شروعية الدولة وغاياتها

طرح الإشكال:

السلطة ظاهرة محايثة للاجتماع البشري. ومادامت السلطة تقتضي الامتثال والخضوع، فإنها تحتاج دوما إلى تبرير وشرعنة، بما في ذلك سلطة الأب على أبنائه! هكذا يجد كل ذي سلطة نفسه مطالبا دائما بتبرير سلطته، وعندما تتخذ السلطة شكل دولة، فإنها تواجه بدورها سؤال التبرير والمشروعية:
لماذا الدولة؟ وما غايتها؟ ما علاقتها بالأفراد المكونين لها؟ هل تستمد الدولة من الفرد مبدأ وجودها أم أن الفرد هو الذي يستمد من الدولة مبدأ وكمال وجوده؟ هل الدولة في خدمة الفرد أم الفرد في خدمة الدولة؟

معالجة الإشكال:

1- موقف التصور التعاقدي والمذهب الفرداني: الفرد غاية الدولة

للبحث في مشروعية الدولة وتعيين غاياتها يلجأ التصور التعاقدي إلى البحث أولا في منشئها، انطلاقا من فرضية حالة الطبيعة. يقول لوك: ” لكي نفهم السلطة السياسية فهما صحيحا ونستنتجها من أصلها ينبغي أن نتحرى الحالة الطبيعية التي وجد عايها جميع الأفراد” هنا تظهر الدولة كمجرد اتحاد بين أفراد يتمتعون بحقوق طبيعية سابقة زمنيا على ظهور الدولة رغبوا لهذا السبب أو ذاك في تيسير العيش المشترك، وأولى حقوقهم هي إرادتهم التي جسدوها في هذا العقد. ينتج عن ذلك أن لا حقيقة ولا وجود للدولة قبل الفرد، الفرد مقدم و سابق عليها، منه تستمد مبرر وجودها ومن ضمان مصالحه تشتق غاياتها. ولذلك يقترن التصور التعاقدي أحيانا بالمذهب الفردي وأحيانا أخرى بالليبرالية
ماذا ينتظر من الدولة؟ وما غاياتها؟
يميز جون لوك بين الخيرات المدنية والخيرات الدينية أو نجاة الأرواح. وتتمثل الأولى في خيرات ذاتية كالحياة والحرية وسلامة البدن وخيرات خارجية كالأرض والنقود وما سواها من الممتلكات، أما الخيرات الدينية فهي تقوى النفس ونجاتها من الضلال والشقاء الأبدي في الآخرة. و اختصاص الدولة بوصفها سلطة مدنية يقتصر على حماية الخيرات المدنية أما ترامي سلطانها إلى الخيرات الدينية فلن ينجم عنه سوى الحرب وتقويض السلم المدني

2- موقف التصورات الكليانية: الدولة غاية ذاتها

بيد أن تقديم الفرد على الدولة – كما رأينا مع التصور التعاقدي والليبرالي- لا يعني عند بعض الفلاسفة سوى خراب هذه الأخيرة! إذ كيف يعقل أن يستمد مبدأ الكل من الجزء والدائم من العرضي؟
تتمثل غاية الدولة عند أفلاطون في تحقيق السعادة، لا بوصفها سعادة الفرد، بل بوصفها نظام وانسجام الكل: وعليه لا يعدو الأفراد عن كونهم مجرد لوالب في جوف هذه الآلة الضخمة المسماة دولة، يقومون بمهام تتناسب وطبائعهم التي ولدووا بها، ينتجون وينجبون ويحاربون من أجل الدولة. فلا قيمة لرغباتهم أو مسراتهم أو أحزانهم أو عواطفهم إلا بما يحقق لهذه الأخيرة النظام والانسجام.

وفي العصر الحديث، يرفض “هيجل” بدوره التصور التعاقدي السابق لكونه يجعل غاية الدولة “خارجية ” عندما يحصرها في تحقيق السلم والحرية وحماية ممتلكات الأفراد. فالدولة بهذا المعنى ستكون مجرد وسيلة لتحقيق أهداف خارجة عنها، أهداف يعتبرها “هيجل” خاصة بالمجتمع المدني، كمجال لإشباع حاجيات الأفراد اليومية والانتاج الاقتصادي وللتنافس بينهم في ظل تعارض مصالحهم الخاصة، في حين أن الدولة تمثل غاية في ذاتها بوصفها تجسيدا للمطلق. و ككيان ينتزع الفرد من الخصوصية والأنانية ليسمو به إلى مستوى الكونية ويحقق اكتماله الأخلاقي، وذلك لأنها هي الجوهر الأخلاقي وقد وصل إلى الوعي بذاته.

نخلص إلى أن هيغل يقدم الدولة على الفرد ويجعلها سابقة على الأسرة والمجتمع المدني نفسيهما لأن فكرتها محتوية لهذين العنصرين معا: ففي حضن الدولة فقط تستطيع الأسرة أن تتحول إلى مجتمع مدني.
ويبدو أن الماركسية لم ترث عن الهيغيلية منهجها الدياليكتيكي فحسب، بل تصورها الكلياني للدولة بإسم أولوية الجماعة على الفرد، وانتهت إلى صهر هذا الأخير وإلغائه لصالح الدولة وأجهزتها البيروقراطية والبوليسية: لقد غدت الدولة فعلا غاية في ذاتها وهذا ما تجلى واضحا في بعض الأشكال الواقعية للدولة في الكثير من البلدان الاشتراكية ودول العالم الثالث