التنظيم القضائي في ليبيا الجديدة

أ. محمد حسن كاموكه

أستاذ القانون الدستوري بالجامعات الليبية

توجب ضرورات حفظ استقلال السلطة القضائية وكفالة سير عملها على النحو المرجو مراعاة بعض الأشياء شديدة الأهمية؛ منها تعيين الدستور للمحاكم حصرا، ومنع إنشاء محاكم استثنائية، وتحديد الاختصاصات العامة للمحاكم، وبيان عدد قضاة المحاكم العليا منها، والنص صراحة على حظر تحصين الأعمال القانونية للدولة من الرقابة القضائية، وكذلك النص صراحة في الدستور على حق كل شخص في الاستعانة بمحامٍ خاص أو تمثيل نفسه بنفسه أمام كل المحاكم بالدولة.

أولا – أنواع المحاكم بالدولة:

فتعيين الدستور للمحاكم حصرا ضروري وشديد الأهمية، لسد الطريق أمام إنشاء محاكم استثنائية تعمل عادة بإجراءات تهدر الضمانات المقررة للتقاضي والمرافعة والدفاع، كمحاكم أمن الدولة ومحكمة الشعب وما شابهها؛ فعندما ينص الدستور على أن محاكم الدولة هي: 1 …، 2 …، 3 …، فإن هذا يعني عدم جواز إنشاء أية محاكم أخرى، ولا يفيد أي نص آخر عام يقول بأن المحاكم يبينها القانون مثلا. ويلاحظ أن غياب الدستور في ظل نظام القذافي سهّل له ابتداع عدة أنواع من المحاكم كيفما شاء: محاكم ثورية، محكمة الشعب، محاكم تخصصية، محكمة أمن الدولة، وكان كل هذا للتنكيل –وبشكل قانوني ظاهريا- بكل من يتجرأ على نقده أو نقد نظامه.

ويجب ألا تزيد المحاكم في الدولة على المحاكم التالية:

1. المحاكم المدنية والتجارية، وتكون على درجتين تعلوهما محكمة نقض، وتختص بالفصل في كل المنازعات المدنية والتجارية، إلا ما يجيز القانون عرضه منها على محكّمين مثلا. وربما يكون إلى جانب هذه المحاكم محاكم شرعية أيضا.

2. المحاكم الجنائية، وتكون على درجتين تعلوهما محكمة نقض، وتختص بالنظر في كل الجرائم وفقا للقانون، بما فيها الجرائم السياسية أو الماسة بأمن الدولة. وربما يكون من المفيد هنا دراسة النظام القضائي الجنائي الأنجلوسكسوني للاستفادة منه، كالاستعانة بنظام المحلفين مثلا[1].

3. المحاكم الإدارية، وتكون على درجتين تعلوهما محكمة إدارية عليا، وتختص بالنظر في المنازعات الإدارية الناشئة عن عمل الإدارة العامة وما تصدره من قرارات وما تبرمه من عقود إدارية، أي فصل القضاء الإداري عن المحاكم المدنية نهائيا، وذلك لإنشاء قضاء إداري متخصص. وقد يكون من المفيد هنا افتتاح قسم خاص بالقضاء الإداري في المعهد العالي للقضاء. ويجب أن ينص الدستور على حظر تحصين الأعمال الإدارية من رقابة القضاء، حتى لا يكون ذلك سببا للتعسف والاستبداد[2].

4. المحكمة الدستورية العليا، وتختص بالرقابة على دستورية القوانين وتفسيرها، والاختصاصات الأخرى المهمة التي يبينها الدستور. وفصل هذه المحكمة عن محكمة النقض ضروري لاعتبارات تنظيمية، وكذلك التخصص.

5. المحاكم العسكرية، وتختص بمحاكمة العسكريين عن الجرائم التي يرتكبونها داخل ثكناتهم ومقارهم ومعسكراتهم، ولا يجوز محاكمة أي مدني أمام هذه المحاكم.

ثانيا – ضمانات لحسن سير العدالة:

1. يجب أن يبين الدستور كيفية اختيار القضاة، وعدد قضاة كل محكمة عليا (محكمة النقض، المحكمة الإدارية العليا، والمحكمة الدستورية العليا)؛ وذلك لسبب جوهري، ألا وهو أن بإمكان السلطة التنفيذية التأثير في سير العدالة عن طريق تعيين قضاة جدد موالين لها يخلُّون بتوازن الآراء في المحاكم، والنص صراحة على عدد القضاة يقطع الطريق على هذا الفساد[3].

2. يجب أن يبين الدستور هذه المحاكم ودرجاتها واختصاصاتها؛ لأن الخطر من سحب بعض اختصاصات هذه المحاكم ومنحها للجان إدارية أو محاكم استثنائية يبقى قائما ما لم تحصّن هذه الهيكلية وهذه الاختصاصات بالنص عليها صراحة في صلب الدستور. ويجب –بوجه خاص- النص على اختصاصات المحكمة الدستورية العليا بالتفصيل في الدستور؛ لأن ترك تحديد هذه الاختصاصات بيد البرلمان المطلوب من هذه المحكمة مراقبة تشريعاته يجعلها تحت رحمته بالكامل، فيزيد من هذه الاختصاصات وينقصها كما يشاء بما يحد من قدرة المحكمة على ممارسة رقابتها على نحو صحيح وغير مسيّس.

