مبدأ الأمن القانوني

تتنوع معاني الأمن التي يحتاجها المجتمع، وإن كان يعنى بالأمن في الأساس تحقيق الطمأنينة والسلام الاجتماعي في كافة ربوع الوطن.

وبجانب هذا المعنى التقليدي، هناك الأمن الاقتصادي، بتوفير البيئة المناسبة لنمو الأعمال التجارية وزيادة الاستثمار الوطني والأجنبي الذي يعتبر دعامة أساسية للتنمية، وذلك لأنه يشكل إضافة إلى الطاقة الإنتاجية، وزيادة في الثروات، لما لذلك من أثر في إشباع الحاجات وتوفير الخدمات.

وهناك الأمن الفكري، والذي يتمثل في حماية فكر المجتمع وعقائده من أن ينالها عدوان أو ينزل بها أذى، لأن ذلك من شأنه إذا حدث أن يقضي على ما لدى الناس من شعور بالهدوء والطمأنينة والاستقرار ويهدد حياة المجتمع. وهذا يعني الأمان والاطمئنان في مصادر تلقي الفكر وأعماله، وسلامة تلك المصادر بأن يتلقى الفرد من مصادر فكرية موثوقة، وكذلك حماية المجتمع من ارتفاع نسبة الجريمة والعنف والتطرف والإرهاب. والبعد عن كل فكر ضال منحرف وذلك باعتبارها مصلحة جديرة بالحماية لتجنب المجتمع شوائب عقائدية أو فكرية أو نفسية تكون سبباً في انحراف السلوك والأفكار والأخلاق عن الصواب أو سبباً للوقوع في المهالك.

وهناك أيضاً الأمن النفسي والاستقرار الأسري، وهناك ما يسمى بالأمن البيئي، في الحصول على بيئة نظيفة خالية من التلوث بكافة أنواعه، وأيضاً الأمن الصحي، للوقاية والحماية من الأمراض والعدوى مما يوفر حياة آمنة، بل علاوة على ذلك فهناك الأمن العلمي، والغذائي، والعسكري، والمعلوماتي، والسياسي، والوظيفي وأخيراً الأمن القضائي. وبذلك وبحق تعدد معني الأمن التي يجب توافرها لتحقيق الاستقرار المجتمعي وبالتالي تحقيق الرخاء والرفاهية لأفراد المجتمع. فالطبيعة تأبى الفراغ، وحتى لا تدور الدوائر، يلزم حكم القانون.

والسؤال المطروح كيف يمكن تأمين ما ذكر من صور مختلفة ومتعددة من الأمن؟ وللإجابة، يلزم ضرب المثال التالي، فالأمن الاقتصادي، منفرداً لا يكفي لتوفير معنى الاستقرار أو بشكل عام، الأمر الذي يتطلب أيضاً استقراراً في مختلف الميادين. ولذلك يعتبر الأمن أو الاستقرار القانوني من أهم شروط ومقومات النجاح الاقتصادي. فالنشاط الاقتصادي يتمخض في نهاية الأمر على تحديد مراكز قانونية للأفراد والمشروعات، وبقدر ما تكون هذه المراكز القانونية واضحة ومحددة ومعترف بها وتحظى بالاحترام من جانب السلطة العامة والمجتمع، بقدر ما يمكن أن تتم الأعمال في سهولة ويسر، وبقدر ما يشوب هذه الأمور من غموض أو خلط أو عدم يقين بقدر ما ترتبك الأعمال بل وقد تتوقف تماماً.

ولذلك لجأ المشرع في الدول المختلفة لسن التشريعات لكفالة الحقوق وضمانها وتحديد العلاقات، وأن كان المشرع قد استخدم الطريق الجزائي لحماية بعض الحقوق التي رآها جديرة بالحماية وذلك لأثارها على تحقيق الأمن واستقرار المجتمع وسميت بذلك بالمصالح الجوهرية.

وعليه أقدم المشرع إلى تجريم احتكار المنتجات الغذائية، أو البيع بأكثر من التسعيرة، والمضاربات غير مشروعة، وذلك لحماية وتحقيق الأمن الغذائي ومن ثم تحقيق الأمن القانوني. وكذلك تجريم الفكر المنحرف، من طبع ونشر وتوزيع المواد الإباحية وبخاصة على الأطفال… الخ، وبذلك يتم تحقيق ما يدعى بالأمن الفكري،…. وهكذا.

