حقوق الانسان قبل واجباته

كثيرًا ما يُكتب في البلاد العربية عن واجبات الإنسان، في حين أن واجباته تجاه الدولة لا تحتاج لأولوية؛ لأنها تؤخذ بسلطة الحكم وقوته، بخلاف واجباته تجاه المجتمع التي هي نوع من التعاطي الفطري بعفوية، في حين أن “الحقوق” هي التي لا تملك قوة السلطة التي تضمن استيفاءها لأهلها، فضلاً عن أن الواجبات لا تأتي مجردة بقدر ما تكون نتيجة للحقوق، كالعامل حين تعطيه حقوقه فتطالبه بواجباته، ومثله الزوج غير المنفق حين يسقط من حقوقه بقدر نقصان واجباته، وكذلك النشوز للمرأة بحيث تسقط نفقتها به، وهكذا “الغنم بالغرم”.

وكم ملّت الشعوب من جهتين، إحداهما في داخل الأنظمة السياسية التي لا تجيد إلاّ ترديد واجبات المواطنة؛ في حين أنها انتقصت الحقوق، وتدخّلت في أدق تفاصيل الحريات الشخصية، وثانيتهما في الخارج حيث الدول الكبرى والمنظمات الدولية التي تردد حقوق الإنسان دون أن تقوم بواجبها تجاهه.

وحقوق الإنسان ليست فزاعة للابتزاز من الدول الكبرى على الصغرى، وإنما هو حق أصيل يبقى في جميع الأحوال لهذا الإنسان المغلوب على أمره، وكم هي دعوات الحق التي أُريد بها باطلاً، وما أن تستجيب الأنظمة الحاكمة لتلك الدول الاستعمارية حتى تتناسى حقوق الإنسان، وربما زادت في البطش تجاهه.

والحقوق تدور على الضرورات الخمس، بحيث تضمن استحقاقات الدِّين والنفس والعرض والعقل والمال، فلا يعتدى على شيء منها، سواء كان ذلك من جهة الدول، أو آحاد الشعوب، وليس هناك من حدود لحرية المحافظة والممارسة لهذه الخمس، إلاّ بما لا يصادم حدًّا للخالق أو المخلوق، وأمّا أن يطالب البعض بحقوق الإنسان، ثم تراه يعتدي على حقوق إنسان آخر لم يعتدِ عليه، فليس هذا إلاّ تناقضًا لا يجوز السكوت عليه.

وليست الحقوق في الشأن السياسي دون غيره، كما يظن الكثير من الناشطين في مجال الحريات، وإنما هناك شؤون كثيرة غيرها كالحقوق الاقتصادية والصحية والتعليمية والاجتماعية والإعلامية والمعلوماتية والقضائية والأمنية والثقافية والبيئية، وبالتالي اختزال الحقوق في الجانب السياسي دون غيره يعد اعتداءً على باقي حقوق الإنسان، وكما أن بعض الأنظمة الحاكمة تعتدي على بعض جوانب حقوق الإنسان، فكذلك هناك أفراد وجماعات يعتدون على حقوق الإنسان أيضًا عبر ألسنتهم وأقلامهم وحتى أفعالهم، والسعي في فرض آرائهم الخاصة واجتهاداتهم الشخصية، وبالتالي فالاستبداد ليس محصورًا في الأنظمة الحاكمة، وإنما هناك بعض المجموعات المحكومة التي تتجاوز على حقوق الإنسان، وتعتدي عليه وعلى خياراته، وحتى أذواقه، ومحاولة إلزامه بآرائها.

وليس من حق الأنظمة الحاكمة أن تمنع الناس من حقوقهم، وإنما دورها أن تنظم هذا الحقوق لئلا يعتدي أحدهم على الآخر، كما لا يجوز أن تتبنى الدول آراء البعض لتلزم بها الآخرين، وكذلك ليس من حق الآخرين أن يلزموا غيرهم بآرائهم وخياراتهم، وحسبنا أن الشريعة الإسلامية ومنهجها الوسطي قد كفل هذه الحقوق بكل عدالة واعتدال.

ولذا فيجب أن يعطى الإنسان كامل حقوقه لا أن يمنح، فالحقوق ليست بمحل للامتنان، وإنما للاستحقاق الواجب تجاه من هي بيده، وأن يعيش الجميع في حرية وكرامة وعدالة، وأن تقف الدول ضد مَن يعتدون عليها ككيان جامع للجميع، وكأداة للعدالة بين الجميع.

وضرورة الدِّين تعني حق التدين بالاجتهاد أو التقليد الذي يراه، ومنع أي إجبار أو اعتداء على هذا الحق لكل المواطنين، وضرورة النفس أن يحافظ عليها من الاعتداء على الروح أو الجسد بقول أو فعل، وأن تضمن العلاج والدواء بلا مشقة ولا تمنن، وضرورة العرض أن يُصان فلا يعتدى عليه بيد أو لسان أو بنان، وضرورة العقل أن يحمى عن التضليل، ويكف الجميع عن الاعتداء عليه، أو تكميمه ما دام لم يعتدِ على الخالق أو المخلوق، وضرورة المال أن يحافظ عليه وعلى نصيبه من المال العام في كفالة العمل الشريف، والسكن الكريم، والمعيشة المحترمة، والعدالة في توزيعه، وتكافؤ الفرص بين الجميع.

وحينما ينال هذا الإنسان المغلوب على أمره حقوقه، فحينئذٍ يصح مطالبته بالواجبات، ولكن لا يعني هذا بأنه في حالة انتقاص شيء من الحقوق أن يبرر التقصير في الواجبات تجاه الدولة والمجتمع، فضلاً عن الاعتداء عليهما، فالظلم لا يبرر ظلمًا مقابلاً، ولكن في حال عدم التبرير فإنه لا بد من تفسير انتقاص الواجبات بسبب انتقاص الحقوق، وأمّا أن يتم التعامل مع الناس في بعض الدول وكأنهم رعايا، ومجرد كائنات حية لا يملكون المشاركة في إدارة أي أمر من أمورهم؛ فحينئذٍ يجب أن يلوم الحكام أنفسهم؛ لأنهم كما قصروا في حق المواطنين فهم بدورهم سيقصرون في واجبهم بشكل عفوي ولا إرادي، ولو كان هذا التقصير محرمًا (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وإذا كان الإيمان وهو أعز ما يُملك يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فكيف بالوطنية التي بكل تأكيد سوف تزيد كلما زادت حقوق المواطنة المستحصلة، وتنقص طرديًّا بانتقاص حقوقها المفترضة.

ولذا فليعطى الإنسان كامل “حقوق مواطنته” سواء كان رجلاً، أو امرأة، أو طفلاً، وممارسته لحريته، وضمان كرامته، وحينئذٍ سيكون مواطنًا مثاليًّا، وسيبادر بتأدية “واجب وطنيته” تجاه وطنه ومجتمعه، وهذه سنة الله في خلقه، وعدالته مع عباده.