3. يجب كذلك أن يضمن الدستور للقاضي استقلاله، فينص على حظر نقله إلى غير عمله القضائي، وإن كان داخل المحكمة ذاتها كما كان يفعل النظام المنهار بنقل القضاة الذين لا يرغب بهم إلى المحاماة الشعبية مثلا. ولا يجوز عزل القاضي إلا بقرار من مجلس قضائي أعلى.

4. يجب أن يكفل الدستور لكل شخص حرية اختيار محامٍ خاص يمثله أمام المحاكم، وكذلك حقه في تمثيل نفسه بنفسه أمام المحاكم جميعًا؛ وينبغي عدم إنكار هذا الحق لمـا في ذلك من خطورة شديدة تطال حق التقاضي ذاته فتحول بين الأفراد وحقهم في اللجوء إلى المحاكم في بعض الحالات، فمن المتصور أن تعمد السلطة إلى منع المحامين من رفع قضايا معينة.

ثالثا – مسائل تحتاج إلى النقاش:

إضافة إلى ما ذُكر، تظل بعض المسائل بحاجة إلى نقاش، منها على سبيل المثال:

1. هل يمكن –بالنظر إلى اتساع رقعة إقليم الدولة- إنشاء دوائر أو فروع عن محكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا في بنغازي وسبها على سبيل المثال إضافة إلى العاصمة؟ فكثرة القضايا المدنية والتجارية والإدارية تجعل من الصعب على سكان المناطق البعيدة السفر إلى العاصمة لمتابعة قضاياهم في المحاكم العليا بها.

2. ما هو مصير كل من إدارة قضايا الدولة، والمحاماة الشعبية؟ فبالنسبة إلى الأولى، لوحظ في العهد السابق تراخي هذه الإدارة في الدفاع عن مصالح الدولة، ولكن ولئن كان ذلك مقبولا في عهد القذافي لأن تطبيق قوانينه حرفيًّا لا يعني إلا الدمار للآخرين، فإن هذا الأمر لن يكون مقبولا في ظل حكومة ديمقراطية وتشريعات عادلة، أي في ظل ليبيا الجديدة. فربما يكون من الأنسب لذلك السماح للجهات الحكومية بتوكيل محامين خاصين للترافع عنها أمام القضاء. وينبغي كذلك دراسة المحاماة الشعبية، أتلغى أم تبقى ولِمَ في كلتا الحالتين؟

3. يجب البحث في كل الوسائل الكفيلة بتسريع عجلة التقاضي، فما عاد من المقبول السماح ببقاء بعض القضايا سنين طويلة أمام المحاكم دون فصل فيها.

والله الهادي لسواء السبيل

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش

[1] يعمل نظام المحلفين في صورته الأصلية على تقييد سلطة القاضي الجنائي من حيث الإثبات، فيتولى المدعي العام عرض أدلة الإدانة على المحلفين، ويعمل محامي الدفاع على دحضها، ومن ثم يقرر المحلفون بناء على هذه المرافعات ما إذا كان المتهم قد ارتكب الفعل المتهم به أم لا، ويكون رأيهم بالأغلبية. فإذا قررت الأغلبية منهم أن المتهم مذنب أي أنه قد ارتكب الفعل حقا، جاء دور القاضي الذي يقتصر دوره على عمل ما درسه في كلية القانون فعلا: تطبيق القانون على الواقعة: أهي جنحة أم جناية أم ليست جريمة أصلا؟ هل توجد موانع عقاب؟ ما هو الجزاء القانوني الملائم لها في ضوء ما يبينه القانون ثم إصدار الحكم…

يساعد نظام المحلفين هذا على تفعيل التحقيق وإحيائه، فيكون على المدعي العام والمحامي كسب تأييد أغلبية المحلفين باستظهار الحقائق، وتقليب الأدلة وفحصها، والاستعانة بالشهود ومواجهتهم، والاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص من غير (الخبرة القضائية)…إلخ وليس كما كان يجري في عهد القذافي: مجرد استجواب رتيب أمام النيابة العامة يُثْبَتُ في محضره شيء ويُحرَّف شيء وينسى شيء (خاصة وأن الاستجواب يكون باللهجة العامية، والكتابة تكون بالفصحى، فتخيل كم هي الأخطاء التي سيرتكبها كاتب متوسط التعليم والثقافة عادة أو حتى عضو نيابة عامة في التعبير عن حقيقة ما يقوله المتهم)، ثم يُعرض هذا المحضر على القاضي الذي يجمع سلطة تقرير ارتكاب المتهم للفعل، وسلطة تطبيق القانون معا، ليبني رأيه عليه فقط في كثير من الأحيان بحجة أن المتهم “قد اعترف بارتكاب الفعل أمام النيابة العامة كما هو ثابت في الأوراق”، ولا يكون للمحامي دور في العادة إلا حضور الجلسات الشكلية، وتقديم المذكرات والمستندات فقط.

كما يساعد نظام المحلفين على التغلب على مشكلة الوساطة، لأنه إذا أراد أحد تبرئة متهم ما فعليه أولا إقناع أغلبية المحلفين (ربما ستة محلفين أو أحد عشر محلفا)، بعد أن كانت مشكلته هي إقناع شخص واحد فقط: القاضي الذي يرأس الدائرة أو القاضي الذي يتولى النظر في القضية. ولا شك أن إقناع ستة من عشرة أو أحد عشر من عشرين كل واحد منهم رقيب على صاحبه أصعب من إقناع شخص واحد أو حتى ثلاثة أشخاص معروفين.

هذا وقد انتقد بعض الفقهاء في مصر نظام المحلفين الذي كان السادات ينوي إدخاله في دستور عام 1971م. وكانت الحجة الأساسية لرفضه هي أن المحلفين كثيرا ما ينساقون وراء وسائل الإعلام ويتأثرون بها فيبنون آراءهم على ما تذهب إليه. وهي حجة واهية لأن الذي يعاين الأدلة ويستمع إلى الشهود والخبراء ويقرأ المذكرات ليس كالجالس بعيدا لا مصدر له إلا وسائل الإعلام. وحتى وإن صح أن لوسائل الإعلام تأثيرا كبيرا على المحلفين، فإن هذا التأثير يطال القاضي أو القضاة حتما، فعليهم ما على المحلفين إذا. ومن هنا يظهر خطأ هذا النقد. وإنما كان دافع كثير من الفقهاء في رفضهم لهذا النظام هو تأثرهم بالنظام اللاتيني فقط (الإيطالي والفرنسي) الذي لا وجود لنظام المحلفين فيه. ولكن ينبغي لنا دراسة هذا النظام جيدا ومحاولة الاستفادة منه، لا أن نكون مجرد مقلدين لا رأي لهم.

[2] جرت العادة في مصر أيام عبد الناصر على إصدار قوانين تنص على أشياء مثل “يجوز عند الضرورة حل مجلس المحافظة أو مجلس المدينة أو المجلس القروي بقرار من رئيس الجمهورية … ويكون غير قابل للطعن فيه أمام أية جهة كانت”. راجع عدة أمثلة عند: د. سليمان الطماوي، القضاء الإداري، الكتاب الأول- قضاء الإلغاء (ط 7، دار الفكر العربي، 1996م)، ص 364-369. وقد تم نقل بعض هذه النصوص أيام المملكة من مصر كذاك الذي جاء فيه أن “لا يجوز الطعن بالإلغاء أو وقف التنفيذ أمام أية هيئة قضائية في القرارات أو الأوامر الصادرة من الهيئات الجامعية في شئون طلابها”، وقد قضت المحكمة العليا بعدم دستوريته في حكمها الصادر بتاريخ 10/6/1972.

وعندما صدر دستور عام 1971م في مصر، كان من أهم المزايا التي ميزته هي نصه على حظر مثل هذه النصوص التي تبعد أعمال الإدارة العامة عن رقابة القضاء. ويذكر هنا أن نظام حسني مبارك قد لجأ إلى حيلة أخرى تغلب بها -إلى حد ما- على هذا الحظر، وهي ما عرف باسم “الإجازة البرلمانية”، وتكون بأن تعرض الحكومة على مجلس الشعب عملا من أعمالها سبق للمحاكم أن قضت ببطلانه، فيقرر هذا المجلس إجازة هذا العمل، بحجة أن دور القضاء الإداري هو التعرف إلى نية المشرع من خلال قوانينه، فإذا ما عبّر المشرع عن رأيه في عمل ما صراحة، فلا محل لرأي القضاء! ولذا يجب النص في الدستور الليبي الجديد على حظر هذه الإجازة البرلمانية وما شابهها.

[3] يقول الدكتور إسماعيل مرزة في كتابه: القانون الدستوري (منشورات الجامعة الليبية، 1969م)، ص 534 في هذا الشأن إن: “عدم تحديد الدستور لعدد أعضاء المحكمة يعطي السلطة التنفيذية إمكانية ممارسة ضغط على المحكمة عن طريق زيادة عدد أعضائها في حالات خاصة مما يترتب عليه احتمال وقوع المحكمة تحت تأثيرات السلطة التنفيذية”، وقال أيضا: “… تنص غالبية الدول التي تأخذ بنظام الرقابة القضائية على تحديد عدد قضاة المحكمة العليا في صلب دساتيرها وذلك لئلا تقع المحكمة تحت رحمة السلطة التشريعية أو التنفيذية”.