وبالعودة إلى النصوص القانونية المعمول بها دولياً، لا نجد أي تعريف لما يسمى بالأمن القانوني، إلا أن مجلس الشورى الفرنسي، أعطى مدلولاً يمكن الركون إليه، استناداً على عدد من المبادئ القانونية، التي لا بد من الالتزام بها سواء من قبل المحاكم، أو من قبل المشرع، في أي بلد أو مجتمع، قائم على حكم القاعدة القانونية.

التي تتفرغ على فكرة الأمن القانوني، أو الاستقرار القانوني، ويأتي في مقدمتها:

أولاً: العلم بالقاعدة القانونية وإتاحة إمكانية الوصول إليها: والالتزام الخاص، الذي يترتب على الدولة، بالاهتمام بنشر النصوص السارية المفعول، سواء منها التشريعية أو التنظيمية، وعلى هذا نصت المادة 116 من القانون الأساسي الفلسطيني لسنة 2003 وتعديلاته على أن :” تصدر القوانين باسم الشعب العربي الفلسطيني، وتنشر فور إصدارها في الجريدة الرسمية، ويعمل بها بعد ثلاثين يوماً من تاريخ نشرها ما لم ينص القانون على خلاف ذلك”.

وكذلك مع ما يعنيه ذلك من استخدام لغة واضحة تسمح للمواطن بإدراك حقوقه وموجباته وأحكامه، مما يعني صياغة القاعدة القانونية بطريقة واضحة، وأسلوب لا يحتمل التأويل، وهو ما أكدته محكمة العدل الأوروبية في استراسبورج في العديد من أحكامها، وفي ذلك تقول المحكمة الدستورية العليا المصرية في جلسة 1/10/1994م، في القضية رقم 20 لسنة 15 قضائية دستورية:

“أن النصوص العقابية لا يجوز من خلال انفلات عبارتها أو تعدد تأويلاتها أو انتفاء التحديد الجازم بضوابط تطبيقها أن تعرقل حقوق كفلها الدستور، ويجب ألا تكون هذه النصوص شباكاً أو شراكاً يلقيها المشرع متصيداً باتساعها أو بإخفائها المتهمين المحتملين ليكون تصنيفهم وتقرير من يجوز احتجازه من بينهم عبئاً على السلطة القضائية لتحل إرادتها بعدئذ محل إرادة السلطة التشريعية، وهو ما لا يجوز أن تنزلق إليه القوانين القضائية باعتبار أن ما ينبغي أن يعينها هو أن تحدد بصورة جلية مختلف مظاهر السلوك. بما يكفل دوماً ألا تكون هذه القوانين مجرد إطار لتنظيم القيود على الحرية الشخصية بل ضماناً لفاعلية ممارستها”.

ثانياً: تحقيق الاستقرار النسبي: ولذا يشترط في التشريعات الناظمة لشتى ميادين النشاط الإنساني، نوعاً من الثبات والاستقرار وليس التعديل الدائم مما يؤثر على استقرار الأوضاع، وهو ما يوجب على المشرع أن يضع القوانين بعد الدراسة المستفيضة.

فعندما نتحدث عن الاستقرار القانوني المصاحب لأي نشاط مجتمعي، أو لتحقيق أي معنى من معاني الأمن سالفة البيان، فإن ذلك يعني أن تكون المراكز القانونية الناجمة عن النشاط البشري واضحة وفعالة وغير معرضة للاهتزاز والمفاجآت، فأي نشاط بشري وأهمها على سبيل المثال النشاط الاقتصادي لكونه بطبيعته نشاط ممتد من الزمن، وجوهر الاقتصاد التعامل مع المستقبل والرهان عليه، ولذلك فينبغي أن تكون هناك فكرة واضحة عن المراكز القانونية ليس في الحاضر فقط، وإنما في المستقبل أيضاً.

وليس معنى ذلك أن القانون ينبغي أن يظل جامداً، فهذا هو أبعد الأشياء عن الحقيقة، وإنما المقصود هو ألا يكون مجال تطور القانون وتعديله ميداناً للمفاجآت والصدمات. فالقانون يعبر عن حاجات المجتمع، وهي بطبيعتها في حالة تطور، ولكنه تطور معروف المعالم، ومن ثم فإن المشرع لا يقيم فخاخاً عند تعديل القانون، كما لا يصدر قوانين بأحكام غير متوقعة أو فجائية. ولذلك فإن الأمن القانوني أو الاستقرار القانوني لا يعني فقط حماية المراكز القانونية القائمة واحترام حقوق الأفراد وضمانها في الحاضر والمستقبل، ولكن الأمن يعني أيضاً وبنفس القوة احترام التوقعات والآمال المشروعة.

