيها قد يؤدي إلى إهدار كرامة الإنسان، لكون العقوبة تأديبا وتهذيبا، فإذا أهدرت إنسانية الإنسان كانت سببا في رسوخ الإجرام في نفسه، وإنتقامه من المجتمع .

ومن أمثلة هذا التجاوز المذموم عقوبات السجون التي أصبحت كرامة الإنسان غير معتبرة بداخلها وهي في الحقيقة مراكز إجرامية وليست مراكز تأديبية .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت