العدل و الشرعية

يعتبر العدل قوام الحكم، بل هو قوام الكون كله، فقد حرم الله تعالى الظلم على نفسه قبل أن يحرمه على الخلق كما ورد في صحيح الحديث . وإنما شرع الله الحكم، وتواضع عليه الخلق، هربا من جور بعضهم البعض. فإذا كان الحاكم هو مصدر الظلم لا الملاذ منه، فإن وجود مثل هذا الحكم مثل عدمه، بل هو أسوأ من عدمه، لأن ظلم الأفراد يحد منه الخوف من السلطان، ويخفف منه الاعتقاد بوجود من ينصف من مرتكبه، أما ظلم الحكام فإنه ظلمان، حيث أنه تغول على الحقوق أولا، وخيانة للأمانة التي قاموا عليها ثانيا، حيث استؤمنوا على رد الحقوق لأصحابها فأصبحوا هم أول من يتعدى عليها.

أسس الحكم الشرعي ودور العلماء

لا يخفى أن قوام العدل ورأس أمره الرجوع إلى شرع الله، والتمسك بكتابه وسنة رسوله. ومن نعمة الله تعالى على أهل هذه البلاد أن جمع سوادهم على الرضى بحكم الله تعالى. وإذا كان الشرع الحنيف هو المرجع الذي نتحاكم إليه عملا بقوله تعالى: “وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا” (النساء: 59)، فإن من شرط رد الأمر إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم العلم بالأحكام، واستشارة أهل العلم لمن لم يكن عالما. ولكن العلم بالشرع لا يؤخذ من كل من ادعاه، وإن كان من حملة الشهادات وحفظة المتون، بل لا بد أن يكون العالم مرضي السيرة، مشهودا له بالتجرد من الهوى، معروفا بالضبط ورجاحة العقل وتحري الصدق. هذا مع أن دور العلماء العاملين في بيان الشرع لا يغني عامة أفراد الأمة عن بذل الجهد والتثبت والمساهمة في تفصيل وتحليل الواقع. فقد يكون من العلماء من يحل الحرام ويحرم الحلال، ويكتم العلم أو يحرف الكلم عن مواضعه، فيهلك ويهلك.

مكانة الشورى ودور المؤسسات العلمية

لقد بين السلف الصالح بسيرتهم كيف تقوم الجماعة بفرض الكفاية في هذا الأمر، وذلك من خلال الاجتهاد الشرعي، وتأمين حرية الحوار والتدارس، حتى يعرض قول كل عالم على غيره من العلماء، من أجل أن يتبين الحق لمتحريه. فتكاثر العلماء وتعدد المؤسسات العلمية، ونشر العلم وتداوله بكل سبيل يتيح لأفراد الأمة أن يستوثقوا من الأحكام بتواتر الأقوال وتضافرها. وفوق هذا وذاك فإن الأمة بأجمعها في مقام الشهادة على علمائها، تمحص سيرتهم وأقوالهم وثباتهم على الحق، كما قال تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (البقرة: 142) وأكبر شهادة لصدق العلماء عند الأمة هي ثباتهم عند المحن، وعدم خضوعهم للإغراء والإرهاب من أي جهة أتى. وإنما الحكم في أقوال العلماء وسيرتهم هو إجماع الأمة عبر الشورى كما سنبين بإذن الله. مما سبق يتضح أن شروط الامتثال لأمر الله وتطبيق شرعه تتمثل في قيام الهيئات العلمية المستقلة التي تتولى أمر بيان العلم، وتقود مسيرة الاجتهاد، وتصدع بالحق لا تخاف في الله لومة لائم، ولا تشتري بآيات الله ثمنا قليلا، وأن تتعدد هذه المؤسسات حتى تعرض أقوال العلماء على نظرائهم، وأخيرا تحكم الأمة عبر ممثليها الشرعيين الذين اختارتهم أيضا بكامل حريتها وإرادتها، وارتضتهم من أهل النزاهة والكفاءة والعلم أيضا، على المرتضى من سيرة العلماء الذين يقتدى باجتهادهم. إضافة إلى ذلك يتحتم توسيع الشورى عبر كافة المنابر والقنوات الإعلامية، حتى تكون الأمة كافة على بينة من كل حجة وقول، ويدلي كل من شاء من ذوي الأهلية برأيه، فتكتمل بهذا عدة الأمة لتدبير شؤونها على بينة من أمرها

دور القضاء المستقل

إن الركن الثالث لضمان هيمنة الشريعة هو وجود القضاء المستقل العادل النزيه الذي يكون المرجع في تطبيق الأحكام، والحكم الفصل في كل خلاف استنادا على الشرع. والقضاء هو أم الهيئات في دولة الشرع، لأنه الجهة التي تلزم المتخاصمين بالأحكام، وتتولى الرقابة على بقية المؤسسات للتأكد من التزامها بقواعد الشرع. ولهذا فمن الواجب ألا يختار للقضاء إلا أهل العلم والكفاءة، من المشهود لهم بالنزاهة، وأن يكون القضاء مستقلا لا سلطان لجهة أخرى عليه إلا في حدود الشرع، وأن توضح القوانين كيفية محاسبة القضاة وعزلهم عبر آليات الهيئة القضائية نفسها، وأن تفصل كيفية الرجوع إلى حكم القضاء في الأمور المختلفة، وكيفية تنفيذ أحكامه وخضوع السلطة التنفيذية لها، سواء أكان التظلم من أفراد، أو مسؤولين، أو من الدولة، إضافة إلى عرض القوانين وقرارات الجهاز التنفيذي على القضاء للفتوى بموافقتها الشرع من غيره إذا لزم الأمر. وفوق كل ذلك لا بد أن تحدد القوانين واللوائح الضمانات الكافية لحقوق العباد، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله، وتوضح كيفية التظلم لمن أضير، وتجعل ذلك ميسّرا للكل، وأن يكون القضاء هو الحكم النهائي في هذا المجال، ويسري حكمه في ذلك على كل مؤسسات الدولة من أعلاها إلى أدناها.

ولا يتم تقويم هذا الوضع إلا بإصلاح شامل على نحو ما بينا أعلاه مما يمكن إجماله في ما يلي:

أولاً: ووضع نظام دستوري سليم يؤكد معاني العدالة وهيمنة الشرع.

ثانياً: ترجمة هذه المبادئ عمليا بإقامة مؤسسات تمثيلية تستند إلى سيادة الشريعة ورضا الأمة، وإصلاح مؤسسات الحكم على أسس الشورى والعدل.

ثالثاً: تأكيد استقلال المؤسسات العلمية والدينية وإصلاحها إداريا ، ودعمها بكل سبيل لأداء واجبها، وتولية أمرها إلى المؤهلين من أهل العلم والنزاهة والكفاءة.

رابعاً: ضمان هيبة القضاء ونزاهته، وحصر الاختصاص القضائي في مؤسساته، وتحقيق الفصل الواضح بين القضاء والجهاز التنفيذي بحيث لا تصبح الدولة هي الخصم والحكم كما يحدث في أحيان كثيرة.

خامسا: تنقية التشريعات والأنظمة والمؤسسات القائمة مما يخالف الشرع.