وإذا كانت القوانين الجديدة ينبغي ألا تكون فخاً أو كميناً يفاجئ الأفراد، فكثيراً ما تكون الأحكام القائمة أشبه بالفخ أو المصيدة، عندما تصدر أحكام في قوانين لا علاقة بها بهذه الأحكام، كأن يفاجأ الشخص بضرائب أو بغرامات ليست في قانون الضرائب وإنما في قوانين أخرى غير متوقعة. فالقاعدة التي تتطلب ألا يعذر أحد بجهل القانون، تفترض أيضاً حسن النية بأن تكون الأحكام واردة حيث يتوقعها الإنسان وليست في مكمن. فإن الأمن القانوني أو الاستقرار القانوني لا يعني الجمود وعدم تعديل القوانين، بل كثيراً ما يكون هذا الجمود وعدم التغير مظهراً لعدم الاستقرار. فالقانون وهو يتطلب التلاؤم مع الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية فإنه يتطلب التطور المستمر مع هذه الاحتياجات لتحقيق الأمن القانوني أو الاستقرار القانوني. فاستمرار قوانين بالية لا تتفق مع العصر واحتياجاته وبالتالي يصعب احترامها، يعتبر مظهراً من مظاهر عدم الأمن القانوني أو عدم الاستقرار القانوني بما يخلقه من أوضاع شاذة بين قانون غير مطبق وواقع جديد لا يعرف تنظيماً قانونياً سليماً.

فالأمن القانوني أو الاستقرار القانوني يعني الملاءمة المستمرة بين أحكام القانون واحتياجات المجتمع. ولذلك فجمود القوانين قد يكون مدعاة لعدم الأمن أو الاستقرار. (ينظر الدكتور/ حازم الببلاوي: الاستقرار القانوني). ومما هو جدير ذكر أن الأمن القانوني أو الاستقرار القانوني لا يتطلب فقط الوضوح والفاعلية كما ذكرنا، بل إنه يفترض أيضاً تطور المفاهيم القانونية وتفاعلها مع العصر خاصة وأننا نتعامل في عالم تتزايد فيه العلاقات الاقتصادية بين الدول. ولذا يجب تطور ومعاصرة التطورات والمفاهيم القانونية اللازمة لمواجهة واحتياجات التعامل. فلا أحد يستطيع أن ينكر أن ظهور مفهوم الملكية والحق العيني كان فكرة ثورية ساعدت الثورة الزراعية، كما كانت فكرة الشركة المساهمة والأوراق التجارية والأوراق المالية أفكاراً ثورية دعمت الثورة الصناعية. والآن ونحن على أعتاب الثورة الاقتصادية الثالثة-ثورة المعلومات- نعاصر ازدهاراً في أهمية نوع ثالث من الحقوق، وهو حقوق الملكية الفكرية، فقد أصبحت الملكية الفكرية عنوان ثورة المعلومات، ولذلك يجب أن يتكاتف التطور القانوني مع التطور التكنولوجي والاقتصادي.

والمحصلة: أن الأمن القانوني هو استبعاد خطر عدم الاستقرار وانعكاسات التغيير المفاجئ للقاعدة القانونية، على حماية الفرد، لاسيما متى تعلق الأمر بالحقوق والحريات. وعليه فهو ضمانة وحماية ضد اعتباط السلطة ومزاجية الأحكام عبر رسم الحدود بين الممنوع والمسموح، بشكل واضح.

ثالثاً: فكرة التوقع المشروع أو الثقة المشروعة: بمعنى احترام التوقعات المشروعة للأفراد، والمبنية على القواعد والأنظمة القانونية السارية المفعول، بما يجعلهم يطمئنون إلى نتيجة أعمالهم وتصرفاتهم، مع ما يرتبط بهذا الأمر من استقرار في العلاقات.

حيث تعد فكرة التوقعات المشروعة للأفراد واحترامها ذات قيمة دستورية استناداً إلى المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789م. بل أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي ألزمت الحكومات بتطبيق هذه القاعدة في كافة التشريعات واللوائح التي تصدرها، باعتبارها من المبادئ القانونية الأساسية الملزمة على مستوى القارة الأوروبية ضماناً لحقوق الأفراد.

وبمقتضى مبدأ الأمن القانوني، يلزم المشرع بعدم مفاجأة أو مباغتة الأفراد أو هدم توقعاتهم المشروعة. وتعتبر فكرة التوقع المشروع من جانب الأفراد من الأفكار الحديثة في القوانين الأوروبية، وترتبط هذه الفكرة ارتباطاً وثيقاً بفكرة الأمن القانوني وتعتبر صورة من صورها. وتعني فكرة التوقع المشروع أو الثقة المشروعة أن القواعد العامة المجردة التي تصدر من السلطة التشريعية في صورة قوانين أو تصدر عن السلطة التنفيذية في صورة لوائح إدارية يجب ألا تصدر بطريقة فجائية مباغتة تصطدم مع التوقعات المشروعة للأفراد والمبنية على أسس موضوعية مستمدة من الأنظمة القائمة على هدى من السياسات الرسمية المعلنة من جانب السلطات العامة والوعود والتأكيدات الصادرة عنها.

وبذلك نجد أن المحكمة الدستورية العليا المصرية قد أشارت إلى مبدأ الأمن القانوني في العديد من أحكامها، مؤكدة أن السلطة التشريعية تلتزم دستورياً بمراعاة فكرة التوقع المشروع من جانب الأفراد. وقد ظهرت فكرة الأمن القانوني في قضاء المحكمة الدستورية العليا باعتبارها أساساً استندت إليه المحكمة في تقييد الأثر الرجعي لبعض التشريعات في غير المجال الجنائي. فقد قدرت المحكمة أن تطبق بعض النصوص بأثر رجعي من شأنه المساس بالمراكز القانونية بشكل يتجاوز التي تسمح بها المبادئ الدستورية (ينظر الدكتور/ أحمد عبد الظاهر، الأمن القانوني كقيمة دستورية).

وفي ذلك قضت محكمة العدل العليا الفلسطينية في القضية رقم 56/99 بالقرار رقم35، بتاريخ 5/2/2003م على أنه: “استقر الفقه والقضاء على أن للإدارة سلطة تقديرية في تقدير المرفق العام وتنظيمه شريطة عدم المساس بحقوق الأفراد والموظفين”. وعليه: لا يجوز للمشرع أن يقيم فخاخاً عند تعديل القانون، كما لا يصدر قوانين بأحكام غير متوقعة أو فجائية. وخلاصة العقد: أن الاستقرار القانوني أو الأمن القانوني لا يعني فقط حماية المراكز القانونية القائمة واحترام حقوق الأفراد وضمانها في الحاضر والمستقبل، ولكن الاستقرار يعني أيضاً وبنفس القوة احترام التوقعات والآمال المشروعة. فإذا كان الاعتداء على الحقوق القائمة اعتداء على الاستقرار القانوني، فإن تهديد الآمال المشروعة وإحباطها لا يقل إخلالا بفكرة الأمن القانوني.

رابعاً: اليقين القانوني: فهو يعتبر أساسياً، لاسيما في مجال الحريات والعقوبات الجزائية، ويرتبط بهذه الإمكانية، مبدأ الابتعاد عن التشريعات الاستثنائية، إلا في حالة الطوارئ المحددة قانوناً، وكذلك مبدأ عدم رجعية، بما يضمن عدم تجريم أفعال سابقة لصدور قانون معين.

خامساً: تحقيق دولة القانون: بمعنى أن الأمن القانوني أو الاستقرار القانوني بالمعنى المتقدم ليس فكرة نظرية وإنما هو ممارسة يومية تقتض الوضوح في المراكز القانونية للأفراد في معاملاتهم اليومية وضمان حصولهم فيما بين الأفراد يمثل الكثرة الغالبة للعلاقات القانونية، فإن علاقات الأفراد بالسلطة تحتل أهمية بالغة في توفير معنى الأمن أو الاستقرار واحترام القوانين. فالسلطة ليست طرفاً عادياً في العلاقات القانونية، بل إنها الطرف الأقوى والذي يفرض النموذج والمثال. فإذا كانت الدولة وأجهزتها تخل باحترام القوانين، وتميز في المعاملات بين الأفراد، وتخرج عن الأحكام، فإنه يصعب أن يسود جو من احترام القانون. فالقانون يجد سنده الأساس في قيام السلطة بفرض احترامه جبراً على الأفراد، ولا تنجح الدولة في ذلك ما لم تكن الدولة هي النموذج الأول لاحترام القانون. ويبدأ الإخلال بالقانون عندما تعمل أجهزة الدولة وسلطاتها إلى التحرر من التزاماتها القانونية. فلا وجود لقانون ما لم تسنده سلطة تنفيذية تفرض احترامه –جبراً عند الضرورة- على الأفراد. ولا سلطة تنفيذية ناجحة تستطيع أن تفرض احترام القانون إذا لم تتقيد هي احترام القانون. وكل تلك لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل دولة القانون، تتحدد فيها بوضوح المراكز القانونية وتحترم الحقوق قولاً وفعلاً (ينظر الدكتور/ حازم الببلاوي، المرجع السابق).

ومما هو جدير ذكره، أن القضاء يعتبر عنصراً حاسماً في حل المنازعات. ومن هنا فإن فاعلية القضاء هي جزء أساسي من فكرة الأمن القانوني. وعندما نتحدث عن القضاء فإن ذلك يمتد إلى أعوان القضاء من المحامين وأجهزة تنفيذ هذه الأحكام والقضاء بهذا المعنى هو الضمان النهائي لدولة القانون. وقد وجدت بعض الدول النامية أن أهم ميزة لجذب المستثمرين الأجانب والوطنيون هي توافر نظام قضائي ذي مصداقية عالية مثال تجربة قبرص وسنغافورة وهونج كونج وماليزيا.

ولذلك كان لمحكمة النقض أو التمييز دور لضمان حسن تطبيق القانون، فهي رأس هرم المحاكم المختلفة، وبالتالي تحقيق الأمن القانوني، حيث عملت هذه المحكمة في شتى الأنظمة القضائية على تأكيد سيادة القانون من خلال استخلاص معناه الحقيقي وصولاً لاستخدام رقابتها من أجل العمل على توحيد كلمة القانون. وقد ساهمت محكمة النقض عبر قضائها المستنير في تحقيق الاستقرار القانوني، لأن اختلاف المحاكم في تطبيق القانون من شأنه أن يؤدي إلى تعدد معناه واختلاف الناس في تفسيره. وهذا الأمر يؤثر في الأمن القانوني بما يزعزع سيادة القانون ويخل بمبدأ المساواة أمام القانون، ولهذا حرصت محكمة النقض على منع هذا الاختلاف، وتحقيق الاستقرار في تحديد معنى القانون لضمان سلامة تطبيقه. (أستاذنا الدكتور/ أحمد فتحي سرور: دور محكمة النقض في توحيد كلمة القانون).

ومن نافلة القول الإشارة إلى أن العدل شرط أساسي لتحقيق الأمن القانوني والقضائي والبناء الديمقراطي، فالعدل يعد فكرة ذات معيار أخلاقي تتضمن مبادئ وشروطاً مركبة ومتداخلة فيما بينها، وهو أيضاً بمثابة التجسيد الأمثل لجميع القيم الأخرى، وبذلك يمكننا أن نعرف مفهوم العدل من خلال التصورات النظرية والمواقف الفكرية بأن للعدالة أربعة عناصر أساسية تقوم عليها تتمثل في القوانين والإطارات المؤسساتية والأشخاص المؤهلين وكذلك في المجالات التطبيقية. ولا شك أن الأمن القانوني هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها تلك العناصر الأساسية المكون لفكرة العدل.

وعليه فإننا نتفق مع ما عرفه البعض لمبدأ الأمن القانوني أحد أهم الأسس لتي يقوم عليها بناء الدولة القانونية من أنه يعني: “ضرورة التزام السلطات العامة بتحقيق قدر من الثبات النسبي للعلاقات القانونية وحد أدنى من الاستقرار للمراكز القانونية المختلفة بهدف إشاعة الأمن والطمأنينة بين أطراف العلاقات القانونية، بحيث يتمكن الأشخاص من التصرف باطمئنان على هدى من القواعد والأنظمة القانونية القائمة وقت قيامها بأعمالها وترتيب أوضاعها على ضوء منها، دون التعرض لمفاجآت أو تصرفات مباغتة صادرة عن السلطات العامة يكون من شأنها زعزعة هذه الطمأنينة أو العصف بهذا الاستقرار واحترام السلطات كافة لحكم القانون وتطبيقه حتى وأن كان يتعارض مع مصالحها. لتضرب مثالاً للأفراد لاحترام القانون وتحقيق فاعلية القضاء باعتبارها جزء أساسي من فكرة الاستقرار والأمن القانوني لكونه عنصراً حاسماً في حل المنازعات، وبما تضمنه محكمة النقض من توحيد كلمة القانون على كافة المحاكم بما يحقق الأمن القانوني.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت